سياسة الحسين 22

أنفسهم فضلاً عن أموالهم ، وهو الإمام الحق وله بيت المال دون يزيد شارب الخمور وراكب الفجور ، وخرج الحسين عليه السلام ـ بأبي وأمي ـ منفياً من مكة وهو أبنها واعاد تاريخ جده الأعظم في هجرته ومأساته الحزينة غير أن جده لم تروع له في خروجه حرم ولا اطفال ، وحفيده يرى حرم واطفاله تكاد تخرج ارواحهم من بخروجهم من الحرم في يوم التروية ، والناس تفد إليه :
وعادت الكعبة حتى اللقا ترفل في حدادها مطرفا
إذ ترك الحج لها عاملا بمنسك من حجها اشرفا(1)

(1) لما خرج امام الامة وأبو الأئمة الحسين بن علي عليه السلام من مكة يريد العراق انتهى به السير الى موضع يقال له «التنعيم» فلقي فيه عيراً قد أقبلت من اليمن تحمل ورساً ـ نبات أصفر كالسمسم يزرع باليمن ويصغ به ـ وحللاً كثيرة أرسلها والي اليمن الى يزيد الفسوق والفجور فأخذها حجة الحق على الخلق ومن هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم فكيف بأموالهم الحسين بن علي عليه السلام .
سياسة الحسين 23


لم لم يأخذ الحذر من العدو




قالوا إن مسلم(1) بن عقيل رجل لم تحنكه التجارب ، ولم يأخذ بنصيب وافر من سياسة الأمور العامة ، فكيف أرسله الحسين عليه السلام للكوفة نائباً عنه وقائماً مقامه ، ولو كان بارعاً في إدارة الشؤون المهمة لأخراج النعمان بن بشير(2) عامل يزيد على الكوفة من قصر الإمارة(3) ، لأنه عش الظلم الذي أوى إليه ابن زياد
عند دخوله الكوفة فأن مسلماً قطع ذنب الأفعى وترك رأسها ، ولو كان حازماً لطوق الكوفة ، بالمسالح ونظم العساكر الجوالة في أفواه الطرق المفضية إليها حتى يوصدها في وجه كل داخل فيها ومخوف عليها ، وليستبرئوا له البر حتى يسلم الكوفة لمولاه الحسين عليه السلام بسلام ، وقد كتب له بتعجيل القدوم فلا يتسرب من جراء هذا الأهمال دخول ابن زياد إليها فيأوى الى قصر الأمارة وينظم المسالح ويطوق الكوفة بالطلايع والعساكر وينتهي الأمر بقتل مسلم على يده ، ثم يحلق به سيده الحسين عليه السلام .

(1) هو مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام سفير الحسين وممثله في الكوفة جليل القدر عظيم الشأن رفيع المنزلة ويكفيك ـ برهاناً ـ على سمو شخصيته قول الحسين فيه «إني باعث إليكم ـ والخطاب لأهل الكوفة ـ أخي وأبن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل . . . » .
استشهد عليه السلام في الكوفة بعد أن خذله أهلها في التاسع من شهر ذي الحجة سنة 60 هجرية .
(2) انظر ترجمته في ج 5 ص 22 من كتاب «اسد الغابة» وج 8 ص 36 من كتاب «الأعلام» .
(3) الى القارئ الكريم نبذة مختصرة عن هذا القصر الميشوم قرأت في كتاب «تاريخ الكوفة» للسيد حسن البراقي المتوفى سنة 1232 هجرية ما يلي :
لما أمر سعد بن وقاص أبا الهيجاء الأسدي بتخطيط الكوفة سنة 17 بعد عودته من فتح المدائن وخططها وخطط المسجد الأعظم بنى لسعد قصراً بحياله فكان هذا القصر يعرف بقصر سعد وبقصر الإمارة وبدار الإمارة وكان منزلاً خاصاً للخلفاء والملوك والامراء بعد سعد ولم يزل على بنائه وإحكامه حتى هدمه عبد الملك بن مروان وسبب ذلك هو أن عبد الملك جلس يوماً وقد وضع رأس مصعب بن الزبير بين يديه فقال له عبد الملك بن عمير يا امير المؤمنين جلست أنا وعبيد الله بن زياد في هذا المجلس ورأس الحسين بين يديه ثم جلست أنا والمختار فإذا رأس عبيد الله بن زياد بين يديه ثم جلست أنا ومصعب هذا فإذا رأس المختار بين يديه ثم جلست مع أمير المؤمنين فإذا رأس مصعب بين يديه وأنا أعيذ أمير المؤمنين من شر هذا المجلس فارتعد عبد الملك وقام من فوره وأمر بهدم القصر . . .
سياسة الحسين 24


هذا ويمكن الجواب عن الأعتراض الأول بأن مسلماً ليس رجلاً سياسياً فحسب بل هو ديني قبل كونه سياسياً ، وقد قال عمه أميراً المؤمنين (وقد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها حاجز من تقوى الله . فيدعها رأى العين وينتهز فرصتها من لا حريجة في الدين(1) اجل أن الكوفيين هم الذين قصروا إذا خلفوا الحسين عليه السلام ما وعدوه في كتبهم إليه ، فقد كتبوا إليه فيما كتبوا (ان النعمان عندنا ضعيف لا نحضر معه جمعة ولا جماعة ، ولو آتينا لأخرجناه من بلادنا والحقناه بالشام(2) فكان عليهم ـ وقد اجابهم الحسين عليه السلام ـ فبعث إليهم نائباً عنه أن ينجزوا له ما وعدوه ، فيخرجوا عامل بني أمية صاغراً وذليلاً ، وينفوا كل من لف لفه في مناصرة بني أمية ، ويسجنوا كل من حذا حذوه ، وليصفو الجو فيها لعامل الحسين عليه السلام ، وإذا خلا القصر احكموا امره ، وحصنوه من دخول ابن زياد(3) ، وإن لم ينزلوا فيه مسلماً لأنه ربيب مسجد النبي ، وقد رأى عمه الوصي لم يبن له قصر إمارة ، بل كان مولده الكعبة وسط المسجد الحرام ، وسكناه مسجد الرسول ، ودكة قضائه في مسجد الكوفة ، ومقتله في محرابه ، ولكن إذا جآء القدر وعمي البصر .
اما مسلم نفسه فإنه لم يرسله الحسين عليه السلام ليشعل نار الفتنة قبل أوانها ، فيبدأ العدو بالقتال ، ويسارع لنشوب الحرب ، وإنما ارسله الحسين عليه السلام ليسبر له رأي أهل الكوفة ، فإن وجدهم صادقين فيما كتبوا اليه اخبره بذلك وقد قام في مهمته تلك أحسن قيام ، فنصح لله ولرسوله ولخليفة زمانه واشار عليه بأن يسرع إليهم بالقدوم ، لئلا يطول العهد وتلعب الأيدي الأثيمة في بغيته دورها ، فيقلبوا له ظهر

(1) نهج البلاغة الخطبة / 41 .
(2) اللهوف على قتلى الطفوف ص 104 .
(3) هو الجلف عبيد الله بن زياد بن ؟أبيه كان شريراً قاسياً سفاكاً للدماء .
قال عنه البلاذري في ج 4 ص 81 من كتابه «أنساب الأشراف» «كان مملوءاً شراً» .
وقال عنه أيضاً في ص 84 من نفس الكتاب «كان ابن زياد إذا غضب على أحد ألقاه من فوق قصر الإمارة» .
سياسة الحسين 25

المجن(1) لما يعهده فيهم من سرعة غدرهم ونكثهم البيعة ، وقد فعلوها والعهد قريب والجرح لما يندمل .
ونقول في الجواب عن الأعتراض الثاني وهو عدم إيصاد الطريق في وجه العدو يا سبحان الله هكذا تخفي الأمور الواضحة ، وتنكر الأحوال الجلية ، فإنه لا يمكن أن يغفل عن هذا الأمر من كان أقل تدبيراً من مسلم بمراتب كالمتعرض ، فكيف يغفل مسلم عنه ، ولو غفل مسلم بالعبادة في المسجد أو بأحكام بيعى الحسين كما يظن أو تنظيم الجيش الذي سيقابل جيش الشام به ، أو يعده للحسين ليسلمه اليه عند قدومه فإن الكوفيين لا يغفلون عن ذلك ، بل لابد أن يكونوا قد استعدوا للأمر عدته ، وطوقوا مدينتهم بالمسالح والطلايع ، من أول ما قرروا رفض بيعة يزيد ، وحصروا النعمان في قصره ، شأن كل حكومة مؤقتة ، لا سيما إذا كانت ترى الدولة القائمة تتربص بها الدوائر ، لتجازيها مغبة تمردها في رأيها دون سائر المملكة المترامية الأطراف .
ولعل المعترض يقول ما بال التاريخ لم يذكر من ذلك شيئاً ولم يسم رؤساء الطلايع كم اسمي الحصين بن نمير(2) رئيس طلايع ابن زياد في القطقطانية ، وقبله الحر بن يزيد الرياحي(3) في طريق المدينة في الثعلبية ، قرب ذي جشم .
ولكنا نقول إن للتاريخ شغلاً بالأمور المهمة عن ذكر الأمور العادية لو أنصف نفسه ، وقد ذكر لنا الطلايع والمسالح لو فطنا وأمعنا به النظر ، بل لو تأملناه ادنى تأمل ، اليس يقول كان دخول ابن زياد الى الكوفة مما يلي البر ـ أي من الطريق

(1) المجن : الترس وهو مثل لتبدل الصداقة بالعداوة / المؤلف .
(2) هو الحصين بن نمير التميمي من الذين طلقوا الدين والمرؤة ثلاثاً كان على شرطة عبيد الله ابن زياد .
(3) هو الحر بن يزيد بن ناجية بن قضب . . . التميمي اليربوعي الرياحي من أشراف العرب وشجاعتهم كان من كبار القادة في جيش عمر بن سعد غير أن العناية الإلهية أدركته صبيحة يوم عاشوراء فالتحق بمعسكر الحسين عليه السلام فجاهد بين يديه جهاد الأبطال حتى استشهد رضوان الله عليه فمشى الحسين لمصرعه وأبنه بعد وقوفه عليه بكلمته المعروفة «انت حر في النيا وسعيد في الآخرة» .
سياسة الحسين 26

الذي يقدم منه الوارد من المدينة وعليه ثياب بيض وعمامة سوداء ملثماً كلثام الحسين عليه السلام ، وهو راكب بغلة شهباء ، وبيده قضيب من خيزران ، واصحابه من خلفه(1) ، فلو لم توجد الطلايع وتوصد في وجهه الطرق فلماذا يغير وجهته في المسير فيدخل الكوفة من طريق المدينة دون البصرة وهو قادم منها ولو لم تكن الكوفة مطوقة بالمسالح فلماذا يضطر لتغيير زيه فيموه على الناس أنه الحسين عليه السلام فيسلمون عليه ويسمونه ابن رسول الله ويرحبون به لأنهم بانتظار قدومه صباح مساء ، قائلين له قدمت يابن رسول الله خير مقدم(2) .
حتى إذا بلغ عدو الله مأمنه وقارب قصر الأمارة حسر عن لثامه وقال لهم وزيره مسلم بن عمر الباهلي (تأخروا يا ويلكم عن وجه الأمير ، فليس هو ظنكم ولا طلبتكم) فبهت الذين اتبعوه الى القصر ، وسقط في ايديهم وعلتهم الحيرة والوجوم ، ثم رجعوا الخيزلى ، وكانوا طبعاً من أذناب الناس وحثالتهم ومن الهمج الرعاع اتباع كل ناعق ، لأن قدومه كان يوم الجمعة ، وقد انصرف الناس عن الصلاة ، وظني أن الخبيث اختار لدخول البلد هذا الوقت ، لأن أشراف الناس وأوساطهم في ذلك الوقت قد انصرفوا الى حالهم ، واستقروا في بيوتهم ، كما يقتضيه نظام البشر ، ولو حضروا لفطنوا به وأخذوه قبل وصوله مأمنه ، فاشرف عليه النعمان من أعلى القصر ، وهو يظن أنه الحسين عليه السلام قد سبق الى الكوفة ، فكشف ابن زياد عن لثامه وقال يا نعمان حصنت قصرك وتركت مصرك ، ثم دخل القصر وفكر وقدر ، فقتل كيف قدر قم قتل كيف قدر .
والخلاصة أن الملوم على إهمال قصر الإمارة وتركه تحت سيطرة النعمان بن بشير إنما هم أهل الكوفة ، وأما الكوفة نفسها فلم يغفل عنها مسلم ولا أهل الكوفة ولا التاريخ وقد لوح بأخذهم الحذر ، ولم يدخلها ابن زياد من ناحية الأهمال بل تحيز الى المكر والخديعة لما علم ان أبواب البلد موصدة في وجه

(1) انظر «مقتل الحسين» للخوارزمي ج 1 ص 200 .
(2) نفس المصدر .
سياسة الحسين 27

كل داخل إلا الحسين عليه السلام ، فأنه علم أن الكوفة قد فتحت له ابوابها فتشبه به وموه على اوشاب الناس أنه الحسين عليه السلام سبق الى الكوفة فيا خيبة آمال المحبين ، ويا لإخفاق رجاء الشيعة المخلصين إذا نصب عليهم الشر من ناحية الخير الذي كانوا يشرأبون إليه ويعقدون أمانيهم وآمالهم عليه ، وهكذا اخذت جذوة الحزن والشجى تتقد في الصدور ، وقبستها تذكو في هذه الأفئدة ، ولكنها بلغت أشدها وانفجرت براكينها يوم دخل الكوفة عليهم رأس الحسين عليه السلام نهاراً جهاراً محمولاً على رمح طويل بدلاً عن دخوله نفسه لواءً لموكبه الكريم الذي كانوا يأملونه ، هذا وراسه يرتل آيات الكتاب ترتيلاً : «أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً»(1) .
مرتلاً آي أهل الكهف وهولها بحمله فوق رأس الرمح تأويل (2)
يتلو الكتاب على السان وإنما رفعوا به فوق السنان كتاباً

(1) سورة الكهف / 9 .
(2) من قصيدة عصماء في رثاء سيد الشهداء لمؤلف الكتاب طاب ثراه مطلعها :
المجد عند حدود البيض مكفول ولا يتم لرب الجبن مأمول
سياسة الحسين 28


لماذا صفح عن ابن زياد




ما أجمل قول القائل : «كل أحد يرى الناس بعين طبيعته» فمن هنا ترى الكثير من الناس يمطرون سفير الحسين عليه السلام ، وثقته من أهله مسلم بن عقيل بوابل الملام ، ويسددون له سهام النقد والعتب اللاذع ، ولا يجدون له عذراً ان لم يفتك بابن مرجانة ، وقد سنحت له الفرصة على قتله إذ جاء لعيادة شريك بن الأعور الحارثي(1) في رواية أو هاني بن عروة(2) في رواية أخرى ، لأن كل أحد منهم لو فرض نفسه مكان المسلم لم يضيع الفرصة الثمينة بزعمه بكل كان يقتل ابن مرجانة ، فيقطع رأس الفساد ، ويقتلع دوحة البغي من جذورها فيستبد بالكوفة ، حتى يسلمها لمولاه الحسين عليه السلام ، من دون قتل ولا قتال .
هذا مبلغ علم النفوس الضعيفة ، ومنتهى الأرادة التي لم يسيطر عليها سلطان العقل ، أو يكبح جماحها بعنان الشرع والوجدان .
أما مندوب الحسين عليه السلام ومصطفاه من حامته(3) الكريمة فخاشاه أن يحدثه ضميره أو يطالبه وجدانه بارتكاب هذه السجية ، ونفسه العصامية ترباً به أن يلوث قدسها بمثل هذه الأمور الواطئة .

(1) هو شريك بن عبد الله الحارثي الهمداني كان من أفاحم شيعة أمير المؤمنين عليه السلام في البصرة شهد الجمل وصفين مع علي عليه السلام . . . جاء مع بن زياد من البصرة الى الكوفة فانقطع عنه في الطريق لمرض ألم به ووصل الكوفة بعده فنزل في دار هاني بن عروة وتزايد مرضه فعلم بن زياد بذلك فقرر عيادته . . .
انظر ترجمته في تنقيح المقال ج 2 ص 84 .
(2) هو هاني بن عروة المرادي من أماثل شيعة الامام علي عليه السلام في الكوفة ومن المتفانين في مودة من أوجب الله سبحانه وتعالى مودتهم كان رحمه الله شيخ مراد وزعيمها قتله بن زياد مع مسلم بن عقيل باعتباره في مقدمة من ناصر مسلماً وآزره . . .
انظر ترجمته المسهبة في رجال السيد بحر العلوم ج 4 ص 18 وما بعدها وله أيضاً ترجمة في ابصار العين للشيخ السماوي ص 81 .
(3) الحامة : خاصة الرجل من أهله وولده / المؤلف .
سياسة الحسين 29


فاما إذا كان المريض الذي أقبل ابن زياد لعيادته هاني بن عروة ـ على الرواية غير الصحيحة ـ وأنه هو الذي أمر مسلماً بقتل عدو الله فلم يفعل فنقول إنه ـ قد اعتذر بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله :«الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن (1)» وهي السيرة المأثورة عن اساتذة مسلم محمد وأهل بيته قولاً وفعلاً ، فما باله لا يلتقي دروسهم ويطبق عليها اعماله ، وهو تلميذ مدرستهم وخريج جامعتهم .
فإن اراد اتباع المرشد الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فقد سمعت استناد مسلم لقوله ، وان أراد الأقتداء بوصيه والدخول من باب مدينة علمه ، فقد ملأت مسامعه كلمته الذهبية(2) : «كل غذرة فجرة» وما جاء مسلم إلا لقلع جراثيم الفجور دون غرس نواته ، وقوله عليه السلام ايضاً : «قد يرى الحول لقلب وجه الحيلة ودونها حاجز من تقوى الله فيدعها رأي العين وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين(3)» وأما فلا تزال نصب عيني ابن أخيه .
أليس هو الذي لم يجهز على طلحة بن ابي طلحة حامل لواء المشركين يوم أحد إذا انكشفت سوئته بغير اختياره(4) ، وهو الذي كف عن قتل ابن العاص (5)

(1) بحار الأنوار ج 44 ص 344 .
(2) الواردة في كلامه سلام الله عليه (والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ولكن كل غدرة فجرة وكل فجرة . . .)
انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 10 ص 211 .
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 الخطبة 41 .
(4) انظر المغازي للواقدي ج 1 ص 226 .
(5) هو عمر بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد ـ بالتصغير ـ بن سهم . . . القرشي
أحد دهاة العرب الخمس منه بدأت الفتنة واليه تعود . . . أبوه هو الابتر بنص القرآن الكريم (إن شآئنك هو الابتر)
امه سلمى بنت حرملة كانت أشهر بغي بمكة وأرخصهن اجرة وقع عليه افي طهر واحد (أبو لهب) و(امية بن خلف) و(هشام بن مغيرة المخزومي (و( ابو سفيان بن حرب) و(العاص بن وائل) فولدت عمراً فادعاه كلهم فحكمت امه فقالت انه من العاص بن وائل فقيل لها ابو سفيان اشرف نسباً فقالت ان العاص بن وائل كان كثير النفقة علي وأبو سفيان رجل شحيح .
هذا هو عدو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وعلى غراره ـ والله ـ كل أعدائه ومناوئيه .
سياسة الحسين 30

وابن أرطأة(1) ، إذ انكشفت سوئتهما بسوء اختيارهما على أنهما رأس البغي والفساد ، والشريعة لم تحظر عليه قتلهما ، وهو الذي أباح الماء لمعاوية وجيشه في يوم صفين(2) ، ولم يأخذوه من ايدي أهل الشام إلا بعد ملحمة شديدة طارت فيها الأيدي والرؤوس فأشار على الكثير من عسكره أن يمنعهم وروده جزاءً لفعلهم ، والبادي بالشر اظلم ، فتكرم ابو الحسن وبعث الى معاوية : «إنا لا نكافيك بصنعك ، هلم الى الماء ، فنحن وأنتم فيه سواء(3)» فأخذ كل منهما بالشريعة ما يليه ، وهو الذي يقول لابن ملجم : «انت والله قاتلي لا محالة» فإذا قيل له ألا تقتله يا أمير المؤمنين قال : فمن يقتلني إذا قتلته(4) ثم لا يزيده إلا إكراماً وعطفاً وهو ينشد :
أريد حبائه(5) ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مرادي(6)

وإن اراد الاقتداء بحجة عصره ومرسله الحسين عليه السلام إذ الناس على دين ملوكهم والرسول عقل المرسل ، فإنا لا نشك أن الحسين عليه السلام لو حل محله لم يلوث قدسه بالفتك بعدو الله غدراً ، وما بالنا نشك في ذلك ونحن نراه يتكرم على

(1) هو بسر بضم الباء وسكون السين بن ارطاة بفتح الهمزة وسكون الراء من القساة الغلاظ أراق ـ كما قص علينا التأريخ أنهراً من الدماء خدمة لعدو الله والدين والانسانية معاوية بن ابي سفيان .
2 ـ استولى معاوية على الفرات قبل أن تبدأ الحرب بينه وبين الامام أمير المؤمنين ومنع أهل العراق حتى كظهم العطش فأنفذ اليه أمير المؤمنين صعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي يسئلانه أن لا يمنع الماء الذي أباحه الله تعالى لجميع المخلوقات وكلهم فيه شرع سواء فأبى معاوية الانصياع لمنطق الحق فعندها قال علي لاصحابه (اروو السيوف من الدماء تروو من الماء) ثم أمر أصحابه أن يحملوا على أهل الشام حملة رجل واحد فحمل الباسل الشجاع مالك بن الحارث الاشتر في سبعة عشر الفاً وهو يقول :
ميعادنا اليوم بياض الصبح هل يصلح الزاد بغير ملح
لا لا ولا أمر بغير . . .

حتى احكم مالك وأصحابه السيطرة على الفرات فأشار على الامام أمير المؤمنين بعض أصحابه أن يمنعهم ورود الماء فأبى ذلك وقال (نحن وهم فيه سواء) .
(3) المناقب للخوارزمي ص 150 .
(4) الفصول المهمة ص 138 .
(5) الحباء : العطاء ، وعذيرك منصوب بفعل مضمر اي هات من يعذرك / المؤلف .
(6) لعمر بن معدي كرب الزبيدي .
سياسة الحسين 31

الحر وعسكره ، فيرد عليهم الحياة بسقيهم الماء في ذلك المهمه القفر(1) ، وقد أشفوا على الهلاك من شدة التعب واحتدام نار العطش ، ولو عالجهم بمن معه بالسيف ـ وهم على تلك الحالة ـ لكانوا لهم لقمة سائغة ، ثم كان الحسين حراً في رأيه يتوجه حيث أراد ، فما باله يسقيهم ويمسك عليهم حياتهم ، ثم يكونون مفتاحاً للشر ، فيأخذون بكظمه ، حتى ينزلوه كربلاء ، فيلحق بهم المدد الكثيف كالوابل الذي كانوا طله ، والنار التي كانوا قبستها ولكن صوت الضمير وقوة الإرادة وكرم العاطفة تهيب بالصفوة ، والخيار من الخيار أن يرتفعوا بنفوسهم القدسية عن ارتكاب الدنية مهما كلفهم الأمر وإن عانقوا المنية ـ فالموت أولى من ركوب العار(2) ـ
واذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام(3)

وأما على الرواية الصحيحة من أن المريض كان شريك بن الأعور الحارثي وأنه هو الذي أمر مسلماً بالفتك بعدو الله في دار صديقه هاني وقد جاء في صحبة ابن زياد من البصرة ومرض في الطريق ، فإن الأمر يكون أوضع من نار على علم ، لإن مسلماً لو فتك بابن مرجانة في دار هاني ـ بدون خبره ـ يكون قد اخفر(4) جواره ، ولم يرع ذمته ، والعرب تعد وصل الحبل بحبلهم جواراً ـ فضلاً عن دخول دارهم ـ ولكان طبيعياً أن تثور بهاني نخوة العرب ، وكان الحق معه

(1) بشير المؤلف نور الله ضريحه الى تفضل الحسين عليه السلام وتلطفه وتكرمه على الحر بن يزيد الرياحي وأصحابه البالغ عددهم أكثر من الف نسمة بالماء في تلك الصحراء المقفرة وهو في طريقه الى العراق . . .
انظر مقتل الحسين للعلامة المقرم ص 182 .
(2) تتمته (والعار أولى من دخول النار)
وبهذا البيت ارتجز ابو عبد الله سلام الله عليه حين حمل على ميمنة عمر بن سعد وارتجز حين حمل على الميسرة :
أنا الحسين بن علي آليت أن لا انثني
أحمي عيالات أبي أمضي على دين النبي

(3) لابي الطيب المتنبي من قصيدة يمدح بها سيف الدولة مطلعها :
أين أزمعت اي هذا الهمام نحن نبت الربى وأنت الغمام

(4) أخفره : لم يف بعهده / لمؤلف .
سياسة الحسين 32

لأنه قتل جاره ، وبكت إمرأته في وجه مسلم وقالت له لا تقتله في دارنا ، بل قال الخوارزمي(1) إن صاحب البيت هانياً هو الذي منعه إذ قال له : «جعلت فداك إن في داري نسوة وصبية وإني لا آمن الحدثان(2)» فيخسر مسلم حينذاك صديقه الحميم وجاره الكريم وعشيرته الوافرة العدد ، ومن يؤمنه من انقلابهم عليه وقتالهم له ، فإن الشيم العربية وإن فارقت العرب في بعض الأوقات ، لكنهم يرضخون لحكمها في غالب الأزمان ، فهذا ابو سفيان يقول للحليس : «إنها زلة فاكتمها علي(3)» حيث رآه يطعن شدق الحمزة بعد قتله يوم احد ويشمت به قائلاً له : «ذق عقق(4)» .
وانظر سياسة ابن حريث(5) إذ سكن فورة غضب ابن زياد ، وامسك بقضيبه ، ولم يدعه يضرب زينب لما ذكرت امه مرجانة في مجلسه الحاشد المنقعد لفخره وزهوه وتكبره وخيلائه(6) ، وما ذلك إلا لأن ابن حريث رأى وجوه العرب قد تنكرت على ابن مرجانة إذ رأوه يرفع سوطه ويهم بضرب عقيلة بني هاشم وخفرة أميرهم بالأمس علي بن أبي طالب عليه السلام .

(1) في كتابه مقتل الحسين ج 1 ص 201 .
(2) الحدثان : عاقبة الأمر / المؤلف .
(3) تاريخ الطبري ج 2 ص 206 .
(4) نفس المصدر ص 206 .
(5) هو عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله المخزومي . . . ولد قبل الهجرة بسنتين ولي امرة الكوفة لزياد ثم لابنه عبيد الله ومات بالكوفة سنة 85 هجرية .
انظر ترجمته في الاستيعاب في معرفة الاصحاب لابن عبد البر ج 3 ص 256 وسير أعلام النبلاء ج 3 ص 417 .
(6) يشير المؤلف تغمده الله برحمته الى الحوار الساخن الذي دار بين المتعطش للدماء عبيد الله بين زياد وبين الحوراء زينب عليها السلام في مجلسه الميشوم في الكوفة وخلاصة ما حصل ان بن زياد خاطب ربيبة الوحي قائلاً : كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟
قالت : ما رأيت إلا جميلاً هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج ثكلتك امك يابن مرجانة . . فغضب من كلامها وهم أن يضربها فقام اليه عمرو بن حريث . . .
انظر المهلوف على قتلى الطفوف ص 201 .
سياسة الحسين 33


وقد صح في الرواية أن شريكاً هذا مات بعد ثلاث فصلى عليه ابن زياد ودفن في الثوية(1) مقبرة في الكوفة ، وقد دفن فيها زياد بن أبيه ، ثم اطلع ابن زياد على جلية الحال ، فحلف أن لا يصلي على راقي مات ابداً ، وقال لولا أن زياداً فيهم لنبشت شريكاً .
فإذا كان ابن زياد يحترم شريكاً لدفنه في مقبرة دفن فيها أبوه زياد ، فما بال مسلم لا يترك الفتك بابن زياد إحتراماً لصديقه وجاره هاني ، وقد دخل بيته ، ولعله تحرم أيضاً في طعامه ، وما باله لا يخشى غضبة هاني ، صاحب العشيرة الوافرة العدد .
واما اختفاء مسلم في المخدع فلأنه لم يشأ ان يجعل على صديقيه هاني أو شريك سبيلاً لابن مرجانة ، وليبرهن للعالم أن الفرصة قد سنحت له ، على قتل عدوه ، فخالف ما تقتضيه طبيعتهم من الفتك به الى ما هو أجل وأعلى وأرفع وأسمى ، واذ العفو بعد المقدرة ، والصفح بعد تمام التمكن ، وكانت له بذلك اليد البيضاء على جاره هاني إذ لم يخفر جواره ، وكان نتيجة أمره أن جزاه هاني أحسن الجزاء حيث امتنع عن تسليمه لابن زياد ، حتى بقي تحت نير(2) اسره ، وصبر على ذلة تقريعه وتهديده وكابد ضربه وسجنه ، بل وطن نفسه على القتل والتمثيل بجثمانه على رؤوس الأشهاد .
فليعض ابن عقيل مثالاً للعفو والوفاء لجاره هاني ، وليبق اسمه في صحيفة الخلود رمزاً للفضيلة والشمم ، وعنواناً لمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وليموتوا بغيضهم من أرادوا أن يزاحم البراص في غدره وفتكه ليكون مضرب المثل في الغدر دونه ، فكل يعمل على شاكلته ، وكل مسير لما خلق له ، والله يهدي من يشاء الى سواء السبيل .
هذا وقد قال اهل العلم والإدراك : «النقض لا يرفع الإشكال بل يزيده» ونحن

(1) انظر مسلم بن عقيل للعلامة السيد عبد الرزاق المقرم ص 195 .
(2) النير : خشبة تقرن بين ثورين في الحرث / المؤلف .
سياسة الحسين 34

إذ نقضنا على المعترض بأفعال أمير المؤمنين ، وسليله الحسين ، وذكرنا أن مسلماً اقتدى بهما نبهناه للأعتراض عليهما كما اعترض على مسلم .
ولكنا نقول في جوابه ما ترك امير المؤمنين للاجهاز على كبش كتيبة المشركين ، فقد اعتذر لما قيل له : «هلا دففت(1) عليه» بقوله : «إنه لما صرع استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم ، وقد علمت أن الله سيقتله هو كبش الكتيبة(2)» يشير الى تأويل رؤيا الرسول .
وأما انصرافه عن ابن العاص وابن أرطاة ، إذ استقبلاه بسوئتهما فإنه كان أشد عليهما من قتلهما لأنهما اكتسبا العار في الدنيا حتى صارا مضرب الأمثال ، كما قال ابو فراس الحمداني :
ولا خير في دفع الردى بمذلة كما ردها يوماً بسوءته عمر (3)

وصار اضحوكة في النوادي والمجالس لمعاوية وأصحابه ومن بلغه خبرهما (والموت خير من ركوب العار) وليزدادا إثماً وناراً في الآخرة «ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين»(4) .
وأما إباحته الماء لمعاوية فاستمع لما يقوله عنه ابن أبي الحديد لعلك تجد فيه

(1) التدفيف : الإجهاز على الجريح وإتمام قتله / المؤلف .
(2) المغازي للواقدي ج 1 ص 226 .
(3) أقول : ذكر غير واحد من الشعراء فعل عمرو بن العاص الشنيع المتمثل في كشف عورته بين الصفين فرقاً من سيف أمير المؤمنين عليه السلام فهذا على سبيل الاشارة عتبة بن أبي سفيان حيث يقول :
سوى عمرو وقته خصيتاه نجى ولقلبه منه وجيب

وقال الحارث بن نصر السهمي :
فقولا لعمرو وابن ارطاة ابصرا سبيلكما لا تلقيا الليث ثانيه
ولا تحمدا الا الحيا وخصاكما هما كانتا للنفس والله واقية

ومن المتأخرين الشاعر الماهر عبد الباقي العمري البغدادي قال :
ليلة الهرير قد تكشفت عن سوءة بن العاص لما غلبا
فحاد عنه مغضباً حيدرة وعف والعفو شعار النجبا

(4) سورة آل عمران / 178 .
سياسة الحسين 35

بل الصدى قال : «لما ملك عسكر معاوية وعلي الماء وأحاطوا بشريعة الفرات ، وقالت رؤساء الشام له اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشاً سألهم علي واصحابه ان يسوغوا لهم شرب الماء فقالوا لا والله ولا قطرة ، حتى تموت ظمأ كما مات بن عفان ، فلما رأى أن الموت لا محخالة تقدم بأصحابه وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفةً ، حتى أزالهم عن مراكزهم ، بعد قتل ذريع سقطت منه الرؤوس والأيدي ، وملكوا عليهم الماء ، وصاروا اصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم ، فقال له اصحابه وشيعتنه امنعهم الماء يا امير المؤمنين كما منعوك ، ولا تسقهم منه قطرةً واقتلهم بسيوف العطش ، وخذهم قبضاً بالأيدي ، فلا حاجة لك الى الحرب ، فقال : «لا والله لا أكافيهم بمثل فعلهم ، إفسحوا لهم عن بعض الشريعة ، ففي السيف ما يغني عن ذلك(1)» على أن عاطفة ابن العاص لم ترض بمنع ماوية الماء خوفاً من سوء العاقبة ، وجاء صديقه المعري بن الأقبل الهمداني فقال لمعاوية : «يا معاوية سبحان الله ان سبقتم القوم الى الفرات فغلبتموهم عليه تمنعونهم عنه ، أما والله لو سبقوكم اليه لسقوكم منه ، أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف ومن لا ذنب له ، هذا والله أول الجور ، لقد شجعت الجبان وبصرت المرتاب وحملت من لا يريد قتالك على كتفيك(2)» ثم كان عاقبة أمر هذا الرجل أن التحق بعسكر أمير المؤمنين(3) إذ لم يصغ معاوية لنصيحته تبعاً للرأي العام عند رؤساء عسكره .
فهل يريد المعترض أن تكون عاطفة ابن العاص أجل وأسمى من عاطفة أمير المؤمنين على بني آدم المكرمين ، أم يريد أن يكون هذا الهمداني أتقى من سيد المتقين إذ منعه نسكه وتقواته ان يمنعوهم الماء وفيهم الأمة والأجير والضعيف والطفل الصغير ومن لا ذنب له ، ولما انكر المنكرفلم يصغ له معاوية تبصر طريق

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 3 ص 131 .
(2) انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 3 ص 320 .
(3) انظر وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 164 .
سياسة الحسين 36

رشده وعلم أن مانع الماء ليس معن الحق بل منعه جور عظيم وظلم كبير .
على أن أدنى تأمل في كلام أمير المؤمنين المؤكد بالقسم إذ يقول لا والله لا أكافيهم بمثل فعلهم ، ويقول (ففي حد السيف ما يغني عن ذلك) يرشدنا الى أن الشريعة الإسلامية تحظر قتال العدو بسلاح العطش ، بل ينبغي قتاله بالطريقة المألوفة دون الغدر والعطش وما اشبههما ، ومنه يظهر الوجه في الجواب عن فعل مسلم إذ لم يغدر بابن زياد في دار هاني ، واصرح من ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله : «المكر والخديعة في النار(1)»وعن الحسين إذ لم يقتل الحر وعسكره بسيوف العطش ، أو لم يعالجهم بالسيف وهم في أشد العطش ، إذ ليست هذه طريقة سلف الحسين في قتال أعدائهم بل لا بد أن يبتئدهم عدوهم في القتال ، وربما اصاب من عسكرهم كيوم بدر ويوم الجمل ويوم صفين وإذا جاءت السهام تترى من عسكر ابن سعد حتى اصابت مضارب الحسين ولم يبق أحداً من أصحابه إلا أصابه سهم من سهامهم ، فعندها أذن لأصحابه بالقتال قائلاً : «قوموا رحمكم الله الى الموت الذي لا بد منه ، فإن هذه السهام رسل القوم اليكم(2)» .
فلماذا اذا إدعى المعترض أنه علم باحكام الشريعة من امير المؤمنين فإن الله برئ من المشركين ورسوله وإن الله لا يهدي كيد الخائنين .
وأما تركه لقتل ابن ملجم مع علمه بأنه قاتله فقد اعتذر عن ذلك طوراً بأنه لا يجوز القصاص قبل الجناية ، وطوراً بقوله : «إذا قتلته فمن يقتلني(3)» قال بعض الفضلاء من المعاصرين ، وقد اقتدى به مسلم في ترك قتل ابن زياد حيث وطن نفسه لقتلها على يد هذا الخائن الذي عفا عن قتله ، كما وطن عمه نفسه لقتلها قرباناً لله بسيف ذلك المرادي الذي أكرمه ورباه وآواه مع علمه بأنه قاتله لا محالة .

(1) عيون أخبار الرضا ج2 ص 50 .
(2) الملهوف على قتلى الطفوف ص 158 .
(3) المناقب للخوارزمي ص 284 .
سياسة الحسين 37


أقول : هذا صحيح ولكنه يحتاج الى نظر عميق كما عبر هو عنه بأنه سرد دقيق في الأصل فضلاً عن الفرع ، وفيما ذكرنا كفاية لمن استبصر .
هذا وللمعترض أن يعترض علينا بل ونحن نعترض قبله على انفسنا فنقول لعل المتتبع والمسلم بالتاريخ إلماماً تاماً يجد في مطاوية الكثير مما يصلح لأن ينقض به علينا ، حيث حققنا كلياً أن الغدر والخداع لا يصدر عن أهل البيت الطاهر ومن حذا حذوهم ، والسلب الكلي ينتقض بالإيجاب الجزئي ، ولو تحقق في فرد واحد فضلاً عن الأفراد الكثيرة ، ولكن موضوع كتابنا لا يتحمل الأستقصاء في النقض والأبرام ، غير أنا نستطرد في ذكر فرد من هاتيك الأفراد ، واعتراض من تلك الأعتراضات اتفق في حديث المبارزة التي دارت بين عمرو بن عبد ود العامري القرشي وبين مناجزة بطل الإسلام بل بطل العالم ومفخرة بني آدم علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولعل المتأمل في الجواب عنه لا يعسر عليه الجواب عن إخوانه ومشابهاته .
تقول الرواية : لما برز علي لعمرو بن عبدود وتواقف القرنان رفع عمرو سيفه فضرب به رأس علي ، فراغ عنه علي وأتقى السيف بجحفته فقطعها ، ووقع السيف على رأسه(1) ، فجرحه جرحاً خفيفاً ، ثم قال له يا عمرو أما كفاك أنك فارس العرب أو فارس يليل وقد بارزتك حتى استعنت علي بظهير(2) ، فالتفت عمر الى ورائه ـ وكأنه أنف من ذلك ـ فنتهز علي الفرصة وعاجله بالضربة فقطع ساقه أو ساقيه معاً ، ثم أجهز عليه فقطع رأسه وجاء به الى النبي صلى الله عليه وآله فقال له خدعته يا علي فقال نعم (الحرب خدعة يا رسول الله)(3) .
هكذا روي ، وقد سمعت الجواب وان ليس هذا من الغدر الذي تبرأ منه ساحة ارباب العصمة ، بل الخدعة في الحرب بعد أن يبرز القرن الى قرنه ويناجزه القتال

(1) غزوات امير المؤمنين للنقدي ص 137 .
(2) تفسير القمي ج 20 ص 184 .
(3) بحار الأنوار ج 20 ص 228 .
سياسة الحسين 38

تعد من اسلحة القتال وادوات الحرب ، فلا غضاضة(1) فيها على القاتل الظافر بها ، كطول القناة وحدة زجها(2) ومضاء حد السيف وقوة الساعد وشدة بطش المحارب ، فإنك كثيراً ما تسمع تمدح الأبطال بطول رماحهم ومضاء سيوفهم وشدة عدو خيلهم ، وربما قيل أنه عليه السلام ورى بظهير لأنه كان اسم سيف عمرو ، أو عن الشيطان لأنه جار وظهير لدعاة الشرك والالحاد « ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قرينا » (3)» ولا أرى هذين الجوابين يبعدان شيئاً عن الجواب الأول المثبت في متن الرواية بل هما محققان للخدعة .
وأنا اقول ذكر ابن ابي الحديد(4) وغيره أن عمرو بن عبد ود خاف وحذر من مبارزة علي بن ابي طالب له ، واستحيا أن يرجع منهزماً كما انهزم بعد قتله اصحابه الذين عبروا معه الخندق فكأنه ، ـ تبت يداه ـ لم يؤمن بكلمة ارباب الشجاعة (الفرار عار إلا من سيف علي بن أبي طالب) فتوارى بالنصح له والاشفاق عليه حيث يقول له : «إني لا أحب أن اقتلك لأن أباك كان نديماً لي(5)» واوضح من هذا قوله : «أما رأى ابن عمك من يبعثه لي غيرك أما يخاف أن أختطفك برمحي فأدعك شائلاً بين السماء والأرض(6)» فإن كل قرن يسره أن يقتل مناجزه ويستطيل بقتله ولا ينصحه ويحذره من القتل ، وهل سمع عمرو بأن واحداً من الشجعان ناجز الآخر وهو واثق بسلامته واستظهاره على قرنه ، ولقد اصاب ابن ابي الحديد واجاد فان الشجاعة علي الكامنة فيه كمون النار في الزند قد ظهرت في مسمع عمرو ومشهده لما كان طفلاً في مكة ، وظهر بطشه

(1) الغضاضة : المنقصة / المؤلف .
(2) زج القناة : نصلها هنا لا بمعنى الحديدة المقابلة لسنانها / المؤلف .
(3) سورة النساء / 38 .
(4) قال ابن أبي الحديد في ج 19 ص 64 من شرحه على النهج وهو يتحدث عن معركة الخندق كان شيخنا ابو الخير مصدق بن شبيب يقول والله ما أمر عمرو بن عبد ود علياً بالرجوع إبقاء عليه بل خوفاً منه فقد عرف قتلاه ببدر واحد وعلم أنه إن ناهضه قتله فاستحيا أن يظهر الفشل فأظهر الابقاء والإرعاء وإنه لكاذب فيهما . . .
(5) المغازي للواقدي ج 1 ص 471 .
(6) بحار الأنوار ج 20 ص 226 ومنتهى الآمال ج 1 ص 149 .
سياسة الحسين 39

وفتكه في هجرته من مكة الى المدينة ، إذ خرج بالضعن نهاراً جهاراً ، وجدل الأبطال ونكصت من هيبته الرجال على اعقابها(1) .
ومهما ينس عمرو من فتك قرينه الذي تمنى أن يكون غيره مكانه فلا ينسى وقعة بدر التي جرح فيها جراحةً أثبتته سنتين(2) ، وما صنع فيها هذا البطل المناجز له الآن من قتلة صناديد العرب وفتكه بأبطال قريش أمثال سعيد بن العاص(3) وحنظلة بن ابي سفيان وعتبة وابنه الوليد واخيه شيبة ، حتى لقد صح في الرواية أنه قتل خمسة وثلاثين بطلاً وحده وقتل الملائكة وسائر الأصحاب مثلهم هو شريكهم فيهم(4) .
ولا بد أن يكون قد سمع عمرو كما سمع ابن جرير فحدثنا(5) بأن علياً قتل اصحاب الألوية يوم أحد كلهم ، وهم الأبطال الأشداء من بني عبد الدار ، وكانوا

(1) يقص علينا التاريخ أن علياً عليه السلام حين أراد مغادرة مكة المكرمة الى المدينة ليلتحق بالرسول الاكرم (ص) الذي سبقه اليها خرج عليه السلام نهاراً جهاراً بموكبه الذي ضم الفواطم وهن :
1 ـ فاطمة بنت رسول الله .
2 ـ فاطمة بنت اسد .
3 ـ فاطمة بنت الزبير .
4 ـ فاطمة بنت الحمزة بن عبد المطلب . ويضاف الى من ذكرت ام ايمن وابنها ايمن .
وحاولت قريش ارغام علي على الرجوع الى مكة عبر من أرسلتهم خلفه وهم ثمانية فرسان غير أن هؤلاء لم يتمكنوا من تحقيق ما كانت تصبو اليه قريش نظراً للشجاعة التي أبداها علي عليه السلام ونظراً لإصراره على مواصلة الطريق مهما كلفه ذلك . . الامر الذي دفع باولئك النفر الى أن يرجعوا الى مكة خائبين خاسرين بينما واصل عليه السلام طريقه الى المدينة . . .
(2) انظر السيرة الحلبية ج 2 ص 320 .
(3) الصحيح العاص بن سعيد بن العاص لا ما ذكره المؤلف قدس سره الشريف لان سعيد بن العاص عاش الى زمن معاوية وقد عين والياً من قبله على المدينة بعد أن عزل عنها مروان بن الحكم ومما يؤيد هذا أن بن أبي الحديد المعتزلي وفي ج 14 ص 208 من شرحه على النهج حين يستعرض اسماء المقتولين في معركة بدر يذكر أن من بين القتلى من ذكرناه أي العاص بن سعيد بن العاص وهكذا بالنسبة لابن هشام فقد ذكر في ج 2 ص 366 من السيرة النبوية أن المقتول هو العاص بن سعيد بن العاص قتله ـ يقول بن هشام ـ علي بن أبي طالب عليه السلام .
(4) انظر الارشاد للشيخ المفيد ج 1 ص 72 .
(5) في ج 2 ص 197 من تاريخه الموسوم بـ تأريخ الامم والملوك .

السابق السابق الفهرس التالي التالي