سياسة الحسين 40

تسعة عاشرهم عبدهم صوأب(1) حتى انهزم المشركون بقتلهم وسقوط اللواء ـ وهل الجيش إلا باللواء ـ ثم لما وقعت الدبرة في جيش المسلمين وبذل المشركون جهدهم في إطفاء نور الله بقتل رسول الله ، أخذ ابو الحسن يصرع كباش الكتائب ويجذ عرانينها بصارمه فيهزم الجمع ويولون الدبر .
ولا نريد أن نطيل على القارئ بتفصيل مبيت هذا البطل على فراش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم(2) ، وقد طرق الدار عليه الأشداء المنتخبون من جميع قبائل قريش ، وإذا كان كل واحد منهم ممثلاً لعشيرته ، وكانت مكة عاصمة الشرك المطبق لجزيرة العرب فيكون بطلنا قد قابل العرب كلها ، فلم يأبه بها ، ونام سخرية بجمهرتها وعدم اكتراث بتظاهرها عليه ، فصدق بفعله هذا قوله : «لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها الدبر(3)» .
فحق لعمرو أن يفرق منه ويخاف شدة بأسه وقوة مراسه ، إذ لا يعرف الفضل إلا أهله والشجاعة إلا أربابها ، ولا بد أن يكون ابو الحسن أحس بخوف عمرو منه ، ولذا اقترح عليه النزول من فرسه(4) وخاف أن يطير عنه بجناحي الرعب

(1) وهم طلحة بن ابي طلحة وعثمان بن أبي طلحة وأبو سعيد بن أبي طلحة ومشافع بن أبي طلحة وكلاب بن طلحة والجلاس بن طلحة والحارث بن طلحة وارطاة بن شرحبيل وقاسط بن شرحبيل وعاشرهم عبد لبنى عبد الدار اسمه صوأب .
(2) أقول : قصة مبيت الامام أمير المؤمنين عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الهجرة تعد من أروع قصص الفداء ويمكنك أن تقرأها في الكتب التالية :
1 ـ اسد الغابة لابن الاثير ج 3 ص290 .
2 ـ مستدرك الصحيحين ج 3 ص 4 .
3 ـ تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 39 .
4 ـ نور الابصار للشنبلجي ص 40 .
5 ـ تذكرة الخواص ص 34 .
6 ـ الارشاد للشيخ المفيد ج 1 ص 51 .
7 ـ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 46 .
8 ـ بحار الأنوار ج 36 ص 40 . (3) جاءت هذه الفقرة ضمن كتاب الامام علي عليه السلام الى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الانصاري انظر شرح محمد عبده ج 3 ص 70 .
(4) انظر اعلام الورى للطبرسي ج 1 ص 381 .
سياسة الحسين 41

الهلع ، ولا يثقله الحياء وخوف العار ، كما فعل اصحابه الذين قدموا وكلهم زهو وخيلاء ، وانصرفوا عنه قتيلاً وكلهم جزع وهلع وخوف وفرق .
فبالله عليك لو كنت انت المناجز لعمرو ، واحسست بخوفه منك بعد أن ظهرت فيك الشجاعة مرة واحدة ، هل كنت تحتاج بعدها لخداعه ومماكرته ، ثم تعتذر بأن الحرب خدعة يا رسول الله ، كلا وربك ، إنه لم يحتج ابو الحسن لإرتكاب الخديعة ، ولو دعت الحاجة إليها لم يفعلها ، وإن انجر الأمر الى قتله ، فالموت خير من ركوب العار ، وتبعه ابن اخيه مسلم فلم يغدر بابن زياد ، وإن كان عاقبة صفحه عنه أن شتمه وأمر بأن يصعدوا به أعلى القصر فيذبحوه ويلقوا جثته من أعلى القصر(1) ، فألقوه حتى تكسرت عظامه(2) ـ واسيداه ـ
أيها القصر مل وتعطف أو ترقي للقصر يا غبراء(3)

* * *



(1) مقاتل الطالبيين لابي الفرج الاصفهاني ص 109 .
(2) مقتل الحسين لآية الله السيد محمد تفي بحر العلوم ص 244 .
(3) من قصيدة في رثاء مولانا مسلم بن عقيل عليه السلام وهي من نظم مؤلف الكتاب رحمه الله مطلعها :
أحماهم أم روضة غناء تتسامى فخراً به الدهناء
سياسة الحسين 42


كيف ركن الى الكوفة




علم الحسين أنه إذا بقي في المدينة قتل وأهل بيته لا محالة ، فكان اول انتهاك لحرم رسول الله صلى الله عليه وآله بقتل ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله بقتل ذرية رسول الله فلم يجد بداً من مغادرة المدينة ، واذا خرج فالى أي بلاد يتوجه يا ترى ألليمن ـ ولا منعة فيه ـ أم الى الكوفة وهو يعهدها بالخيانة ، ولم تتبدل حالها في نظره ، بل كان الحزم له أن يتوجه الى مكة ، لأنه لم يسبق لأحد انتهاك حرمتها في جاهلية ولا إسلام ، وبعد فإنه ، سوف يجتمع هناك وفود المسلمين ، وفيهم أهل الحل والعقد ، فيتمكن أن يصدع بحجته ، ويدعم ببراهينه أمام الرأي العام ، وهناك يصفو جو الخلافة وتسكن زوابعه .
لكن بني أمية اخلفوا ظنه وخالفوا شرايع الاسلام والقواعد العربية ، فاجتهد عمرو بن سعيد(1) امير الحاج بالقبض عليه ، وأمده يزيد فدس في الحاج ثلاثين رجلاً من شياطين بني أمية(2) ، وأمرهم بالفتك بالحسين عليه السلام ولو وجدوه متعلقاً بأستار الكعبة(3) بين الركن والمقام ، الأمر الذي اضطر الحسين أن يخرج من مكة قبل إكمال حجه(4) ، لئلا تنتهك بقتله حرمة الحرم ، ويعم الخوف والقتل وفود

(1) هو عمرو بن سعيد بن العاص ممن اترعت نفوسهم بالحقد على علي أمير المؤمنين وأبنائه الطيبين انفذه يزيد بن معاوية في عسكر عظيم الى مكة وولاه أمر الموسم وأوصاه بقبض الحسين سراً وإن لم يتمكن منه يقتله غيلة .
وعمرو هذا هو الذي أعلم الناس بالمدينة بقتل الحسين عليه السلام ودعا ليزيد ولما سمع واعية بني هاشم في دورهم على الحسين حين سمعوا النداء بقتله تمثل بقول عمرو بن معدي يكرب الزبيدي :
عجت نساء بني زياد عجةً كعجيج نسوتنا غداة الارنب

ثم قال هذه واعية بواعية عثمان .
2 ـ تظلم الزهراء ص 153 .
3 ـ ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ج 2 ص 404 .
4 ـ لما اراد الحسين عليه السلام الخروج من مكة طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل احرامه وجعلها عمرة مفردة لأنه لم يتمكن من اتمام الحج مخافة أن يقبض عليه في مكة فتستباح به حرمة البيت الحرام وكان خروجه من مكة يوم الثلاثاء الثامن من شهر ذي الحجة سنة 60 من الهجرة كما نص على ذلك غير واحد من الاعلام منهم الشيخ المفيد في ج 2 ص 66 من كتابه الارشاد .
سياسة الحسين 43

بيت الله ، ولعل له في خروجه حينذاك مآرب أخرى منها أن يعلن للرأي العام من أمة جده أن بني أمية لا حظ لهم في الاسلام حيث أخافوه واخرجوه من البيت وقد جعله الله حرماً آمناً ولا يمتون للنواميس العربية بصلة ، فقد كان عاراً في الجاهلية أن يتعرض أحدهم في الحرم لقاتل أخيه أو أبيه ، والحمام في الحرم آمن لا يهيجه أحد بسوء ومن كان هذا شأنه كيف يجوز للحسين مبايعته ، وتسليم أزمة الخلافة بيده ، وهو لا يؤمن على حمامة .
وقد ألح الكثير من محبي الحسين ونصحائه أن لا يتخذ الكوفة دار هجرة له ، إذ لم يعهد لها سابقة جميلة مع أهل البيت عليهم السلام ، وكان رأي الحسين عليه السلام في بادي الأمر أن يلحق بالشعاب والرمال ، إن لم تطمئن به الدار في مكة ، حتى تسفر له الأيام عن نتيجة صالحة يمشي على خطتها(1) .
لكن أهل الكوفة ساداتهم وسوادهم نقضوا عزيمته بما ارسلو إليه من كتبهم المملوة بالعهود والمواثيق التي لا تقوم لها السموات والأرض ، والمشتملة على فنون الإستعانة والطلب ، فيمم الكوفة بخروجه من مكة ، وهذا من الأمور التي يعترض بها القوم على الحسين ولا يرون له فيها عذراً لأنه جرب المجرب وأتمن الخائن ، وذلك نتيجة النظر في التاريخ سطحياً ، ومفاسد قلة التأمل مما يضيق عنها نطاق البيان ونظرة إجمالية في تاريخ الكوفة مع أهل البيت عليهم السلام يزيل الستار عن وجه الحقيقة وتقصر الخطأ والتقصير كله لأهل الكوفة دون الحسين ، فهلم معي لننظر في تاريخها نظرةً عابرةً ، إذ لا يسعنا طول المكث والوقوف في تلك العرصة .
نعم لقد كبا تاريخ الكوفة كبوته العظيمة ، حيث خدعهم ابن العاص
برفع المصاحف يوم صفين ، فخالفوا المرتضى في وضع اوزار الحرب ، وقد بلغ الحق

(1) ولا يذهب عليك أن هذا الكلام إنما يجري على فرض الحسين من سائر افراد الأمة مماشاة للخصم ، أما مع فرضه معصوماً مرضياً لإظهاره على الغيب كما هو الحق فكيف يجهل ـ وحاشاه ـ امور نفسه / المؤلف .
سياسة الحسين 44

مقطعه ، وخفقت على جيشهم ألوية النصر ، ولاحت لهم مخائل الظفر(1) .
ثم سقط تاريخهم لحر وجهه ، إذ غدروا بالمجتبى ، وكتبوا لمعاوية بما كتبوا ، حتى الجأوا الحسن لصلح معاوية ، وصفا له الملك ، فهناك دارت عليهم دوائره ، فولى عليه عماله الجفاة الشداد ، مثل المغيرة بن شعبة(2) وزياد بن أبيه(3) ، وسمرة بن جندب(4) يجرعونهم الغصص ، يسيغونهم الرنق ، فقتلوا خيارهم واستبقوا شرارهم ، وسلموا أعينهم ، وقطعوا أيديهم وأرجلهم ، تشفياً من علي بشيعته ، وطلباً بأوتار آبائهم المقتولين بسيفه عند تأسيس قواعد الإسلام ، وإن

(1) قصة رفع المصاحف في صفين قصة مشهورة معروفة وخلاصتها أن معاوية بن أبي سفيان لما أيقن أنه أوشك على أن يخسر المعركة وأن الجيش العلوي قاب قوسين أو أدنى من النصر هرع الى مستشاره عمرو بن العاص قائلاً ما أصنع يا عمرو وقد أحدق بي وبأصحابي خطر الموت .
فقال له عمرو : مر أصحابك أن يربطوا المصاحف على رؤوس الرماح فأمرهم ففعلوا ثم راحوا يخاطبون العراقيين قائلاً (هذا كتاب الله بيننا وبينكم) .
فأنخدع كثير من جند الامام علي عليه السلام بذلك وراحوا يطالبون علياً بايقاف القتال ووضع حد لنزيف الدماء وحاول عليه السلام اقناعهم بأن عميلة رفع المصاحف ما هي إلا خدعة يراد من وراءها عرقلة تحقيق النصر الذي لاحت تباشيره في الافق غير أنهم ويا للأسف لم يستجيبوا لنداءاته المتكررة في هذا المضمار وأخيراً اضطر عليه السلام الى ايقاف القتال وانهاء الحرب ولكن على مضض . . .
2 ـ هو المغيرة بن شعبة الثقفي المنحرف عن جادة الرسول وآل الرسول عليه وعليهم السلام ولاه عمر بن الخطاب الكوفة وعزله عثمان بن عفان عنها ولما ولي معاوية الخلافة ولاه إياها فلم يزل فيها الى أن مات بالطاعون سنة 50 هجرية .
3 ـ هو زياد بن ابيه من أخبث الناس وأقذرهم أراق أيام توليه البصرة والكوفة أنهراً من الدماء وتتبع شيعة أمير المؤمنين عليه السلام تحت كل حجر ومدر فقتلهم وشردهم وزجهم في غياهب السجون ولا ذنب لهم إلا اصرارهم على تشيعهم وموالاتهم لاهل بيت نبيهم .
4 ـ هو سمرة بفتح السين وضم الميم بن جندب من أعوان ابن آكلة الأكباد على نشر الظلم والجور ومن المنحرفين عن نهج أمير المؤمنين عليه السلام .
ذكر بن أبي الحديد في ج 4 ص 73 من شرحه على النهج أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مئة الف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها يهلك الحرث والنسل والله على لا يحب الفساد) وأن هذه الآية نزلت في ابن ملجم (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) فلم يقبل فبذل له مائتي الف درهم فلم يقبل فبذل له ثلثمائة اله فلم يقبل فبذل له أربعمائة الف فقبل وروى ذلك .
سياسة الحسين 45

اظهروا بذلك الطلب بدم عثمان وكيف يطوي معاوية وعماله صحيفة الطلب بدم عثمان من علي وشيعته ، وما قام ولا استقام ملكهم إلا بنشر تلك الصحيفة ، وقد قال الحكماء علة الحدوث هي علة البقاء .
فندم اهل الكوفة ـ طبعاً ـ على ما فرطوا في جنب أهل البيت عليهم السلام ندامة ما عليها مزيد ، وطلبوا منهم غير مرة أن ينهضوا بهم لمعارضة هذا الحكم الغاشم ، لكن سبطي رسول الله أنفا أن يعلق بهما وصمة الغدر ، وإن لم يكن عليهما لوم بذلك لأن معاوية لم يستقم لهما ولم يف بشئ من شروط الصلح ، لكن «كل إناء بالذي فيه ينضح(1)» ، فلبث العراق لأنه عاصمة الشيعة يرزح في العذاب طيلة عشرين سنةً مدة ملك معاوية المعدود من رجال الحلم والدهاء ، ثم استخلف على الأمة ولده يزيد ، ولا يشك أحد أن جوره وعتوه على أبيه يزيد ، وقد تحقق أهل العراق أن صلح الحسن إنما كان لمعاوية ، وأن ليس له أن يستخلف يزيداً وغيره ، إذن فليس ليزيد المترقب ظلمه وتهتكه في الدين شئ في أعناق أهل البيت فخفوا لبيعة الحسين ـ على بكرة أبيهم ـ عن شوق ورغبة ، وطاروا بأجابته لهم فرحاً وسروراً ، هذا مع أن الحسين عليه السلام لم يكتف بكتبهم ورسلهم بل أرسل أمامه رائداً من أهله وثقة من بيته مسلم بن عقيل ، فألفاهم فوق ما يظن

(1) هذا هو عجز البيت الثالث من أبيات شهاب الدين سعد بن محمد بن سعد التميمي الشهير بـ «ابن صيفي» وهي :
ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الاسارى وطالما غدونا عن الاسرى نعف ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه ينضح

أقول : قرأت في ص 338 من الجزء الاول من كتاب الكنى والالقاب للعلامة الشيخ عباس القمي قدس سره ما يلي :
قال بن خلكان قال الشيخ نصر الله بن مجلي وكان من ثقات أهل السنة رأيت في المنام علي بن أبي طالب فقلت له يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ثم يتم على ولدك الحسين يوم الطف ما تم .
فقال عليه السلام : اما سمعت أبيات ابن صيفي فقلت : لا . فقال : اسمعها منه . ثم استيقضت فبادرت الى داره فخرج الى فذكرت له الرؤيا فشهق وأجهش بالبكاء وحلف بالله إن كانت خرجت من فمي أو خطي الى أحد وان كنت نظمتها إلا في ليلتي هذه ثم انشدني .
ممكنا فكان العفو منا . . .
سياسة الحسين 46

من تفانيهم في حب أهل البيت عليهم السلام واسراعهم لنصرتهم وبيعتهم ، فكتب إليه يبشره بما لاقى منهم من الحفاوة وسيتحثه على القدوم اليهم(1) .
فلعمري إنه لا يتصور عاقل بعد هذا البيان غدر أهل الكوفة برجل من سائر بني هاشم ، يثور بهم في وجه أمية ليصدهم عن منكراتهم في الشرع والوجدان ، فضلاً عن أن يكون سيد بني هاشم الذي انتهت اليه مواريث النبوة ورجعت إليه أمور الإمامة ، ولكن له اسوةً بجده مع اليهود إذ كانوا ينتظرونه أشد الأنتظار
«وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين»(2) من اليهود ومن أهل الكوفة الذين خسروا حظوظهم ، فلم يستضيئوا بنر النبوة والإمامة ، ولا لوم على ابن المصطفى لأنه سلك الطريقة العقلائية والسيرة المألوفه ، «ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً»(3) .
هذا ولكني لا أظن المعترض يرى أن الحسين تبدل اعتقاده في أهل الكوفة ولو جئته بكل آية ، بل يحتم على الحسين استصحاب حالتهم مهما طالت المدة وتوفرت الطوارئ والتطورات ، فلنسلم له دعواه ونتنازل معه على إرادته ثم علينا أن نسأله أين يتوجه الحسين ، وأي أرض تمنعه من القتل ولم يمنعه حرم الله وحرم رسوله ، إذن فهو مقتول على كل حال ولا مزية للمقتول في الأرض التي يقتل فيها ليمكث في الحجاز ، أو يسير إلى اليمن فيقتل هناك .
على أن الذي أعرفه أنا في إختيار العراق إمور :
الأول : أن المدد في الحجاز منقطع عنه ، إذ ليس في المدينة بيتان من محبي أهل البيت ، بخلاف الكوفة فإنها عاصمة شيعتهم الذين أبرمهم ظلم بني أمية ، وقد

(1) قائلاً : (أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فجعل الاقبال حين يأتيك كتابي والسلام) .
انظر مسلم بن عقيل للعلامة المقرم ص 148 .
2 ـ سورة البقرة / 89 .
3 ـ سورة الفتح / 10 .
سياسة الحسين 47

استغاثوا به ولاحت له مخايل صدقهم ، فيكون امدادهم له معلوماً في سيرة العقلاء ومظنوناً ـ على الأقل ـ في رأي المعترض .
الثاني : إقامة الحجة عليهم بين يدي الله تعالى فإنهم دعوه ليوازروه على العمل فيهم بكتاب الله ويسير فيهم بسيرة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحجة الشرعية مبنية على ما يظهر للمرء في عقيدته ، فإن خيانتهم بأبيه وأخيه قبل عشرين سنة لا تكون له عذراً في ترك ألوف النفوس من المسلمين في استبداد منكرات بني أمية ومبتدعاتهم في الدين ، والله تعالى يقول
: «ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمناً»(1) .
الثالث : أنه بقدومه العراق كان السبب العظيم الكثير منهم أدركوا به السعادة ، وشملتهم نفحات ألطافه وبركاته ، وهم طوائف كثيرة واليك المهم منها :
1 ـ أنصاره الذين قتلوا معه فإنهم كلهم ـ غير ما شد وغير الهاشميين ـ من أهل الكوفة ، مثل حبيب بن مظاهر(2) ، والحر الرياحي(3) ، وثلاثين رجلاً إنسلوا من معسكر
ليلة عاشوراء(4) .
2 ـ الذين قتلهم ابن زياد قبل وصوله كربلاء ، وكان من نياتهم نصرته كميثم التمار(5) وغيره .

(1) سورة النساء / 94 .
(2) هو حبيب بن مظهر ـ بضم الميم وفتح الظاء ـ حسب ما ذكره العلامة الشيخ محمد السماوي في ص 61 من (إبصار العين في انصار الحسين) الاسدي .
كان رضوان الله عليه من أفاخم أصحاب مولى الموحدين الامام علي عليه السلام ومن حملة علومه وقد شهد حروبه كلها الجمل وصفين والنهروان .
ذكر أهل السير أن حبيباً رحمه الله خرج الى الحسين بعد وروده كربلاء مختفياً يسير الليل ويكمن النهار حتى وصل كربلاء ليلة الثامن من شهر محرم ولازم الامام عليه السلام حتى فاز بالشهادة بين يديه .
(3) مرت ترجمته قبل قليل .
(4) انظر العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي ج 4 ص 379 .
(5) هو ابو سالم ميثم بن يحيى التمار النهرواني كان رحمه الله من خواص اصحاب أمير المؤمنين وأصفياءهم وقد أطلعه عليه السلام على علم كثير وأسرار خفية من أسرار الوصية .
قتل عطر الله مرقده في الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة من سنة 60 هجرية كما في صفحة 74 من كتاب (ميثم التمار) للعلامة الشيخ محمد حسين المظفر . . قتله عبيد الله بن زياد .
سياسة الحسين 48


3 ـ الذين حال
ابن زياد بينهم وبين نصرته حيث زجهم في أعماق السجون وغيابات الطوامير ، وهم الكثير من أهل الكوفة كالمختار بن أبي عبيدة(1) ، والتوابين وعلى رأسهم سليمان بن صرد الخزاعي(2) .
4 ـ من تهياؤا لنصرته أو ساروا فلم يدركوها لمعاجلة ابن زياد له بالقتل ،
كابن مسعود النهشلي وجيشه الكثيف من أهل البصرة (3) .
5 ـ من هداهم رأسه الشريف وحرمه المسبيات معه الى دين الإسلام وستأتي الإشارة الى هذا انشاء الله تعالى .
6 ـ الباكون والمتباكون عليه وهم الكثير من الناس .
واين يقع أهل الكوفة ـ لو نصروه فلم يقتل ـ من انصاره برثائه والبكاء والتباكي عليه ، جعلنا الله منهم وكافة إخواننا المؤمنين

(1) هو المختار بن أبي عبيدة الثقفي قاتل قتلة سيدنا ومولانا سبط الرحمة وفطيم النبوة وربيب العصمة الحسين بن علي عليه السلام .
وقد وردت في شأنه طائفتان من الروايات طائفة تذمه وتقدحه وقد تصدى لردها لفيف من أكابر علمائنا الاعلام منهم آية الله فقيه عصره المغفور له الشيخ عبد الله المامقاني رحمه الله في ص 204 وما بعدها من الجزء الثالث من كتابه (تنقيح المقال في علم الرجال) .
وأما الطائفة الثانية فهي عبارة عن مجموعة نصوص مباركة واردة عن الأئمة الاطهار وقد تضمنت مدحهم له وترحمهم عليه ومنها نستكشف حسن عقيدته وجمال سيرته وسريرته ورضا القادة العظام بعمله .
(2) ارجع ايها القارئ إن أردت الاحاطة بثورة التوابين ومعرفة أحوال قادتها ومنهم سليمان بن صرد الخزاعي وما يتصل بها من قريب أو بعيد الى المصادر التالية :
1 ـ لواعج الأشجان للسيد محسن الامين العاملي .
2 ـ الانتفاظات الشيعية عبر التاريخ للسيد هاشم معروف الحسني .
3 ـ ثمرات الاغواد للسيد علي الهاشمي .
(3) هو يزيد بن مسعود النهشلي من أشراف البصرة ومن عيون الشيعة فيها كتب اليه الحسين عليه السلام أيام اقامته في مكة كتاباً يدعوه لنصرته فلما انتهى اليه الكتاب جمع بني تميم وبني حنظلة وبني سعد في مؤتمر واحد وقام فيهم خطيباً حيث القى عليهم خطبة بليغة دعاهم فيها للتوجه الى الحسين والانظواء تحت لوائه الشريف فأجابوه الى ما أراد فكتب الى الحسين عليه السلام كتاباً بليغاً ينم عن وعي ومعرفة بمقام أهل البيت عليهم السلام ويعرب فيه عن كامل استعداده لنصرته وبعث الكتاب مع رجل يقال له الحجاج بن بدر السعدي فوصله وهو عليه السلام في ساحة المعركة ولما تجهز يزيد بن مسعود للخروج الى الحسين وإذا بنبأ استشهاده يطرق سمعه فتأسف عليه وحزن .
سياسة الحسين 49

آمين آمين لا أر ضى بواحدة حتى أضيف إليه األف آمينا

ولكني أرى المعترض وإن كف لسانه عن الحسين ما دام لم يسمع بقتل مسلم بن عقيل وانقلاب حالة الكوفة ، أما بعد أن سمع بذلك ، حتى لقد قام في اصحابه خطيباً(1) وأخبرهم بتبدل الحالة ، فتفرقوا عنه ذات اليمين وذات الشمال ، فبقي في أصحابه المخلصين ، وهم جماعة قليلة لا تقوم لاجناد الكوفة فضلاً عن أمدادهم من جنود الشام ، فإنه لم تبق في رأي المعترضين حجة يتعلل بها الحسين في تصميمه على قصد الكوفة ، وقد صرح له المخض عن الزبد ، وتفرى له الصبح عن بلجه .
والذي أعرفه أنا من وجوه العذر هنا ثلاثة :
الأول : أن الفوائد التي كان يتوخاها الحسين من الكوفة ـ وقد ذكرناها ـ لا يختلف عليه الاأمر ، فإنه لم ينقطع حينذاك أمله من أهل الكوفة بتاتاً ، كيف وقد كان أول القوم لحوقاً به منهم عند ملاقاته للحر ، ثم اتصلت عناية الله بهداية من اراد الله هدايته الى ما بعد مقتل الحر بين يديه .
الثاني : أن الركبان قد بشروه بأن عامة أهل الكوفة قلوبهم معك (وعلى ما في القلب المعول) وإن كانت سيوفهم بحسب الحالة الحاضرة مع بني أمية(2) ، فلا جرم أنه طمع بإفاقة أهل الكوفة من سكرتهم عندما يحضر لديهم شخصاً فيجتهد في تنبيههم من رقدة الغفلة وسنة الضلال في اتباعهم ليزيد ، لا سيما إذا انضم لتلك البشارة أنه قد سبر أهل الكوفة كأصحاب موسى لا يصبرون على طعام

(1) فقال عليه السلام (أما بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر وقد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه حرج منا ولا ذمام) .
فتفرق عنه النفعيون وطلاب الدنيا وعبدة المادة .
انظر نفس الهموم للشيخ عباس القمي ص 185 .
(2) لما انتهى الحسين عليه السلام الى (الصفاح) وهو موضع بين مكة والعراق التقى بالشاعر العربي المعروف الفرزدق بن غالب الاسدي فسأله عليه السلام عن خبر الناس خلفه فقال الفرزدق : (قلوبهم معك وأسيافهم عليك والقضاء . . .) .
انظر ارشاد الشيخ المفيد ج 2 ص 67 .
سياسة الحسين 50

واحد ، بل سرعان ما يسأمون الوالي القديم ويزفون الى للجديد بأجنحة خوافيها الرغبة وقوادمها الترحيب ، كما صنعوا أخيراً إذ تركوا بني أمية لقدوم المختار ثم هجروه لورود مصعب(1) علهيم ، ثم قتلوه لمجئ عبد الملك بن مروان(2) ، وكم فعلوا مثل هذه الأفعال أولاً وأخيراً ، فكان من الجائز في نظر العقلاء أن سيتركون بني أمية ويفيئون للحسين ، كما تركوا بيعته لقدوم
ابن زياد ، لكن القوم عثر جدهم فلم يسيروا هذه المرة على جاري عادتهم .
الثالث : أن قتل مسلم وابن يقطر(3) وانقلاب حالة الكوفة لم تبلغ الحسين إلا بطريق الآحاد ، من رواة لا يعرفون بالصدق ولا بالكذب «وما آفة الأخبار إلا رواتها» .
وأما خطبته في اصحابه فإنها مبنية على ما أخبر به الركبان ، على أن فيها فائدة تمييز الخبيث من الطيب ، وهو أمر مرغوب اليه في كل حال .
هذا كله قبل ملاقاته ، للحر ، أما بعد ذلك فقد رام تبعاً لرأي المعترض أن يرجع الى المدينة ، ولو سفك دمه على قبر جده ، أو اريق على شاذروان(4) بيت ربه أو على غيرهما من البقاع ، فإنه يعلم أن بني أمية لا يتركونه حتى يستخرجوا علقة جوفه ، لكن الحر ومن جعجعوا به وقطعوا عليه خط الرجوع ، بل أرادوا إلجاءه أن

(1) هو مصعب بن الزبير بن العوام الاسدي ولاه اخوه عبد الله على البصرة سنة 68 هجرية وقتل سنة 71 .
(2) هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن امية . . . ولد سنة 26 هجرية وتوفي في المدينة سنة 86 هجرية .
(3) هو عبد الله بن يقطر الحميري كان رضوان الله عليه صحابياً وكان لدة الحسين عليه السلام ـ واللدة الترب الذي ولد معك وتربى ـ لان يقطر أباه كان خادماً عند رسول الله وكانت زوجته ميمونة في بيت أمير المؤمنين فولدت عبد الله قبل ولادة فاطمة الحسين بثلاثة أيام .
انظر ترجمته في تنقيح المقال ج 2 ص 224 وإبصار العين ص 52 وتاريخ الكوفة للبراقي ص 292 .
(4) الشاذروان من جدار البيت الحرام وهو الذي ترك من عرض الأساس خارجاً كالإزار المؤلف .
سياسة الحسين 51

يستأسر معهم حتى يدخلوا به على ابن زياد فيرى فيه رأيه ، وبعد هن وهنات انزلوه أرض كربلاء (1) فاحاط به الكرب والبلاء ، واقبلت لقتاله ، المواكب تتلوها المواكب ، والكتائب تقفوها الكتائب .
ملأ القفار على ابن فاطمة جند ملأ صدورهم ذحل
بعساكر بالطف أولها وأخيرها بالشام متصل(2)

* * *



(1) في الثاني من شهر محرم سنة 61 هجرية نص على ذلك :
1 ـ الطبري في تاريخه ج 4 ص 309 .
2 ـ الشيخ المفيد في ارشاده ج 2 ص 84 .
3 ـ الفتال النيسابوري في روضة الواعظين ج 1 ص 181 .
4 ـ ابن نما في مثير الاحزان ص 49 .
5 ـ السيد بن طاووس في الملهوف على قتلى الطفوف ص 139 . وآخرون .
(2) من قصيدة عصماء للمرحوم الشيخ حمادي الكواز الحلي المتوفى سنة 1283 هجرية مطلعها :
ومقوظين تحملوا وعلى مسراهم المعروف مرتحل
سياسة الحسين 52



ومماشاته لأهل الكوفة




خاطب الله هذه الأمة مبشراً لهم بما لرسوله من كرم الأخلاق معهم فقال ـ وله المنة والطول ـ «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليم بالمؤمنين رؤوف رحيم»(1) .
ولقد ورثه ولده أبو عبد الله بهذه الصفات وغيرها من كريم الصفات ، فاجتهد أن لا يتعجل القوم له بالقتال حرصاً على هدايتهم ورجوعهم الى الحق ، كلما جادلهم بالتي هي أحسن ، ورأفة عليهم من عذاب الله ، ولقد عز عليه أن يشقى بقتله هذا الجم الغفير من أمة جده فيكون مصيرهم النار ، ولا عنت أعظم من دخول جهنم ، حتى أنه إذا أيس من هداية الرجل من أمة جده الى الفور بنصرته أشار عليه أن يبعد فلا يسمع واعية أهل البيت ، علماً منه أن من سمع واعيتهم ولم يجبهم أكبه الله على منخريه في النار ، كما اشار على ابن الحر الجعفي (2)

(1) سورة التوبة : 128 .
(2) لما خرج الامام الحسين من مكة يريد العراق في الثامن من شهري ذي الحجة سنة 60 هجرية انتهى به السير الى قصر بني مقاتل فالتقى في هذا الموضع بـ«عبد الله بن الحر الجعفي» فدعاه الامام الى نصرته قائلاً : (يا بن الحر ان أهل مصركم هذا ـ يريد الكوفة ـ كتبوا الي أنهم مجتمعون على نصرتي وسألوني القدوم عليهم وليس الامر على ما زعموا وان عليك ذنوباً كثيرة فهل لك من توبة تمحوا بها ذنوبك) .
قال : وما هي يابن رسول الله ؟
قال الحسين عليه السلام : تنصر بن بنت نبيك وتقاتل معه .
فقال ابن الحر : والله اني لا علم ان من شايعك كان السعيد في الاخرة ولكن ما عسى اغني عنك ولم اخاف لك بالكوفة ناصراً فانشدك الله ان تحملني على هذه الخطة فإن نفسي لا تسمح بالموت ولكن فرسي هذه (المحلقه) فأركبها فوالله ما تطلبت عليها شيئاً قط إلا لحقته ولا طلبني احد وانا عليها الا سبقته فخذها فهي لك فاركبها حتى تلحق بمأمنك وأنا لك بالعيالات حتى أردها اليك .
فقال الحسين عليه السلام : (إما إذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجة لنا في فرسك ولا فيك وما كنت متخذ المظلين عضداً ولكن فر فلا لنا ولا علينا فوالله لا يسمع واعيتنا احد ثم لا ينصرنا إلا أكبه الله على وجهه في نار جهنم) .
وبودي أن أذكر هنا أن هذا الرجل الذي لم يستجب للحسين ورفض الانضواء تحت لوائه لان نفسه لم تسمح له بالموت ـ كما مر عليك في جوابه له عليه السلام ـ ندم بعد ذلك وتأسف وتلهف على ما فاته من نصرة الحسين وأنشأ أبياتاً رقيقة ضمنها أسفه وندمه وحسرته وهي :
فيا لك حسرةً ما دمت حياً تردد بين صدري والتراقي
حسين حين يطلب بذل نصرى على أهل الضلالة والشقاق
غداة يقول لي بالقصر قولاً أتتركنا وتزمع بالفراق
فلو فلق التهلف قلب حر لهم اليوم قلبي بانفلاق
ولو واسيته يوماً بنفسي لنلت كرامةً يوم التلاقي
مع بن المصطفى نفسي فداه تولى ثم ودع بانطلاق
لقد فاز الاولى نصروا حسيناً وخاب الاخرون ذوو النفاق
سياسة الحسين 53

وساكني كربلا من بني أسد ، وقد ناقضه في رأيه ابن زياد الشقي فكان يستحث ابن سعد في المناجزة انتهازاً لفرصة ميل الكوفة اليه ، وعلماً منه بأنهم لا يقيمون على رأي واحد ، ولا سيما إذ طالبهم الحسين بحقوقه عليهم قديماً وحديثاً ، وخوفاً أن يلحق به المدد من البلاد البعيدة كابن مسعود وجيشه البصري ، فلما طلعت الشمس يوم عاشوراء تحرش ابن سعد(1) فأطلق سهمه من قوسه ، والتفت الى رؤساء جيشه قائلاً إشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى الحسين عليه السلام بسهم(2) وتبعه رؤساء القوم وقبائلهم ، فاستحر القتل واصطلى الفريقان نار الحرب ، حملةً وحملةً وصولةً وصولةً ، حتى استشهد معظم اصحاب الحسين عليه السلام ، ثم جعل يخرج لهم الواحد والأثنين ، وقد أمر الخطباء منهم قبل الحرب ، وفي أبانها أن يذكروا القوم بأيام الله ، وينذروهم بطش الله ، فذهب خطب اولئك البلغاء المصاقع كصرخةً في بلاقع(3) ، ولم ينتفع بخطبه وخطب اصحابه إلا القليل ، وما

(1) هو عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري ممن انزعت الرحمة من قلوبهم .
كان قائداً أعلى للقوات المسلحة التي زحفت لقتال سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي عليه السلام عام 61 هجرية .
أخبر الرسول الاعظم عن سوء عاقبته مراراً فقد روى الرواة أنه اجتاز يوماً على النبي فلما رآه قال : (يكون مع قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الارض البقرة بلسانها) .
دعا الحسين عليه السلام ربه تبارك وتعالى أن يسلط عليه من يذبحه على فراشه فاستجاب الله دعائه فذبحه ابو عمره على فراشه . . .
تجد تفصيل ذلك ضمن قصة المختار حشره الله تعالى مع الأئمة الاطهار .
(2) مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 8 .
(3) كخطبة زهير بن القين التي افتتحها بقوله : (يا أهل الكوفة نذار لكم من عذاب الله نذار . . .) .
وكخطبة برير بن خظير الذي قال فيها (يا معشر الناس ان الله بعث محمداً بشيراً . . .) . =
سياسة الحسين 54

زاد أكثرهم غير تبتيب وفد قال الله تعالى لجده من قبل «فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين»(1) .
أجل إن جهد الحسين في إنقاذ امة جده من هوة الباطل لقد تجاوز حدود العادة ، فقد توصل الى تنبيههم من غفلتهم بشتى الوسائل ، وجاءهم من مختلف الطرق ، حيث قام فيهم ـ موقفاً بعد موقف ـ سبط من اوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب وسليل من سن في الخلق نهج البلاغة في كل باب ، فطالبهم بما كتبوا إليه من نصرته ، وإلحافهم عليه في إجابته ، وبقربه من رسول الله ، وليس فيهم أحد من غير أمته ، وبالكلمات المأثورة عنه فيه وفي ذويه ، وبما لأبيه من السوابق الكريمة في رفع قواعد الإسلام ، وبمحيط نسبه الوضاح الذي هو مركز دائرته ، بل حتى بلباسه ومركبه وسلاحه ، فإنها كانت من مواريث النبوة ، وقد أعاد لهم إذ تحلى بها الذكريات العظيمة ، ذكريات حامل الرسالة السماوية الخالدة ، وبغير ما ذكرنا من الآيات البينات فما أجدره أن يخاطب :
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي

ثم ترك حقوقه الخاصة به ورجع الى الحقوق العامة للإسلام ، فإنه مسلم دمه وماله حرام ، ولم يأت بما يوجب سفك دمه ، ثم عرج على الحقوق العامة بين المسلم وغيره ، بل بين الناطق والصامت من الحيوان ، كالماء فقد جعل الله منه كل شئ حي ، والأحياء فيه شرع سواء ، ثم تنازل عن ذلك لأنه استحق منعه بزعمهم إذ ترك بيعتهم ، فطلبه لطفله الذي لا اسوة له بكل هذه الأمور ، وقد نهى الاسلام عن قتل أطفال المشركين ، لكن القوم طبع على قلوبهم فتركوا شرايع الإسلام والشيم العربية ، بل العادات الجارية بين نوع الإنسان .
ولكن هل تدري ماذا كان جواب الكوفة له بعد هذا الإعذار والإنذار ، نعم

= وكخطبة الحر بن يزيد الرياحي التي استهلها بقوله (يا أهل الكوفة لامكم الهبل والعبر إذ . . .) .
وبوسعك ـ أيها القارئ الكريم ـ أن تقف على هذه الخطب وغيرها في كتب المقاتل .
(1) سورة الروم / 52 .
سياسة الحسين 55

وربك لو لم ينزل القرآن ببلاغته عن طوق البشر على السفهاء من قريش وغيرهم ، لأكبرنا الحسين ونزهنا عن تضييع جواهر البلاغة وعرضها على من لا يعرف قدرها من سفهاء أهل الكوفة ، فذهبت خطبه(1) أدراج الرياح وعاملوه معاملة من جعلوا القرآن عضين ، فجعلوا بعضه شعراً ، والآخر سحراً ، ورموا قسماً منه بالكهانة ، وقسماً بالأساطير ، وما هو إلا وحي يوحى ، هكذا كان جواب أهل الكوفة فمرة بالسكوت ، ومرةً ابرمتنا بكثرة كلامك ، وطوراً بالسهام ، وطوراً لا نفهم ما تقول ، وقد ذهب على القوم أنه أراد بهم نصحاً وإعذاراً فيما بينه وبينهم ، وأخيراً اقترحوا عليه النزول على حكم يزيد وابن زياد ، حين طلب منهم أن يخيروه بين ثلاثة أمور ، أما أن يرجع من حيث أتى ، أو يسير الى ثغر من ثغور المسلمين يكون له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو يأتي يزيد فيضع يده في يده(2) ، وظني أنهم لو أجابوه إلى ذلك لأختار المسير الى ثغر من ثغور المسلمين ، لأنه ترك الفتنة قائمة في المدينة وعلى رأسها مروان بن الحكم مستشار بني أمية ، وأما وضع يده في يد يزيد فستعرف أن دونه من مثل الحسين عليه السلام خرط القتاد(3) ، لذلك صمم عليه القوم به بل بالنزول على حكم يزيد طلباً لقتله ، مع

(1) للحسين عليه السلام ومنذ نزوله كربلاء والى أن استأثرت بروحه الرحمة الإلهية في العاشر من شهر محرم من الخطب ما يلي :
1 ـ الخطبة التي ألقاها على أهل بيته وأصحابه بعد وروده كربلاء بساعات قليلة والتي قال فيها (أما بعد فإنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون وإن الدنيا . . .) .
2 ـ الخطبة التي خطبها بعد أن جمع أصحابه ليلة العاشر قال فيها : (اثني على الله احسن الثناء وأحمده في . . .) .
3 ـ الخطبة التي خطبها يوم العاشر على جند عمر بن سعد قال فيها : (أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى اعظكم . . .) .
4 ـ الخطبة التي خطبها بعد أن ركب فرسه وأخذ مصحفاً ونشره على رأسه ووقف بإزاء القوم قائلاً : (تباً بكم أيتها الجماعة وترحاً حين . . .) .
هذا مجموع خطب الامام الحسين عليه السلام التي نقلها لنا أرباب المقاتل والسير منذ أن وطأت قدماه أرض كربلاء وحتى ساعة شهادته روحي فداه . (2) وإن صح أن هذا الشق افتراه ابن سعد كما يخبرنا به عقبة بن سمعان / المؤلف .
(3) قال الميداني في كتابه مجمع الامثال ج 1 ص 276 بعد ذكره لهذا المثل : الخرط قشرك الورق عن الشجرة اجتذاباً بكفك والقتاد شجر له شوك أمثال الابر يضرب للامر دونه مانع .
سياسة الحسين 56

علمهم بأنه لو رجع إلى المدينة أو سار الى ثغر من ثغور المسلمين لا ينتفق عليهم منه ما لا يستطيعون سده ، لأنهم قد جربوه فألفوه صابراً على الأذى ، محتملاً للصبر ، وافياً بالعهد أكثر من عشرين سنة ، وهو اليوم صاحبهم بالأمس .
هذا ولا يتوهم المعترض في الحسين تناقض الأقوال والأفعال في تنازله هذا لبني أمية أو ما يجري مجراه ، فإن ابن رسول الله لم يزل متمسكاً بمبدئه المقدس في الدفاع عن ناموس الإسلام ، بنفسه وما ملكت يمينه لا يلوي على غيره ولا يعرج على سواه ، لكنه في أكثر هذه الموارد يبالغ في تسجيل الحجة على خصومه ، حيث ينقطع رجاؤه من إجابتهم طلبته ، ولئلا يقول المعترضون وغيرهم هلا تنازل مع مناوئيه بعض التنازل ، ليستدرجهم الى استغلال بعض أمانيه .
وإن ضايق المعترض وزعم أن من أمثال هذه الموارد الإرادة الجدية منه فلنا أن نقول وأي غضاضة على نصير الحق وسيد المجاهدين اذا ساير الوضع الحاضر ، وتحيز الى جانب آخر من جوانب الدفاع ، وشرع خطة غير التي كان عليها ، وهي بحسب الظروف الحاضره أهم من الأولى ، ومن قرأ سيرة جده ومصالحته مع المشركين ، حتى محا اسمه الشريف من الرسالة باصبع نفسه(1) ، ورجع عن مكة متربصاً سنوح فرصة أخرى ، أذعن بأن سبطه متمم لسيرته ومبتلىً بكل ما ابتلي به ، من سلف يزيد سنة بسنة ومثلاً بمثل ، لكن رسول الله أوتي سؤله ، فصالح ورجع الى مدينته المنورة بجيشه واصحابه ، وسبطه لم يرجع الى المدينة إلا نساؤه الأيامة وأطفاله اليتامى ، وبقي هو شلواً في عرصة كربلاء مكبوباً على وجهه ، وأصحابه مجزرين حوله كالأضاحي تصهرهم الشمس ، وتجول عليهم خيول الأعداء .
صرعى تقلبهم ايدي الجياد وما لهم بغير وشيج السمر تظليل(2)

(1) يشير المؤلف طيب الله ثراه الى ما حصل الحديبية وذلك في السنة السادسة من الهجرة .
انظر السيرة النبوية لابن هشام ج 3 ص 331 ، والمغازي للواقدي ج 1 ص 610 .
(2) من قصيدة لمؤلف الكتاب عطر الله تربته وقد مرت الاشارة اليها آنفاً .

السابق السابق الفهرس التالي التالي