سياسة الحسين 57


لم لم ينزل على حكم يزيد




إن الوتر الذي يضرب عليه المعترضون ، والأمر الذي يطلبون به ويزمرون من اول قدوم كتاب يزيد الى حين قتل الحسين هو عدم إجابته لبني أمية في إعطائهم سؤلهم ، ونحن قد بينا العذر في امتناعه من بيعتهم أول الأمر ، فقد كان يظن في أمة جده الخير فيعاونونه على نصرة الحق وخذلان الباطل ، وقد أكد ذلك في رأيه مكاتبة أهل الكوفة له وابتداؤهم إياه أن يوازروه على إقامة كتاب الله ، وإحياء سنة رسول الله ، أما الآن قد أخذوا بكظمه وانقطع عنه المدد ، فقد غرتهم كثرة جنودهم وقوة عدتهم ، ولم يستمعوا لنداء الحق «كم من فئة قليلة غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله » (1) وقوله تعالى :«ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت»»(2) لذلك أعرضوا عن ذكر البيعة ، وترقوا الى طلب نزول الحسين على حكم يزيد وابن زياد .
ونحن نقول لهم لامكم الهبل(3) ـ إذا كان الحسين لم يصالح معاوية فكيف يبايع يزيد ، واذا لم يدر في خلده أن يبايع يزيد فكيف ينزل على حكمه ، ألكثرة جنودكم ؟ ، فإن جنود معاوية أكثر ، وعزمه يغنيه عن العدد والعدة ، واعتماده على الله وحده ، ومن أشد من الله قوة ، ومن أعظم منه محاولةً ، ومن أكثر منه جنوداً واستمعوا له ينشدكم بلسان حاله .
رأيت الله أكبر كل شئ محاولةً وأكثرهم جنوداً

إذن :
لا تفخروا بجنود لا عداد لها إن الفخار بغير السيف لم يكن(4)


(1) سورة البقرة / 249 .
(2) سورة الانفال / 19 .
(3) الهبل بالتحريك : الثكل والفقد .
(4) من قصيدة جيدة في رثاء الحسين عليه السلام للمرحوم الشيخ كاظم الازري مطلعها :
إن كنت في سنة من غارة الزمن فانظر لنفسك واستيقظ من الوسن
سياسة الحسين 58

وليت شعري هل يعلم المعترضن تفسير هذه الكلمة ومغزى هذه العبارة فيحتموا على الحسين إجابة القوم إليها .
نعم معناها سلب اختيار الحسين بالكلية ، وعدم معارضته ليزيد وابن زياد في أمر من أموره ، وها نحن نذكر ما نعرفه من وجوه العذر ضمن كلماتنا الآتية ، ولعل هناك وجوهاً قدر رئاها الحاضر ولم يرها الغائب :

1 ـ لا يلقي الحسين بيده الى التهلكة


قد عرفت أن السبب الوحيد في نزول البلاء من معاوية وعماله على العراق هو ميلهم لأهل البيت عليهم السلام ، حتى كتب معاوية لعماله أن اقتلوا على الظنة واحبسوا على التهمة(1) ، ناسخاً لقوله أولاً من قامت عليه البينة انه يحب علياً فاقتلوه ، وهو الذي لم يسغ له في دينه ان يتمتع حجر وأصحابه بالحياة(2) ، ما لم يتبرأوا من خصمه علي بن ابي طالب المولود على الفطرة والذي لم يقم بناء الإسلام إلا بسيفه ، على أن معاوية هو الموسوم عند القوم برجل الحلم والدهاء .
فليت شعري هل يتصور عاقل أن يكف يزيد غضبه عن الحسين بن علي خصمه وخصم أبيه بعد ما جاهره بالعداوة وأعلن معه القتال فيعفوا عنه ولا يقتله ، وقد شق عصا المسلمين بزعمه ونازعه سلطان جده محمد ، ويزيد أولى به من

(1) كتب كهف المنافقين معاوية بن ابي سفيان الى عماله كتاباً جاء فيه بعد كلام : (ومن اتهمتموه بمولاة هؤلاء القوم ـ يريد علياً واولاده ـ فنكلوا به واهدموا داره) .
وتحدث الامام الباقر ـ وبألم ـ عما جرى على شيعة أهل البيت من الاضطهاد والاذى في زمن معاوية فقال : (وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الايدي والارجل على الظنة وكان من يذكر بحبنا والانقطاع الينا سجن أو نهب ماله او هدمت داره) .
انظر الغدير للعلامة الاميني ج 11 ص 16 وما بعدها .
(2) حجر بن عدي الكندي نور الله قبره من ألمع اصحاب الامام امير المؤمنين وابنه الامام الحسن ، سيد من سادات المسلمين في الكوفة .
كان على جانب عظيم من العبادة والطاعة والمعرفة . . . شهد مع الامام أمير المؤمنين الجمل وكان أمير كندة يوم صفين وأمير الميسرة في النهروان .
وهو أول من قتل صبراً في الاسلام قتله معاوية بن أبي سفيان في مرج عذراء على بعد 12 ميلاً من دمشق وذلك سنة 51 هجرية .
انظر ترجمته في الاصابة لابن حجر ج 2 ص 37 واسد الغابة لابن اثير ج 1 ص 437 .
سياسة الحسين 59

كل أحد فيما يظن .
كلا ثم كلا وإن تبرء الحسين من أبيه أبي تراب سبعين مرةً وما أدري من الذي يمضي من هؤلاء المعترضين مع ابن رسول الله خفيراً له من فتك ابن مرجانة وابن هند ، أم يريدون الحسين يمد عنفه لخصمه الألد وهو ممتلئ عليه غيظاً وحنقاً ، ثمل بسكراته التي لم يعرف الصحو منها طرفة عين ، فيقتله انتقاماً له (من بني أحمد ما كان فعل(1) فيسجلون عليه ـ لا محالة ـ أنه القى بيده الى التهلكة ، ويلزمونه أنه أعان على نفسه إلزاماً لا ينفلت منه ، ولا يمكن أحداً الأعتذار عنه .
كلا فقد قرأ سيد بني هاشم من اقتراحهم النزول على حكمهم ومن نظره في سيرة أمية القاسية مع أهل البيت عليهم السلام وأشياعهم أنه مخير بين أن يقتل في خطة الحرب عزيزاً ، مدافعاً عن شرف نفسه ، ذائداً بسلاحه عن حوض مجده ، أو يقتل في مجلس أمية ذليلاً على النطع الذي قتل عليه خيار اصحاب أبيه أيام صلح معاوية وقد رجع تراثاً ليزيد ، فأي القتلين أولى لو أنصف الحكم .

2 ـ يجب النهي عن المنكر


لم يسوغ لأهل المدينة دينهم ووجدانهم البقاء تحت حكم يزيد ، والخضوع لسلطان شهواته ، لما ظهر منه من المنكرات في الشرع والعقل ، وعدم مبالاته في انتهاك الحرمات حتى قال بعضهم وهو عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة(2)

(1) هذا هو عجز البيت الخامس من الابيات التي تمثل بها يزيد بن معاوية بعد ان وضع بين يديه رأس الحسين عليه السلام وهي :
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسل
لاهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف ان لم انتقم من بني احمد ما كان فعل

(2) هو عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الراهب الانصاري الاوسي . . . ولد على عهد رسول الله يكنى أبا عبد الرحمن . . . قتل يوم الحرة وذلك في ذي الحجة من سنة ثلاث وستين هجرية قتله أهل الشام .
انظر اسد الغابة لابن الاثير ج 2 ص 582 .
سياسة الحسين 60

(والله ما خرجنا على يزيد ، حتى حفظنا أن نرمى بالحجارة من السماء ، وخفنا أن رجلاً ينكح الأمهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمور ويدع الصلاة(1) فخرجوا عليه موطنين أنفسهم على ما حل بهم من شدة الأنتقام في واقعة الحرة(2) الغني عن البيان ، لكنهم صبروا على عذاب يزيد فراراً من عذاب الله ، وعذاب الله شديد .
فإذا خاف أهل المدينة ـ وهم من سواد الأمة ـ أن يرميهم الله بالحجارة ويعجل لهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة لسكوتهم عن يزيد (والساكت عن الحق شيطان أخرس) حتى وطنوا أنفسهم على القتل ومن سلم من القتل فقد لاقى أعظم من القتل فكيف يجوز للحسين ـ وهو سيد الأمة ومطمح انظارها ـ أن ينزل على حكم يزيد ، ويدعه ونهتمه في إرتكاب المحرمات ، وتلاعبه في الدين حتى تعفو معالمه ، وتندرس آثاره ، كل ذلك حباً للسلامة الموهومة ، وطمعاً بعيشة أيام قليلة منكدة من هذه الدنيا الفانية .

3 ـ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين


يقول سيد آباة الضيم في خطبته يوم عاشوراء : «ألا وأن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة ، وهيهات منا الذلة ، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت ، وجدود طهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ( (3) .
هلم أيها المعترض لفهم هذه الجملة وسرح النظر في رياضها عسى الله أن

(1) انظر الرد على المتعصب العنيد لابن الجوزي ص 54 .
(2) الحرة موضع بظاهر المدينة وفيه كانت الوقعة الشهيرة أيام يزيد بن معاوية .
انظر تاريخ الطبري ج 4 ص 370 وما بعدها .
(3) هذا مقطع من خطبة الامام الحسين الثانية والتي استهلها بقوله : (تباً لكم ايتها الجماعة وترحا . . .) .
انظر مقتل الحسين للعلامة المقرم ص 234 .
سياسة الحسين 61

يشرح لك صدراً ، وإن خفت أن لا تصل الى سبر أغوارها فإن الشمس تعرف بعينها وآثارها ، وها أنا مبين لك منها ما يحتمله فهمي القاصر .
يقول عليه السلام إن دعي آل ابي سفيان وابن دعيهم ، عبيد الله ابن زياد قد خيرني بين الحرب والنزول على حكمه وحكم يزيد ، وهو غاية الذلة ، وهيهات أن أنزل على حكمهما لأن الله لا يرضى أن ألقي بيدي الى التهلكة فأمد عنقي لسيفهما ، ولو نجوت من السيف كنت ساكتاً عن الحق والله لا يرضى بممالاة الظالم ، ولو جاز لي في الشرع والعقل غض النظر عن منكرات يزيد وابن زياد لم يجز لي النزول على حكمهما لأنه غاية الخضوع والذلة فك؟أني تركت عبادة الله وملت لعبادتهما ، وكيف أعصي الله بركوني لهذين الظالمين وأخالف رسول الله وكل مؤمن يبلغه ذلك الى يوم القيمة ، فإن العزة لهما بعد الله بنص الآية الشريفة(1) ، والعزيز لا يرضى بذلة عزيز مثلي قد حاز تليد المجد بكرم آبائه ونجابة امهاته ، وضم إليه طريفة بعزة النفس وشمم الأنف ، فإني لم أبايع من كان أعظم بأسا من يزيد , فمالي ابايع يزيد احباً للحياة , وفرارا من الموت ايرضى اقل الغيارى أن أحمل لواء الغدر بعد أن كنت علم العز ومنار الفخر والعلاء ، وبعد أن لقيت سيد أباة الضيم حيث عانقت مصرعاً طالما حن له الكرام وتمنا أعاظم الأمجاد ، أليس أبي القائل : «لألف ضربة بالسيف خير من ميتة على فراش(2)» أليس أنصاري ويقتبسن من أنواري .
فهل كفى المعترض ما جرى أم هو لا يرضى بحكم الكتاب ، ولا سنة الرسول ، ولا طريقة المؤمنين ، وشرف العاطفة فيحتم على الحسين النزول على حكم يزيد طلباً للسلامة الموهومة هذا وقد علم من تاريخ يزيد أنه لما ظفر جيشه بأهل

(1) هي قول الله تعالى (. . .ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين . . .) .
(2) نص كلامه سلام الله عليه كما في شرح محمد عبده ج 2 ص 2 هكذا : (والذي نفس بن أبي طالب بيده الألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على فراش) .
سياسة الحسين 62

المدينة لم يرض أمير ذلك الجيش إلا أن يبايعوه ليزيد ، على أنهم عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق ، فذكر له بعضهم البيعة على كتاب الله وسنة رسوله فضرب عنقه ، فليت شعري أعلى هذا الحكم ينزل ابن أمير المؤمنين ، فيكون مضرب المثل في الذل ، ـ وحاشا سيد أباة الضيم ـ كلا فإن سلامته من سيف يزيد بهذه الذلة أسوء وأنكى لعاطفة الحر من سلامة ابن مطيع العدوى من سيف المختار ، حيث ترك زي الرجال وهرب منه بزي النساء وكيف يمد الحسين يده ليزيد بالبيعة وهو هو الحسين بن علي في قوة إرادته ومضاء عزيمته ، وما باله ينزل على حكم يزيد ، وهو هو الحسين بن علي في كبر نفسه وعظمته ، ولم يلقي زمام الأمة بيد ابن ميسون ، وهو هو الحسين بن علي في صلابة دينه ومتانة إيمانه ، وكيف يلقي حبل الأمة على غاربها ، وهو هو الحسين بن علي حفيد محمد القائل : «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر لم أتركه حتى يظهره الله أو أموت دونه(1)» ولأي شئئ يهين عجزاً أو يستكين ذلاً وهو هو الحسين بن علي الذي يصرخ فس مسمع الدهر : «لو تظاهرت العرب والعجم على قتالي ما وليت عنها الدبر» .
كيف يلوي على الدنية جيداً لسوي الله ما لواه الخضوع
فأبى أن يعيش إلا عزيزاً أو تجلى الكفاح وهو صريع(2)

وإذ لم يرض الحسين بخطة الخشف ، والنزول على حكم أمية بل شر بني أمية يزيد نبزوه ـ بالخارجي ـ وهو والله من الإسلام في صميمه ، ومن دين الحق والهدى في السنام دون الغارب .

(1) السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 285 .
(2) البيتان من قصيدة غراء في رثاء سيد الشهداء عليه السلام وهي من نظم الشاعر الشهير المغفور له السيد حيدر الحلي قدس سره الشريف مطلعها :
قد عهدنا الربوع وهي ربيع أين لا اين أنسها المجموع
سياسة الحسين 63


ولقد خالف بنو أمية ولا يزالون مخالفين لحكم الكتاب العزيز إذ نهى عن التنابز بالألقاب(1) ، فنبزوه ـ بأسم الخارجي ـ من لقبه النبي بسيد شباب أهل الجنة(2) حيث خرج بزعمهم على خليفة زمانه يزيد ، وهو الأمر الذي حاول بنو أمية واتباعهم من المعترضين ففشلوا ورد الله كيدهم في نحورهم .
وليتهم إذ وسموه بالخارجي عاملوه معاملة الخوارج بل المشركين فقد علمت أحكامهم في الشرع من باب مدينة علم النبي ، والمحبو من قبله بمحضر المهاجرين والأنصار بقوله : «أقضاكم علي»(3) فقد أوصى جيشه قبل التحام القتال بصفين قائلاً : «فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ، ولا تصيبوا معوراً ولا تجهزوا على جريح ، ولا تهيجوا النساء بأذى ، وإن شتمن أعراضكم ، وسببن أمراءكم ، فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول ، وإن كنا لنؤمر بالكف عنهن وانهن المشركات وان كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية ، بالفهر والهراوة فيعير بها وعقبه من بعده»(4) .
فما بال جيش يزيد قد أتى مع خوارجه بتلك الأمور الفضيعة التي تحمر وجنة تاريخ الإسلام والعرب عند ذكرها خجلاً ، ويتصبب عند سماعها عرقاً ، من منع الماء حتى على الأطفال والنساء وهو مباح للكلاب والخنازير ، وقتل الأطفال سواءً استسقى لهم الحسين أم لا ، والمثلة بالأجساد بعد الموت ، وسلبها ورضها بالخيل ، وإحراق خيام النساء عليها ، وشتمها وضربها وسلبها وسبيها من بلد الى آخر ، الى غير ذلك من الأمور التي ينكرها الشرع والوجدان .

(1) فقال سبحانه وتعالى في الآية 11 من سورة الحجرات (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء سى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا انفسكم ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فاولئك هم الظالمون) .
(2) فقال صلى الله عليه وآله وسلم كما في مستدرك الصحيحين ج 3 ص 167 والإصابة لابن حجر ج 1 ص 266 وتاريخ بغداد ج 10 ص 230 (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) .
(3) انظر مصابيح السنة للبغوي ج 2 ص 203 والاستيعاب لابن عبد البر ج 3 ص 205 .
(4(ذا الذي ذكره المؤلف هنا هو جزء من وصيته عليه السلام لعسكره قبل لقاء القاسطين بصفين .
انظر نهج البلاغة شرح محمد عبده ج 3 ص 14 .
سياسة الحسين 64


فهل كان يزيد وعماله أعلم بأحكام الخوارج من أقضى الأمة بعد نبيها بتقرير الخلفاء السابقين ، كلا ثم كلا ، فرويداً أيها المعترضون ، فإن الأمر ليس كما تظنون ، بل هو فوق ما تتوهمون ، وقد نصعت لكم الآيات ، فأي آيات الله تنكرون ، وإنما هي أحقاد بدرية ، وأضغان أحدية اصحر بها يزيد عند ما بدت له الرؤوس على ربى جيرون(1) ، وعندما نكث ثنايا أبي عبد الله عليه السلام بمخصرته(2) فتمنى حضور أشياخه ببدر قائلاً :
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل

* * *



(1) قائلاً :
لما بدت تلك الحمول واشرقت تلك الشموس على ربى جيرون
نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل فقد اقتضيت من الرسول ديوني

وأود هنا ان اوقف القارئ الكريم على ما قاله الالوسي وهو من افاخم مفسري الجمهور في تفسيره (روح المعاني) عند تفسيره للآية الكريمة (فهل عسيتم أن توليتم . . .) .
قال : أراد يزيد بقوله (فلقد قضيت من الرسول ديوني) أنه قتله رسول الله يوم بدر كجده عتبة وخاله الوليد وغيرهما وهذا كفر صريح ومثله تمثله بقول ابن الزبعرى (ليت أشياخي . . .) .
(2) المخصرة : شئ يأخذه الملوك بأيديهم كالعصا ليشيروا به الى غيرهم / المؤلف .
أقول : إن فعل يزيد الشنيع المتمثل في ضربه ثنايا سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي ذكره جم غفير من علماء الجمهور منهم :
1 ـ الطبري في تاريخه ج 4 ص 356 .
2 ـ سبط بن الجوزي في تذكرته ص 290 .
3 ـ الخوارزمي في مقتل الحسين ج 2 ص 57 .
4 ـ ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص 194 .
5 ـ الشبراوي في الاتحاف بحب الاشراف ص 56 .
6 ـ ابو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين ص 119 .
7 ـ ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 220 ، وغير من ذكرت كثير .
سياسة الحسين 65

أتضربها شلت يمينك إنها وجوه لوجه الله طال سجودها(1)

* * *



(1) من قصيدة في رثاء مولانا الامام الحسين عليه السلام وهي للعلامة السيد حسن الاعرجي الكاظمي نور الله قبره مطلعها :
دموع بدا فوق الخدود خدودها ونار غدا بين الضلوع وقودها
سياسة الحسين 66


والتعليق على إقتراحه



لا أخال أحداً يشك أن معاوية(1) عاش حتى مات ثائراً من النبي طالباً منه ـ بقتل ذريته ومن إنضوى إليهم ـ بذخول(2) رهطه المقتولين في بدر وأخواتها ، وأما عثمان(3) فقد نصبه حبالةً(4) يقتنص بها بقر الشام ، ليقدمهم ضحية آماله وغاياته التي يهدف إليها ، وقد نهج نهجه ـ بل زاد في الطين بلة ـ نغله يزيد ، منذ بوأه عرش الخلافة ، وقد تمكنت عداوة أهل البيت في نفسه من أمور كثيرة ، كان شقياً في ذاته وطينته ، وكان مشوهاً في نطفته المختلطة بسم العقرب ، وكان شقياً في إرثه العداوة من بني أمية لبني اشم ، وكان عقرباً تزداد سماً إذ أوصى إلهي أبوه معاوية بأن لا يلقي لهذا البيت شعرة واحدة ، ولم يكن ذلك منه ، سراً بين سمع الأرض وبصرها ، بل هو ذا يصرح أمام المغيرة ابن شعبة ـ وقد سمع اسم محمد يهتف به المؤذن ـ فيفصح عن مكنون غيظه ن ويعرب عن مخبئات حقده قائلاً : «لا خير في الحياة لا أم لك إلا دفناً دفناً(5)» إذن فلا تخلنا مبالغين إذا

(1) هو معاوية بن أبي سفيان ـ صخر بن حرب ـ بن امية بن عبد شمس . . . من ألد أعداء سيد المرسلين وذريته الاكارم الممجدين .
امه هند بنت عتبة كانت ـ كما يقول بن أبي الحديد في ج 1 ص 336 من شرحه على النهج ـ تذكر في مكة بفجور وعهر .
ويعزى معاوية وحسب ما ذكره الزمخشري في ج 3 ص 551 من كتابه ربيع الابرار الى أربعة الى مسافر بن أبي عمرو والى عمارة بن الوليد والى . . .
ولد سنة 20 قبل الهجرة وأسلم بلسانه لا بجنانه يوم فتح النبي مكة المكرمة ومات بعد أن سود وجه التاريخ بأعماله الوبيلة ورذائله الكثيرة وجرائمه الجمة سنة 60 هجرية .
(2) الذحول : الأوتار والأحقاد / المؤلف .
(3) هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن امية . . . ولد بعد عام الفيل بست سنين وقتل في عقر داره في المدينة المنورة ولاسباب معروفة عام 35 هجرية .
(4) حبالة : مصيدة / المؤلف .
(5) تعال معي اخي القارئ الكريم لنقرأ معاً ما قاله بن أبي الحديد المعتزلي في ج 3 ص 357 من شرحه على النهج .
قال : قال المغيرة بن شعبة خلوت بمعاوية بن ابي سفيان فقلت له انك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين فلو اظهرت عدلاً وبسطت خيراً فانك قد كبرت ولو نظرت الى اخوتك من بني هاشم فوصلت ارحامهم فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه .
فقال لي : هيهات هيهات ملك اخو تيم فعدل وفعل ما فعل فو الله ما عدا ان هلك فهلك ذكره إلا أن يقول قائل ابوبكر ، ثم ملك اخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين فوالله ما عدا ان هلك فهلك ذكره إلا ان يقول قائل عمر ثم ملك اخونا عثمان فعمل ما عمل وعمل به فوالله ما عدا ان هلك فهلك ذكره وإن اخا هاشم يصرخ في كل يوم خمس مرات (أشهد أن محمداً رسول الله) فأي عمل يبقى بعد هذا لا ام لك إلا دفناً دفناً . =
سياسة الحسين 67

إعتقادنا أن يزيد إنما اقترح نزول الحسين واصحابه على حكمه لحاجة في نفسه أراد قضائها ، وهي التشفي والأنتقام لحلفاء جده أبي سفيان يهو بني قريضة في قتل الحسين واصحابه على الشاكلة التي قتل عليها اولئك الرهط المطلولة دماؤهم ، وقد كانوا العامل القوي في وقعة الأحزاب(1) ، وهم الذين فتوا في اعضاد المسلمين ، ومكنوا الخوف والرعب من قلوبهم ، عندما ترامت إليهم الأنباء أنهم قد نقضوا ما بينهم وبين النبي من العهود ، ونشط بهم المنافقون المختلطون بالمسلمين وما أكثرهم ، فأخذوا يجهرون بأصواتهم قائلين : «ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا» (2) فهم يرجفون بالمسلمين ما قدروا ، ويثبطون المجاهدين ما استطاعوا الى ذلك سبيلا ، هنا لك زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، واستولى الخوف على المسلمين وتمكن الفزع والهلع من قلوبهم ، واستمع الى قوله تعالى في تلخيص القصة : «اذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنا لك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً»(3) .
ثم قال تعالى في المؤمنين ، وهم علي أمير المؤمنين وحمزة عم أمير

= وسحقا لك يابن آكلة الاكباد يا من اردت دفن ذكر رسول الله بكل جهودك غير انها باءت بالفشل الذريع لأن الله تعالى لك ولا مثالك بالمرصاد وهو القائل لخاتم رسله (ورفعنا لك ذكرك) .
(1) او الخندق وكانت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة وفيها قتل عمرو بن عبد ود العامري بسيف امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام وانكسرت على أثر ذلك شوكة المشركين وعادوا الى أماكنهم خائبين خاسرين .
(2) سورة الأحزاب / 12 .
(3) سورة الأحزاب / 10 ـ 12 .
سياسة الحسين 68

المؤمنين (1) : «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم وكان الله غفوراً رحيماً ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً ، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً»(2) .
نعم كفى الله المؤمنين القتال أن صرع عمرو بن عبد ود بطل الشرك الأحزاب بسيف علي بن أبي طالب بطل الإسلام ، ورد الله كيدهم في نحورهم لم ينالوا خيراً ، وعندها دارت الدائرة على المشركين وجناحيهم من المنافقين والغدرة من اليهود وكانت عليهم الدبرة ، واستولى عليهم الخوف والوجل ، وأدل الله المسلمين منهم ، أما المشركون فأرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها ، فارتحلوا على خوف ورعب ، ولم يصبح منهم حول المدينة نافخ ضرمة ، وأما المنافقون فتواروا في صفوف المسلمين خفتت أصواتهم التي كانوا يجهرون بها في الأرجاف وسفى على وجوههم الرماد ، والله منجز وعده ومتم نوره ولو كره المشركون ، وأما اليهود فلم يأذن الله لنبيه أن يضع السلاح حتى يجازي بني قريظة مغبة فعلهم بما أخلفوا الله ورسوله ما وعدوهما من عدم مظاهرتهم لأحد من أعداء المسلمين ، فسار النبي والمسلمون ، وراية الإسلام تخفق على رأس قاتل بطل الأحزاب ، فذعر لذلك أعداء الله ، وعلا الهتاف بينهم (جاءكم قاتل عمرو ، جاءكم قاتل عمرو(3) وعضوا أناملهم ندامةً وأسفاً ، ولات ساعة مندم ، وبعد حصار طويل وتكرار أخذ ورد نزلوا على حكم المسدد الرشيد سعد بن معاذ رئيس الأوس(4) ،

(1) لاحظ مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج 8 ص 549 وتفسير الصافي للفيض الكاشاني ج 4 ص 181 .
(2) سورة الأحزاب / 23 ـ 24 ـ 25 .
(3) انظر شرح الشافية لابي جعفر محمد بن أمير الحاج الحسيني ص 181 .
(4) هو سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس . . . اسلم بالمدينة وشهد بدراً وأحداً والخندق ورمي يوم الخندق بسهم فعاش شهراً ثم انتفض جرحه فمات منه شهيداً .
انظر ترجمته في الاستيعاب للقرطبي ج 2 ص 167 .
سياسة الحسين 69

وظنوا أن اصرة(1) الحلف بينهم وبين الأوس ستجدي بهم نفعاً ، فخيب الله ظنونهم وآمالهم وحكم عليهم سعد بقتل الرجال ـ ما لم يسلموا ـ ونهب الأموال ، واسترقاق النساء والذراري(2) ، ودفع المساكن لمن لا دور لهم من المهاجرين ، فقال له النبي : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقة(3)» وهكذا فعل بهم فاخذروا يساقون الى حفائر القتل زرافات ووحداناً ليعمل فيهم سيف علي بن أبي طالب فكانت أعظم مجزرة بسيف الحق والعدل ، وقطع دابر الكافرين بسيف علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، والحمد لله رب العالمين .
وما لام كعب في العداوة نفسه ولكنه من يخذل الله يخذل

فوفق سعد في حكمه ، وتطول الرسول الأعظم على الجامعة البشرية في إزاحة حجر العثرة عن طريق سيرها الى خيرها وصلاحها ، وقلع الجراثيم الفتاكة في جسدها .
وسوءةً لعبد الله بن أبي ابن سلول(4) رأس المنافقين إذ حال بين الرسول الأقدس وبين تنفيذ إرادته القدسية في سلفهم من بني النظير ، فقد أراد تطهير الأرض منهم بقطع شافتهم لما نقضوا العهد كهؤلاء ، وأرادوا قتله ، وهو في دارهم ، فلم يرعوا لنزيلهم جواراً ولم يروا لأنفسهم حرمة ، ولكن رأس النفاق ـ وكان في ظهره الخزرج بل الأنصار كلها ـ الجأ أن يجليهم عن المدينة ، ولهم من الأموال ما حمله الظهر عدا الحلقة ، فجلوا الى نواحي الشام .
ومن يدرينا أن ذراريهم هم الذين استفحل أمرهم الأن ، فصاروا مطرقة بعد أن كانوا سنداناً(5) ، حتى قابلوا المسلمين بما منوا به في فلسطين وما والاها ، وكبدوا

(1) الأًصرة : ما عطفك على غيرك من قرابة أو معروف / المؤلف .
(2) السيرة النبية لابن هشام ج 3 ص 251 .
(3) تاريخ الطبري ج 2 ص 249 .
(4) سلول أم هذا المنافق / المؤلف .
(5) مثل يضرب للذليل يكون عزيزاً / المؤلف .
سياسة الحسين 70

العرب والمسلمين ما كبدوهم من المعارك الدامية والفتك الذريع وأسر العيال وشق بطون الحبالى والأطفال الأبرياء ، فإن حامل الرسالة السماوية الخالدة ينظر الى من في الأصلاب من امته في مستقبلها السعيد كنظره الى حاضرها النبيل المجيد ، فأراد أن يزيل عنها كابوس(1) الشقاء ويريحهم من شدة العناء الذي لاقته الأمة من ذراري تلك الشرذمة الوبيئة ، وخبأته الأيام للمسلمين على يد شر خلق الله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
والخلاصة : أنا لا نزال نعتقد من إقتراح يزيد أن ينزل الحسين على حكمه ، مع هذه الطوارئ والأحوال أن يزيد ظن أن الفرصة سنحت له في أخذ ثار حلفاء جده ابي سفيان فأخذ يضرب أخماساً لاسداس ، وقال في نفسه لا يضيع حق وراءه طالب ، وتوهم أن الحسين وأصحابه سينزلون على حكمه ، ويساقون الى حفائر القتل زرافات(2) ووحداناً(3) صدمةً بصدمة وقتلة بقتلة (وأنى لهم التناوش من مكان بعيد) وأنى ينزل إمام الأباة على حكمه وحكم عامله ابن مرجانة بيثأر منه ، لأنهما زندان في وعاء ، وهذا صوته يدوي في مسامع الدهر (واني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما(4) ويكفينا شهادة عدوه ابن سعد اذ يقول : «والله لا يستسلم حسين فإن نفس ابيه بين جنبيه»(5) .
ومناقب شهد العدو بفضلها والفضل ما شهدت به الأعداء

إي والله لا يستسلم حسين لإرادة يزيد ، وان اعتقد أن سيمن عليه بالحياة ، فيكون بذلك طليق عفوه ، ألا تسمع اليه يقول : «لا أرى الحياة مع الظالمين إلا

(1) ما يترا آى للنائم كأنه يخنقه ودخيله (الجيثوم) / المؤلف .
(2) زرافات : جماعة من الناس نحو العشرة والعشرين / المؤلف .
(3) وحداناً : آحاداً / المؤلف .
(4) قوله عليه السلام هذا جاء في ضمن خطبته التي خطبها في اصحابه الكرام بعد نزوله ارض كربلاء .
انظر مقتل الحسين لسيد المقرم ص 193 .
(5) تاريخ الطبري ج 4 ص 193 .
سياسة الحسين 71

برما» ولأنه بذلك يسترجع مكرمة جده منقذ البشر ، حيث عفا عن سلف يزيد في فتح مكة عفواً عاماً فقال : «إذهبوا فأنتم الطلقاء(1)» فذهبت هذه الكلمة منه صلى الله عليه وآله وسلم مذهب المثل وصارت علماً عليهم ووسام ذل وعار لهم ولا عقابهم وكان من اشهرهم ابو سفيان وعقبة فكيف وهو يعتقد ، وكل ذي لب يعتقد أنه يريد قتله إذا نزل على حكمه ، ليثأر بقتله لحلفاء جده ولأشياخه المقتولين في بدر الذين هتف بهم في جلسته العامة لعيد الظفر ، وليكيل الجزاء للنبي صاعاً بصاع ، بقتل الحسين وأهل بيته من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه انصار الله وانصار رسوله وانصار الإسلام ، ولكن عدو الله «إجتهد ففشل ، وشاور فخذل» ولله در عقيلة بني هاشم وخفرة آل علي زينب الكبرى(2) سلام الله عليها ، اذ صبت عليه سياط زواجرها ، وردت كيده في نحره واعادت ، تاريخ امها في خطبتها السالفة ، حيث افتتحت خطبتها الكريمة بقوله تعالى : «ثم كان عاقبة الذين اساؤوا السوء أن كذبوا بايات الله وكانوا بها يستهزئون» (3) ثم قالت : «أمن العدل يا ابن (الطلقاء) تحذيرك إماءك وحرائرك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا على اقتاب المطايا ، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي الخ» .

* * *



(1) بحار الأنوار ج 21 ص 132 .
(2) بنت امير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه السلام . . امها الصديقة الكبرى فاطمة عليها السلام .
ولدت قبل وفاة جدها المصطفى بخمس سنين وتزوجت من ابن عمها الجواد المعروف عبد الله بن جعفر فولدت له محمداً وعلياً وام كلثوم وعون .
توفيت عشية يوم الاحد لخمسة عشر يوما مضت من شهر رجب سنة اثنتين وستين هجرية .
انظر ترجمتها فس اسد الغابة لابن الاثير ج 5 ص 300 ، وأعلام النساء لعمر رضا كحالة ج 2 ص 91 .
(3) سورة الروم / 10 .
سياسة الحسين 72


لماذا أذن لأنصاره بالأنصراف عنه



القرآن الكريم ـ وهو كتاب الله الصامت ـ لا تحيط عقولنا هذه المحدودة بكنه معرفته ، بل تأخذ منه بمقدار قابليتها واستعدادها «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها»(1) فالحسين ـ وهو كتاب الله الناطق ـ أولى بهذه المرتبة ، وأجدر أن ترجع العقول أمام عظمته حسيرةً عن كنه معرفته ، متضائلةً إزاء شأنه الرفيع ومقامه الذي يقول فيه جده الأعظم صلى الله عليه وآله «حسين مني وأنا من حسين(2)» وجده هو الذي يقول فيه لاخلاق العليم ـ ولا يعرف حقائق الأِياء إلا خالقها ،«فكان قاب قوسين أو أدنى»(3) وله أيضاً منزلة أبيه المرتضى الذي يقول فيه جده المصطفى :«يا علي ما عرفك إلا الله وأنا» فإن فتح الله لأفهامنا سبيلاً من اسرار نهضته فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وإلا تحيرنا الى هذا الوجه فإنه خير ملجأ ، واعتصمنا بالتسليم لله ولرسوله وخليفته لأنه خير جابر ألم أقل لك في أمر الحسن قبل الحسين لا تكون مؤمناً حتى تكون لولاتك مسلماً ، ولا تكون معترضاً» .
ولعلك تعد من هذا القبيل مبالغة الحسين طوراً في دعاء الناس لنصرته عموماً كأهل البصرة وخصوصاً كابن الحر الجعفي وعمر بن سعد ، وتحليل أنصاره ـ طوراً آخر ـ من بيعته وإذنه لهم بالأنصراف عنه ليلة عاشوراء وقد ضاقت حلقتا

(1) سورة الرعد / 17 .
(2) صحيح الترمذي ج 2 ص 307 ، وكنز العمال ج 6 ص 221 .
(3) سورة النجم / 9 .
(4) عمرو بن حرام الانصاري الخزرجي من صدور اصحاب رسول الله (ص) ومن المتفانين في محبته ومحبة أهل بيته الهداة الميامين يكنى أبا عبد الله شهد بدراً وثماني عشر غزوة مع النبي مات رضوان الله تعالى عليه سنة ثمان وسبعين .
انظر ترجمته في تنقيح المقال ج 1 ص 199 ، واسد الغابة لابن الاثير ج 1 ص 294 .
سياسة الحسين 73

البطان وبلغ الحزام الطبيين(1) ، وكيف جاز له أن يحلهم من بيعته ويسوغ لهم الفرار عن الجهاد وهو القائل : «من سمع واعيتنا ولم يجبنا أكبه الله على منخريه في النار(2)» ولكنا نقول أما حديث الواعية فلا مسرع له هنا لأنها ذر قرنها عند ما ذر قرن الشمس يوم عاشوراء ، واقبلت السهام لمضارب الحسين من قبل عسكر ابن سعد كأنها شآبيب المطر ، وأما دعاؤه الناس لنصرته فقد دعا لها رسول الله قبل هبوط حفيده هذا من عالم الأنوار الى عالم الحس والمادة ، ودونك بيعة العقبة والغدير وغيرهما ، والقرآن فوق الكل ينادي بأعلى صوته «قل لا اسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى» (3) .
وأما خطبته في أنصاره التي يقول فيها : «ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً وإني قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، ولياخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم فإن القوم إنما يطلبونني ، ولو أصابوني لذهلوا عن غيري(4)» فإن الذي يحتمله لها فهمي القاصر أربعة وجوه :
الأول : الأمتحان واختبار مقدار نيات اصحابه ليكون واثقاً من وجود العدة التي يجب على الإمام النهوض بها في وجه تيار الظلم والجور وهي اربعون رجلاً فما زاد ، كما يرشدنا الى ذلك خبر تطواف أمير المؤمنين على منازل المهاجرين والأنصار ليلاً ، ومعه الزهراء(5) ، فإذا وجد العدة أمره بأن يغدوا عليه محلقين رؤوسهم ، وايديهم على مقابض سيوفهم ، ثم لا يفي له ـ بأبي

(1) الضرع : وهذان مثلان يضربان لاشتداد والأمر وصعوبته / للمؤلف .
(2) نظر مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 227 .
(3) ورة الشورى / 23 .
(4) نفس المهموم للشيخ عباس القمي ص 227 .
(5) اقرأ خبر تطواف امير المؤمنين على بيوت المهاجرين والانصار في كتاب سليم بن قيس الهلالي ص 81 .
سياسة الحسين 74

ونفسي ـ إلا اربعة من اولئك الأربعين أو قل من اولئك السبعين(1) الف رجل (وكل زمان بالكرام بخيل) فصبر ـ روحي فداه ـ (وفي العين قذى وفي الحلق شجا(2) خوفاً على دوحة الإسلام النضرة الغضة ان تذبل بسموم الحروب والفتن أو تقتلعها أعاصير الأختلاف والفرقة ، عملاً بعهد رسول الله اليه ، ورسول الله أعلم بما عهد ، وإلا فانه يعرف أخاه أبا الحسن يغنيه حزمه عن الأنصار وبأسه عن الأعوان ، ولو تظاهرت العرب والعجم على قتاله ـ وكم تظاهرت ـ فلم يول عنها الدبر .
وقد جرى على نسقه سليله الحسن المجتبى ، كما في حديث شكايته عند جده المصطفى في الرجعة من أنه لو وجد أربعين رجلاً لما صالح معاوية وسلم له الأمر ، ولكنه لما لم يجدهم بل اطلع على كتب رؤساء الكوفة لمعاوية في وعدهم اياه ان يسلموا له الحسن وإخوته(3) صالحه على مضض وعلى شروط كثيرة فيها صلاح حاضر الأمة ومستقبلها ، وضناً بأخوته وحامته على القتل ولغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم« سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً»(4) .
والتكاليف الأمتحانية للأختبار جد كثيرة في الشريعة الإسلامية «ليبلوكم أيكم أحسن عملا»ً (5) ويشهد لما أقول جوابه عليه السلام لشقيقته العقيلة زينب الكبرى حيث قالت له : «هل استعلمت من اصحابك نياتهم فإني أخشى أن يسلموك عند

(1) وهم الذين بايعوه يوم الغدير على اقل رواية وفي أعلاها مائة وعشرون الفاً / المؤلف .
(2) كما قال هو عليه السلام في خطبته الشقشقيه .
انظر نهج البلاغة شرح محمد عبده ج 1 ص 30 .
(3) اقول : ان الذين وصفهم المؤلف رحمه الله بقوله (رؤساء الكوفة) كانوا ومن دون ادنى شك من الحزب الاموي ومن المنحرفين عن سبيل امامنا الحسن الزكي عليه السلام واليك اسماء بعضهم : عمرو بن حريث وعمر بن سعد بن ابي وقاص وابو بردة بن ابي موسى الأشعري وقيس بن الاشعث وعمرو بن الحجاج وحجار بن ابجر واضراب هؤلاء من الممسوخين .
(4) سورة الأحزاب / 62 .
(5) سورة الملك / 2 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي