الحب ينمو في القلب ويشتد ، حتى يتمكن من القلب ويمتلكه ، وله مراتب متعددة ، ولتلك المراتب آثار وخواص ، وأعلاها فناء العاشق في ذات المعشوق ، فيسيطر الحب فيها على القلب ، ولا شك أن الجوارح تابعة للقلب تبع الرعية للسلطان ، وخصوصية هذه المرتبة أن تطغى الجوارح على الطبيعة وتخرج عن أحكامها ، فلا تعود تحس بالآلام التي تحس بها لو خليت وطبعها ، ولا تدرك اللذات اللتي تدركها لولا تمكن الهوى من القلب ، وربما كانت لها آثار وانفعالات لم تكن لولا بلوغ هذه المرتبة من العشق والهيام ، حتى كأن الله ركب فيهما طبيعة أخرى تخالف طباع البشر ، يسوط أحدهم القدر بيده فينتثر لحمه في مرقها وهو لا يجد للحرارة أي ألم(1) ، وتأمر امرأة العزيز بضرب يوسف سبعين سوطاً ـ وبينه وبينها حجاب ـ فتضرب الأرض قبل تمام السبعين ضرباً شديداً ، ثم يضرب هو تمام السبعين سوطاً واحداً ضربة خفيفةً فتؤذيها هذه الضربة ، وتحس أن السوط وقع على فؤادها ، فتفزع لذلك فزعاً عظيماً ، وتفتصد فيجري دمها على الأرض ، وهو يكتب ، يوسف يوسف ، ويدفن عاشق الى جنب معشوقته فتنبت على قبريهما شجرتان تتقاربان وتتعانقان العاشق والمعشوق ، ويخبر النجاشي بسقوط رباعية رسول الله فتسقط رباعيته ، ثم يخبر بموته فيموت لوقته وساعته(2) .
والعباس(1) في عشق أخيه الحسين لا بد أن يكون قد بلغ الذروة العالية ،
والمرتبة القصوى التي يضيق عنها نطاق الباين ، والتي لا يعلم مداها إلا الله خالق حقائق الأشياء ، فقد توافرت عليه دواعي حبه وهواه ، وعاد لا يرى في الوجود غيره ولا يبصر سواه ، أحبه لله في الله ، وأحبه لذاته ومعناه ، وأحبه لأنه كان أخاه ، بل سيده ومولاه ، وأحبه لشدة حب الحسين إياه ، وأحبه حباً جماً ، لغير ما ذكرناه فلا بدع ولا عجب إذا رمى الغرفة من يده بعد أن ذكر عطش أخيه الحسين ولم يحس للعطش ألماً ، علماً منه أن الماء سيذكي جذوة الظمأ في فؤاده الذي ملكه حب الحسين ، فليس لحب الماء فيه مكان ، لا عجب لو أكل الندم أصابعه وجرت دموع الأسف على وجنتيه ، حيث هم بشرب الماء قبله ، وقرع باب التوبة في عتاب نفسه الكريمة بقوله(1) :
فهل في هذا الدليل مقنع لمن يتخذلقون(2) في عذله ، ويتحكمون في وجوب شربة الماء ، ليقوى به على الجهاد ويبلغ الغاية التي توخاها ، من إيصال الماء الى الحسين ، ثم يزيد بعضهم في الطين بله وفي الطنبور نغمة ، فيقول انه بترك شرب الماء جنى على نفسه وقتلها ، وبعضهم يسترسل في عذره عن مقارفة هذا الذنب ، بأن العباس غيرم عصوم ، كأنه لم يعلم أن قاتل نفسه في النار ، وليس هومذنباً من صغار الذوب التي قد تصدر من غير المعصوم . هذا ولنا في الجواب عن هذه الإعتراضات علاوةً على الوجه الآنف أجوبة اخرة وإليك تفصيلها : الأول : أن فعل العباس لا بد أن يحمل على الصحة لأنه مسلم ، واحمل فعل أخيك المسلم على أحسنه ، ـ استغفر الله ـ بل فعله حجة لأنه معصوم من الزلل
مفطوم من الخلل ، أليس هم تلميذ مدرسة أبيه المرتضى باب مدينة علم المصطفى ، وخريج جامعة أخويه السبطين الأمامين إن قاما وإن قعدا ، وقد شهد له الإمام بأنه قد تلبس بالملكة النفسانية التي تسدد صاحبها عن اقتراف المآثم والإنحراف عن الطريق المستقيم ، إذ يقول : «كان عمنا العباس عليه السلام صلب الإيمان ، نافذ البصيرة»(1) . وفي رأيي أن للعصمة مرتبتين : الاولى : التي يتلبس بها حملة عهد الله الذي لا ينال الظالمين ، وهم الأنبياء والأئمة ، وهي المشار إليها بقوله تعالى : «الله أعلم يحث يجعل رسالته»(2) وهذه المرتبة لا يتناولها موضوع بحثنا لأن واحداً من الشيعة لم يدع أن العباس إمام ثالث عشر . الثانية : ما ذكرنا من الملكة النفسانية التي تمنع صاحبها عن ارتكاب صغير الذنوب وكبيرها ، وهي فوق ملكة العدالة ، وهي مطلوبة من الامة بأسرها لقوله تعالى : « فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره »(3) فنقول هل مثقال ذرة من الشر من صغار الذنوب أم من كبارها ، واذا كان من صغارها فهل نهانا الله عن ارتكابه ام لا ، وإذا كان الله نهانا عنه فهل هو تحت قدرتنا واستطاعتنا أم لا ، لا بد أن تكون الأجوبة كلها إيجابية ، فإن مقدار الذرة كحبة الخردل في غير موضع تمثيل لصغير الذنوب ، ولا بد أن يكون العبد منهياً عنه وإلا لم يكن ذنباً ، ولم ير الإنسان له جزاءً شراً ، ولا بد أن يكون تركه مقدوراً لنا ، لأن الله لم يكلف الطاعة إلا دون الوسع والطاقة . والعباس ـ وحاشاه ـ إذ سلمنا معهم جدلاً بأنه قارف هذا الذنب لم يكتف الاعتذار عنه بأنه غير معصوم ، فارتكب ذنباً صغيراً ، لأنه قاتل نفسه ، وقاتل نفسه
من أهل النار ، فيكون ذنبه اكبر من الجبال والأرض والسماوات ، وليس أكبر منه إلا عفو الله ، وقد ادعيت هذه المرتبة من العصمة للكثير من الناس ، فكيف يخلو منها مثل أبي الفضل العباس(1) . ثم لم يكن لتقاريض المعصوم عليه وجه مقبول ، فهل جاء في التاريخ أن أحد الصالحين ـ فضلاً عن النبيين ـ قتل نفسه ، ليقول له الإمام(2) : «أشهد انك مضيت على بصيرة من امرك مقتديا بالصالحين ومتبعاً للنبيين» . ثم إرجع وأعد النظر لترى عظمة الثناء عليه من الامام ـ ولا يعرف الفضل إلا أهله ـ إذ يقول له : «أشهد أنك مضيت على ما مضى عليه البدريون والمجاهدون في سبيل الله المبالغون في نصرة أوليائه الذابون عن أحبائه» فمن هم البدريون الذين شبه الإمام موقف العباس بموقفهم ، هل هو عمير بن الحمام الأنصاري(3) الذي رمى التمرات من يده ، حيث سمع النبي يحض على الجهاد ، ويرغب في دخول الجنة قال : «فما بيني وبين دخول الجنة إلا أن أرمي هذه التمرات من يدي» ثم القى بنفسه في وطيس المعركة واستشهد(4) ، ولم يقل له حامل الرسالة الخالدة كل تمراتك أولاً لتقوى بها على الجهاد ، وإلا كنت قاتلاً لنفسك ، أم هو سيدهم وممثلهم أمير المؤمنين الذي فسر فيه قوله تعالى : «يا أيها
|