سياسة الحسين 93

سقيا ولده وكان قصارى منا سقيا أبيه ، لأنه أشد منه عطشاً ، وهو له أشد من نفسه حباً ، لذلك آثر قصد أبيه على قصده كما آثره الأب البار الرحيم بريقه ، فبدأ بذكر منى ابيه قبل منى نفسه ، فقال : «هذا جدي رسول الله سقاني بكأسه الأوفى شربةً لا اظمأ بعدها أبداً ، وهو يقول لك عجل فإن لك كأساً مذخوراً(1)» وإذا جاءت الرواية أن الحسين لما ألقى نفسه على ولده دخل في دور الأحتضار فلا أرى سببه إلا شدة منى الأكبر وحرصه أن تأتي نوبة أبيه ، فيسقيه جده تلك الكأس المذخورة ، وقد أعطى الله الأكبر ما تمنى ، لولا أن عمته العقيلة حالت دون مناه ، إذ خرجت من الخيمة تؤم الشلو المبضع ، ويراها حميد بن مسلم ، وهي تنادي وا ابن أخاه(2) ، فشغلت أخاها غيرة الله بأمر النواميس ، والعرض مقدم على الأولاد والنفوس ، فترك ابنه لفتيانه يحملون أخاهم الى الخيمة بعد أن جمع بيده أوصاله المبعثرة بردائه ورد أخته الى الخيمة(3) حذراً من شماتة الأعداء .
السابع : يقول في الأكبر واصفه ومطريه ، وإن شئت قل مقرضه وناعيه :
جمع الصفات الغر وهي تراثه عن كل غطريف وشهم اصيد(4)

فمن الدين ورثهم في صفاتهم الغراء ونعوتهم العليا الخمسة الأشباح عليهم السلام ، فكان يشبه المصطفى خلقاً وخلقاً ومنطقاً ، وكان يشبه المرتضى شجاعة واسماً «والأسماء تنزل من السماء» وأشبه عمه الحسن الزكي جواداً وكرماً وجدته الزهراء قصر عمر(5) ، وعدم مبالاة بالسلطة القائمة ، وقلة اكثراث بالقوة

(1) مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 31 .
(2) الملهوف على قتلى الطفوف ص 167 .
(3) نفس المهموم ص 312 .
(4) من قصيدة عامرة في رثاء علي الاكبر عليه السلام للعلامة الشيخ عبد الحسين العاملي طاب رمسه وقد مرت الاشارة اليها آنفاً .
(5) نعم قصر عمر الزهور الفواحه .
قال الشيخ المجلسي رحمه الله في البحار ج 43 ص 7 أن فاطمة عليها السلام توفيت ولها من العمر ثماني عشرة سنة وخمسة وسبعون يوماً .
وقال الشيخ الكليني في الكافي ج 1 ص 459 ما نصه ولدت فاطمة عليها السلام بعد مبعث رسول الله بخمس سنين وتوفيت ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون يوماً وعلى هذا عامة من ترجم لها سلام الله عليها
سياسة الحسين 94

الغاشمة ، فإن جدته الزهراء لم تبال بأول سلطة أسست أساس الظلم والجور ، إذ صبت عليها حاصباً من زواجرها ، وقرعتها بسياط مواعظها في خطبتها البليغة المرتجلة(1) ، في حشد من المهاجرين والأنصار وجاء حفيدها يعيد بدوره العهد المجيد الفاطمي ، غير هياب من تجمهرهم ، ولا محتف بكثرتهم ، ولم يحسب أي حساب لتحفزهم وتحرقهم .
أنا علي بن الحسين بن علي نحن وبيت الله أولى بالنبي
تا الله لا يحكم فينا بن الدعي
أضربكم بالسيف أحمي عن أبي ضرب غلام هاشمي علوي(2)

وقد ورث بطل روايتنا أباه الحسين بالإباء عن الضيم والأنفةً عن ارتكاب الدنية ومسالمة الأعداء فدون ذلك ارتكاب المنية ، ولسان حاله يهتف صارخاً في مسمع الدهر مدوياً في اذن العدو المتجبر المختال .
لا تسقني كأس المدام بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

ففت في عضده وانفلت زمام الصبر من يده أن سمع أعداء أبيه ينادونه بلسان الشماتة والظفر « يا حسين أما ترى الماء يلوح كأنه كبد السماء ، والله لن تذوق منه قطرةً واحدةً حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها(3)» فلم ير ما يكبح به جماحهم ويخفض من غلوائهم إلا أن يظهر في جهادهم ظهور من لم يبال بالعطش ، منفاً لزعمهم أن سوف يقتلونهم بسلاح العطش وأعظم من ذلك قولهم للحسين سترد الحامية وتسقى من حميمها ، فكذب زعمهم وهتف في متوسطهم «هذا جدي رسول الله سقاين شربةً لا أظمأ بعدها أبداً» كما وعدهم بذلك أبوه

(1)أ يريد قدس الله نفسه الزكية خطبة الزهراء الكبرى التي القتها في جمع غفير من المهاجرين والانصار والتي افتتحتها بقولها (الحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم والثناء بما قدم من عموم نعم . . .) .
انظر الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص 97 .
(2) مناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 109 .
(3) مثير الاحزان لابن نما ص 71 .
سياسة الحسين 95

الحسين حيث قال في رد قولهم هذا «بل أرد على جدي فيسقيني من حوض الكوثر(1)» فكأن الأكبر يقول للأعداء لا حاجة لنا بفراتكم ، وإن كان ميراثنا من جدتنا الزهراء ، فانظروا عن الشماتة أيها اللئام ، وأما في الآخرة فهذا جزاؤنا عند الله لا كما زعمتم يا أعداء الله وا أعداء الإنسانية .
وأما الحسين فقد علق على كلمة ولده هذا مصدقاً له فيما قال : «ولدي علي قتلوك ومن شرب الماء منعوك تشفياً مني وشماتةً بي ألم يعلموا أنك لا تبالي بمنعهم ، ولا تكترث بفراتهم فقد غبرت على عطشك بجيشهم ، (كأنهم ما عرفوك) أنك وارث الزهراء ، والفرات بعض صداقها(2) ، (ولا عرفوا من جدك وأبوك) أليس جدك رسول الله الذي طوق رقاب العالمين بمنه وفضله أن جاءهم بدين فيه سعادة دنياهم وآخرتهم وقد قال المرء يحفظ في بنيه ، فما بالهم لم يحفظوه فيك وأبوك علي بن ابي طالب الذي بايعوه عموماً على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الغدير بالولاية على الأحمر والأسود الى يوم القيامة ، وقد بايع هؤلاء على الخصوص أباك الحسين على أن ينصروه ولا يخذلوه ، لا على أن يقاتلوا مهجة قلبه على شدة عطشه ثم يتعطفوا عليه من كل جانب ويقتلوه ، ثم ودع الحياة

(1) أقول : ان الذي قاله عليه السلام في رد قولهم الدال على خبث نفوسهم وقساوة قلوبهم وشراسة طباعهم هو الآتي كما في جملة من الكتب المعتبرة (بل أرد على جدي رسول الله وأسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر وأشرب من ماء غير آسن وأشكو اليه ما ارتكبتم مني وفعلتم بي) .
انظر مثير الأحزان لابن نما ص 75 ، ونفس المهموم للشيخ عباس القمي ص 366 ، والملهوف على قتلى الطفوف ص 177 ، ومقتل الحسين للعلامة المقرم ص 282 .
(2) كما صرحت بذلك أخبار كثيرة وروايات وفيرة منها :
قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بعد كلام : (ومن مهرها خمس الدنيا والجنة والنار تدخل أعدائها النار وتدخل أوليائها الجنة وأربعة أنهار ـ عد منها الامام عليه السلام الفرات ـ انظر دلائل الامامة لابي جعفر محمد بن جرير الطبري الامامي ص 18 .
قال ابن العرندس الحلي عظم الله مرقده في احدى قصائده الممتعة :
أيقتل ضمآناً حسين بكربلا وفي كل عضو من أنامله بحر
ووالده الساقي على الحوض في غد وفاطمة ماء الفرات لها مهر
سياسة الحسين 96

الدنيا إذ ودعه بكلمة تصاعدت معها شظايا قلبه بزفراته الحارة المتصاعدة من صميم فؤاده وأعماق ضمائره «على الدنيا بعد العفا(1)» لأنك كنت زهرتها وقد ذهبت ، ونضرتها وقد امحت ، فعادت دوحة الأمل أغصانها يابسةً ، وبسمة المنى مقطبةً عابسةً فأين ذلك الوجه الذي اشبع فيه نهمتي من النظر لوجه جدي المصطفى ، واين تلك الفروسية التي جددت ذكريات شجاعة أبي المرتضى ، واين تلك السماحة التي أحيت جود أخي الحسن المجتبى ، اليوم مات الخمسة اصحاب الكسا ، اليوم حرمت على مصاب غيرك البكا ، ودلي علي ، ولدي علي ، ولدي علي(2) .
بني أجبني فقد أوشكت تفارق روحي جثـمانيه
بني الآن قطعت الرجا ألم تـلـك غاية آمـاليه
الآن فقدت مثال النبي وسلواي عن كل أسلافيه(3)
فلتذهب الدنيا على الدنيا عفا ما بعد يومك من زمان أرغد(4)

* * *



(1) انظر الارشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 106 .
(4) أقوال قرأن فيم قتل الحسين للمغفور له آية الله السيد محمد تقي بحر العلوم رحمه الله أن الحسين كان وهو في طريقه الى ولده الأكبر يكثر من قول ولدي علي ولدي علي . . .
(3) من قصيدة لمؤلف الكتاب يرثي بها علي بن الحسين الاكبر عليه السلام مطلعها :
ترفعت الانفس السامية الى ذروة الرتب العالية

(4) من قصيدة في رثاء علي الاكبر لناظميها العلامة الاديب الشيخ عبد الحسين العاملي رحمه الله .
سياسة الحسين 97


كيف رمى الغرفة من يده



الحب ينمو في القلب ويشتد ، حتى يتمكن من القلب ويمتلكه ، وله مراتب متعددة ، ولتلك المراتب آثار وخواص ، وأعلاها فناء العاشق في ذات المعشوق ، فيسيطر الحب فيها على القلب ، ولا شك أن الجوارح تابعة للقلب تبع الرعية للسلطان ، وخصوصية هذه المرتبة أن تطغى الجوارح على الطبيعة وتخرج عن أحكامها ، فلا تعود تحس بالآلام التي تحس بها لو خليت وطبعها ، ولا تدرك اللذات اللتي تدركها لولا تمكن الهوى من القلب ، وربما كانت لها آثار وانفعالات لم تكن لولا بلوغ هذه المرتبة من العشق والهيام ، حتى كأن الله ركب فيهما طبيعة أخرى تخالف طباع البشر ، يسوط أحدهم القدر بيده فينتثر لحمه في مرقها وهو لا يجد للحرارة أي ألم(1) ، وتأمر امرأة العزيز بضرب يوسف سبعين سوطاً ـ وبينه وبينها حجاب ـ فتضرب الأرض قبل تمام السبعين ضرباً شديداً ، ثم يضرب هو تمام السبعين سوطاً واحداً ضربة خفيفةً فتؤذيها هذه الضربة ، وتحس أن السوط وقع على فؤادها ، فتفزع لذلك فزعاً عظيماً ، وتفتصد فيجري دمها على الأرض ، وهو يكتب ، يوسف يوسف ، ويدفن عاشق الى جنب معشوقته فتنبت على قبريهما شجرتان تتقاربان وتتعانقان العاشق والمعشوق ، ويخبر النجاشي بسقوط رباعية رسول الله فتسقط رباعيته ، ثم يخبر بموته فيموت لوقته وساعته(2) .

(1) (2) (3) (4) إقرأ جميع ما ذكره المؤلف هنا في (الانوار النعمانية) للسيد نعمة الله الجزائري رحمه الله ج 3 ص 167 وما بعدها .
(2) اقول : ما ذكره المؤلف هنا غير صحيح للاخبار القائلة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أخبر بموت النجاشي ونعاه للمسلمين وبكى عليه بكاءاً شديداً وقال إن اخاكم اصحمة مات ثم خرج الى الجبانة فصلى عليه وكبر سبعاً فخفض الله له كل مرتفع حتى رأى جنازة النجاشي وهو بالحبشة . . .
انظر البحار ج 18 ص 130 .
سياسة الحسين 98

والعباس(1) في عشق أخيه الحسين لا بد أن يكون قد بلغ الذروة العالية ،

(1) هو العباس بن امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام .
ولد سلام الله عليه في الرابع من شهر شعبان سنة ست وعشرين هجرية .
امه السيدة الزكية فاطمة بنت حزام الكلابية العامرية . . تزوجها امير المؤمنين بعد ان ثكل بوفاة بضعة المصطفى الزهراء عليها السلام فانجبت له من الاولاد ما يلي :
1- العباس هو اكبر اخوته سناً واعلاهم شأناً .
2- عبد الله .
3- جعفر .
4- عثمان وقد سماه امير المؤمنين باسم عثمان بن مضعون وهو صحابي جليل يمكنك ان تقف على جلالة قدرة وسمو شخصيته من خلال ما كتبه علماء الرجال ومنهم الشيخ المامقاني في كتابه المنيف (تنقيح المقال) ج 2 ص 249 حيث وصفه بأنه فوق مرتبة الوثاقة والعدالة .
كنيته ابو الفضل وانما كني بذلك لان له ولداً اسمه الفضل وهو من زوجته لبابة بنت عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب .
القابة كثيرة منها باب الحوائج وقمر بني هاشم وحامي الضعينة والسقا .
ثناء الائمة عليه :
اثنى عليه القادة العظام عليهم افضل الصلاة والسلام ثناء عاطراً وذكروه بكل تجلة واحترام فهذا ابو امير المؤمنين يقول فهي كما في اسرار الشهادة ص 334 (ان العباس زق العلم زقاً) .
وقال فيه زين العابدين كما في امالي الصدوق ص 548 : (رحم الله العباس فلقد آثر وابلى وفدا اخاه بنفسه حتى قطعت يداه فأبدله الله عزوجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن ابي طالب وان للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة) .
وقال فيه الامام الصادق عليه الاف التحية والثناء كما في ابصار العين ص 25 (كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة صلب الايمان جاهد مع ابي عبد الله وابلى بلاء حسناً ومضى شهيداً) .
وقال فيه الحجة بن الحسن في الزيارة المعروفة بزيارة الناحية والمثبتة في بحار الشيخ المجلسي ج 45 ص 66 (السلام على ابي الفضل العباس المواسي اخاه بنفسه الأخذ لغده من امسه الوافي له الساعي اليه بمائه المقطوعة يداه . . .) .
مكانته عند اخيه الحسين :
لا يرتاب احد في ان لقمر بني هاشم عليه السلام منزلة عظيمة عند اخيه الحسين عليه السلام ولعلي لا ابتعد عن الواقع اذا ما قلت لا تضارعها منزلة اي من الشهداء الآخرين وآية ذلك قوله عليه السلام حين وقف عليه وهو شلو مبضع (الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي . . .) الكاشف عن عميق تاثر الحسين لهذه الاحاديث الاليم وعن مكانة العباس عنده . ولقد اجاد العالم العارف الشيخ محمد حسين الاصفهاني في قوله :
وبان الانكسار في جبينه فاندكت الجبال من حنينه
وكيف لا وهو جمال بهجته وفي محياه سرور مهجته
كافل اهله وساقي جيشه وحامل اللوا بعالي همته
سياسة الحسين 99

والمرتبة القصوى التي يضيق عنها نطاق الباين ، والتي لا يعلم مداها إلا الله خالق حقائق الأشياء ، فقد توافرت عليه دواعي حبه وهواه ، وعاد لا يرى في الوجود غيره ولا يبصر سواه ، أحبه لله في الله ، وأحبه لذاته ومعناه ، وأحبه لأنه كان أخاه ، بل سيده ومولاه ، وأحبه لشدة حب الحسين إياه ، وأحبه حباً جماً ، لغير ما ذكرناه فلا بدع ولا عجب إذا رمى الغرفة من يده بعد أن ذكر عطش أخيه الحسين ولم يحس للعطش ألماً ، علماً منه أن الماء سيذكي جذوة الظمأ في فؤاده الذي ملكه حب الحسين ، فليس لحب الماء فيه مكان ، لا عجب لو أكل الندم أصابعه وجرت دموع الأسف على وجنتيه ، حيث هم بشرب الماء قبله ، وقرع باب التوبة في عتاب نفسه الكريمة بقوله(1) :
يا نفس من بعد الحسين هوني فبعده لا كان أن تكوني
هذا الحسـين شـارب المنون وتشربين بارد الـمعين
يا نفس ما هذا فـعـال ديني ولا فعال صادق اليقين

فهل في هذا الدليل مقنع لمن يتخذلقون(2) في عذله ، ويتحكمون في وجوب شربة الماء ، ليقوى به على الجهاد ويبلغ الغاية التي توخاها ، من إيصال الماء الى الحسين ، ثم يزيد بعضهم في الطين بله وفي الطنبور نغمة ، فيقول انه بترك شرب الماء جنى على نفسه وقتلها ، وبعضهم يسترسل في عذره عن مقارفة هذا الذنب ، بأن العباس غيرم عصوم ، كأنه لم يعلم أن قاتل نفسه في النار ، وليس هومذنباً من صغار الذوب التي قد تصدر من غير المعصوم .
هذا ولنا في الجواب عن هذه الإعتراضات علاوةً على الوجه الآنف أجوبة اخرة وإليك تفصيلها :
الأول : أن فعل العباس لا بد أن يحمل على الصحة لأنه مسلم ، واحمل فعل أخيك المسلم على أحسنه ، ـ استغفر الله ـ بل فعله حجة لأنه معصوم من الزلل

(1) كما في مقتل الحسين للعلامة المقرم ص 268 .
(2) التخذلق : إدعاء الخذق والكياسة والتظرف في الكلام / المؤلف .
سياسة الحسين 100

مفطوم من الخلل ، أليس هم تلميذ مدرسة أبيه المرتضى باب مدينة علم المصطفى ، وخريج جامعة أخويه السبطين الأمامين إن قاما وإن قعدا ، وقد شهد له الإمام بأنه قد تلبس بالملكة النفسانية التي تسدد صاحبها عن اقتراف المآثم والإنحراف عن الطريق المستقيم ، إذ يقول : «كان عمنا العباس عليه السلام صلب الإيمان ، نافذ البصيرة»(1) .
وفي رأيي أن للعصمة مرتبتين :
الاولى : التي يتلبس بها حملة عهد الله الذي لا ينال الظالمين ، وهم الأنبياء والأئمة ، وهي المشار إليها بقوله تعالى : «الله أعلم يحث يجعل رسالته»(2) وهذه المرتبة لا يتناولها موضوع بحثنا لأن واحداً من الشيعة لم يدع أن العباس إمام ثالث عشر .
الثانية : ما ذكرنا من الملكة النفسانية التي تمنع صاحبها عن ارتكاب صغير الذنوب وكبيرها ، وهي فوق ملكة العدالة ، وهي مطلوبة من الامة بأسرها لقوله تعالى : « فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره »(3) فنقول هل مثقال ذرة من الشر من صغار الذنوب أم من كبارها ، واذا كان من صغارها فهل نهانا الله عن ارتكابه ام لا ، وإذا كان الله نهانا عنه فهل هو تحت قدرتنا واستطاعتنا أم لا ، لا بد أن تكون الأجوبة كلها إيجابية ، فإن مقدار الذرة كحبة الخردل في غير موضع تمثيل لصغير الذنوب ، ولا بد أن يكون العبد منهياً عنه وإلا لم يكن ذنباً ، ولم ير الإنسان له جزاءً شراً ، ولا بد أن يكون تركه مقدوراً لنا ، لأن الله لم يكلف الطاعة إلا دون الوسع والطاقة .
والعباس ـ وحاشاه ـ إذ سلمنا معهم جدلاً بأنه قارف هذا الذنب لم يكتف الاعتذار عنه بأنه غير معصوم ، فارتكب ذنباً صغيراً ، لأنه قاتل نفسه ، وقاتل نفسه

(1) مقتل العباس للشيخ حسن البلادي البحراني ص 5 .
(2) سورة الانعام / 124 .
(3) سورة الزلزلة / 7 ـ 8 .
سياسة الحسين 101

من أهل النار ، فيكون ذنبه اكبر من الجبال والأرض والسماوات ، وليس أكبر منه إلا عفو الله ، وقد ادعيت هذه المرتبة من العصمة للكثير من الناس ، فكيف يخلو منها مثل أبي الفضل العباس(1) .
ثم لم يكن لتقاريض المعصوم عليه وجه مقبول ، فهل جاء في التاريخ أن أحد الصالحين ـ فضلاً عن النبيين ـ قتل نفسه ، ليقول له الإمام(2) : «أشهد انك مضيت على بصيرة من امرك مقتديا بالصالحين ومتبعاً للنبيين» .
ثم إرجع وأعد النظر لترى عظمة الثناء عليه من الامام ـ ولا يعرف الفضل إلا أهله ـ إذ يقول له : «أشهد أنك مضيت على ما مضى عليه البدريون والمجاهدون في سبيل الله المبالغون في نصرة أوليائه الذابون عن أحبائه» فمن هم البدريون الذين شبه الإمام موقف العباس بموقفهم ، هل هو عمير بن الحمام الأنصاري(3) الذي رمى التمرات من يده ، حيث سمع النبي يحض على الجهاد ، ويرغب في دخول الجنة قال : «فما بيني وبين دخول الجنة إلا أن أرمي هذه التمرات من يدي» ثم القى بنفسه في وطيس المعركة واستشهد(4) ، ولم يقل له حامل الرسالة الخالدة كل تمراتك أولاً لتقوى بها على الجهاد ، وإلا كنت قاتلاً لنفسك ، أم هو سيدهم وممثلهم أمير المؤمنين الذي فسر فيه قوله تعالى : «يا أيها

(1) مر عليك اخي القارئ في مطلع هذا الكتاب تعريف العصمة وانها (قوة تمنع صاحبها من الوقوع . . .) .
وتنقسم العصمة الى قسمين (واجبة) كما في الانبياء والائمة عليهم السلام لوقوعهم في طريق التبليغ اذ لو لم يكونوا معصومين جاز ان تصدر منهم المعصية وبذلك يسقط اعتبارهم عند الناس ولم يعد لكلامهم اي اثر في النفوس ، و(غير واجبة) وقد نالها جم غفير من عباد الله عزوجل وذلك نتيجة اخلاصهم له سبحانه وتعلى وتفانيهم في طاعته وانما كانت عصمتهم غير واجبة لانهم لن يقعوا في طريق التبليغ ومن هؤلاء وهم كثيرون : سلمان الفارسي والصديقة الصغرى الحوراء زينب وسيدنا ومولانا العباس بن امير المؤمنين فهو معصوم ولا ريب إلا ان عصمته غير واجبه للسبب المتقدم .
(2) جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في الزيارة المروية عنه والتي ذكرها بن قولويه في كتابه كامل الزيارات ص 441 وما بعدها .
(3) ـ له ترجمة في الاستيعاب لابن عبد البر ج 3 ص 289 .
(4) انظر السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 279 .
سياسة الحسين 102

النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين»(1) وأمير المؤمنين معصوم من اللمم(2) ، ومتبع للنبي الأعظم ، أفيكون تابعهما مرتكباً لخطيئة ليحتاج للأعتذار عنه بأنه غير معصوم .
وليت شعري ما وجه المبالغة في نصرة العباس للحسين المشار اليها في قول الإمام «المبالغون في نصرة أوليائه الذابون عن أحبائه» ونحو هذه العبارة مما يوجد في غير هذه الزيارة فهل يريد قطع يديه فقد قطعت يدا غيره كوهب بن حباب الكلبي(3) ، أم غير هذه من الملكات والحالات التي حازها العباس ، مما لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم ، إني أظن ، (وظن الألمعي يقين) أن الإمام أراد اختصاص العباس بأنه قدر على شرب الماء فهتف به وجدانه ونادى به ضميره :
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كان أن تكوني

فالامام يقرض عليه من أجلها هذا التقريض العظيم الخالد والمعترض يجعله أكبر ذنب للعباس ، فانظر مقدار المسافة بين المذهبين ، والبون الشاسع بين القولين ثم اختر لنفسك ما يحلو واتبع أيهما شئت .
الثاني : قد تبلغ قوة الإرادة وصدق العزيمة أن يسيطر الإنسان على نفسه فيقسرها عن تناول ما تحب ويوطئها على التلبس بما تكره ، وذلك رياضة النفس حتى تهش لما تبغضه لولا هذه الرياضة ، فمن ذلك أن النفس تحب نفسها وتحب آثارها تبعاً لها واذا كبح جماحها بعنان الرياضة عادت تبذل نفسها لمحبوبها وهي أعلى مراتب الإيثار ، وقد تفسر بالمفادة وبعدها مرتبة الإيثار فقط ، وهي تقديم المحبوب على نفسها بتخصيصه بما تحب واختصاصها دونه بما تكره .

(1) سورة الأنفال / 64 .
(2) معنى اللمم كما في كثير من التفاسير : صغار الذنوب .
(3) من اصحاب الحسين عليه السلام الذائبين فيه والمخلصين له قاتل بين يديه قتال الشجعان البواسل حتى قطعت يمينه وشماله ثم قتل رضوان الله عليه .
انظر مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 12 .
سياسة الحسين 103


والعباس فرع تلك الدوحة الكريمة وشبل فادي النبي العظيم الذي أنزله الله فيه «ومن الناس من يشري ـ أي يبيع نفسه ـ ابتغاء مرضات الله»(1) لما أمره النبي أن ينام على فراشه فادياً له بنفسه من الأعداء ، فوطن نفسه على القتل وأجاب ولم يتلكأ في المبيت ، وبقاء النفس للنفس محبوب ، ألا ترى الله يباهي به ملائكته جبرئيل وميكائيل ، حيث أوحى إليهما ، «إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بطول الحياة(2)» فاختار كل منهما طول الحياة ، فأوحى إليهما : «ألا كنتما كوليي علي آخيت بينه وبين محمد نبيي فآثره بالحياة على نفسه ورقد في فراشه يقيه بمهجته ، إهبطا الى الأرض جميعاً فاحفظاه من عدوه(3)» فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، يقول : «بخ بخ من مثلك يا ابي أبي طالب ، والله عزوجل يباهي بك الملائكة»(4) .
والعباس هو ابن الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة «ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً»(5) .
طبيعي لهؤلاء المعترضين أن ينكروا حديث هذه الواقعة لو لم ينطق بها القرآن ويأتي التفسير شيعية وسنية ، بأن علياً وفاطمة والحسن والحسين وجاريتهم فضة قد اطعموا قوتهم كله ، وهو خمسة أقراص من الشعير مسكيناً في اليوم الأول ، ويتيماً في اليوم الثاني ، وأسيراً في اليوم الثالث ، وصاموا ثلاثة أيام لم يطعموا في لياليها إلا الماء القراح(6) ، لو لا ورود القرآن والتفسير لسجلوا عليهم بأنهم

(1) سورة البقرة / 207 .
(2) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 48 .
(3) تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي ص 35 .
(4) انظر التفسير الكبير للفخر الرازي ج 5 ص 223 ومجمع البيان للطبرسي ج 2 ص 535 .
(5) سورة الانسان / 8 ــ 9 .
(6) انظر تفسير الكشاف للزمخشري ج 4 ص 670 والتفسير الكبير للفخر الرازي ج 30 ص 244 وتفسير القرطبي ج 19 ص 131 .
سياسة الحسين 104

قاتلون لأنفسهم ، وللحسن والحسين ـ على أقل تقدير ـ لأنهما حينذاك طفلان لا يتحملان هذا الجوع كله إذا قسناهما على أطفالنا ، وخمسة الأقراص في اليوم الثالث كلها تزيد على قوت الأسير ليومه ، وقد أشرف الطفلان على الموت ، فهلاً دفع أبوهما نصف قرصيهما للأسير وتركا النصف الآخر ليمسكا به رمقها .
ثم ما الذي أمسك حياتهما ـ وإن عادا يرتعشان كالفراخ ـ لولا قوة إرادتهما ومضاء عزيمتهما ، وليت شعري فهل يمكن الإعتذار عنهم بعد الإذعان بحدوث هذه الواقعة بأن أهل البيت غير معصومين وإذن فما وجه مدح الله لهم وثنائه عليهم في قرآن يتلى الى يوم القيامة ، والعباس ممن يتلوه حق تلاوته .
الثالث : لقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله : «أحب من دنياكم ثلاثاً : النساء ، والطيب ، وقرة عيني الصلاة(1)» وقد علق عليه الحكماء أنه لما ذكر النساء والطيب ، وقد صدر الحديث بأن هذه المحبوبات من الدنيا كان سبب ذكر هذه المحبة لأنه بشر مثلنا ، ولكن جنبة تعلقه بالدنيا جد ضعيفة ، فكأنها معدومة لديه ، فكان حبه للنساء ليس لقضاء الشهوة ، بل لتكثير النسل فيباهي بأمته التي هداها الله به ساير الأمم ، وهكذا حبه للطيب لأن الملائكة تحبه وتنفر من الأقذار ، وصلاة المتطيب تعدل سبعين صلاة(2) ـ غير أنها من المواد الدنيوية التي لم تتمحض للآخرة ، وأما جنبة تعلقه بالآخرة فانها جد قوية وكأن لم يكن سواها ، لذلك جذبته سريعاً الى اللذة الروحية لتمحظها للآخرة ، وليست هي محبوبته فقط كغيرها من المحبوبات ، بل هي قرة عينه الصلاة .
والعباس لما اغترف غرفة من الماء وقربها الى فمه وهم أن يشربها كان ذلك منه جهاداً ممزوجاً ، بالمواد الدنيوية ، فإنه بشر مثلنا وله جنبة تعلق بالدنيا ثم جذبته سريعاً جنبة تعلقه بالآخرة الى اللذة الروحية والجهاد المتمحض للآخرة ، وعدم اعطاء النفس البشرية ما تمسك به حياتها ، فإن النفس المطمئنة أولى بأن

(1) الخصال للشيخ الصدوق ج 1 ص 165 .
(2) مرآه الكمال ج 2 ص 52 .
سياسة الحسين 105

تعطى مرادها ، لترجع الى ربها راضيةً مرضية ، لم تعلق بشئ من شوائب الدنيا ، وبكاء العباس وعتاب نفسه البشرية بعد أن رمى الماء من يده معناه الأسف والندم على إغترافه الماء وتقريبه الى فمه وهمه بأن يشرب ، لأنه اعتبرها ذنوباً من مثله ، حيث كان جهاداً مشوياً بالمواد الدنيوية ، وقد ورد أن حسنات الأبرار سيئات المقربين .
الرابع : جاء في بعض الروايات المرسلة أن أباه أمير المؤمنين أوصاه عند الإحتضار بأن لا يشرب الماء إذا ملك الشريعة يوم الطف ـ قبل أخيه الحسين ـ فأراد العباس بامتناعه من الشرب تنفيذ وصية أبيه ، وأمير المؤمنين أعلم بوجه الحكمة حين أوصى بذلك ولده الحبيب ، وقد قال لأخيه محمد قبله أنت ولدي وهذان ولدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أجعل ولدي فداءً لولدي رسول الله(1) ، أما إذا شاء المعترض أن ينكر هذه الوصية لأن روايتها مرسلة فلينكر رواية رمي العباس للماء من يده لأن روايتها مرسلة أيضاً وحكم الإمتقال فيما يجوز ولا يجوز واحد .
الخامس : لقد كان الحسين ضنيناً بأخيه العباس فلما جاء يطلب الإذن منه للبراز شق على الحسين أن يأذن له(2) ، فلم يجد العباس ذريعةً يحظى بها على حصول الإذن من أخيه الحسين إلا أن يبين له أنه لا صبر له أن يجلس في الخيمة ، وهو يسمع بكاء الأطفال من العطش ، ويراهم يتلوون من الظمأ يده تملك قائم سيفه ، فأجازه الحسين عليه السلام بأن يطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء(3) .
نقول فإذا كان الإنسان يسعى في مهمة ، ولم يكن كالعباس كبر نفس وعلو همة فإن أمانة السعي تحول بينه وبين أية غاية سواها ، ونفسه العصامية تربأ به

(1) انظر منهاج البراعة للسيد ميرزا حبيب الله الخوئي ج 3 ص 177 .
(2) العوالم للشيخ عبد الله البحراني ج 17 ص 284 .
(3) تظلم الزهراء ص 197 .
سياسة الحسين 106

أن يقضي لها معها لبانه ، وضميره الحر ينازعه أن لا يشوب بغرضه الأسمى غرضاً آخر ، ولو كان سامياً وإلا لم يجد نفسه وافياً بأمانته ولا صادقاً في دعوى هواه ومحبته ، فصاحب الحاجة لا يرى إلا قضاها .
والمرء أعماله تتلو مقاصده لذاك قبل أخيه المألم يذق(1)

ولعل هذا هو الجواب الحقيقي عن أمير المؤمنين حيث قتل بطل الأحزاب عمر بن عبد ود ، فاعترض عليه بعض المهاجرين(2) قائلاً له : هلا سلبته درعه ، فإنها دواودية ، وليس للعرب مثلها(3) ، فإن أمير المؤمنين عليه السلام حاشاه أن يحبط سعيه الكريم بأن يشرك غرضاً بغرضه الأسمى في إزالة حجر العثرة عن طريق المسلمين ، بل يكشف العار عنهم ويرفع الذل شملهم من جراء(4) نداء عمر والذي عجب بنفسه وهجم على المسلمين يتحداهم في عقر دارهم ، منادياً فيهم بملأ فيه :
ولقد بححت من النداء بجمعهم هل من مبارز(5)

فبرز الإيمان كله للشرك كله كما لخص لنا أمرهما رسول الله الذي اتي جوامع الكلم ، نعم برز الإيمان كله وقد تجسم بشخصية بطل الإسلام مجيباً صوت عمرو وقد تجسم الشرك كله في شخصيته ، فلم يلبث أن صرعه الله بسيف ولي الله بضربة لم يعرف قدرها ولم يزن ثقل أجرها إلا النبي الأعظم ـ ولا يعرف الذهب إلا ناقده ـ حيث قال : «ضربة علي لعمرو بن عبد ود تعدل أعمال الثقلين الى يوم

(1) من قصيدة جزلة لمؤلف الكتاب يرثي بها قمر العشيرة العباس بن امير المؤمنين عليهما السلام مطلعها :
لم يحل في ناظري كالدمع والارق لأن فرط البكا والوجد من خلقي
(2) ـ اقول : هو عمر بن الخطاب .
انظر الارشاد للشيخ المفيد طاب ثراه ج 1 ص 104 .
(3) ـ السيرة الحلبية ج 2 ص 320 .
(4) ـ من جراك ومن جرائك : أي من اجلك / المؤلف .
(5) ـ منتهى الامال ج 2 ص 148 .
سياسة الحسين 107

القيامة(1)» فم يشأ له إيمانه المتين وفناؤه في ذات الله أن يشرك بغرضه الأسمى ومقصده الأعلى طمعاً في حطام الدنيا ، ولو كانت درعاً داودية ليس للعرب مثلها ، وإن لم يكن عليه في سلبها أية غضاضة وحرج من عرف أو شرع ، فقد قال المشرع الأعظم : «من قتل قتيلاً فله سلبه(2)» وقال أمير المؤمنين بعد هذه الواقعة :
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت رب محمد بصواب
وعففت عن أثوابه ولو إنني كنت المقطر بزني اثوابي(3)

فلو لم يكن سلب الأثواب بعد القتل معروفاً عندهم لما هم به عمرو الباسل السري لو كان ـ لا قدر الله ـ هو القاتل لمناجزه علي .
ونحن نقول ـ لهذا المعترض أو المشير على أمير المؤمنين مناصحاً له كما ترى من كلامه ـ لامك الهبل ، إنك ترى علياً قد صبر على ذبحه مدة طويلة انجابت فيها عن الأسدين المتصاولين ملاءة(4) القسطل التي نسجها سدة مصاولة البطلين المتناجزين لأن علياً لما جثا على صدره(5) شتم عرضه ، والعرض أعز من النفس فخاف أن يعالجه بالذبح فيكون قد أشرك في غرضه التشفي جزاء شتم عرضه ، فصبر عليه طويلاً حتى سكن غضبه لنفسه ثم ذبحه قربةً الى الله ، ونصرة لدينه ، فكيف يشوب بالقربة الطمع بالحطام الزائل ، ويدسه في غرضه العظيم ومقصده الكريم ، لا ها الله لا يمكن أن يصدر ذلك أبداً من أمير المؤمنين وسيد العارفين ، ولله در عبد الباقي العمري حيث يخاطبه ويقول :
وانت انت الذي لله ما فعلا وانت انت الذي لله ما صنعا(6)


(1) انظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 13 ص 19 .
(2) ـ انظر سفينة البحار باب السين بعده اللام .
(3) ـ السيرة النبوية لابن هشام ج 3 ص 236 .
(4) ـ الملاءة : الريطة الكبيرة ودخيلها أو فارسيها ـ پرده / المؤلف .
(5) ـ غزوات امير المؤمنين للعلامة النقدي ص 137 .
(6) ـ البيت من قصيدته العينية الشهيرة ومطلعها :
انت العلي الذي فوق العلى رفعا ببطن مكة وسط البيت اذ وضعا
سياسة الحسين 108


السادس : قال الله تعالى : «فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفةً بيده فشربوا منه إلا قليلاً»(1) فقد كانوا ثمانين ألفاً(2) وكل منهم يدعي الرغبة في الجهاد وقالوا ما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا من ديارنا وأبنائنا فامتحنهم الله أي اختبرهم ـ ولله أن يختبر عباده وليس لعباده أن يختبروه ـ بأن من كان صادقاً في نية الجهاد فلا يدع فرصة اعتراض النهر ويكتفي منه بالغرفة الواحدة ، واين من يكف نفسه عن الظلم ما لم توجد علة لتركه وهي عدم القدرة على ارتكابه نعم والله إن الأمر كما قال المتني حكيم الشعراء :
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم(3)

فشربوا منه إلا قليلاً قيل كانوا عدة اصحاب بدر ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً(4) .
نقول صحيح أن الله قد اختبرهم وابتلاهم لتمييز الخبيث من الطيب ، ولكن ألا يحتمل أنه أراد أن لا يثقلوا بشرب الماء فيمنع من الخفة في الحرب ، كما كان مالك يطوي ثلاثاً إذا اشتغل في الحرب ، لئلا يثقله الأكل عن الجهاد(5) ، والشرب والأكل كلاهما من مقومات حياة الإنسان ، ولكن إذا رآهما المجاهد الصادق في

(1) سورة البقرة / 249 .
(2) ـ انظر مجمد البيان للطبرسي ج 2 ص 617 .
(3) ـ البيت من قصيدة مطلعها :
لهوى النفوس سريرة لا تعلم عرضاً نظرت وخلت اني اسلم
(4) ـ انظر التبيان للشيخ الطوسي ج 2 ص 295 .
(5) ـ والى هذا اشار هو عطر الله تربته في ابيات اجاب بها عائشة بنت ابي بكر بعد حرب الجمل بقليل لما قالت له انت الذي اردت ان تثكل اختي اسماء بابنها ـ تريد عبد الله بن الزبير ـ قال :
أعائش لو لا انني كنت طاوياً ثلاثاً لالفيت ابن اختك هالكا
غداة ينادي والرماح تنوشه بآخر . . .
سياسة الحسين 109

نية الجهاد يشتغلانه ويثقلانه عن مهمته أمسك عنهما إلا من اغترف غرفة بيده كأصحاب طالوت ، بل أمسك عنهما بتاتاً ، كمالك الأشتر عن الطعام وبطل روايتنا العباس عن الطعام والشراب ، ولعل استثناء الغرفة كان لهم على طريق الرخصة ولو تركوها لكان أحسن ، والعباس بهمته القعساء حرم على نفسه الماء قبل أخيه الحسين الغرفة فما فوقها ، لئلا يثقل في الجهاد ، وليعلم الله منه صدق النية وحسن الطوية ، ولأن الغرفة وحدها تزيد نار عطشه إتقاداً وما زاد عليها يثقله عن الجهاد ، وأما اكتفاء اصحاب طافوت بالغرفة حتى روي من اغترف بيده وظمئ من كرع في النهر فمن باب المعجزة وخرق العادة وعقوبة من الله للظالمين على سوء نيتهم ، فكرعوا ليرتووا فزادهم ظمأ ولواحاً ، بخلاف المطيعين له .
السابع : تقديم الأهم على المهم من سيرة العقلاء التي اقرتهم عليها الشرايع السماوية ، ويعد خلاف ذلك تقديم المرجوح على الراجح ن وهو باطل شرعاً وعرفاً ، فنقول لا شك أن حفظ مهجة الإمام حجة العصر أهم من حفظ مهجة الإنسان نفسه ، فكيف يسوغ للعباس أن يشرب غرفة الماء ليحفظ مهجته وحشى أخيه الحسين تلتهب اواماً وتشب ضراماً ، كلا لعمري .
فابت نقيبته الزكية ريها وحشى ابن فاطمة يشب ضرامها(1)

اليس هو ابن القائل جلوسي في المسجد أحب الي من جلوسي في الجنة لأ جلوسي في المسجد فيه رضا ربي وجلوسي في الجنة فيه رضا نفسي(2) ، وإني اقدم رضا ربي على رضا نفسي ، وذلك لأن رضا ربه كان أهم في نفسه من رضا نفسه ، بل هو لا يرى لنفسه وجوداً أمام واجب الوجود .
وهذا ابوذر يحمل الماء الى الرسول وهو عطشان تقديماً للأهم على المهم ،

(1) من قصيدة غراء للحاج محمد رضا الازري رحمه الله يرثي بها العباس بن امير المؤمنين مطلعها :
يا للرجال لحادث متفاقم لو حل هابطة لدك شمامها
(2) لئاليء الأخبار ج 4 ص 134 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي