سياسة الحسين 110

فكيف يحمل العباس الماء لأخيه الحسين وهو ريان .
وهل ترى صادقاً دعوى اخوته روى حشىً وأخوه في الهجير ظمي

ومهما تبعد بك الأمثال فلا تنس الحسين حين نزل الى المشرعة واغترف ـ بأبي وأمي ـ غرفة بيده ليشربها ، فصاح عليه صايح من القوم : «يا حسين أتستلذ بشرب الماء ، وقد هتكت حرمك(1)» هذا ولم يبلغ الماء إلا بعد جهد وعناء ، وقد خلا ظهره من جميع أنصاره وحماته ، وطمع القوم في قتله فضلاً عن منعه الماء ، وقد بلغ العطش منه غايته ، وأخذت الحرب والتعب منه مأخذاً عظيماً ، وبعد هذا كله يرمي الماء من يده أن سمع تلك الصيحة المشوقة ، حيث كان حفظ عرضه أهم عليه من نفسه ، ثم رآى الخيمة سالمة ، فعلم أنها حيلة من القوم ومكيدة «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين»(2) أم يستيع أحد هؤلاء أن يعتذر عن الحسين كما اعتذر عن العباس بأنه غير معصوم ، وغير المعصوم قد يقارف الذنب ـ الله أكبر ـ لقد جئتم شيئاً إداً تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً .
الثامن : لتشريع الصوم حكم كثيرة ، منها أن يذوق الأغنياء لباس الجوع عن طاعة لله وإذعان ، فيذكرون إخوانهم الفقراء والمساكين الذين يعانون جهد السغب ويذوقون ألم الطوى عن فقر وإقلال ، فتطيب حينذاك نفوسهم ، بتأدية حقوق الله الواجبة التي فرضها للفقراء في أموال أهل الثروة الأغنياء(3) ، فقد اقتضت حكمته تعالى حين قسم الأرزاق على عباده أن يبتليهم ويختبرهم بأن يجعل رزق بعضهم في ايدي بعض«فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن»

(1) الايقاد للسيد العظيمي ص 130 .
(2) سورة الانفال / 30 .
(3) سأل هشام بن الحكم مولانا الامام الصادق عليه السلام عن علة الصيام فقال :(إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير وذلك ان الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير لان الغني كلما ارد شيئاً قدر عليه فاراد الله تعالى ان يسوي بين خلقه وان (يذيق الغني مس الجوع والالم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع ...).انظر وسائل الشيعة للحر العاملي ج 10 ص 3 .
سياسة الحسين 111

الكاذبين»(1) ولو اكتفى بوصف مرارة الجوع وشدة السغب لم يذعنوا لوصفه إذعانهم لمعاناته لأن آثار الأشياء كلها إنما تترتب على وجودها الخارجي كالأحراق للنار ، دون وجودها الذهني ـ نعم وربك ـ .
لا يعرف الوجد إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها

فإن كل واحد منا لو قام مقام العباس ، ثم أطفأ وقدة عطشه بشرب الماء بردت نار عزمه ، ولم يواصل سعيه مطرداً ومستمراً على الشاكلة التي ابتدأ بها الأمر في إيصال الماء الى أخيه الحسين ، وقد عاد عطشه في ذاكرته أثراً بعد عين ، وإيصال الماء الى الحسين كان مدعاة جهاده ، والأبقاء على مهجته كان غايته الوحيدة وضالته المنشودة ، المتيم الولهان يبالغ في دفع الحواجز وكشف الحجب دون بلوغ امنيته .
التاسع : من المحقق ان الحسين قد خطب اصحابه وهو في مكة المكرمة عندما أراد السفر الى العراق ، فقال فيما قال : «من كان فينا باذلاً مهجته موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ، فإني راحل مصبحاً انشاء الله(2)» والمهجة كما فسرها اللغويون هي الروح أو دم القلب ، هذا مع أن على العباس غير هذه الخطبة عهوداً كثيرة بأن يتفانى في سبيل نصرة الحسين ويبذل مهجته ، فلو أنه ـ وحاشاه ـ شرب الماء وقد كان ترك الحسين منذ ودعه الأكبر ولسانه كالخشبة اليابسة ليس عليه شئ من رطوبة الريق فمن ذا يؤمنه أن الحسين يموت في مكانه ، وإذا استرد العباس حياته وقوته في الجهاد ، والحسين مات في مكانه فأي فائدة تبقى للجهاد ، وهل يكون قد وفى بعهده وبيعته أم تراه يستحق أن ينشده الحسين عليه السلام بلسان حاله :
لا ألفينك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادي(3)


(1) سورة العنكبوت / 3 .
(2) انظر كشف الغمة للاربلي ج 2 ص 203 .
(3) لعبيد الله بن الابرص .
سياسة الحسين 112


هذا مالك الأشتر(1) لما قال له رسول أمير المؤمنين عليه السلام إليه وقد شارف الفتح «أيسرك أن تفتح وإمامك يقتل في مكانه(2)» وقع السيف من يده وارسل زمام الفتح والظفر لعدوه بعد معالجة تلك الحروب الطاحنة(3) وللظفر بالعدو نشوةً عظيمة تسيطر على المشاعر وتأخذ بالقوى والمدارك إلا من حاز قوة الإرادة ولم تتغلب عاطفته على عقله ، وقد سرد التاريخ كثيراً من أخبار أهل الوفاء الذين وفوا بعهدهم لغيرهم بأدنى علاقة وأقل ملابسة ، شروى كعب بن مامة الذي قتله العطش حيث أعطى حصته من الماء الذي اقتسموه بالحصاة لصاحبه كلما داءت نوبته فقال له «إذكر صاحبك يا كعب(4)» وبضدها تتبين الأشياء ، فقد سجل التاريخ غدرات الكثير من ساقطي الهمم وصغار النفوس الذين كانوا على أنفسهم عاراً ، ولم يحسبوا للإنسانية أي حساب ، فخرجوا منها وكأنهم لم يدخلوا فيها ، حيث غدروا بذمتهم وأرخصوا ضمائرهم وخانوا بعهدهم «فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً»(5) واستمر العباس بالوفاء والمواساة لأخيه الحسين كأعظم ما يتصوره العقل من الوفاء بالعهد والمواساة بالنفس الى آخر نفس يلفظه أمام أخيه الحسين ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، ولا يصغي باذنه لعذل اللواحي ، وذلك حين وضع الحسين رأسه في

(1) هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن سلمة . . . بن يعرب بن قحطان من اجلاء اصحاب امامنا علي بن ابي طالب عليه السلام ومن اكثرهم اخلاصاً ومحبة له سلام الله عليه .
ولد بين عامي 25 ـ 30 قبل الهجرة النبوية المباركة وتوفي مسموماً عام 38 فخزن امير المؤمنين حزناً شديداً وأبنه بكلمات توقفك على جلالة قدره ونباهة شأنه فقال عليه السلام : (لله در مالك وما مالك وهل قامت النساء عن مثل مالك وهل موجود كمالك رحم الله مالكاً فلقد كان لي كما كنت لرسول الله ) .
انظر ترجمته في اعيان الشيعة ج 9 ص 38 والاعلام للزركلي ج 5 ص 259 وسفينة البحار باب الشين بعده التاء .
(2) تاريخ الطبري ج 4 ص 35 بلفظ قريب .
(3) يشير المؤلف رحمه الله الى قصة رفع أهل الشام المصاحف على رؤوس الرماح داعين أهل العراق الى حكم القران فانخدع بهذه العلبة كثير من جند الامام أمير المؤمنين عليه السلام فاجبروه على ايقاف القتال . . . لا حظ في هذا المجال الاخبار الطوال للدينوري ص 189 وما بعدها .
(4) بوسعك ان تقرأ قصة كعب في كتاب قصص العرب ج 1 ص 155 .
(5) ـ سورة الفتح / 10 .
سياسة الحسين 113

حجره ، فرفعه ومرغه في التراب ، ـ يفعل ذلك ثلاثاً ـ وحاشا العباس من مخالفة الحسين كما قد يترا آى من فعله ، لذلك سأله حتى يبوح بالحقيقة المنطوية في ضميره ، وليسجله التاريخ أنه خير من وفى ببيعته فأجابه «الآن انت تأخذ رأسي وترفعه عن التراب وبعد ساعة من يأخذ رأسك ، ومن يمسح التراب عن خدك»(1) بأبي أنت وأمي يا أبا الفضل ما أخذ رأس أخيك بعد ساعة إلا الشمر الضبابي ، ثم شهق العباس شهقةً عظيمة ـ وأظنها لتذكر الساعة الرهيبة ساعة ذبح الحسين ـ وهكذا مات بين يدي أخيه شهيد أمانته وصريع وفائه فصاح أخوه وا أخاه وا عباساه ، الآن انكسر ظهري وثلت حيلتي وشمت بي عدوي(2) .
وهوى عليه ما هنا لك قائلاً اليوم بان عن اليمين حسامها
اليوم نامت أعين بك لم تنم وتسهدت اخرى فعز منامها(3)

* * *



(1) اقول : لم اعثر على قول العباس هذا رغم التتبع إلا في كتاب معالي السبطين للشيخ محمد مهدي الحائري رحمه الله ج 1 ص 443 .
(2) مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 30 .
(3) من قصيدة للمرحوم الحاج محمد رضا الازري المتوفى سنة 1240 هجرية وقد مرت الاشارة اليها قبل قليل .
سياسة الحسين 114


ما وجه تزويجه يوم عاشوراء



أكثر الناس لا يرون وجهاً لصحة الرواية القائلة أن الحسين زوج ابن أخيه القاسم من ابنته سكينة ، في عرصة كربلاء في اليوم العاشر من المحرم(1) ، وقد قامت الحرب بينه وبين اعدائه على ساقها وحمي وطيسها وكشرت عن أنيابها ، وقد صرع نصب عينيه أبطاله وإخوته وولده وعمومته ، فما وجه مزج فرح العرس والقران بهموم المصائب وغموم فقد الأحبة .
وكل مصيبات الزمان وجدتها سوى فرقة الأحباب هينة الخطب

وهل هو إلا من قبيل الطفرة من الحزن العظيم الى الفرح ، والتاريخ بكامله لم يحمل نظير هذه المفاجأة الغريبة ، والحكيم من يضع الأشياء في مواضعها ، ويطبق اموره كلها على اعتبارها المناسب لها .
قلنا هذا كله صحيح ولكن هل لتزويج القاسم دخل في عظمة نهضة الحسين وما ذنب الحسين إذا زيد في نهضته ما لم يسبق له فيه علم ولا إطلاع ، شأن الحوادث المهمة ذات الشأن الكبير ، فانها كلما بعد أمدها وزاد اهتمام الناس بها أخذت بالزيادة طولاً وعرضاً ، وتداولتها أخيلة رواتها سعة وضيقاً ، وكل يعمل على شاكلته ، وليست الشهرة دليل الوقوع ما لم تقبل حد التواتر ، ولا عدم الشهرة كاشف عن عدم الصحة ، واستمع الى قول حكيم الشعراء :

(1) وسبب ذلك هو ان علماء النسب والتاريخ يشهدون بأنها ـ اي سكينة ـ كان متزوجة من ابن عمها عبد الله الاكبر المكنى بأبي بكر بن الامام الحسن المجتبى وهو اخو القاسم وامهما ام ولد يقال لها (رملة) وعبد الله هذا كان ممن نال الشهادة مع آل ابي طالب بني يدي عمه نصير الحق الحسين بن علي عليه السلام وبعد مضي يسير من الوقت قد لا يتجاوز الساعة او الساعتين التحق به اخوه القاسم ليكون الشهيد الرابع من ابناء الحسن عليه السلام فمتى اذن تزوجها والمفروض انه لم يبق بعد زوجها الاول إلا قليلاً من الوقت . . . ومن هنا لم يذكر احد من علمائنا زواج القاسم من ابنة عمه سكينة إلا الشيخ فخر الدين الطريحي قدس سره في كتابه (المنتخب) ج 2 ص 373 ويرى فريق من افاضل المحققين منهم السيد عبد الرزاق المقرم ان قصة زواج القاسم مدسوسة في كتاب المنتخب وسيحاكم الطريحي ـ كما يقول المقرم ـ واضعها في كتابه .
انظر مقتل الحسين للمقرم ص 264 .
سياسة الحسين 115

رب مشهور ولا أصل له وله أصل ولم يشتهر(1)

وحسبك دليلاً على ما نقول ما اشتهر عند عامة الناس طيلة القرون المتقدمة أن القمر عند الخسوف تبتلعه حوتة عظيمة ، فهم ينشدونها الأهازيج ويفتنون بخلاصة من بني فكيها بالأستعطاف طوراً ، وبتزهيدها فيه طوراً اخر ، وبتهديدها تارةً ثالثةً وهو لا يوافق شيئاً مما في الأخبار ولا الهيئة الجديدة بل ولا القديمة .
هذا ولنا في الجواب عن هذا الزفاف لو فرضنا صحة روايته وجوه كثيرة ، علاوةً على التسليم للإمام في جميع أقواله وأفعاله لأنه معصوم ، وجميع أمور المعصومين جارية على وفق الصواب والحكمة «لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون»(2) .
الأول : إن المعترض يسلم وجود رواية الزفاف بل شهرتها فيلزمه عرفاً التصديق بها ، لأن وضع الأخبار للصدق ، وأما الكذب فاحتمال عقلي لا يلزم الانصياع اليه ، ما لم يمنع من التصديق مانع من بداهة العقل أو ضرورة الشرع ، فأما مجرد الاستبعاد لأن التاريخ لم يحمل في طياته نظير هذا الزفاف ، فلا يكفي في رد هذه الرواية ، واين من أحاط بالتاريخ علماً ليحكم بذلك على طريق السلب الكلي كيف وقد قال الرئيس بن سينا «كلما قرع سمعك من العجائب فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه ساطع البرهان» واذا كان ممكناً وجاءت به الرواية ، فلنا أن نطالب بالمانع من تصديقها ، ولعلك تقول المانع من تصديقها ما صح في الرواية أن سكينة كانت في حبال عبد الله ابن الحسن أبي القاسم ، فكيف تزوج من القاسم فنقول إن جاءت الرواية بأن اسم زوج القاسم سكينة فلعل للحسين ابنةً ثالثةً اسمها سكينة ، فإن له علياً وعلياً وقيل وعلياً ثالثاً ايضاً وهو الرضيع المقتول يوم الطف ولأبيه زينب الكبرى وزينب الصغرى وامثال هذا في التاريخ جد كثير .

(1) لابي الطيب المتنبي .
(2) سورة الأنبياء / 27 .
سياسة الحسين 116

الثاني : أن الحسين أراد تنفيذ وصية أخيه الحسن كما جاء في رواية العوذة ـ إن صحت رواية العوذة(1) ـ فإن أمر تزويجه كان موسعاً ، ولما أبى القاسم إلا الجهاد بين يدي عمه ولقاء جيش الكوفة بأسره تحقق دنو أجله ، فصار الواجب مضيقاً ، فأراد الحسين أن يقضي حاجةً في نفس أخيه الحسن ، جزاءً لتنفيذ القاسم وصية أبيه في بذل نفسه في نصرة عمه الحسين و«هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» (2) .
الثالث : أن الحسين أراد أن يظهر للعالم ، الإسلامي في مظهر الشكر إزاء هذه المصائب العظيمة التي تندك لها الجبال الرواسي على صلابتها ، من فقد الأحبة وقلة الناصر ومشارفة قتله عطشاناً وأسر عياله في ايدي الأعادي الشامتين .
وقديماً أخبر جده المصطفى أباه المرتضى بما يجري عليه من الحوادث ، من غضب حقه وهضمه وضرب زوجه الزهراء نصب عينيه ، ثم قال له «أتصبر يا علي» فقال له «يا رسول الله ليس هذا مقام الصبر بل هو مقام الشكر(3)» أجل فإن لله عباداً يتعاهدهم بالبلاء كما يتعاهد أحدكم الحبيب بالتحفة ، وإذا اتحف المولى عبده لتحفة وجب عليه شكرها , زاذا انعم الله على العبد نعمة احب ان يرى عليه آثارها ، هذا مع أن أبطاله الذين فقدهم وما فقد مكارمهم قد رفعوا رأسه عالياً بمصارعهم الكريمة ، فقد عاشوا كراماً وقتلوا أعزاء يخلد التاريخ مجدهم ويسجل مع الأجيال ذكرى عظمتهم ، ولله در السيد جعفر الحلي حيث يقول :
بشرى بني فهر فأبناؤهم ماتوا وهم على الورى أعينا
لا يلطموا الأيدي وحق لهم أن يعقدوا أنديةً للهنا(4)


(1) لم اقف على هذه الرواية التي سماها المؤلف قدس سره برواية العوذة في الكتب المعتبرة .
(2) سورة الرحمن / 60 .
(3) انظر بحار الانوار ج 29 ص 417 وما بعدها ووفاة الصديقة الزهراء للعلامة السيد عبد الرزاق المقرم ص 55 وما بعدها .
(4) من قصيدة في رثاء الامام الحسين عليه السلام مطلعها :
في مطلع العز يهون الفنا ولا يروم العز إلا أنا
سياسة الحسين 117


فأي عجب إذا عقد الحسين نادياً للهناء ليرى الله عليه آثار النعمة ، وضاعف الفرح والإبتهاج بعرس ابن أخيه ، وما هو المانع من تداخل أسباب الفرح والسرور .
الرابع : لقد عاش أبي الضيم وهو يرى شماتة الأعداء أعظم المصائب وأشجى الفوادح ، ولسان حاله بأعلى صوته .
كل المصائب قد تمر على الفتي فتهون غير شماتة الأعداء(1)

لذلك كان إذا المت به إحدى الكوارث ورفعت اخته صوتها بالبكاء والنحيب ـ ومن شأن النساء الجزع والرقة ـ ناداها اخية زينب لا تشمتي بنا الأعداء(2) ، فانطبعت شقيقته بطابعه ، فكان قلبها بعد قتله كزبر الحديد ، كما يخبر عنها حجة عصرها زين العابدين عليه السلام وقد قال الحكماء «الجزع على المصيبة أعظم من المصيبة» لأنه يفرح به العدو ويسوء الصديق ، ومنزلة الرضا أعظم من منزلة الصبر ، كما أن درجة الشكر التي ذكرها أبو الحسن أرفع من درجة الرضا ، وهذا الغصن من تلك الشجرة ، وفي الفرع ما في أصله وزيادة ، فكأن الحسين رأى أعداءه يتحفزون للشماتة بقتل رجاله ومشارفة قتله ، حيث هتفوا به «يا حسين قتلت الأجانب وأخذت تلوذ في أطناب الخيام بين النساء والأطفال» فأراد دحض مزاعمهم ، فحقق سروره وابتهاجه بنزول هذه الفوادح بعرس ابن أخيه الذي سيلتحق بعد ساعة بعمومته واطائب ارومته ، فإن ذلك أنكى للعدو في كسر سورة شماتته ، وأشد من التجلد ذكره الهذلي في قوله .
بتجلدي للشماتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع

وقديماً اعترض بعضهم على أبيه ـ والشئ بالشئ يذكر ـ لما قتل عمرو بن عبدود وجاء برأسه الى النبي يختال في مشيته ، فقيل للنبي انظر يا رسول الله الى

(1) لابن ابي عيينة المهلبي .
(2) انظر الملهوف على قتلى الطفوف ص 151 .
سياسة الحسين 118

علي كيف يختال في مشيته(1) ، وقد نهيتنا عن هذه المشية ، فقال صلى الله عليه وآله : هذه المشية يمقتها الله إلا في هذا المقام(2) ـ أي مقام الحرب ـ فقد على المصطفى نية أخيه المرتضى أن هذه المشية بعد قتل حامية المشركين وبطلهم عمرو بن عبدود أعظم عليهم واشد نكايةً لهم من قتله ، حيث رجع وقد فرغ من قتاله وهو ينشدهم بلسان حاله .
إن عادت العقرب عدنا لها وكانت النعل لها حاضرة

بخلاف ما لو قتله ورجع منكسراً متألماً من قرح(3) الحرب الذي مسه ، لأن هذه المشية أعظم من الشماتة وأبلغ في إظهار عدم المبالاة بهم وبحاميتهم ، وأجلى مظهر محقق لقول النبي في موطن آخر «رحم الله امرءاً أراهم من نفسه شدةً» .
وأنا أقول لهذا المعترض يا هذا اقتل عمراً ثم امش على رأسك إن شئت دون اطراف اصابعك .
الخامس : أن الحسين رآى هذا الشاب في عنفوان شبابه ومستقبل حياته قد أعرض عن زهرة الدنيا ومتع الحياة ، وبذل نفسه في نصرة الدين الحنيف فداءً لخليفة الله في أرضه وحامل عهده في عباده ، فأراد له أن ترتفع منزلته عند الله بأن يلقاه وهو من خيار امة جده رسول الله ، نظراً الى قوله صلى الله عليه وآله «شرار امتي العزاب وخيارهم المتزوجين»(4) وقد جاء في الحديث «الدنيا مزرعة الآخرة» (5) وأن الله يضاعف الحسنات وينميها «والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم»(6) فشق تمرة يتصدق بها العبد المؤمن يراه أكبر من جبل احد ، فما بالك ببذرة يزرعها بيده سيد الشهداء ، لابن أخيه اكبر سيدي شباب

(1) بحار الأنوار ج 20 ص 216 .
(2) نفس المصدر .
(3) القرح : ما يصيب المقاتل من اثر الحرب من تعب وجرح / المؤلف .
(4) وسائل الشيعة ج 2 ص 19 .
(5) لئالي الاخبار ج 1 ص 52 .
(6) سورة البقرة / 261 .
سياسة الحسين 119

أهل الجنة ، في حقل(1) عرصة كربلاء التي لولاها لما خلق الله مكة المشرفة ولا بيتها العتيق ، وهي روضة من رياض الجنة(2) ، وقد ضمت جسد سيد شباب أهل الجنة .
السادس : أن سكينة لو لم تزوج بالقاسم ، لتزوجت بعده بغير ، ولعلها كانت مسماةً له ، بناءً على استمرار حياتهما حتى يتزوج بها ، فإذا قتل ولم يقترن بها لم يكن لها أن تختاره في الجنة لأنه لم يتزوجها في الدنيا ، فهل يا ترى من الإنصاف والمروة أن تصرف عنه ابنة عمه المسماة له لغير سبب ، إلا أنه فدى أباها بأعز الأنفس عليه ، وقتل في نصرة دين الله الحنيف ، وقد جاء في الحديث أن المرأة الصالحة تخير بني أزواجها في الدنيا ، لتختار أحسنهم أخلاقاً ، فإذا كان واحداً ، ولعل سكينة لم تقترن بغيره ، وكان حسن الاخلاق كابن الحسن لم يكن لها معدل عن اختياره ، وقد سبق لجده المصطفى أن زوجه الله ، وهو في قيد الحياة أزواجاً لم يبن بهن إلا بعد انتقاله الى الرفيق الأعلى ، وهن مريم ابنة عمران ، وأسية بنت مزاحم ، وكلثم اخت موسة بن عمران ، كما ورد أنه صلى الله عليه وآله قال لخديجة وهي في دور الاحتضار أبلغي ضرائرك عني السلام ، فقالت ومن ضرائري يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وآله وسلم مريم ابنة عمران ، واسا بنت مزاحم وكلثم اخت موسى بن عمران ، فقالت بالرفاء(3) والبنين يا رسول الله(4) ، فكان الأزواج في الدنيا والبناء والثمرة في الآخرة ، وللقاسم حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله اسوة حسنة بجده رسول الله .
السابع : ـ ولعله أقوى الوجوه ـ أن الحسين أراد أن يكون القدوة الصالحة والأسوة الحسنة والمثل الأعلى لأمة جده في جميع المصائب التي قد تلم بهم

(1) الحقل : الأرض الطيبة يزرع فيها الزرع / المؤلف .
(2) اقول : وهذه حقيقة اكدتها الاخبار الشريفة والروايات المنيفة وبوسعك أن تقف على بعضها في كتاب كامل الزيارات لابن قولويه القمي باب 88 .
(3) رفاء : ترفئة وترفيئاً : هناه ودعا له بالالتئام واستيلاد البنين / المؤلف .
(4) بحار الأنوار ج 19 ص 20 .
سياسة الحسين 120

على مرور العصور وتعاقب الأزمنة .
وإذا تعاورك الزمان ومال نحوك بالنوائب
فاذكر مصيبتهم بعر صة كربلا تنس المصائب(1)

فاذا فقد أحدهم أعز حبيب ، تذكر مصيبة الحسين بأحبائه وأنصاره وعلى رأسهم حبيب ، واذا أنشبت المنية أظفارها لأحدهم برضيع ، تسلى برزية عبد الله الرضيع ومصرعه الفظيع ، وإذا نكبه الدهر بفقد ولد إكبر ، فإن له الأسوة الحسنة بمصيبة سيد الشهداء بعلي الأكبر ، واذا رماه الزمان بموت أخ له أو أخوين ، جعل نصب عينيه قتل العباس وإخوته وذكر مدى حزنهم العميق في قلب سيده الحسين ، واذا قلب الدهر لأحدهم ظهر المجن ، فمات عروسه بني يدي زفافه وتبدل الفرح بالحزن ، فليتذكر ـ ولا بد أن يتذكر ـ فجيعة سيد الشهداء بالعلامة من أخيه الحسين .
ولكن من للامة بأسرها بغلام كالقاسم ابن ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قسم الحسن فلقتين ففيه فلقة والأنام في اخراها
ولذا كانت العيون تراه فلقة البدر اشرقت في سماها(2)

يزف على ابنة عمه سكينة الحوراء الإنسية ، فيمشي الدهر أعمى وإذا به يزف على المنية ، ويلبس للعرس ثياب أبيه الحسن ، وإذا بعمه يشق له ثوباً فيجعلها في صورة الكفن ، وينثر على رأسه النقل ، واذا هو غرض النشاب والنبل ، وتخضب كفه للعرس بالحناء ، واذا بها تخضب من رأسه في الميدان بالدماء ، ويدخله عمه

(1) من قصيدة في رثاء امامنا الحسين عليه السلام وهي للشاعر الملحق الشيخ يوسف ابو ذيب رحمه الله واجزل مثواه مطلعها :
حكم المنون عليك غالب غالبته او لم تغالب
(2) من قصيدة لمؤلف الكتاب في رثاء القاسم بن الامام الحسن عليه السلام مطلعها :
فادح قد عرى بعترة طاها مقلة المجد والعلى أقذاها
سياسة الحسين 121

الخيمة بيده ويبارك له في عرسه وقرانه ، وإذا هو بعد ساعة يناديه أدركني يا عماه ، فينقض عليه كالصقر إذ ينقض على فريسته .
فلا تنجلي الغبرة إلا والحسين قائم على رأس الغلام ، وهو يفحص برجليه(1) والحسين يقول «يعز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا يعينك أو يعينك فلا يغني عنك ، بعداً لقوم قتلوك»(2) ثم احتمله واضعاً صدره على صدره(3) ، ورجلا الغلام تخطان في الأرض(4) ، فجاء به حتى ألقاه في الخيمة بي القتلى من أهل بيته(5) ، مع ولده علي الأكبر ، وهو يندبهما أشجى ندبة ويرثيهما أحر الرثاء ، فلم ترثا كلاً اشجى منه بني فقيدين ، ولم تسمع بمفجوع اشد حزناً منه بين قتيلين ، لاسيما إذا نظر الى وجهيهما كأنهما قمران وقد حجبتهما وفرتا هما كأنهما غمامتان ، وقا فاضت عليها دماء الهامتين ، وكستهما ثوبين أحمرين فينشدهما بلسان حاله :
تلك الوجوه المشرقات كأنها الأقمار تسبح في غدير دماء
خضبوا وما شابوا وكان خضابهم بدم من الأوداج لا الحناء(6)

* * *



(1) مقتل الحسين للمقرم ص 265 .
(2) الارشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 108 .
(3) الايقاد ص 118 .
(4) ابصار العين ص 37 .
(5) مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 28 .
(6) من قصيدة عصماء للشيخ صالح الكواز مطلعها :
باسم الحسين دعا نعاء نعاء فنعى الحياة لسائر الاحياء
سياسة الحسين 122


لماذا يحمله أبوه الى المعركة



قاتل الله معاوية بن أبي سفيان ومداورته المفضوحة ومراوغته في الحجة والخصومة ، اذاع في الشام حديث رسول الله :«يا عمار تقتلك الفئة الباغية»(1) ولما رآى الشاميون عماراً يحمل لقتالهم راية خصمه علي بن أبي طالب ذكروه في حديثه فوعدهم ـ كاذباً ـ بأن عمار ستكون عاقبة أمره أن يقتل تحت لوائهم ، وأخيراً اعترضه أبو العادية الفزاري وهو منهم فقتله(2) ، وعاودوه في الإعتراض فقال «ما نحن قتلناه وإنما قتله من عرضه لسيوفنا ورماحنا»(3) يريد علي بن ابي طالب .
نقول وإذا تبع معاوية المعترض فأولى أن يعترض على الحسين في حمله عبد الله الرضيع لجمهرة عسكر الكوفة فيجهر بأعلى صوته قائلاً ، إذا كان الحسين علم أن الله نزع الرحمة من قلوب الأعداء لفتكهم الذريع بأهل بيته وأنصاره ، من غير رحمة ولا رأفة ، فهي كالحجارة أو أشد قسوةً ، وقد ضاعت في القوم خطبه وخطب أصحابه الذين ألسنتهم كالمخاريق ، فما باله وهو الرزين الرصين بل الألمعي الحكيم ـ يعرض طفله عبد الله الرضيع عليهم ويستسقي له منهم الماء فيعرضه بذلك لمصرعه الفظيع ويغامر به أن يرمى بذلك السهم المشوم ، أليس في تلك المغامرة تجربة للمجرب ، ألا يكفيه أن يصف لهم حالته فإن دفعوا الماء ليسقيه به فذلك ما أراد وإلا لم يكن قد فتح لهم الطريق على قتله .
ولنا أن نقول أما استسقاؤه للطفل من القوم فواجب لئلا يهلك عطشاً فيعتذروا عند الله بعدم علمهم بحالته ، وأن أباه جنى عليه إذ لم يخبرهم به ، وهم إنما حرموا

(1) نظر الاستيعاب لابن عبد البر ج 3 ص 230 وسنن البيهقي ج 8 ص 189 وانظر ترجمته رضي الله عنه في رجل السيد بحر العلوم ج 3 ص 170 واسد الغابة لابن الاثير ج 3 ص 308 والاعلام الزركلي ج 5 ص 36 .
(2) وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 341 .
(3) نفس المصدر ص 343 .
سياسة الحسين 123

الماء عليه وعلى من لف لفه في إرادتهم تقويض عرش يزيد ، والطفل خارج موضوعاً وقد علمت أو الوصف لا يكفي في أكثر الأوقات عن المشاهدة فما راء كمن سمع ، ولعلهم ولو صدقوا بأن الطفل قد اشفى(1) على الهلاك من شدة الظمأ يتهمونه بأنه سيشاركه فيه أو يؤثر به نفسه ، وقد حرموا على أنفسهم أن يذوق منه قطرةً واحدةً ألا تراه يقول في آخر خطبته «خذوه واسقوه»(2) فكأنه أحس منهم التهمة له ، وأما علمه بأنهم قد نزعت الرحمة من قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، ويكفيه دليلاً على ذلك فتكهم الذريع بآله وأصحابه وغير ذلك ، فمن كان يتصور يا ترى أن تبلغ بهم القسوة وتنتهي بهم الوحشية والهمجية الى ما انتهت اليه من فتكهم بالرضيع الذي لا جرم له ولا ذنب ولا يبدي في الأمور ولا يعيد ، وأن صدر لأبيه ذنب ـ كما يزعمون ـ لعدم نزوله على حكم يزيد فإنه لا يدور في خلد(3) أن سيوأخذون به الرضيع إذ لم تجر العادة بذلك ، حتى عند الجاهلية وهمجيتها ألا تسمع شاعرهم إذ يقول :
أبحنا حيهم قتلاً وأسراً عدا الشمطاء والطفل الصغير

ثم نقول أتلوم الحسين بحمل الطفل لأنه رجع به الى الخيمة مقتولاً ولا تعجب من سياسته ومعرفته بأساليب الدعوة الى الحق ، وتنبيه امه جده من رقدتهم الطويلة وسباتهم العميق ، ألا تسمع الى خطبته التي هزت العسكر على كثرته وقسوته هزةً عنيفة ، بل ماج لها العالم بأسره حزناً وجزعاً وارتجع بهراً(4) وعجباً ، حيث هتف بهم فبلغت دعوته القلوب قبل الآذان «يا قوم قتلتم شيعتي وبني عمي وأولادي وأخواني وقد بقي هذا الطفل يتلظى عطشاً فاسقوه شربةً من ماء»(5) .
ودعا في القوم يا لله للخطب الفظيع نبئوني أأنا المذنب أم هذا الرضيع


(1) اشفى المريض على الهلاك : قاربه / المؤلف .
(2) ينابيع المودة للحنفي ج 2 ص 415 .
(3) الخلد : البال والقلب / المؤلف .
(4) عجباً تفسير بهراً / المؤلف .
(5) الملهوف على قتلى الطفوف ص 169 .
سياسة الحسين 124

لاحظوه فعليه شبه الهادي الشفيع لا يكن شافعكم خصماً لكم في النشأتين(1)

فاستشرف له الجمع ، فتطاولت الأعناق ، واشرأبت النفوس وارهفت الآذان ، ووجفت القلوب ، وفاضت العيون بالدموع ، وكثر اللغط والرهج في العسكر ، فمن قائل لعن الله عمر بن سعد ما أقسى قلبه وكادوا يفيقون من سكرة ضلالهم ، ويستيقظون من رقدة غفلتهم ، وللعقل رقدة وانتباه ، والله مقلب القلوب والأبصار .
فربك هل سمعت أو علمت أن خطبةً من خطبه فضلاً عن خطب اصحابه قد فعلت مفعولها في قلوب تلك النفوس الموصدة الآذان العمي البصائر كأراءته لهم ذلك الطفل البرئ من الذنوب ، الالص من الآثام و النزيه من الجرائم ، وهم يتلوى عطشاً ويتلظى أوماً ، وقد اصفرت منه وجنتاه وهما وردتان ، وغارت عيناه وهما نرجستان ، وذبلت شفتاه وهما عقيقتان .
أما ابن سعد فقد أدرك الوضع وارتبك في حراجة الموقف ولم تشأ له عاطفته وطمعه في الجائزة بانقياده لأميره أن يسقي الرضيع قطرةً من الماء ، فغامر بنفسه وزعم أن الشر يطفأ بالشر ، فقطع ، ـ بزعمه نزاع القوم المحتدم ولجبهم المستمر ، أن انتخب حرملة من بين الرماة و لأنه وجده اقساهم قلباً وأغلظهم كبداً ، وأمره بذبح الرضيع بسهم ذي ثلاث شعاب ، وكذلك فعل عدو الله وعدو الإنسانية ، وأطلق سهمه المثلث المسموم(2) من كبد قوسه المشومة ـ الله أكبر ـ ولم ترعش يده ولم تختلج جوارحه دون أن جعل هدف سهمه المثلث المسموم رقبة الطفل المغمى عليه من العطش ، وقد رآها تلوح عل عضد أبيه كأنها عمود فضة ، فانتظمها بسهمه الى عضد أبيه ، غير أنه لم يلبث أن عاد باكياً من فعلته النكراء التي تبرأ منها النفوس السبعية فضلاً عن البشرية ، أن رآى الطفل يرفرف على صدر أبيه كالطير المذبوح ، وأبوه يتلقى بكفه دم طفله الذبيح بجميل الصبر

(1) من قصيدة مطولة للشيخ حسن الدمستاني البحراني المتوفى سنة 1181 هجرية مطلعها :
احرم الحجاج عن لذاتهم بعض الشهور وأنا المحرم عن لذاته كل الدهور

(2) الايقاد للسيد العظيمي ص 125 .
سياسة الحسين 125

وعظيم الثبات ، ويرمي به صاعداً الى السماء(1) ، ولسان حاله يترجم عن مكنون نفسه ، أن بعينك يا رب ما نلقاه وبجنبك ما نكابد ، وذلك قليل في ذاتك ونزر في رضاك يا إله السماء .
وهكذا تفنن شهيد الطف بأساليب الدعوة الى الحق والنداء الى الهدى ، فارتقت به نفسه القدسية من دعاء البشر قبل مقتل الطفل الى دعاء إله السماء بعد مقتله ، فتقبل الله قربانه وأرسل ملائكته تتلاقف دمه الذي اريق لوجهه الكريم ، بعد أن استحال قبل اتصاله بالملأ الأعلى «الون لون الدم والريح ريح المسك» فلم تنزل منه الى الأرض قطرة واحدة(2) .
تلاقفت دمه الأملاك حين رمى نحو السماء به المولى فما انحدرا(3)

ولكن القوم فاتهم الغرض وطبع على قلوبهم ، وأرسلهم الله من يده ارسال من أراد إهماله ، ونزع الرحمة من قلوبهم فكانت على قلوب أقفالها ، ولقد كان الأولى بهم أن يمسحوا عيونهم عند مقتل الطفل غب ما انتبهوا بعض الأنتباه ، في عرضه عليهم يلوك لسانه من العطش ، أليس رؤيته مطوقاً بالسهم أمض من رؤيته ملفوفاً بالقماط ، أليس تشحطه بدمه أعظم من تلظيه بعطشه ، أليس نظره مرفرفاً على صدر أبيه كالطير المذبوح أقرح للقلوب من نظره مرفوعاً بين يدي أبيه ساكناً لا حراك به لكونه مغشياً عليه من شدة العطش ، ألم تبك هذه الحالة حرملة الفظ الغليظ القلب وهو المعتمد على قتله قبلاً ولم تدركه به رحمة ، اليس رجوعه به الى الخيمة قتيلاً على عطشه ، أعظم وأبلغ أثراً من رجوعه به ليموت في الخيمة بين يدي امه عطشاً .
والخلاصة أن الحسين قد بلغ رسالته وأحسن في أدائها كثيراً لأنه رأى الطفل

(1) مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 32 .
(2) الملهوف على قتلى الطفوف ص 169 .
(3) من قصيدة لمؤلف الكتاب يندب فيها مولانا الامام المهدي ويرثي جده الحسين عليهما السلام مطلعها :
ألا نداء ببشرى تشمل البشرا بأن في البيت نور الله قد ظهرا
سياسة الحسين 126

قد أشفى على الهلاك من الظمأ فوجب عليه أن يستسقي له ، علماً منه أنه إذا تركه مات في الوقت الحاضر ، فكان هو الجاني عليه في حجتهم عند الله ، وظناً منه أن القوم سيسقونه لبراءة ساحته من الذنوب ، ولميل الطباع لرحمة الأطفال ، ولو وصف لهم حالته فسيتهمونه بجعله ذريعةً لإطفاء وقدة كبده ، ثم لما فاجأءته هذه النازلة الجسمية التي لم تكن بحسبانه ما وهن ولا استكان بل استمر في نشر دعوته بالطريق الأوضح ، والحجة البيضاء فضرب لهم الأمثال قائلاً «اللهم لا يكن عليك أهون من فصيل ناقة صالح»(1) وقوم صالح عقروا ناقته فهام فصيلها في البر ، فحذرهم نبيهم من الأنتقام وقال لهم اطلبوا الفصيل ليكف الله عنكم به بأسه فطلبوه فلم يدركوه ، وأهل الكوفة قتلوا الرضيع قبل الفصال فلم يرعووا عن بغيهم ، ولم يرجعوا عن طغيانهم بل استمروا في عتوهم حتى قتلوا الحسين عليه السلام وهو أعظم قدراً عند الله من صالح وناقته .
جاء في الأثر القديم أن غلاماً مسلماً دعا جبار زمانه الذي يعبد من دون الله الى الإيمان بالله ، فاحتدمت وقدة غيظه عليه وأعد لقتله يوماً مشهوداً فسدد له سهماً بعد أن هتف بإسم الصنم الذي جعل الغلام قرباناً له فلم يصبه ، وصوب سهماً آخر فأخطأ الغرض ، فلما رآه قد ضجر من كثرة السهام وعدم الإصابة ، قال له ان أردت أن تدرك غرضك من قتلي فقل عندي رمي السهم باسم رب الغلام ، فما إن قالها ورمى السهم حتى صرع الغلام ، وعندها أسلم الحاضرون كلهم لرب الغلام وآمنوا بالله رب العالمين ، أن صرع سهم جبارهم الغلام في سبيل نشر الدعوة لربه .
فكان ينبغي أن يكون مصرع هذا الغلام أسرع في نشر الدعوة من ذلك الغلام ، لأن ذلك الغلام ، خارج على تقاليد قومه ، وهذا الغلام لم يبلغ الفصال ولم يتم الرضاعة ، وذلك الغلام ابن رجل من سائر الناس لا امة له ولا قدر ، وهذا الغلام ابن محمد ، صفوة العالم وسيد البشر ، وكلهم ينتمون الى ملته ويزعمون أنهم من

(1) المناقب لابن شهر اشوب ج 4 ص 109 .
سياسة الحسين 127

امته ، وذلك الغلام قتل بسهم ذي ثلاث شعب وكان مع ذلك مسموماً .
ثم نقول أما نجاح الدعوة فال تعلق له بالداعي ، لأن الكثير من الأنبياء والرسل ذهبت دعوتهم أدراج الرياح ، ولكنهم أقاموا الحجة لله على عباده لئلا يقولوا«ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى»(1) تعليقاً على قوله تعالى «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا»(2) واما انتظار قتل الطفل قبل نجاح الدعوة للإستسقاء بل للرشد والهدى فليس ذلك بضائر داعية الحق ورسول الرشد والهداية ، وسفير الصلاح والهدى ، لأن له الأسوة بكثير من الأنبياء والرسل ودعاة الخلق للحق ، وقد ذكر القرآن والتاريخ قتلهم قبل نجاح دعوتهم ، بل له الاسوة الحسنة بجده المصطفى وبكثير من سراياه الكريمة ورسله المبلغين عنه ، وأين أنت عن رسية جعفر الطيار(3) ، أو هل كنت في غفلة من سرية الرجيع(4) ، أم لم تسمع بموقعة بئر معونة(5) ، وهم سبعون شهيداً بعثهم رسول الله للتبشير بدين الله بعد استدعاء أبي براء ، فأخفر(6) الأعراب ذمته وعلى رأسهم عامر بن الطفيل لعنه الله فقتلوهم جميعاً ، بل كثيراً ما رأينا رسول الله نفسه دعا الناس لله فلم تنجح دعوته واذي فصبر ، بل كان قد وطن نفسه على القتل ولو قبل نجاح الدعوة وأرادوه مه بكل ما اوتوا من قوة وبذلوا في سبيل تحقيقه غاية جهدهم ولكن الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين .
والحسين اذا جاهد بنفسه ووطنها على القتل اقتداءً بجده فقتل بعد كرام انصاره وأهل بيته ، فما يمنعه من الجهاد بطفله وبتقديمه للذبح في نشر دعوة الهدى ، قرباناً لله وإبتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى .
هذا ولكننا لا نزال نعتقد أنه لم يدر في خلد الحسين عليه السلام ولم يحظر في بال

(1) سورة طه / 134 .
(2) سورة الاسراء / 15 .
(3) انظر المغازي ج 2 ص 755 .
(4) تاريخ الطبري ج 2 ص 213 .
(5) نفس المصدر .
(6) اخفره : نقض / المؤلف .

السابق السابق الفهرس التالي التالي