سياسة الحسين 128

غيره من أن بني أمية سيمنعون طفله الماء بعد رؤيتهم له بتلك الحالة التي تصدع الصخر الأصم وبعد أن كانت رحمة الأطفال من طباع البشر .
فلم يدر لا ورب البيت في خلد من آل حرب بعبد الله ما صدرا(1)

واعتماداً على أن رحمة البشر للطفل الصغير من باب إرسال المسلمات تلقت سكينة أباها بسؤالها الذي ذر الملح على جرح فؤاده «أبه لعلك سقيت أخي الماء» فبكى الحسين واكتفى عن الجواب بان دفع لها الطفل على حالته التي قتل عليها والسهم لا يزال في نحره ، ولعله أراد بذلك دفع توهمها في استبعاد صدور قتله كما هو مرتكز في الأذهان قائلاً لها : «بنية خذي أخاك مذبوحاً بسهم الأعداء»(2) .
وأكبر الظن أنه لو جرت العادة في قتل الأطفال على عطشهم ولا ذنب لهم غير استسقاء الولي لهم ، وعرضهم على مانعيهم الماء ، لما تمنى الحسين حضور شيعته يوم عاشوراء ، لينظروا بأعين رؤوسهم هذه المصيبة الغريبة في جنسها العظيمة في نوعها ، كما أوصى اليهم على لسان ابنته سكينة لما ألقت بنفسها عليه وقد قطع رأسه(3) ، كما قالت لما مر القوم بالنسوة على القتلى رمبيت بنفسي على جسد أبي فسمعت صوتاً يخرج من منحره المقدس(4) :
شيعيتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني أو سمعتم بقتيل أو شهيد فاندبوني


(1) من قصيدة لمؤلف الكتاب رحمه الله وقد مرت الاشارة اليها آنفاً .
(2) اقول : لم أقرأ في كتبنا المعتبرة الجليلة مثل :
الملهوف للسيد بن طاووس ، والبحار للشيخ المجلسي ، والارشاد للشيخ المفيد ، واعلام الورى للطبرسي ، ومثير الاحزان لابن نما ، وروضة الواعظين للفتال النيسابوري ، ومقتل العوالم للشيخ عبد الله البحراني ، والمناقب لابن شهر اشوب ، ونفس المهموم للشيخ عباس القمي ، وغيرها ما ذكره مؤلف الكتاب من ان الحسين عليه السلام عاد بطفله المذبوح بسهم حرملة بن كاهل الى الخيام وبالتالي استقبال سكينة لابيها وقولها له (ابه هل سقيت اخي الماء) وجوابه (خذي أخاك مذبوحاً) بل الذي ذكره هؤلاء الاساطين وغيرهم ممن يضارعهم في جلالة القدر ونباهة الشأن وسمو المقام هو ان الحسين لما فجع بقتل ولده وفلذة كبده نزل فحفر له بطرف سيفه حفرةً فأقبره فيها .
(3) الايقاد ص 140 .
(4) المصباح للكفعمي ص 741 .
سياسة الحسين 129

فأنا السبط الذي من غير جرم قتلوني ويجرد الخيل بعد القتل عمداً سحقوني
لكيتم في يوم عاشوراء جميعاً تنظروني كيف استسقي لطفلي فأبو أن يرحموني
وسقوه سهم بغي عوض الماء المعين(1)

* * *



(1) مقتل الحسين للمقرم ص 307 .
سياسة الحسين 130


والعجز عن وصف شجاعته




بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وآله في عصر كان كل من الفصاحة والشجاعة فيه قد أدركت إناها(1) وبلغت أشدها ، فهما مطمح أنظار ذلك العصر بل هما غاية المجد عندهم ، وقصارى ما يعدونه لمفاخرهم ، تفوق في الفصاحة قوم فعلقوا قصائدهم على الكعبة(2) في موسم اجتماعهم لتسير بأيدي الوفود مسير الريح الى جميع أقطارهم ونواحيهم ، ونبغ في الشجاعة عنترة بن زبيبة ، وكان عبداً شأنه الحلب والصر ، فصار سيداً تتعشقه كريماتهم وعقائلهم ، وما عليهن بذلك غضاضة ، بل لهن الفخر والمجد .
ولكن الله برهم بفصاحة القرآن الخارجة عن طوق البشر ، حتى تحداهم(3) بأن يأتوا بسورة من مثله(4) ، بعد أن رآهم يعجزون عن الإتيان بمثله كله(5) ، بل بعشر سور مفتريات(6) ، فتساقطوا ـ في كل ذلك ـ في عجزهم ، واعترفوا مذعنين بضعفهم عن مقاومته على رغم أنوفهم ، فتحيزوا للحرب والقتال وصبروا للجلاد والنضال ، ووطنوا أنفسهم على ما جرت عليهم الحرب ويلاتها من إزهاق

(1) نضجها / المؤلف .
(2) وعرفت هذه القصائد بالملعقات السبع وهي :
1 ـ معلقة امرئ القيس .
2 ـ معلقة طرفة بن العبد .
3 ـ معلقة زهير بن أبي سلمى .
4 ـ معلقة لبيد بن ربيعة العامري .
5 ـ معلقة عمرو بن كلثوم .
6 ـ معلقة عنترة بن شداد .
7 ـ معلقة الحرث بن ظليم .
(3) طلب منهم أن يأتوا بمثله كله أو بسورة من مثله / المؤلف .
(4) فقال سبحانه وتعالى في الاية 23 من سورة البقرة (وأن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا . . .) .
(5) قال تعالى في الآية 88 من سورة الاسراء (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم . . .) .
(6) قال تعالى في الآية 13 من سورة هود (. . . قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا . . .) .
سياسة الحسين 131

النفوس وترميل النساء ويتم الأطفال واسترقاق ذراريهم ونهب أموالهم ، وكم أسرهم الإسلام ومن اذل من الأسير ، واذاقهم الله لباس الجوع والخوف وقاسوا من التعذيب ألواناً ، ومن الصغار والتنكيل أنواعاً ، وذلك حين تحداهم الرسول وخيرهم أن يكفوا بأسه عنهم بواحدة من هاتين الخصلتين اللتين قد بلغتا أشدهما عندهم الفصاحة فيأتوا بمثل القرآن بل بعشر سور بل بسورة واحدة ـ والشجاعة فيأذنوا بحرب من الله ورسوله ، فدعتهم العصبية الجاهلية أن اختاروا هذه الخلة الثانية ، وكأنهم وجدوها أهون في نفوسهم من الأولى ، لذلك أنزولوا معلقاتهم ـ وضعاً لقدرها ـ ورموا بها في التراب ، واستعدوا للحرب ، وإن علموا بسوء العاقبة والمصير الى ما انتهى اليه أمرهم ، لكنهم آثروا أن يموتوا ـ بزعمهم ـ كراماً ، وهكذا يفعل الجهل بصاحبه ، والجاهل عدو نفسه .
أما محمد فقد أرسله الله وحده الى الناس كافةً ، أبيضهم وأسودهم بل الى الجن والإنس الى يوم القيامة وقد علم ـ وهو العليم بعباده ـ أنهم سيكذبونه وسيقابلونه بكل ما اوتوا من قوة ، وقد ذكرنا أن قوتهم تنحصر في فصاحة اللسان وشجاعة الجنان ، لذلك زوده بهما وآتاه فوق ما أتى أهل ذلك العصر جميعاً ، بل جميع العصور والقرون التي أرسله إليها الى يوم القيامة ، وإذا كان الله قد أرسله ، ـ والله أعلم حيث يجعل رسالته ـ لهذا الأمر العظيم الخطير ، في ذلك الظروف العصيب الرهيب ، للجن والإنس كافةً ، فكيف يرسله مجرداً من القوة القاهرة والقدرة الكافية ، عارياً من الوسائل التي تمس لها الحاجة ، وتدعو لها الأحوال الكفيلة بالنجاح ، وكيف يظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
إن هذا وربك لا يكون في الأوامر المولوية البشرية للبعيد فضلاً عن الربانية الإلهية للحبيب ، وهو القائل«لا يكلف الله نفساً إلا وسعها»(1) كلا فقد فتح الله لنبيه محمد ـ منذ وضع قدمه في عرصة الوجود واختاره الله لرسالته الخالدة ـ بابين من القدرة ، وأمده بسلاحين عظيمين للنصر والظفر بالعدو ، وأيده بقوتين

(1) سورة البقرة / 286 .
سياسة الحسين 132

منذ وجهه الى جهتين :
الأولى : القوة البشرية ، وهو في هذه المرتبة المثل الكامل في الرجولة الذي لا تناله الألسن بقدح ، ولا تقدر أن تبلغ كهنه بمدح ، حيث خلا من كل رذيلة وصار المثل الأعلى لكل فضيلة أجل .
ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد

وهذه المرتبة هي المعبر عنها بقوله تعالى «قل إنما أنا بشر مثلكم»(1) كما اشار الى (الثانية) بقوله «ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى»(2) وبهذه المرتبة اتصل بالملأ الأعلى ، واستلهم الوحي ، وارتضاه الله للإطلاع على علم الغيب ، وصدرت منه المعجزات الخارقة للعادة ، وهي ما نسميها بالقدرة اللاهوتية ، ولعله أشار إليها بقوله «يا علي ما عرفني إلا الله وأنت»(3) كلا فأنه صلى الله عليه وآله كما بعث للناس كافةً واوتي القرآن الذي لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله لا يأتون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، كذلك اتي من الشجاعة ما يعجز البشر عن مقابلته كالقرآن بل الأنس والجن ، الذين أرسله الله اليهم الى يوم القيامة وكيف يقصر سلاح شجاعة جناحه عن سلاح فصاحة قرآنه ، وقد علم الله أن أهل عصره سيختارون الحرب والنزال ، بعد إذعانهم بالعجز عن مقابلة فصاحة القرآن ، وهو يريد أن يظهره على الدين كله .
غير أنه تعالى رفع مقام نبيه عن مباشرة الحرب بنفسه في غير المقامات التي تدعو لها الحاجة كيوم احد ، وجعل المظهر التام بل المحقق الأجلى لشجاعته

(1) سورة الكهف / 110 .
(2) سورة النجم / 8 ـ 9 .
(3) اليك تتمته كما هو مشهور وفي الكتب مسطور (. . . وما عرفك إلا الله وانا وما عرف الله الا انا وانت) .
قال شاعر ماهر أبياتاً ضمنها هذا الحديث الشريف وهي :
تالله ما عرف الإله من الورى غير النبي محمد ووصيه
كلا ولا عرف النبي محمد غير الاله بكنهه ووليه
وكذاك ما عرف الوصي بكنهه احد سوى رب السما ونبيه
سياسة الحسين 133

والمرآة التي انطبعت فيها صورة بطولته وفروسيته وصية بل نفسه ـ في نعوته الحسنى ومثله العليا ـ بطل الإسلام علي بن أبي طالب ، فهو تعالى كما تحداهم بالقرآن تحداهم بشجاعة عدل القرآن في أهم مواطن النبي أعني غزوة بدر الكبرى إذ أنزل عليه «يا أيها النبي حسبك الله ومن إتبعك من المؤمنين»(1) وإنما أراد بالمؤمنين علياً أمير المؤمنين في تفسير كثير من الجمهور وكافة الشيعة(2) ، وتحدى النبي صلى الله عليه وآله كثيراً من العرب كبني وليعة وغيرهم بأخيه أن يرسله إليهم إن لم ينتهوا فيقتل الرجال ويسبي الذراري وينهب الأموال ، وكم قذفه في لهوات الحرب «فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه» كما قالت كفوه الزهراء في خطبتها(3) ، أليس هو القائل «لو تظاهرت العرب والعجم على قتالي ما وليت عنها الدبر»(4) أم أليس هو الذي قاتل طواغيت الجن بمدد ربه السبحاني حتى قالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ورجع الى النبي وسيفه ينطف من دمائهم ، وما لنا نذهب في التدليل على ما ندعيه بعيداً ن وهذا أحد ذريته الصادقين يقول في زيارته «كاشف الكرب عن وجهه ، ـ أي النبي ـ الذي جعلته سيفاً لنبوته ، ومعجزاً لرسالته ، ودلالة واضحة على لحجته ، وحاملاً لرايته ، ووقاية لمهجته وهادياً لأمته ويدأ لبأسه ، وتاجاً لرأسه ، وباباً لنصره ن ومفتاحاً لظفره ، حتى هزم جيوش الكفر بأذنك وأباد عساكر الشرك بأمرك(5) الخ» وبحكم قياس المساواة يجب أن لا يكون في العالم من أوله الى آخره قرين في الشجاعة ومساو في البطولة لبطل الإسلام علي بن أبي طالب ، وحملة عهد الله من ذريته

(1) سورة الانفال / 64 .
(2) اقول : هذه الاية الكريمة هي واحدة من جملة آيات بينات سمي فيها مولانا الامام امير المؤمنين عليه السلام (مؤمناً) .
وقد ذكر بعضاً منها العلامة الاميني طاب ثراه في كتابه الغدير ج 2 ص 49 وما بعدها فراجع .
(3) الكبرى التي القتها في مسجد أبيها رسول الله عقيب وفاته بقليل وقد مرت الاشارة اليها .
(4) جملة مباركة من كتاب مبارك كتبه الامام علي عليه السلام الى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الانصاري .
انظر نهج البلاغة شرح محمد عبده ج 3 ص 70 .
(5) انظر زيارته عليه السلام في يوم مبعث النبي (ص) .
سياسة الحسين 134

فضلاً عن وجود الأشجع ، كما لا يمكن وجود ما يساوي فصاحة القرآن فضلاً عن الأفصح ، ولذا كان العترة والقرآن ثقلي النبي اللذين أوصى بهما امته لأنهما دعامتا نبوته ، وقواما رسالته ، وسلاحا دينه وصلته .
هذا ولكني لا أزال أفهم جيداً ـ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ـ من حديث الثقلين غير يتراآى من ظاهره ، وعلي أن أبدي رأيي وليس علي أن يقبله كل من وعاه ـ يقول صلى اله عليه وآله لأمته موعداً لها ببقاء ملته حتى يقوم الناس لرب العالمين ، غير مبال بما يكنونه في صدورهم من إنتهاز الفرصة والتحفز للوثبة لمحو دينه ، واستئصال(1) شأفة ذريته انتقاماً منه بما فعل بهم ، وقد قرأ ذلك كله على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم ، وفعل كل امرئ كاشف عن نيته ، وهو صلى الله عليه وآله وسلم ميزال الرجال ومعيار ملكاتهم ، فقام بين يدي المؤمنين معلناً فيها بالبشارة ، وفي مشهد المنافقين ـ وما أكثرهم ـ مرغماً أنافها صادغاً بالنذارة «إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي» سلاحي دعوتي وقوامي ملتي ، ودعامتي رسالتي للتين قامت عليهما ، وبهما تحديت الجن والأنس فلم يقابلوهما ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً «فانظروا كيف تخلفوني فيهما» فإن اتبعتموها واقتصصتم أثرهما واقتديتم بهما فحظكم أصبتم ، وسعادتكم أدركتم ، وستردون حوضي معها يوم ندعوا كل امة بأمامها ، وستحشرون معي وفي درجتي في الجنة ، لأني أحبهم ، والمرء يحشر مع من أحب ، ألا وأنهما لا يوردانكم الى الضلالة ولا ينتهيان بكم الى غواية «ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا» وإن خالفتموها ـ ولا بد أن تخالفوهما ـ فإني أتحداكم بهما بعدي كما تحديتكم بهما في حياتي وسيعضد أحدهما الآخر ويسانده وسيبقيان سلاحاً لدعوتي وسيبقى ديني قائماً بهما لان علة الحدوث هي علة البقاء واذا تساندا فلن يثلم غربهما(2) وسيفعلان مفعولهما ولن يضيرهم خذلانكم

(1) مثل يضرب لإزالة الشئ من أصله ومعناها الافرادي القرحة في اسفل القدم / المؤلف .
(2) : غربهما : حدهما / المؤلف .
سياسة الحسين 135

لهم وقد أوحى الله إلي وأن يريدوا خيانتك في علي فلن يقبلوه وصياً لك فقد خانوا الله من قبل فيك فلم يقبلوك نبياً ورسولاً له فأمكن منهم وتمت رسالتك وكمل دينك ولم يغنهم مكرهم وخيانتهم شيئاً ، فإذا قدرتم أن تأتوا بمثل القرآن في فصاحته قدرتم أن تقابلوا علي بن أبي طالب في شجاعته ، وإذا كان في وسعكم أن تأتوا بعشر سور مثله مفتريات وسعكم أن تكيدوا بعده عشرةً من الأئمة الهداة ، وإن أمكنكم أن تأتوا بسورة من مثله ، أمكنكم أن تنكروا البقية الباقية ، والحجة الممتدة الأمد من أهله ، وإلا وقع الافتراق بين الثقلين ، ولم يكونا ـ وحاشاهما ـ عدلين .
ودليلنا من القرآن على أن النبي تحدى امته بأهل بيته من بعده كما تحداها بالقرآن الى يوم يقوم الأشهاد قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، أذلةً على المؤمنين أعزة على الكافرين يقاتلون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم»(1) فعن أمير المؤمنين أنه قال يوم الجمل «والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم»(2) فإن فقه الآية الشريفة بإنضمام تفسيرها عمن أسند اليه الله ورسوله تفسير القرآن المؤكد بهذا القسم العظيم ، مع ما يكتنفها من أحوال وملابسات وتعقيبها ـ بلا فصل ـ باختها اية الولاء « إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون»(3) .
هذه الأشياء ترشدنا الى امور :
1 ـ أن النبي تحدى الأمة بأهل بيته حتى من بعده وأنهم هم الغالبون إذا اقتتلوا معهم .

(1) سورة المائدة / 54 .
(2) انظر تفسير الصافي ج 2 ص 43 .
(3) سورة المائدة / 55 .
سياسة الحسين 136


2 ـ أن حروب أمير المؤمنين عليه السلام كانت واجبة عليها لهذا التهديد والوعيد .
3 ـ أن حكم من قام بالسيف من بعد أمير المؤمنين ممن حمل عهد الله العظيم أن يحفظ دين الله ويعادل كتاب الله كولديه الحسين والمهدي المنتظر فإن حكمهما حكم أبيهما أمير المؤمنين في كون نهضتهما توعد بهما جدهما امته ، وأن لهما الغلبة وعلى عدوهما الدبرة وسوء العاقبة ، لأن حكم الأمثال فيهما يجوز وما لا يجوز واحد .
4 ـ أن كل من خالفهم وخذلهم فهو مرتد عن الدين خارج عن ربقة الإسلام والإيمان ، لأن أثافي(1) الإسلام ثلاث لا اثنان .
5 ـ أن الله أخبرهم بهذا الإنقلاب الذي وقع نبيه وأنذرهم سوء مغبته ، ففعلوها والعهد قريب ، والجرح لما يندمل .
6 ـ أن من أوجب الله عليه القيام بالسيف لإرتداد أهل عصره بمخالفته لا بد أن يمده الله من لدنه بقوة عظيمة وبأس شديد وقدرة يتمكن بها من الغلبة والإنتصار على المجاهدين له والمتظاهرين عليه ولو كانوا عرب الأنس وعجمها ، بل ولو كانوا لاجن والأنس ، ووجود الأنصار ليس شرطاً لهذا التكليف والنهوض بهذا العبء الثقيل ، بل الشرط هو إذن الله لهم حيث تقتضيه مصلحة الظروف ، وقد عرفنا هذا واضحاً لا سترة عليه من عزم النبي على لقاء جيش أبي سفيان في بدر الموعد ، ولو خذله المهاجرون والأنصار ، ومن اية اصحاب الجمل فإن القوم الذين يحبهم الله ويحبونه هم المعنيون في حديث النبي في وقعة خيبر «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله»(2) فتحقق ذلك في علي وتدعم لنا ذلك بل ترفع كل شبهة عن أذهاننا اية التصدق(3) التي أرادت

(1) الاثافي : جمع اثيفة وهي الحجر توضع عليه القدر ودخيلها (المنصبة) / المؤلف .
(2) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص56 ، وتاريخ الطبري ج 2 ص 300 .
(3) وهي الآية الولاء في أولها والتصدق في الخاتم وهو راكع في آخرها / المؤلف .
سياسة الحسين 137

من الجمع واحد الناس علياً حيث يقول«إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون»(1) فإن المراد بكلتا الآيتين واحد الناس علي وإن كان اشير اليه بصيغة الجمع ويؤيد مدعانا قوله «لو تظاهرت العرب والعجم على قتالي لم أولها الدبر» وحديث إرادة زين العابدين القيام على بني امية بالسيف حتى يمحوهم على شدة مرضه إذا صمموا على قتله كما سنشير إليه .
ودليلنا من السنة ما صح في كثير من الأخبار عن عمار بن ياسر وأضرابه أنهم سمعوا رسول الله كثيراً ما يقول لعلي (أنت قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)(2) ، وما قاتل الطوائف الثلاث إلا بأمر من النبي لأنهم لما خالفوه ارتدوا وانقلبوا على أعقابهم فوجب عليه ردهم لدين الإسلام ، راغمين ، ويدل على ما قلنا دلالةً واضحةً ما يروى أن أحد الخلفاء خطب في ملأ من المهاجرين والأنصار ، فقال ـ والله أعلم بنيته ـ (أترون لو أن أحد خلفاء المسلمين قام بالأمر ،وترك العرب في عرتها ومنعتها وقوة دولتها ، ولكنه دعاها الى الرجوع لدين آبائها وعبادة أصنامها ، فهل يستطيع من ذلك أم يجد له معارضاً يمنعه ويحول بينه وبين ما أراد) وكان ذلك بمحضر ومسمع من حامية الإسلام ونصيره المعد لحفظه أمير المؤمنين ، فعرف المغزى وفهم الرمز والمعنى ، وعلم أنه هو المعني بالسؤال ، والمطلوب منه الجواب فانبرى لمساجلته وانقتل لمناضلته وقال : «لو جعانا الى ذلك لرددناه الى لاإسلام على رغم أنفه بالسيف الذي أدخلناه به كارهاً» فاسرسحواً في ارتغاء وقال له احسنت يا أبا الحسن .
وتحقيقاً لقول الرسول وطرداً لقوله الذي هو عين اليقين انتقلت الشجاعة الكامنة في نفس محمد الطاهرة في شخص علي الى حفيدهما الحسن المجتبى مع انتقال عهد الله اليه وتحمل أعباء الإمامة ومعادلة كتاب الله المجيد الذي لا

(1) سورة المائدة / 55 .
(2) تأريخ بغداد ج 13 ص 186 .
سياسة الحسين 138

يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، وليس صلحه لمعاوية يؤذن بعجزه عن المقاومة وضعفه عن منازلة الأقران(1) ، فقد صالح جده قريشاً لمصلحة اقتضاها ظرفها وألزم بها وقتها والأشياء مرهونة بأوقاتها وكان له الظفر عليها وكان الفوز والغلبة في جانبه دونها ، وهو هو محمد الذي لم يكف بأسه عنها في الدعوة الى الحق حين كان بين ظهرانيها في مكة على قلة من الأعوان والأنصار ، وهو هو محمد الذي طالما حطم اصنامهم وسفه على عبادتها أحلامهم ولم يبال بقوتهم حيث أخبرهم أن آباءهم دخلوا النار بعبادة هذه التماثيل والأحجار وهو هو محمد الذي لم يخر له عزم ولم تضعف له إرادة والذي عزم أن يلقي وحده جيش أبي سفيان في بدر الموعد حين ما رأى أصحابه يتلكأون ، وقد خار عزمهم إذ «قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم»(2) ولما رأوه مصمماً على لقاء الجيش وحده ذاب كل تردد في نفوسهم «وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء»(3) وهو هو محمد الذي أوحى اليه ربه يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ، وهو هو محمد الذي أوحى اليه إلهه «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله» وذلك في بدر القتال وكانت له عاقبة الفوز ، وعلى عدوه المغرور بعدده وعدته الذي لم ينجح للسلم الدبرة القاضية الهزيمة القبيحة والعاقبة للمتقين .
أرأيت كيف انتهينا بك الى امر الحسين أرأيت كيف أوقفناك ـ حسب استطاعتنا ـ على جيلة حال الحسين ، أآمنت أن الشجاعة التي أشدنا بذكرها انتقلت إليه حين تحمل عن أخيه ، الحسن الزكي عهد الله العظيم ، أصدقت أنه لما

(1) كلا والف كلا بل لاسباب كثيرة حملته على ان يصالح معاوية بن ابي سفيان وقد ذكر تلك الاسباب جل من كتب عنه عليه السلام واحيلك ـ ان احببت الوقوف عليها ـ على كتاب حياة الامام الحسن للعلامة الشيخ باقر القرشي ج 2 ص 115 حيث بسط الكلام فيها فراجع .
(2) سورة آل عمران / 173 .
(3) سورة آل عمران / 174 .
(4) سورة الأنفال / 61 .
سياسة الحسين 139

صار عدل القرآن ساواه في تحدي الجن والأنس على أن يأتوا بمثله في صفاته العليا ونعوته الحسنى ، فلم يأتوا ولن يأتوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، أعلمت أنه لو تنازل لهم عن ذلك وقال فاتوا بعشر سنين مثله فقط ، وهي التي قضاها بعد أخيه الحسن واستطردها في صلح معاوية لعجزوا كما يعجزون أن يأتوا بعشر سور مثل القرآن مفتريات ، أايقنت أنهم كما يعجزون عن معارضة القرآن بأن يأتوا بسورة من مثله يعجزون عن الحسين عدل القرآن أن يأتوا بواحدة من صفاته ويضعفون عن مقاومتها وهي شجاعته الموروثة عن محمد وعلي ، وقد كان لها مجمع البحرين ، إي والله لا يأتون بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً .
رآى الحسين أن صلح أخيه الحسن عليه السلام مع معاوية قد انتهى أجله ، ورآى معاوية لم يف بشئ من شروط الصلح وأعظم ما أتى به من نقض الشروط استخلافه على الأمة نغله يزيد ليرد الأمة على أعقابها كفاراً كفر الجاهلية الأولى فكيف يسكت الحسين ويلقي حبل الامة على غاربها وهو حامل عهد الله ألا يوالوا امة جده نصراً ، ولا يغفل عن حياطتها طرفة عين ، مع أنه يجد في نفسه الكفاءة على دحض من دين الله أفواجاً وهو يقدر أن يمسك عليها دينها ويعيد عليها جدة إيمانها ، وكيف يقعد في داره اعترافاً بالضعف وإعلاناً بالعجز ، وهو يرى عدله القرآن يتحدى العالم بعد على أن يأتوا بمثله فلم يأتوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، إذن فأين المادلة المنوه بها بني الثقلين ، وكيف لم يقع الإفتراق بينهما قبل ورودهما الحوض ، كما يعلن به جده المصطفى في امته بملئ فمه ، وملئ أسماعها وهل هذا إلا إختلاق .
والأمر الاعجب والخطب الأفظع أن يطلبوا منه البيعة ، وهم يعلمون أنه لخلافتهم بالمرصاد وقد نوه بذلك الخليفة الهالك ـ وأهون به هالكاً ـ للخليفة الجديد الذي جاء يحرق الارم(1) على الإسلام ونبي الإسلام ، إذ يقول بملئ فمه

(1) الارم : الاضراس والتحريق حك بعضها ببعض وهذا مثل يضرب لشدة الغيظ / المؤلف .
سياسة الحسين 140

وفي ملاء من حشده :
لست من خندف إن لم أنتقم من بني احمد ما كان فعل(1)

ثم لا يقنعون بالبيعة ، بل يقترحون على الحسين النزول على حكمهم غروراً بكثرة جنودهم وظناً منهم أن الحسين قد لانت قناته بذلك وعجم بالضيم عوده كأن لم يعلموا أن شجاعة محمد وعلي انحصرت فيه ، وعادت حبوةً اليه ، واستوت على قلبه فامتلأ بها ، كما استوى درع الرسول على جسمه فامتلأت به فأجابهم بصرخة تملأ اذن الدهر وتدوي في مسمع الأبد «والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد» وان لشجاعة محمد وعلي ان تتجلى للأبصار وتظهر لأعين الناظرين ظهور الشمس بعد طول استتارها ، حتى تكون في رابعة نهارها ، فلا تعجب إذا حدثك عنه واصفه(2) الذي رآى فعله بعيني رأسه حيث يقول «ما رأيت مكثوراً قط قتل اصحابه وولده وإخوته أربط جأشاً من الحسين ، وإن كانت الرجال لتشد عليه وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً فيشد عليها فينكشفون من بين يديه انكشاف المعزى إذا شد عليها الذئب(3)
يكر فيهم بماضيه فيهزمهم وهم ثلاثون ألفاً وهو منفرد(4)
وما سمعت اذني ولا اذن سامع بأثبت منه في اللقا وهو واحد

ولا بدع إذا أخبر الرواة عنه أنه كان كلما اشتدت الخطوب أشرق وجهه وتهلل للقائها فرحاً وجذلاً .
وهب أن الخطوب به أحاطت فإن السيف يمضي بالصقال(5)


(1) من ابيات تمثل بها يزيد بن معاوية وستأتي الاشارة اليها .
(2) وهو كما في كتب المقاتل عبد الله بن عمار بن يغوث .
(3) مثير الاحزان لابن نما ص 72 .
(4) من قصيدة عامرة للمغفور له للسيد رضا الموسوي الهندي رحمه الله مطلعها :
أيان تنجز يا دهر ما تعد قد عشرت فيك آمالي ولا تلد
(5) لمؤلف الكتاب من قصيدة مطلعها :
كذاك تفاوتت همم الرجال ببعضهم الى طلب المعالي
سياسة الحسين 141


وهذه شقيقة مجده زينب تقول في مجلس عدوه ابن زياد «إن أخي ما ترك داراً بالكوفة إلا وفيها نائح أو نائحة»(1) فلا يستطيع لكلامها تنفيذاً ، ولا لحديثها تكذيباً ولو قدر عدو الله لفعل ، بل لو استطاع أن يكذب فيرد مقالتها لما ترك ذلك ، وكيف يستطيع تكذيبها وهو يسمع صراخ الكوفة ونياحتها على قتلاها بملئ مسامعه ويرى ثكلاها ملأ عينيه ولو أنصف لقال لها ـ ولكنا نحن نقول لها ـ صدقت يا عقيلة الرسالة ومخدرة بيت النبوة ، إن أخاك يحمل في قلبه شجاعة محمد وعلي ، وهو يتحدى بها الجن والأنس بل العالم جميعاً ، فضلاً عن الكوفة ، وما قدر الكوفة وجنودها في جنب شجاعته التي حان ظهورها وآن بروزها وتجليها .
ولقد كان ابن سعد أحرص الناس على قتل الحسين ، لأن ابن زياد ألقى عليه مسؤلية الحرب والقتال ، وأطمعه في ولاية الري ، وقد اقترب الوعد في رأيه أن رآى الحسين فريداً قد قتل جميع أنصاره وحماته ، لذلك غدر وفجر ، وخالف سنة العرب والإسلام ، ولم يبال بسبة الدهر وعار الأعقاب فحض الجيش بأسره أن يحمل على الحسين حملة رجل واحد ، بعد أن أعطاه حق البراز ، بأن يبارزوه واحداً بعد واحد حتى قتل منهم في ذلك ألفاً وخمسمائة في كثير من الروايات(2) فتكاملوا عليه ثلاثين الفاً واردفهم ببقية الجيش وما أكثرها فافترقوا عليه ـ كما أمرهم ابن سعد ـ اربع فرق(3) ، فرقة بالسيوف وفرقة بالرماح ، وفرقة بالسهام ، وفرقة بالحجارة لعله ينجح في واحدة إن أخفق في ثلاث .
فوجهوا نحوه في الحرب أربعةً السيف والسهم والخطي والحجرا


(1) انظر «زينب الكبرى» للعلامة النقدي ص 134 نقلاً عن مقتل بن عصفور وقد ذكر هناك أن زينباً عليها السلام واجهت بهذا الكلام بعض الاوغاد في مجلس يزيد بن معاوية لا كما ذكر المؤلف ولكن لا يمنع انها سلام الله عليها قالته مرتين الاولى في الكوفة والثانية في الشام .
(2) اقول : لسنا بحاجة الى ذكر مثل هذه الارقام التي قد تكون سبباً في اثارة بعض التساؤلات والاشكالات والاخذ والرد كما لا يخفى لذا يتعين علينا ان نذكر ما اصفقت على ذكره الكتب المعتبرة وهو ان الحسين عليه السلام قتل منهم مقتلة عظيمة وكفى .
(3) معالي السبطين ج 2 ص 28 .
سياسة الحسين 142


هذا وقد أحاطت الخطوب أربع فرق على قلبه ، الكبير باطناً كما افترقوا على مقدمه ظاهراً ، فرقة العطش وفرقة فقد الأحبة ، وفرقة الغربة ، وأعظمها وأشجاها فرقة حزنه على دينه الحنيف ، فرآه ابن سعد يحوز الغلبة عليهم ويفوز بنصيب النصر دونهم ، لأنهم كانوا يشدون عليه وهم كالجراد المنتشر ، فيشد عليهم فيهزمون من بين يديه انكشاف المعزى إذا شد عليها الذئب(1) وسيفه يرتل في رقابهم «سيهزم الجمع ويولون الدبر»(2) .
فريداً ماسطا في الجمع إلا وكان النصر حلفاً للفريد(3)

يا لجلال الله يا لعظمة الله ، ماذا يرى ابن سعد وجنوده ، رجل تحيط بقلبه الخطوب وبجسمه الجنود فيضعفون عنه ويقوى جانبه عليهم أمر لم يألفوه وشجاعة لم يحدثهم بها التاريخ حق لابن سعد أن يسمح عينيه ليرى نفسه أفي حلم هو أم في يقظة ، فإن كان في يقضة فليقطع أمله من الحياة فضلاً عن ولاية الري ، فقد بلغ الحق مقطعه وتضعضعت أركان جيشه وتقاعست منكوسةً اعلامه ، فلم يملك نفسه أن ناداه ، اعترافاً بما لأهل البيت من خاصة حباهم الله بها فوق طبيعة البشر «يا حسين اتقاتلنا بالقدرة اللأهوتية» ـ وهي التي تقدمت الإشارة إليها ـ فقال لا بل بالبشرية ، ثم أراد أن يريه القدرة اللاهوتية فمد السيف فأحاط برقاب الجيش كله ، بحيث لو جذبه إليه لم يبق رأس منهم على جسد ، ولما اطمأن ابن سعد أنه كان يقاتلهم بالقوة البشرية انتزع السيف من رقابهم .
حق لإبن سعد أن يظن هذا الظن ، وحق لنا أن نصدق بهذه الرواية ، لأن ابن سعد كان عارفاً بهذا البيت ، وكان يعلم أن الله يمدهم بقدرة فوق مستوى طبيعة البشر في الحرب أو غيرها إذا اقتضتها الحال ومست لها الحاجة ، كما حارب

(1) الملهوف على قتلى الطفوف ص 171 .
(2) سورة القمر / 45 .
(3) من قصيدة لمؤلف الكتاب يرثى بها الحسين عليه السلام مطلعها :
ألا فاستغن بالذكر الحميد عن الدنيا فذا عين الخلود
سياسة الحسين 143

علي بها عفاريت الجن وطواغيتهم تحت الأرض ورجع الى الرسول وسيفه ينطف من دمائهم ، وكما نصر الأنبياء ودحر أعداءهم قبل هبوط روحه الشريفة من عالم الأنوار الى عالم الحس فالمادة ، كما جاء في حديث عرفطة الجني وغيره إذ أراد أن يغرق سفينة نوح فضربه أمير المؤمنين على يده فقطعها .
وبقي الخوف يتوغل في قلب ابن سعد حتى قتل الحسين وهجم العسكر على خليفته وحامل عهد الله من بعده زين العابدين ، فأراد الشمر قتله(1) محترقاً متشدقاً بأن الأمر قد صدر من الأمير ألا نبقى لهذا البيت شعرةً واحدةً ، فدافع عنه ابن سعد بجهده وصد شمراً عن مراده(2) لما وعى عن أهل هذا البيت أنه إذا صمم أهل الكوفة على ذبح زين العابدين قام عليهم بالسيف فحماهم عن آخرهم ، بالقدرة اللهوتية التي ظن أنها ظهرت في حرب الحسين ولم يخل الله أرضه من حجة تصديقاً لقوله تعالى «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً»(3) وتحقيقاً لقول الرسول في ثقليه أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض لذلك كف عنان شمر وامسك بلجام عزيمته ، ولكن عدو الله وعدو الإنسانية أمر بإخراج زين العابدين من الخيمة ، وقال في الحرم والأيتام اكبسوا عليهن الخباء(4) ثم قال سود اله وجهه وقد آمن مكر الله «علي بالنار لاحرق بيوت الظالمين» فأحرقوا الخيام والأطناب وفرت النساء والأطفال هائمةً على وجوهها في البيداء(5) الله أكبر الله أكبر .

* * *



(1) لواعج الاشجان للسيد محسن الامين العاملي ص 194 .
(2) قائلا كما في ج 1 ص 496 من (اعلام الورى) لا تتعرضوا لهذا الغلام المريض . . .
(3) سورة الاسراء / 15 .
(4) الايقاد للسيد محمد علي الشاه عبد العظيمي ص 136 .
(5) اللهوف على قتلى الطفوف ص 180 .
سياسة الحسين 144

ومخدرات من عقائل أحمد هجمت عليها الخيل في أبياتها(1)
كأنها درر من سلكها انحدرت مد سلكها بأكف الرعب محلول(2)

* * *



(1) من قصيدة طويلة تزيد ابياتها على اربعين بيتاً وهي من نظم السيد محمد حسين القزويني المعروف بالكيشوان مطلعها :
لا صبر او تجري على عاداتها خيل تشن على العدى غاراتها
(2) لمؤلف الكتاب الذي تلامسه اناملك وهو من قصيدة مرت الاشارة اليها .
سياسة الحسين 145


لماذا يطلب المبارزة



لقد ورث الحسين شجاعة جده وأبيه ، واستوت على جسده درع الرسول حيث تحمل عهد الإمامة عن أخيه ، فكان إمام العصر وخليفة الزمان ، وكان المثل الكامل في الصفات الحسنى ، وكان نسيج وحده في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، نعم وربك لأن صفات إمام العصر إمام الصفات النبيلة في كل عصر ومصر ، البحر في جنب كرمه قطرة ، والجبل الأشم عند صبره وثباته ذرة ، وسحبان في جنب فصاحته كباقل(1) ، والأسد في مقاومته أجبن من صافر(2) ، لذلك كان يوم الطف كلما تكاثرت الجنود لحربه وقتاله تلقاها بصدره الرحيب وجاشه المطمئن وضميره المرتاح ، وكلما تفاقمت الحوادث وتكاثفت الخطوب أشرق لها وجهه ، وبرقت أساريره ، وزادت الطلاقة في محياه الكريم الوضئ .
تزيد الطلاقة في وجهه إذا ململ الرعب أقرانها(3)

ولكن يحار العقل ويتردد الفكر في شئ واحد جاء به التاريخ من باب إرسال المسلمات ، ولم يتلعثم في نقله لسانه ، ألا وهو طلب الحسين من القوم المبارزة(4) ، فاخذوا يبرزون له واحداً بعد واحد حتى قتل منهم في ذلك خلقاً كثيراً(5) ، وقدر في أكثر الروايات بألف وخمسمائة مبارز ، حتى أقبل الشمر الى ابن سعد ، وقال له «أيها الأمير إن هذا الرجل يفنينا مبارزةً»(6) وأشار عليه بأن

(1) سحبان رجل يضرب المثل بفصاحته ، وباقل رجل يضرب المثل بعيه وفهامته / المؤلف .
(2) الصافر كما في مجمع الامثال ج 1 ص 192 : طائر يتعلق من الشجر برجليه وينكس رأسه خوفاً من ان ينام فيؤخذ فيصفر منكوساً طول ليلته .
(3) من قصيدة لكبير شعراء عصره السيد حيدر الحلي عطر الله تربته مطلعها :
تركت حشاك وسلوانها فخلي حشاي وسلوانها
(4) لاحظ مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 33 .
(5) مقتل الحسين للسيد محمد تقي بحر العلوم ص 438 .
(6) مقتل ابي مخنف ص 140 .
سياسة الحسين 146

يحمل عليه الجيش كله حملة رجل واحد ، فقبل مشورته(1) ، فإن المعترض واقف على ثنية الأعتراض يترصد ثغرة يلج منها الى مقصده وطريقاً يسلكه ليفضي به الى أمله الذي يتوخاه ، فله أن يصرخ بملئ ضدقيه قائلاً إذا كان كتاب الله اليها وحجته عليها بأن يأتوا بمثله فلا يأتون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، فما بال الحسين يمنع من إجتماع جيش الكوفة على قتاله بل لا يستنزل مقاومة الجيش بأسره ، ويعلن بعجزه عن مقابلة الشجعان إذا تكثرت وحداتها ، أم وراء هذه الأمور شئ آخر .
قلنا : ليس وراء هذا الإعتراض شئ واحد وإنما هي أشياء متعددة :
الأول : المبارزة من سنن أهل الحرب والقتال في كل دين وفي كل دور من أدوار الزمن ، وإن استوت الصفوف وتوافقت الجيوش ، فضلاً عما إذا بقي المحارب وحيداً يقابل جيشاً يضم الفيالق ، المنظمة الرايات والبيارق ، وجاء الإسلام فاقر هذه القاعدة ، فمنع في جهاده المقدس أن يعين المبارز من جنوده جندي آخر على قرنه في النزال ما لم ينجده من أصحابه أحد ، وهذا رسول الله في أعرف وقايعه بدر الكبرى لم يخرج لشيبة وعتبة وابنه الوليد إلا عدتهم ثلاثة من بني عفراء(2) ، ولما اقترحوا أن يخرج لهم أكفأهم من قريش ، وقد فهم من لحن خطابهم ومن ملاحظة زهوهم وغرورهم بأنفسهم أنهم لا يرون لأنفسهم اكفاءً إلا بني هاشم أشرف الناس حسباً وأعلاهم نسباً ، فأجابهم الى مسؤلهم وأخرج لهم أعز الناس عليه أخاه علياً وعمه الحمزة وابن عمه عبيدة(3) ، وانزل الله فيهم(4) «هذا خصمان إختصموا في ربهم»(5) وقضى لأوليائه على أعدائه ،

(1) اسرار الشهادة ص 411 .
(2) وهم حسب ما جاء في كتاب المغازي للواقدي ج 1 ص 68 معاذ ومعوذ وعوف .
(3) انظر السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 277 .
(4) كما في تفسير التبيان للشيخ الطوسي ج 7 ص 302 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي