سياسة الحسين 147

فقطع دابر القوم الكافرين ، والحمد لله رب العالمين .
والحسين لما أخرج لجيش الكوفة أنصاره البواسل احاد وثناء(6) لزمهم في سنة القتال أن يبارزوهم كذلك موحد ومثنى دون أن تحمل عليهم كتائب ، أو يقاومهم الجيش بأسره مقانب ولكن بني أمية خرقوا النواميس العربية ، تبعاً للمناهج الدينية ، فأراد الحسين أن ينبههم على غلطهم وغفلتهم ليقلعا عن سوء فعلهم ، وإذا كانوا يرون لمبارزيهم الأول ظهيراً ، وينون أنه سينجدهم إذا حملوا على أفرادهم كتائب ومقانب ، فالآن وقد اسفرت الحرب عن وحدته وتبين لهم خلاء ظهره من معين وظهير لم تبق لهم ولا لمن يريد اصلاح تاريخهم حجةً يتعللون بها ، وكانت كلمة الله العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، وولي الله الغالب المنصور ، وعدوه المغلوب المخذول «ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً »(7) .
الثاني : ما نقل عن العقد الفريد(8) أنه لما خيرهم أن يدعوه يرجع من حيث أتي الى مدينة جده ومسقط رأسه ، أو يسير الى ثغر من ثغور المسلمين ، فيكون له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو يبارزه واحداً بعد واحد ، فأبى عليه القوم هذه الخصال كلها مال معه ثلاثون رجلاً وقالوا «أبن رسول الله يطلب منكم أمراً من ثلاثة أمور فلا تعطونه واحداً منها(9)» نقول فاذا هدى الله بهذا الإقتراح منه ، وبامتناعهم عن إجابته ثلاثين نفساً من امة جده وأنقذهم الله من الضلال ، ودخول النار فكم يكون ربح الحسين عليه السلام عند الله ، وقد سمع قول جده لأبيه«يا علي لأن يهدي الله بك نفساً واحدةً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت(10) إي والله خير من الدنيا وما فيها وهل جآء الحسين إلا هادياً لامة

(5) سورة الحج / 19 .
(6) احاد وثناء وموحد ومثنى : بمعنى واحداً واحداً واثنين اثنين / المؤلف .
(7) سورة النساء / 141 .
(8) العقد الفريد ج 4 ص 379 .
(9) نفس المصدر .
(10) سفينة البحار باب الهاء بعده الدال .
سياسة الحسين 148

جده ، وهل قاتلها إلا على الرشاد وإنقاذها من عذاب الله ، وجده يباهي الأنبياء بامته يوم القيامة ولو بالسقط الواحد فما بالك بثلاثين رجلاً جرى عليهم قلم التكليف .
الثالث : إذا مال معه ثلاثون رجلاً أن لم يعطه القوم واحدةً من ثلاث ، فكان الأولى أن يميل معه ثلاثون ألفاً ، أن منعوه إياها بعد أن منحوه بواحدة منها ، إذا يجب عليهم أن ينتبهوا كما انتبه اولئك الثلثون فيقولوا «ما عدا مما بدا(1)» أتحلون المبارزة ساعة وتحرمونها اخرى ، أليس المؤمنون على شروطهم ، أليس العهد بل الوعد مسئولاً عنه ، أعلى كتاب الله ، أم على سنة رسول الله ، أم على قواعد الحرب ، ونواميس القتال عند العرب تغدرون به ، بعد تلك المبارزة التي اقترحها عليكم فمنحتموه بها وقررتمها معه ، فتحملون عليه هذه الحملة الشعواء ، تفترقون بالحجارة ، وما هو إلا رجل واحد ، دوعوه ويلك تقتله الفرق التبي تحيط بقلبه ، وتتوغل نبراتها في ضمائره ، فرقة العطش ، وفرقة الغربة ، وفرقة فقد الأحبة ، وفرقة حزنه على دينه الحنيف ومبدئه المقدس الذي عاد كرةً تتلاقفها طواغيتكم ، يزيد بعد معاوية ، ومعاوية بعد يزيد ، هذا بعدما ضحى جده محمد بمهجته في إعلاء مناره وبناء كيانه ، ولكن أين المهتدون ، وان اتضحت الطرق ونهجت المسالك ، فانها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور ، فصبر جميل أبا عبد اله والله المستعان على ما يصفون ، يا ابن رسول الله .
يا ابن بنت النبي ضعيت العهد اناس والحافظون قليل(2)

الرابع : لا شك أن الأمر الشخصي الخاص الصادر عن موضوعه الخاص

(1) يقول محمد عبده ان اول من سمعت منه هذه الكلمة هو اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام .
انظر شرحه على النهج الشريف ج 1 ص 77 .
(2) من قصيدة عصماء للشريف الرضي رحمه اله مطلعها :
راحل انت والليالي نزول ومضر بك البقاء الطويل
سياسة الحسين 149

الحقيقي أبلغ وأتم في كثير من الوجوه والأعتبارات من الأمر الكلي العام الصادر عن موضوعه الكلي ، ولهذا يقدم عليه ويخصصه ، بل الكلي العام كلما قلت أفراده ، وإن بقي أضافياً ولكنه قرب من الخاص كان أبلغ وأتم ، وأنظر الى أمير المؤمنين لما اعترف الخوارج كلهم بقتل عامله عبد الله بن خباب بن الأرث(1) ، وكانوا كلتةً(2) واحدةً أمرهم أن ينقسموا كتيبتين ، فاعترفت كل كتيبة بقتله ، ثم قسم كل واحدة منهما إثنين فاعترفا بقتله ، وما زال يقسم كتائب ، فيعترفون بتقله ، حتى لم تبق شبهة في العرف في عدم إندكاك صوت من أصواتهم ضمن اصوات أصحابه ، فعندها قال «لو اعترف أهل الأرض كلهم بقتل عبد الله ـ أي على هذه الشاكلة من التخصيص ـ لقتلهم عن آخرهم(3)» وكا غرضه من هذا التقرير بعد تقسيمهم أن لا يعتذر منهم واحد بأن لا صوت لي في هذا الإعتراف ، وقد اندك إنكاري السكوتي أو القولي ضمن اصوات اصحابي ، فاشتبه الأمر حتى أدى الحال في وقوفي معهم الى قتلي بغير حجة واضحة ولا سلطان مبين ، وكذلك ، الأمر في تقرير الشهود في الدعاوي بعد تفريقهم وتأكيد البيعة على المبايعين واحداً بعد واحد ، الى كثير من الأمثلة والشواهد .
الخامس : من كان يظن يا ترى أن ينتهي الصلف وقلة الحياة بأفراد الجيش واحاد العسكر وأشخاصه كلهم أن يريدون وضع سلاحهم بسيدهم الحسين ، من دون تحفظ ولا استحياء ، وهو ريحانة نبيهم وثمرة قلب بضعة رسولهم ، اف لهم ولأمهم الويل والهبل .
ما كان أوقحها صبيحة قابلت بالبيض جبهته تريق دماءها(4)


(1) من اصحاب رسول الله (ص) فتله وزوجته الخوارج وذلك سنة 37 هجرية .
انظر ترجمته في اسد الغابة لابن الاثير ج 2 ص 584 .
(2) الكتلة : من الطين ونحوه القطعة المجتمعة المتلبدة وتستعمل في الناس مجازاً / المؤلف .
(3) انظر تنقيح المقال ج 2 ص 180 .
(4) من قصيدة تزيد ابياتها على ثمانين بيتاً للمغفور له السيد حيدر الحلي مطلعها :
كم ذا تطارح في منى ورقاءها خفض عليك فليس داؤك داءها
سياسة الحسين 150

هذا مهلل أخو كليب بن ربيعة لما أراد عبداه قتله بوضع سلاحها فيه ، قال لهما «أتضعان سلاحكما بسيدكما ، ولكني مللت الحياة وسئمت العيش ، فخذا البيضة من رأسي تبلغا قصدكما من قتلي» وعندها ملكهما الخجل من سيدهما ، ورجعا عن وضع سلاحهما فيه ، ولكنهما انتهيا الى امره في كيفية قتله ، والحسين والله أجل قدراً وأعظم هيبةً وأملأ للعين من مهلل بن ربيعة واخيه صاحب الحمى المضروب به المثل .
السادس : لقد كان المظنون بل المتقين بهؤلاء الذين حظوا حظوة خاصةً بلقاء سيد شباب أهل الجنة وتشرفوا برؤية وجهه المبارك الميمون الذي يذكرهم برؤية وجه الرسول يمتلك لقاؤه مشاعرهم وتستولي رؤية وجهه على قلوبهم وأفئدتهم ، فتميل بها الى الحق والهدى وتخرجهم من الظلمات الى النور ، لا سيما إذا انضم الى ذلك ما تحلى به من ثياب رسول الله وسلاحه ومركبه ، فتجلى بوجه رسول الله ، وتحلى بحلية رسول الله ، وما شفعه به من نصوص أثرية فيه ، عن حامل رسالة السمآة ، واستشهد على مدعاه أهل الصدق والحفاظ من المعمرين(1) ، فإنه لا تزال الحياة تحتفظ بالكثير ممن سمعوا ذلك منه ، وحفظوا عنه ولقد اتفق ذلك للكثير من الناس معه ومع سلفه الكريم الصالح ، وإن زعمت أم المؤمنين عائشة أن سحر علي بن أبي طالب عظيم(2) ، وأن أولاده يحذرون حذوه ، حيث انتخبت من عسكرها رجلاً شديد العداوة لعلي بن أبي طالب ، لتبعث معه برسالتها اليه وأوصته أن لا يغلبه بسحره ، ولكنه سرعان ما بهرته آية الحق وجذبه مغناطيس الرشد ، فعاد محباً حميماً بعد أن كان عدواً صميماً .

(1) يشير رحمه الله الى ما قاله الامام الحسين عليه السلام في خطبته التي القاها يوم العاشر على اولئك الارجاس الانجاس الذين طلقوا الدين ثلاثاً جاء فيها بعد كلام (. . . أو لم يبلغكم قول رسول الله لي ولاخي هذان سيدا شباب اهل الجنة . . . فإن صدقتموني فيما اقول وهو الحق . . . وان كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك اخبركم سلوا جابر بن عبد الله الانصاري وابا سعيد الخدري وسهل . . .) .
(2) ـ وقد زعم ذلك غيرها من مبضغي امير المؤمنين عليه السلام .
انظر اثباة الهداة للحر العاملي ج 2 ص 400 .
سياسة الحسين 151

إنما هذه القلوب حديد وجميل الاراء مغناطيس

فقالت ما بعثنا الى ابن ابي طالب أحداً إلا سحره ، وهكذا الشامي الذي شتم الحسن أول الأمر واجترأ على قدس أبيه ، ثم قال له في آخر أمره «لقد جئت من الشام ، وما على وجه الأرض أبغض إلي منك ، وها أنا أرجع الى بلادي ، وما على وجه الأرض أحب الي منك»(1) وكيف يستبعد ذلك على أهل البيت وهم ورثة محمد الذي اتفق له ذلك كثيراً ، أليس يقول واصفه من رأه بديهةً هابه ، ومن خالطه أحبه ، يشير الى جمال خلقه وجميل خلقه ، وهو وربك افضل عند الله من موسى الذي يقول الله «وألقيت عليك محبةً مني»(2) وبطل روايتنا الحسين منه عليه السلام كما يقول «حسين مني وأنا من حسين»(3) وهذه امه تقول في ترقيصه ، وقلبها مفعم بالسرور طافح بالبشر ، إذ تتتوسم من مشابهة شمائله لشمائل أبيها أنه سيعيد دور أبيها المجيد وعصره عصر النور الذهبي ، فتقول له :
أنت شبيه بأبي لست شبيهاً بعلي(4)

فمن جذبه لقاؤه الخاص الى الدين ، وملكته أخلاقه وهيبته حتى أدت به الى الرشد رسول بن سعد الخزيمي الذي أرسله ابن سعد اليه ، وقال له إمض الى الحسين ، وقل له ما الذي جاء بك الينا ، واقدمك علينا ، فاقبل حتى وقف بإزاء الحسين فناداه ، فقال الحسين اتعرفون هذا الرجل ، فقالوا هذا رجل فيه الخير إلا

(1) روي أن رجلاً شامياً رأى الامام راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يرد فلما فرغ اقبل الحسن فلم عليه وضحك وقال (أيها الشيخ اظنك غريباً ولعلك شبهت فلو استعتبتنا اعتبناك ولو سألتنا اعطيناك ولو استرشتنا ارشدناك وان كنت جائعاً اشبعناك وان كنت عرياناً كسوناك وان كنت محتاجاً اغنيناك وان كنت طريداً آويناك وان كان لك حاجة قضيناها لك فلو حركت رحلك الينا وكنت ضيفنا الى وقت ارتحالك كان اعود عليك لأن لنا موضعاً رحباًو جاهاً عريضاً مالاً كثيراً) .
(فلما سمع الرجل كلامه عليه اسلام بكى ثم قال اشهد انك خليفة الله في ارضه الله اعلم حيث يجعل رسالته لقد كنت انت وابوك ابغض خلق الله الى والآن انت احب خلق الله الي . . .) .
انظر اخلاق اهل البيت للعلامة السيد مهدي الصدر ص 39 .
(2) سورة طه / 39 .
(3) اسد الغابة لابن الاثير ج 2 ص 23 .
(4) العوالم للشيخ عبد الله البحراني ج 17 ص 29 .
سياسة الحسين 152

أنه شهد هذا الموضع ، فقال سلوه ما يريد ، فقال اريد الدخول على الحسين ، فقال له زهير ألق سلاحك وادخل ، فقال حباً وكرامة ، ثم ألقى سلاحه ودخل عليه ، فقبل يديه ورجليه ، فقال يا مولاي ما الذي جآء بك الينا ، وأقدمك علينا ، فقال عليه السلام كتبكم ، فقال الذين كاتبوك هم اليوم من خواص ابن زيادفقال إرجع الى صاحبك وأخبره بذلك ، فقال يا مولاي من الذي يختار النار على الجنة ، فوالله ما افارقك حتى ألقى حمامي بين يديك ، فقال له الحسين واصلك الله كما واصلتنا بنفسك ، ثم اقام عنده حتى قتل بين يديه ، فإن الله لما أراد هدايته ساق له التوفيق بأن يحظى هذه الخطوة الخاصة بلقاء سيد الشهداء ، وإذا أراد الله شيئاً يسر أسبابه ، ولو لم يوفق للقائه لم يستضئ بنور الرشد والهدى إلا ما شاء الله .
السابع : إننا والله نعجب كثيراً كيف لم يستول الخوف على اولئك الذين ينتدبون لمبارزته بآحادهم ، وهم يرون الجيش بكامله قد عجز عن مقاومته ، فضلاً عن شركائهم في المبارزة الذين تقدموهم ، فقتلوا بني أيديهم ، ويلهم أليس لهم بصائر ولا ابصار .
هم اجتمعوا فاعياهم فأنى تقوم له مبارزة الرجال(1)

ألم تر الشجعان تتقهقهر عن مصرعه كلما أقدمت على ذبحه وهو صريع لا حراك به ، ولكنه ما فتح عينيه في وجه أحدهم إلا ارتعدت فرائصه(2) ورمى السيف من يده جنباً وخوراً ، وولى هارباً يعتذر لمن لقيه أنه قد فتح عينيه في وجهي ، فاشبهتا عيني جده رسول الله صلى الله عليه وآله .
فما أجلت الحرب عن مثله صريعاً يجبن شجعانها
صريعاً متى عاينته الكماة يختطف الرعب ألوانها(3)
وهو فتىً تغنيه عن سيفه كرات عينيه إذا ما رنا(4)


(1) من قصيدة لمؤلف الكتاب رضي الله عنه وتقدمت الاشارة اليها .
(2) انظر الارشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 112 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 36 .
(3) من قصيدة لشاعر اهل البيت السيد حيدر الحلي وقد مرت الاشارة اليها آنفاً .
للشاعر المبدع السيد جعفر الحلي رحمه الله من قصيدته التي رثى بها الامام الحسين عليه السلام ومطلعها :
في طلب العز يهون الفنا ولا يروم العز إلا انا
سياسة الحسين 153

الثامن : نقل عن زين العابدين أنه كان يرى أباه أرواح العالم فداه يكف بأسه في الحرب عن الكثير ممن يعترض له في القتال ويقصد غيره فيقتله ، فيعجب من ذلك إذ الحكيم من يضع الأشياء في مواضعها ، ولما رجعت له الإمامة وعصبه الله بتاج الخلافة ، وتحمل عهد الله علم السر في ذلك ، وأن الذين كف بأسه عنهم كان في أصلابهم ولو الى يوم القيامة ودائع سيرعف بهم الزمان فينتحلون مودتهم ويحشرون معهم ، بخلاف الذين يقصدهم بسيفه فيقتلهم(1) ، معم «يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي» (2) نقول فالمبارز للحسين إن رأى في صلبه وديعته هداه وكفى ضربته التي جاء مستسلماً لها ومن عليه بحياة جديدة ، وإن لم يأت التاريخ لواحد من مبارزيه من هذا القبيل ، بل كان ذلك في الحملة الكلية ويوم رتل سيفه في رقاب الجيش وجمهرة العسكر «يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون»(3)وإن لم يكن المبارز في صلبه أحد من المؤمنين لم يتكلف الحسين طلبه ، بل يكون هو الذي طلب القتل بسيف الحسين ، وغيره في ذلك الوقت كالمسالم الطالب للحياد ، وقد مهد الله لجده قلبه قاعدة الجنوح للسلم مهما جنح العدو ، ولو كان الظفر له على عدوه فأوحى اليه «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله»(4) .
التاسع : أن المبارزة تدعوا الى طول العمر في الحياة ، وطول العمر في طاعة الله من أمثال الحسين محبوب ، إذ فيه ترتفع الدرجات وتتضاعف الحسنات ، لأنه إذ مات ابن آدم انقطع عمله ، والدنيا مزرعة الآخرة ، وكلما كثر الزرع الطيب زاد

(1)قال الامام زين العابدين عليه السلام ما نصه (رأيت كافراً وقد ضرب في خاصرة ابن برمحه فلم يقتله ابي فلما انتقلت الامامة الي عرفت ان ذلك الكافر في صلبه من يحبنا اهل البيت) .
انظر اسرار الشهادة للفاضل الدربندي ص 411 .
(2) سورة الروم / 19 .
(3) سورة الدخان / 16 .
(4) سورة الانفال / 61 .
سياسة الحسين 154

ابتهاج صاحبه وتضاعف سرور مجتنيه ، ولقد مات أحد المسلمين في عهد حامل الرساله الخالدة المقدسة ، فقاسوه في الثواب برجل مات من المسلمين قبله بسنتين ، فلم يرتض النبي هذا القياس منهم ، بل قال لهم فأين عبادة هذه السنتين التي تأخر بها عن صاحبه ، وإذا ثبت أن الجن والإنس والملائكة لم يحصوا ثواب نفس من أنفاس أبيه ليلة مبيته على فراش رسول الله ، فكيف يحصى ثواب الحسين في أنفاسه التي مددتها المبارزة ، وهو يجاهد في سبيل الله وبقي بنفسه عن دين رسول الله .
العاشر : لعل الحسين أراد بهذه المماهلة أن يثوب القوم للرشد ويسلكوا معه سنن الهدى ، كلما طال دعاؤه لهم ، فإن النفوس السامية لا تنقطع حبال أملها التي تربطها بنجاح دعوتها الى آخر حدود الإمكان ، وهو ابن من قال لملائكة العذاب ، وقد أرادوا تعجيل الإنتقام والثأر من قومه الذين كذبوه وأرادوا قتله «دعوني وقومي فإنهم لا يعلمون» فشكر الله سعيه وحقق له أمله ، وإذا بأولئك الأعداء الألداء الذين كانوا يحرصون على قتله أشد الحرص يفدون أنفسهم دون جسده ودماءهم ومهجهم دون دينه الحق ومبدئه المقدس ، كما أن الحسين أرواحنا فداه أراد طول الإملاء والاستدراج لمن أصم الله سمعه وختم على قلبه ، فلم يفلح ولم يصغ لنداء الهدى والرشاد ، كما قال تعالى «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملى لهم أن كيدي متين»(1) .
الحادي عشر : لعله بهذه المماهلة كان ينتظر المدد الموعود به من اطراف المملكة الإسلامية ، ليفوز بنصرته ، وليخطوا السعيدة بالإلتفاف تحت رايته ،كابن مسعود النهشلي وجيشه الكثيف البصري وكل من ستبلغه دعوته التي بعث بها رسله في طريقه الى الكوفة ، ومن يدرينا أنه بلغها الكثير منهم في ظرف هذه المماهلة والتأني ، كسعيد البصري التميمي ـ إن صحت الرواية ـ وكأن ابن زياد وقائده ابن سعد قد ادركا غرضه من طلب المماهلة والتأني بكل وجه ،

(1) سورة الأعراف / 182 ـ 183 .
سياسة الحسين 155

فناقضاه من كل وجه ، حتى استحث ابن زياد قائده على مناجزته الحرب ، إذ العجلة فرصة العجزة ، وأراد ابن سعد تنفيذ أمره عصر اليوم التاسع(1) ، ولما طلب الحسين على يد أخيه العباس أن يؤجلهم تلك العشية ، ليصلوا لربهم تلك الليلة(2) لم يجب ابن سعد (لع) إلا بعد جهد جهيد ، بعد أن توجه له رؤساء عسكره ، وعلى رأسهم شبث بن ربعي ، فأجاب راغماً(3) ، ولكنه زاد على أميره في الطين بلة ولم يخش سبة الدهر وعار الأبد ، فغدر وفجر ونقض عهده في إعطائه للحسين عليه السلام حق البراز الواجب عليه إعطاؤه حتى عند الجاهلية وهمجيتها ، فأمر الجيش بأسره أن ينقسموا قسمين ، ليفترق عليه ثلاثون ألفاً ، فرقة بالسهام ، وفرقة بالسيوف ، وفرقة بالرماح ، وفرقة بالحجارة(4) ، وأردفهم بالقسم الثاني ، وهو الكثرة الهائلة ، فأحاطوا به من كل جانب .
فـكـان إذا أصـابـتـه ســهــام تكـسـرت الـنـصال على النصال
دأبـه الـذب الى أن شب في القلب الأوام وحكى جثمانه القنفذ من رشـق السهام
وتوالي الطعن والضرب على الليث الهمام وعراه من نزيف الدم ضعف الساعدين(5)

حتى اغمي عليه ـ وا سيداه ـ من كثرة نزف الدماء ، فاراد أبو الحتوف أن يختبره أحي هو أم ميتب ، فأخذ حجراً من الأرض ، فلاح له ضياء جبهته كالمصباح في ظلمة النقع وليل القتام ، لأنها موضع شفاه الرسول إلا قبله ، فصكه فيه(6) ـ شلت يمينه ولحقتها شماله ـ أرأيت زجاجة المصباح إذا صكها الحجر الصليب فانتبه ـ بأبي هو وأمي ـ من شدة الضربة ، وإذا بالدم يلقي حجاباً كثيفاً أحمر بينه وبي حرمه ، فرفع ثوبه ليسمح الدم عن جبهته ويحيط حرمه بعين رعايته ، ، وعندها سطع لسنان بن أني النخعي بياض الموضع الثاني لتقبيل

(1) انظر منتهى الامال ج 1 ص 643 .
(2) الارشاد ج 2 ص 90 .
(3) الملهوف على قتلى الطفوف ص 150 .
(4) الايقاد ص 131 .
(5) للشيخ حسن الدمستاني البحراني المتوفى سنة 1181 هجرية .
(6) انظر الملهوف على قتلى الطفوف ص 172 .
سياسة الحسين 156

رسول الله من صدر الحسين ، فمكن في كبد قوسه المشومة سهماً أصاب قلب الرسول وخرق فؤاد الوصي المرتضى والزهراء البتول ، وكان محدداً مسموماً ذا ثلاث شعب(1) .
فانبرت نبلة فشلت يدا رجس رماها وكف علج براها
فهوى الأخشب الأشم ، فماجت نقطة الكون أرضها وشماها
ومكن في حشاه السهم رجس
كأن به رمى قلب الوجود(2)

وأخذ بنو أمية يبارزون من جسد الحسين عليه السلام المواضع الخاصة لتقبيل الرسول صلى الله عليه وآله فمكن الشمر(3) سيفه في منحر الحسين بعد أن تربع على صدره المعظم(4) «وما هو صدر بل خزانة توحيد» وقرع يزيد بمحضرته ثغر الحسين(5) الذي طالما كان يترشفه الرسول ويمص لعابه بفمه وجآء مروان يرنح أعطافه ويشمت به ، إذ لم يقبل مشورته في أول بيعة يزيد ، فيقول فض الله فاه ـ وهو يقلب رأس الحسين (عليه السلام) بيديه ـ ألا شلت يداه ـ :
يا حبذا بردك في اليدين ولونك الأحمر في الخدين
كأنما حفت بوردتين شفيت صدري من دم الحسين(6)


(1) الملهوف على قتلى الطفوف ص 172 .
(2) من قصيدة للمؤلف طاب ثراه وقد اشرنا اليها آنفاً .
(3) هو الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن عليه لعنة الله ولعنة اللاعنين .
اقول : ذكر المحقق الثبت الشيخ عباس القمي رحمه الله في ج 4 ص 492 من كتابه (سفينة البحار) نقلاً عن كتاب (مثالب العرب) لهشام بن الكلبي ان امراءة ذي الجوشن خرجت من جبانة السبيع الى جبانة كندة فعطشت في الطريق ولاقت راعياً يرعى الغنم فطلبت منه الماء فأبى أن يعطيها إلا بالاصابة منها فمكنته فواقعها الراعي فحملت بشمر هذا .
(4) سانظر مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 36 .
(5) تذكرة الخواص ص 261 ، والاتحاف بحب الاشراف ص 70 ، ومناقب آل ابي طالب ج 4 ص 114 .
(6) مثير الاحزان لابن نما الحلي ص 95 .
سياسة الحسين 157


لماذا يأمر السيوف أن تأخذه


إن كان دين محمد لم يستقيم إلا بقتلي يا سيوف خذيني

هذا البيت ينشده الكثير من الناس عن لسان الحسين ، ظناً منهم أنه قد أنشأه يوم عاشوراء وقد حفظه من كثرة تردد إنشاده حتى النساء في مقاصيرها والأطفال في ملاعبها ، فاتلع(1) المعترض رقبته صارخاً كيف جاز للحسين أن يأمر السيوف ن ويراد بها مطلق السلاح ـ والسيوف من باب التمثيل ـ أن تأخذه فيلقي بيده الى التهلكة مع أن الواجب على المسلم الدفع عنه نفسه ما أمكن الدفع عنها ، وأن لا يحب لها طرفة عين تلفاً ، وإلا كان جانياً عليها وقاتلاً لها ، وقاتل نفسه من أهل النار ، إذ السبب أقوى من المباشر .
قلنا سمعنا في علم البيان سبك المجاز في المجاز ، وسمعنا في هذا الإعتراض سبك الغلط في الغلط ، فإن هذا البيت لم تات رواية ولو ضعيفة أنه من إنشاء الحسين ، بل ولا من إنشاده ، وأنه لغيره فاستشهد به وإنما قاله عن لسانه الشاعر الشهير الشيخ محسن ابو الحب الحائري المتوفى سنة 1305 ه في ضمن قصيدة له يرثي بها الحسين(2) ، وما أكثر القصائد التي اشتهر منها البيت الواحد والبيتان فقط .
وقد يفضل البيت البليغ قصيدةً مطولة الألفاظ من غير طائل

وبعد شهرته الطائلة اشتبه الرأي العام فنسبه الى الحسين ، فما ذنب الحسين يا معشر المسلمين ، فأنصفوه إن كنتم لأنفسكم منصفين ، هذا مع أن الشاعر إذ أنشأه عن لسان حال الحسين ، لم يرد الحقيقة كما يتراأى من حاق الألفاظ حسن وضعها الأفرادي أو التركيبي ، بل أراد بقوله «يا سيوف خذيني» الكناية عن

(1) اتلع رقبته : مد عنقه متطاولاً ، والمقصود منه الإهتمام بالأمر / المؤلف .
(2) ومطلعها :
إن كنت مشفقةً علي دعيني لا زال لومك في الهوى يغريني
سياسة الحسين 158

توطين الحسين نفسه أن تسيل على ظبى السيوف وأطراف الرماح في وطيس المعركة حمايةً لدين جده المصطفى وذياداً عن حوضه الأقدس أن تهدمه أيدي الإستبداد اليزيدي والظلم الأموي ، ولسان حاله ينشد قول جده الأعلى عبد المطلب بن هاشم عليه السلام
لنا نقوش لنيل المجد عاشقةً ولو تسلت أسلناها على الأسل

وهذا المعنى الكنائي الذي ذكرناه مساوق لقول السيد جعفر الحلي في يزيد (لع) :
قد اصبـح الدين منه يشتكي سقماً وما الى احد غير الحسين شكا
فما رأى السبط للدين الحنيف شفاً إلا إذا دمـه في كـربلا سفكا
نفسـي الـفداء لـفاد شرع والده بنفـسه وبأهلـيه وما ملكا(1)

وقد نضمت هذا المعنى بعد أن كسوته حلة الإستعارة فقلت في الحسين :
ضحى بمهجته ليسقي دوحةً للدين هددها العدو وكـادها
وسخا بها زيتاً ليوقذ شعلةً للرشد قد رام العدى إخمادها

وإن أبيت ألا تجعل قوله «يا سيوف خذيني جارياً على الحقيقة فليكن من خيال الشاعر ، وللشعراء خيال واسع الأفق ممتد الأطراف والنواحي ، لا تؤخذ عليهم الدقة فيه ، ولا يحاسبون عليه حساباً عسيراً ، ولا ينشر لهم في دنياهم كتاب يقولون فيه «ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها»(2) .
ألم تسمع ما قيل فيهم «الشعراء امراء الكلام يسوغ لهم ما لا يسوغ لغيرهم» وكلما كان خيال الشاعر واسعاً بحيث يجعل الأشياء الموهومة حقايق راهنةً ، بل أشباحاً ماثلةُ للعيان كان أوقع في النفوس وأشد قبولاً في الأذواق ، وانظر الى عنترة الشاعر الفحل كيف يقول لمحبوبته عبلة بنت مالك في معلقته الشهيرة :

(1) جاءت ابياته هذه في ضمن قصيدته العامرة التي يرثي بها الحسين عليها لسلام ومطلعها :
الله اي دم في كربلا سفكا لم يجر في الارض حتى اوقف الفلكا
(2) سورة الكهف / 49 .
سياسة الحسين 159

ولقد ذكرت والرماح نواهل مني ، وبيض الهند تقطر من دمي
ووددت تقبيل السيوف لأنها لمعـت كبـارق ثـغرك المتبسم

وفي ظني أن خيراً منه قولي في خطاب بطل نهضتنا وبطل الإسلام والعرب ، شهيد الحق والدين ، وصريع الإباءة والعظمة :
رضيت بأن تناهبك المواضي وليس يكون بينكما حجاب
هي الأقلام للإسـلام خـطت قوانـياً وأنـت لها كتاب

ومن هنا أعدت الكرة في هذا المعنى لما أعجبني ، فقلت من قصيدة اخرى :
صـبرت عـلى تلك الخطوب لأنها على مجدك السامي الاثيل شواهد
ترى البيض أقلاماً وجسمك مصحف تحـرر لـلإسـلام فيه القواعد

ولعلك تقول هذا الكلام كله خيال في خيال ، ولسنا الآن بصدد الشعر والشعراء ولا في بيان المذهب الكلامي الذي يبحث عنه في علم البديع لننظر من كان المجلي في هذه الحلبة ومن يا ترى يكون المصلي ، بل كأن هذا الشاعر إن ثبت أن هذا البيت له يضرب على وتر وينظم روايةً جاءت في هذا المعنى ، ليس لها في التاريخ الصحيح عين ولا أثر من أتن السيوف والرماح كانت تمر على الحسين ، فتسلم عليه ولا تعمل في جسده شيئاً ، حتى أمرها بأن تعمل في جسده وتأخذ منه مأخذها ، فأخذته من كل جانب ومكان .
قلنا إن كانت هذه الرواية مكذوبةً على الحسين فما ذنب الحسين ، وقد كذب الناس على جد الحسين بل ورب الحسين ، فقال ابو الحسين :
قد قـيل أن الإله ذو ولد وقيل أن الرسول قد كـهنا
لم يسلم الله والرسول معاً من افتراء الورى فكيف أنا

وإن كانت صادقةً فإنها تحقق لنا بوضوح أن في هذه النهضة أسراراً لا تحيط نفوسنا بكنهها ، وإن بلغت رتبة العقول ، لأنها فوق المحسوس والمعقول ، وقد

سياسة الحسين 160

اقترنت بقرينة تجعلنا نؤمن بذلك كل الإيمان أن قد سلمت السيوف والرماح والسهام عل الحسين ، ولم تعمل في جسده إلا بعد إذنه لها ، مرغماً لأنف الطبيعة وخرقاً لناموس العادة ، وإذا خرق حكم الطبيعة وناموس العادة ، لأنه فوق مستوى البشر ـ وهو خلاف فرض البحث ـ فلم لا يكون له حكم خاص فيه بأن يحتم عليه واجبه الديني الأذن للسيوف بأن تعمل في جسده ، بعد أن كانت تسلم عليه «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض»(1) ونقول في مقام قبولها ، لأننا نروي الكثير من نظائرها وأمثالها كرواية تسليم الحجارة على النبي المصطفى والوصي المرتضى(2) إذا رماهما بهما عتاة قريش وغيرهم واقتضت حكمة الظروف الحجر بيده(3) ، وكان عبرةً للناظرين ، فقال ابو طالب في ذلك من قصيدة يمدح بها ابن أخيه :
أفيقوا بني عمنا وانتهوا عن الغي من بعض ذا المنطق

الى أن قال :
وأعجب من ذاك في أمركم عجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من خبثه الى الصابر الصادق المتقي
فأثبته الله في كفه على رغمة الخائن الأحمق

وضربه يوماً آخر ، وهو على الصفا يبشر بدين الله ، ويضرب لهم الأمثال فأدمى جبهته الشريفة وتبعه غيره من طواغيت قريش رضخاً بالحجارة فطار خبر قتله الى وزيريه علي بن أبي طالب وخديجة ام المؤمنين(4) ، وهكذا لما خرج من الطائف ، ولم تنجح دعوته فيها وشوا به أحداثهم وصبيانهم فوقفوا على

(1) سورة البقرة / 85 .
(2) اثبات الهداة ج 1 ص 407 .
(3) بحار الأنوار ج 18 ص 52 .
(4) ـ انظر بحار الأنوار ج 18 ص 242 .
سياسة الحسين 161

طريقه سماطين ، وكلما رفع رجله أو وضعها ضربه أحدهم بالحجر ، حتى خرج من الطائف وساقاه تشخبان دماً(1) ، ولله في صفوته حكمةً بالغةً وتدبير هو أعلم بمصلحته .
فطوراً تراهم ظافرين وتارةً بهم من عداهم ينشب الناب والظفر

وتشفع رواية تسليم الحجارة رواية تسليم النخل الصيحاني عليهما ، كلما تشرفت برؤيتهما(2) ، ومن هنا اختص هذا النوع من النخيل بهذا الإسم الى يوم الناس هذا ، وعليك بخطبة أمير المؤمنين المعروفة بالقاصعة المروية في كتاب نهج البلاغة في تسليم الشجرة بلسان الحال واعترافها للنبي بالرسالة وللوصي بالولاية ، حين قلعها واتيانها تخذ الأرض خذاً ، ووضعها غصنها الأعلى على رأس النبي الكريم ، وبعض أغصانها على منكب وصيه النبأ العظيم ، وانشقاقها كأمره وإلتئهامها ورجوعها الى موضعها كلما اقترح عليه ذلك قريش(3) ، الى كثير من روايات تسبيح الحصى ، وإنطاق الجمادات ، وخطاب الوحوش في الفلا وكلام العجماوات ، ودونك الكتب المعدة لذكر الفضائل والمعجزات الخارقة للعادة مما لا تحصة كثرةً ولا يأتي عليها قلم البيان(4) ، والقران فوق الكل ينادي بانشقاق القمر(5) لحبيبه المصطفى ، وانفجار العيون من الحجر حيث ضربه بالعصا كليمه موسى(6) وإحياء الموتى على إثر دعاء روحه عيسى(7) «ولا يشفعون لأحد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى»(8) .

(1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 61 .
(2) انظر مناقب آل ابي طالب ج 2 ص 327 .
(3) انظر نهج البلاغة شرح محمد عبده ج 2 ص 137 .
(4) انظر الباب الثامن من الجزء الاول من كتاب (اثبات الهداة) للحر العاملي .
(5) قال الله تعالى في كتابه المنزل على نبيه المرسل (اقتريت الساعة وانشق القمر) .
(6) قال الله تعالى (واذا استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً . . .) .
(7) قال الله تعالى (ورسولاً الى بني اسرائيل ـ الى قوله ـ وابرئ الاكمه والابرص واحيي الموتى بإذن الله) .
(8) سورة النجم / 26 .
سياسة الحسين 162


ونعود الى الحسين في توطين نفسه على الذبح قرباناً لدين الحق ومبدئه المقدس فنقول ما كان بدعاً من سلفه الكريم ، فقد قرب جده إسماعيل الذبيح وفاءً لنذر أبيه خليل الرحمن فتقبل الله قربانه وفداه بذبح عظيم ، وكذلك عبد الله أبو رسول الله حيث نذر أبوه عبد المطلب إن رزقه الله عشرة بنين ليذبحن أحدهم قرباناً لوجهه الكريم ، فلما أجال القداح(1) وخرج سهم عبد الله على الذبح(2) لم يتلكأ(3) الولد الشاب ، ولم تأخذ الشيخ الوالد به رأفة ولا رحمة دون تنفيذ أمر الله وإرادته فيه حتى فداه الله من الذبح كما فدى جده إسماعيل من قبل إكراماً لنور نبيه المصطفى ، حيث خلل صلبهما وتألق ضياؤه في أسارير جبهتيهما ، ليفخر الرسول بذلك وله الفخر والشرف فيقول «أنا ابن الذبيحين»(4) .
وجاء المرتضى فاعاد تاريخهما المجيد كأحسن ما يتصوره العقل وأتم ما يقتضيه له المد فقد أسلم أبواه نفسيهما للذبح بمدية واحدة بكف أبويهما ولا شك أنهما أرأف الناس بهما ، وأما أمير المؤمنين فقد أسلم نفسه للذبح في مبيته على فراش الرسول إذ بات يقيه شر الأعداء الفئة المنتخبة من جميع قبائل قريش ، فأنزل الله فيه قراناً يتلى الى يوم القيامة شكراناً لسعيه وتنويهاً بفضله وعظمته «ومن الناس من يشتري نفسه ابتغآء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد»(5)أجل لقد رأف الله الرؤف الرحيم بهذا العبد الكريم المنقاد لأمره ، إذ جعله أداةً لمكره بأعدائه فالقى عليه شبه حبيبه المصطفى ، وقد مكروا به ليضربوا بسيوفهم ضربةً واحدةً فيضيع دمه في القبائل كلها «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» (6) ونصره الله بوليه «إذ أخرجه الذين كفروا ثاني إثنين إذ
(1) القداح جمع قدح : سهم الميسر / المؤلف .
(2) انظر بحار الأنوار ج 15 ص 128 .
(3) تلكأ عن الأمر : أبطأ وتوقف / المؤلف .
(4) يريد بالاول جده اسماعيل عليه السلام وبالثاني أباه عبد الله الذي نجا من الذبح كما نجا جده اسماعيل عليه السلام .
(5) سورة البقرة / 207 .
(6) سورة الأنفال / 30 .
سياسة الحسين 163

هما في الغار»(1) ثم رفع شبه المصطفى عنه ، وقد أزف الأجل المضروب لهجومهم عليه في الدار وضربه له بسيوفهم المحدودة الأشفار ، وقد كتب الله له بكل نفس من أنفاسه في ليلته تلك ما يعجز الإنس والجن بل والملائكة عن إحصاء ثوابه ، فأرغم الله انافهم ومدد له في أجله أربعين سنة لكل سيف سنة ليضاعف له الثواب بعدد أنفاس تلك السنين فقد أنفق أنفاسها في سبيل الله على الشاكلة التي أنفقها ليلة مبيته على فراش رسول الله ، فقد ظل دائباً في الجهاد بين يدي رسول الله ، ورفع قواعد الدين بجهاده وصبره وعبادته وزهده وبث علومه التي ورثها من مدينة العلم وكان لها باباً كما قال صلى الله عليه وآله «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(2) .
إنما المصطفى مدينة علم وهو الباب من أتاه أتاها(2)

ثم ختم له بالشهادة التي لا زال يتوق إليها ، وقد وطن نفسه مبيته بالفراش بل قبله عليها فقتل بسيف عدو الله ابن ملجم صائماً لربه وسط محراب صلاته في أحب بيوته إليه .
إذن فأي عجب يكون من الحسين إذا كان الرابع من نوعه ، فقرب أولاً قرابينه العزيزة من صفوة أنصاره وأطائب فصيلته ، فتقبل الله تلك القرابين منه قبولاً حسناً فاكلتهم نار الوغى بعد نار الظما .
نار الوغى أكلت نفوسهم التي قد قربوها إيما قربان(4)

ثم لم يكلفه ذلك حتى قرب بطفله الرضيع به أخيه الأكبر ، والولد قطعة من الكبد بل الكبد كله ، ولم تقنع نفسه بذلك حتى أكمل قربانه بجسده الشريف

(1) 1 ـ سورة التوبة / 40 .
(2) حديث مشهور ذكره اكابر علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم في كتبهم المعتبرة قاطعين بصحة صدوره عن النبي (ص) .
انظر مستدرك الصحيحين ج 3 ص 126 ، وتأريخ بغداد ج 2 ص 377 ، وكنز العمال ج 6 ص 156 .
(3) للشيخ كاظم الازري وقد جاء في ضمن ازريته الشهيرة .
(4) من قصيدة للمؤلف قدس سره مطلعها :
أأمنت مكر الواحد الديان فعصيته بالسر والاعلان

السابق السابق الفهرس التالي التالي