عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 85

الفصل الثاني
عمارة كربلاء ... مراحل التطور العمراني

توطئة :

مرت مدينة كربلاء منذ نشأتها بعد واقعة الطف وإلى يومنا هذا ، بمراحل عمرانية مختلفة. وأضحت في حقب زمنية ، إحدى أهم الحواضر الإسلامية البارزة من الناحية الفنية والعمرانية. وجاء ذلك نتيجة التداخل العمراني الواضح الذي يجمع بين التأثيرات الخارجية والتقاليد المحلية. فقد تركت فنون عمائر حضارات وادي الرافدين بأعتبار أن هذه البقعة من الأرض جزء منها وفنون عمائر دول إسلامية تعود إلى حضارات قديمة ، كالحضارة الفارسية والبيزنطية ، آثارها في تشكيل البنية العمرانية لهذه المدينة المقدسة ، وما شيد فيها من روائع فنون العمارة الإسلامية ، كالمراقد والمساجد والمدارس الدينية والأسواق والبيوت التراثية وغيرها.
وتناول العديد من الباحثين بالدراسة نشوء المدينة وعمارتها التي كان للإسلام الدور الحاسم في ظهورها وتطورها العمراني. وأكدوا على أن إنشاءها مر عبر عدة مراحل ، حيث يشكل جامعا ومراقدا الإمام الحسين وأخيه العباس (الروضتان الحسينية والعباسية) قلب المدينة العمراني او المحور الذي تتجه إليه كل الشوارع أحياء المدينة وأزقتها وأسواقها ، وهو يمثل خطوة متقدمة لنموذج التخطيط العمراني الذي كان سائداً في العصور الإسلامية الأولى.

عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 86

ومن أهم الخصائص المعمارية التي تميزت بها أحياء المدينة القديمة ومبانيها ، أن جذورها نابعة من تصاميم أبنية الحضارات القديمة في العراق ، إضافة إلى النموذج المعماري الإسلامي ، وكذلك أستعمال مواد البناء المحلية المتوافرة ومنها الطابوق (الآجر) الذي يعتبر عنصر بناء رئيسياً في تشييد الأبنية في مدينة كربلاء ، مقتفية بذلك أساليب البناء في مدن حضارات وادي الرافدين التي ما زالت أثار العديد منها شاخصة إلى يومنا هذا ، كمدن أور وبابل والوركاء.
ولم تقتصر المباني الدينية والتراثية في مدينة كربلاء على أستعمال مواد البناء المحلية فقط ، إذ استعمل المرمر والرخام والأحجار الملونة والأخشاب النادرة المستوردة في إكساء العديد من هذه المباني وزخرفتها.
وسيتناول هذا الفصل مراحل التطور العمراني لمدينة كربلاء بالإضافة إلى دراسة مواد البناء الرئيسية في العمارة التراثية ، حيث قسم إلى ثلاث مراحل تبعاً لإهميتها وهي :
  • مواد البناء الرئيسية في العمارة التراثية.
  • عمارة كربلاء من واقعة الطف حتى الحكم الصفوي للعراق.
  • عمارة كربلاء خلال الحكمين الصفوي والعثماني للعراق.
  • عمارة كربلاء منذ تاسيس الدولة العراقية سنة 1921.

  • عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 87

    مواد البناء الرئيسية
    في العمارة التراثية

    الحديث عن المواد المستخدمة للبناء في كربلاء والعراق عموماً منذ اقدم العصور حتى اليوم يدعونا بالضرورة لدراسة الجوانب التاريخية الخاصة بها ، ولا سيما طبيعة هذه المواد ومدى توافرها وتآلفها مع البيئة العراقية ، والتواصل الحضاري لتقاليد العمارة والبناء منذ أكثر من خمسة آلاف سنة.
    نشأت مدن وادي الرافدين ، خصوصاً الجنوبية والوسطى منها حيث تعتبر كربلاء جزءاً منها على أرض رسوبية يؤلف طين السهول قوام مادتها الإنشائية ، فلا غرو أن كانت مادة الطين أقدم مواد البناء في تاريخ العراق.
    وأستخدمت كتل الطين المهيئة للعمل والتي تعرف بالطوف في مدن الحضارات القديمة التي نشأت ثم أندثرت في وادي الرافدين في أقدم المباني والبيوت السكنية التي لا تزال آثار بعضها باقية إلى يومنا هذا مثل مدن أور وبابل والوركاء. وأستخدمت أيضاً في تشييد البيوت الريفية التقليدية في وسط العراق وجنوبه.
    وتطور أستخدام كتلة الطين (الطوف) قديماً بوضع كميات من الطين المخمر والمخلوط مع التبن (ما قطع من سنابل الحنطة) في قوالب مضلعة الشكل مختلفة الأبعاد وصولاً إلى أشكال منتظمة ، للحصول على جدران مستقيمة ذات

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 88

    قوة ومتانة في البناء. وتعرف هذه الكتلة الطينية المنتظمة الأبعاد المجففة طبيعاً بواسطة أشعة الشمس بـ(اللَبِن) ، ولا يزال أستخدام اللبن معروفاً في العراق على نطاق محدود في البيوت الريفية أيضاً ، كما أنه يمثل مرحلة متطورة في صناعة الطابوق الطيني قبل إرساله إلى الكور أو الأفران لشيه بالنار وتحويله إلى الآجر.
    ولم يتأخر توصل العراقين لصناعة الطابوق الطيني المفخور (الآجر) كثيراً. فقد وصلتنا أبنيه منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد ، استخدم فيها الآجر بأحجام مختلفة وإن كان ظل محافظاً على شكل المضلع كما هو في الوقت الحاضر لعلاقة ذلك بدور الآجر في البناء.
    وأصبح أستخدام الطابوق (الأجر) شائعاً في عموم الأبنية العراقية القديمة. ولا يزار أستخدامه كبيراً إلى الوقت الحاضر. ويعتبر حالياً العنصر الرئيس في البناء. ولم تستطع مواد البناء الأساسية الأخرى أن تحل محله ، لوفرة مادته الاولية ولسهولة صناعته وكذلك سهولة أستخدامه في البناء وقلة تكلفته. ويمتاز ايضاً بمقاومة جيدة وقدرة كبيرة على عزل الحرارة والصوت ، بالإضافة إلى مرونته وأنصياعه حسب رغبة المعمار بحيث يعطي تشكيلات زخرفية معقدة رائعة الجمال ، كالحنيات والنتوءات والمقرنصات والزخارف الهندسية والكتابية البديعة.
    وهيأ الآجر فرص التوصل لبناء القباب والأقبية والسقوف المعقودة وأقواس المداخل بمساعدة مادة محلية أخرى شائعة هي الجص ، التي تساعد في تماسك الآجر بصورة سريعة جداً ، وسنأتي على ذكرها فيما بعد. وساعد ذلك في تلافي النقص المعروف في مواد البناء السقوف من ألواح الأخشاب المتينة والمستقيمة. لذلك فإن بناء السقوف المعقودة بطريقة الأقبية هو تواصل معماري قديم النشأة في العراق ، وأن أقدم المباني التراثية التي شيدت في العراق لا تزال آثار البعض منها باقية إلى يومنا هذا هي التي بنيت بهذه الطريقة.

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 89

    ولم يقتصر الآجر بشكله أو حجمه الأعتيادي على أغراض البناء ، وإنما صنعت نماذج منه طليت بأصباغ رسمت عليها أشكال زخرفية بألوان متعددة في أبتكار رائع لأغراض الزخرفة والتنزيين فيما يعرف اليوم بصناعة البلاط المزجج (القاشاني) ويطلق عليه محلياً بالكاشاني الكربلائي.
    وتطورت صناعة القاشاني في العراق خصوصاً في العصر العباسي بعد أن أستورد العباسيون بعض أنواع الخزف الصيني المتطور ذي التعريقات والبقع الملونة الذي كان يصنع في الصين في تلك الفترة.
    وتوصل الخزافون المسلمون في العصر العباسي أيضاً إلى أكتشاف أساليب جديدة في صناعة القاشاني وزخرفته. وكان ذلك إما بطرقة الحز التي تذكرنا بالحفر على المعادن ، أو بالضغط على العجينة لتكوين بعض الزخارف البارزة. وكذلك أستخدمت طريقة الزخارف تحت الطلاء بلون واحد أو بألوان متعددة.
    وصنعت من الآجر أشكال لوحدات زخرفية أو أقسام تؤلف في حالة رصفها هندسياً أشكالاً وزخارف هندسية ونباتية رائعة. وكذلك بعض الكتابات وأنواع الخطوط وخصوصاً الخط الكوفي الجميل الذي استعمل بكثرة على شكل زخارف لكتابة الآيات القرآنية الكريمة. وبذلك فإن ما نعرفه من أستخدامات واسعة لمادة البناء الرئيسة في العراق وهي الطابوق (الآجر) في مجموعة الأبنية التراثية وأكثر الأبنية الحديثة التي تقام حالياً ، إما هي أستخدامات متطورة عن خبرات في هذه المجالات ترجع إلى العصور القديمة في العراق.
    أما المواد الرابطة بين الآجر ، فأكثرها شيوعاً الجص وهو حرق (حجر الجبص غير النقي) الذي فيه نسبة قليلة من الرمل الذي يصنع محلياً ، ثم سحقه وتصفيته من الشوائب. وفي حالة إتقان أستخدامه يتصلب بسرعة ويؤدي إلى تماسك صفوف الآجر مع بعضها بشكل متين. وأستخدم الجص ايضاً بعد عزل الشوائب

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 90

    عنه وخلطه مع البورق وهو حرق حجر الجبص (كبريتات الكالسيوم المائية) بدرجات حرارة واطئة الذي يزيد الجص بياضاً في إكساء واجهات الجدران الداخلية. وتسمى هذه العلمية بـ(البياض) ، إذ أنه يكسب الجدار سطحاً مستقيماً أبيض اللون ويستغنى عادة عن طلاء الجدران نهائياً بالاصباغ. إضافة إلى شد أجزاء البناء وجعله وحدة متراصة قوية وإعطائه قوة ومتانة أكثر.
    وأستخدمت قديماً النورة وهو حرق حجر الكلس (كاربونات الكالسيوم) بدرجات حرارة عالية بعد خلطها مع الرماد لربط مواد البناء في الأسس بسبب مقاومتها العالية للرطوبة.
    أما أبنية اللَبن ، فإن موادها الرابطة أو اللاصقة تكون من الطين نفسه. ولكن بدرجة نقية وخالية من الشوائب ، كما استخدم الجص في بعض الأحيان لإكساء الواجهات المشيدة من اللبن بهدف الحصول على جدران فاتحة اللون بيضاء مثلما يزيد الجص من متانة البناء باللبن.
    وشاعت في المدن العراقية في السنوات الأخيرة عملية إكساء الجدران الداخلية والخارجية بمادة الأسمنت والرمل الناعم والتي تسمى محلياً اللبخ (البلاستر) ، وقد تطلى هذه الجدران بالأصباغ في أكثر الأحيان بعد لبخها.
    ومن المواد البنائية الأخرى القير (القار الاسور) الذي يكثر وجوده في العراق ، ويطفو على سطح الأرض في بعض المناطق مثل هيت والقيارة ، فإنه يشكل مادة لاصقة للبناء بعد معاملته مع مواد تزيد من كثافته النوعية وتمنع سيولته الشديدة بفعل درجات حرارة الصيف العالية. كما لوحظ أستخدامه قديماً في تغليف بعض أحواض المياه ومصاريفها. ولكثرة أستخدام القير

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 91

    في منشآت مدينة أور القديمة القريبة أطلالها من مدينة الناصرية في جنوب العراق ، أطلق المحليون تسمية (المقيّر) على أطلال المدينة.
    ولكن استخدام القبر أقتصر أخيراً ، وبحدود المباني التراثية ، على تغليف أحواض المياه وبعض مصاريف المجاري ، وفرشه على سطوح البيوت والمباني قبل تبليطها لمنع تسرب المياه والرطوبة إلى الطوابق السفلية.
    ومن المواد البنائية الأخرى الرئيسية الأخشاب التي كانت أحد العوائق أمام المعمار العراقي القديم بسبب ندرتها وقلة الأنواع الجيدة المتينة والمستقيمة منها. لذلك كان الخشب في مقدمة المواد المستورة في تاريخ العراق القديم ، ولا يزال الطلب على أستيراده قائماً وذلك للحاجة الماسة إليه في الوقت الحاضر.
    أما الخشب المتوافر في العراق ، وكان يستعمل بكثرة في الأبنية التراثية ، فكان يؤخذ من جذوع النخيل بالدرجة الرئيسية ، وهو في نوعيته يعتبر من أرداً أنواع الخشب من حيث الطول والأستقامة ومقاومة ثقل السقف وتحمل عوارض الزمن ، ومع ذلك عرف أستخدامه على نطاق واسع في الأبنية القديمة واستمر إلى وقت قريب ، ولكنه أقتصر على بيوت الطبقات المتوسطة والفقيرة ، وهي البيوت التي لم تعمر طويلاً ، ويندر أن نجد نماذجها بين البيوت التراثية ، وأكثر أستخدامات خشب جذوع النخيل كعوارض (جسور) في تسقيف الغرف.
    أما النوع الثاني من الأخشاب والذي أستخدم في البناء فهو ألواح أو جذوع اشجاع الحور (القوغ) الذي ينمو بغزارة في المنطقة الشمالية من العراق ، وهو أفضل من جذوع النخيل لناحية الصلابة والاستقامة والطول. ولكن قياساً بأنواع من الأخشاب المستوردة ، تعتبر أدنى مستوى من حيث النوعية. لذلك نجد أن البيوت التراثية التي تتميز بمتانتها وعمرها الطويل هي تلك التي أستخدمت فيها أنواع الألواح الخشبية المستوردة قبل شيوع أستخدام العوارض (الجسور) المعدنية (الشيلمان) أي الجسور الحديدية.

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 92

    يدخل الخشب على نطاق واسع في الأستخدامات البنائية المختلفة. فمنه تصنع الأبواب والشبابيك وتغلف السقوف وبعض الواجهات الداخلية. كما كانت تصنع منه مسائد مائلة لرفع الشرفات البارزة من مستوى البناء في الطابق الأول. ونحتت من الخشب ايضاً الأعمدة وركبت لها تيجان من قطع خشبية بأشكال زخرفية رائعة تحمل عوارض (جسور) سقوف المساحات المغطاة (الظلة) أو الأواوين الصغيرة. كما عرف أستخدام الألواح الخشبية في أبينة غرف الطابق الأول ، حيث توضع عمودياً لتستند عليها صفوف الطابوق ، فتزيد من تماسك الجدار وقوته. فيكون بناء الغرفة من قطع خشبية توضع أفقياً وعمودياً بمسافات منتظمة وتملأ الفراغات بينها ببناء الآجر الذي غالباً ما يرصف عمودياً. أما أوسع أقسام المبنى أستخداماً للخشب فهي الشرفات البارزة عن مستوى البناء في الطابق الأول وتعرف بـ(الشناشيل) . إذ يكون بناء هذه الشرفة من الخشب بدلاً من الطابوق والحديد للتغلب على مشاكل الثقل في التوسعة ، وكذلك مساعدة الخشب في تحقيق برودة الجو الداخلي للغرفة في فصل الصيف. وغالباً ما تتعرض هذه الشرفات إلى تساقط اشعة الشمس عليها فترة طويلة. والشناشيل المصطفة على طول الطريق توفر أيضاً مظلة طويلة يحتمي بها المشاة من شمس الصيف وأمطار الشتاء.
    أنشرت الزخرفة في الأعمال الخشبية وأظهر النجارون تفوقاً في الدقة والمهارة في أعمال التكسية الخشبية والنوافذ ، خصوصاً في بعض الألواح والمشبكات التي ظهرت بخصائص متميزة في الواجهات الداخلية للأبنية.
    أما الحديد ، فمع ندرة أستخدامه في الأبنية التراثية والقديمة في العراق ، إلا أن القليل الذي عرف منه هو أستخدامه كواجهات واقعية للشبابيك أو الشرفات ، وخاصة تلك التي تشرف على الشوارع والازقة فتوفر عنصر الحماية للبيت من أحتمالات السرقة.

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 93

    والأشكال الأخرى التي نعرفها من أستخدامات الحديد كانت عبارة عن قضبان تتفاوت في سماكتها ، تثقب من مفاصل تتباعد بمسافات محسوبة وذلك عن طريق التسخين والطرق ، مما يهيئ سطحاً مستوياً في القضيب الحديدي الدائري. وتعمل ثقوب في قلب هذه الأجزاء المسطحة ليمر منها عمود آخر وصولاً إلى شكل مشبك حديدي مستطيل أو مربع الشكل مقسم إلى مربعات أو مستطيلات صغيرة متساوية المساحة. وأستخدم الحديد أيضاً كأسيجة في الطابق الأول عند إطلالة ممراته على الساحة الداخلية المكشوفة وتسمى هذه الأسيجة بـ(الدرابزين) . ويستخدم الحديد كذلك كمسائد روافد الشرفات البارزة من بناء الطابق الأول بدلاً من المسائد الخشبية في بعض الأحيان. هذا إضافة إلى أستخدام أقسام حديدية صغيرة من أجزاء الوحدات الخشبية كمسامير ذات رؤوس دائرية مزخرفة أحياناً.
    ومع مطلع القرن الحالي أخذت مواد البناء الحديثة تطرق أبواب البيوت ، وكان في مقدمها الروافد الحديدية أو الجسور الحديدية (الشيلمان) المتميزة بمقطعها على شكل حرف I الإنكليزي ، فكانت بديلاً مفضلاً للجسور الخشبية السابقة.
    ويتم توزيع هذه الجسور على سقف الغرفة وبأبعاد متساوية حسب مقايس الغرفة بحيث لا تتجاوز المسافة بين جسر وآخر المتر الواحد ولا تقل عن 90 سنتمتراً ، وتعتمد هذه المسافة على عرض الغرفة وكذلك على مقطع الشليمان. أما المسافات بين الجسور الحديدية فأنها تبنى على شكل عقود بالآجر والجص وهي المواد الأفضل للظروف المناخية في العراق ، كما حافظ أستخدامها على أستمرار تقاليد بناء العقادة بالآجر في الأبنية العراقية. ومع أستخدام الجسور الحديدية بكثرة ، توافرت في الاسواق أنواع من القضبان الحديدية وبأقطار مختلفة ، وأخذت مادة الأسمت تشيع في البناء تدريجاً. وبداً ظهر الخرسانة المسلحة التي تشكل القضبان الحديدية والأسمنت والحصى والرمل موادها الأساسية بحيث أستخدمت في الأسس والسقوف ، فحلت في كثير من الأبنية محل الجسور الحديدية

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 94

    وخصوصاً في الأبنية العامة ذات القاعات الكبيرة والعمارات ذات الطوابق المتعددة. ومع أستخدام الخرسانة المسلحة راح يختفي المعمار الماهر الذي قدم الكثير من روائع فنون العمارة التراثية في كربلاء والعراق عموماً والتي لا يزال الكثير منها قائماً إلى يومنا هذا.

    زخرفة آجرية

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 95

    عمارة كربلاء
    من واقعة الطف حتى الحكم الصفوي للعراق

    يمكن القول بأن مدينة كربلاء الحالية تدين بنشأتها إلى واقعة الطف.
    وكانت نواتها قبر الإمام الحسين (ع) . إذ قام رهط من بنى أسد ، سكان القرى المجاورة للمنطقة ، بنصب معالم عليه كي يستدل بها ولا يضيع أثره وذلك بعد يومين من أنتهاء المعركة(1).
    وتذكر بعض المصادر التاريخية أن المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، أيام أمرته على الكوفة ، أقام بناء فوق القبر تعلوه قبة من الطابوق (الآجر) . وهذه القبة تُعد أول قبة شيدت في الإسلام وذلك سنة 66هـ (686م ) . وشيد مسجداً بجانب القبر ، ويعتبر هذا البناء أول عمارة شيدت في مدينة كربلاء الحالية. كما شيد قرية صغيرة تحيط بالقبر(2) ، وهي عبارة عن مجموعة بيوت بدائية بسيطة مبنية من الطين وجذوع وسعف النخيل الذي كان يجلب من المناطق القريبة من موضع القبر ، وخاصة من نينوى والغاضريات اللتين كانتا عامرتين ببساتين النخيل والفواكه.
    لقد مر القرن الأول الهجري من العهد الأموي ولم تشهد تلك البقعة من الأرض تطوراً يذكر من الناحية العمرانية(3).

    (1) دائرة المعارف الإسلامية ، ج4/ ص : 637 ، 1978م . السيد محسن الأمين : أعيان الشيعة ، ج1/ ص : 627.
    (2) السيد حسن الصدر : نزهة أهل الحرمين في عمارة المشهدين ، ص : 21 ، 23 ، 26.
    محمد حسن مصطفى آل كليدار : مدينة الحسين ، ص : 20. د. عبد الجواد الكليدار : تاريخ كربلاء وحائر الحسين ، ص : 81.
    (3) عبد الحسين الكليدار : بغية النبلاء في تاريخ كربلاء ، ص : 16. تاريخ كربلاء وحائر الحسين ، ص : 99 ، 192 ، 193.
    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 96

    وفي بداية العهد العباسي بدأت كربلاء تنمو عمرانياً ، وذلك لكثرة الزائرين ، وأختيار بعض المسلمين الإقامة فيها ليجاوروا مرقد [ الإمام ] الحسين ، أو لتقديم الخدمات للزائرين. وعلى إثر ذلك بدأ تشييد بيوت جديدة بسيطة تمركزت حول المرقد الشريف ، وبأستعمال مواد البناء المعروفة في المنطقة. وهي جزء من هذه الأرض التي حباها الله سبحانه وتعالى وقيض للإنسان أن يستخدمها لخدمة البشرية وبناء حضارة متقدمة تتواكب مع العصر الذي يعيشه الإنسان في أية مرحلة زمنية.
    وبما أن أرض كربلاء والمناطق المحيطة بها ، هي جزء من سواد الكوفة ، وتقع ضمن المنطقة الرسوبية لسهول وادي الرافدين ، فلا غرو أن دخلت مادة الطين لتكون إحدى مواد البناء الرئيسية في كربلاء. لذلك فقد أستعملت كتل الطين (الطوف) في إنشاء بعض البيوت البسيطة حول مرقد [ الإمام ] الحسين(1).
    وظلت كربلاء تنمو عمرانياً شيئاً فشيئاً إلى أن قام الخليفة العباسي هارون الرشيد في أواخر أيام حياته سنة 193هـ (809م) بهدم مرقد [ الإمام ] الحسين الذي كان تعلوه قبة وهدم ما حوله من البيوت(2).
    لكن العمران عاد إلى مدينة كربلاء في زمن الخليفة العباسي المأمون سنة 198هـ (813م) ، بعد أن أعاد بناء مرقد [ الإمام ] الحسين. وبدأ بناء البيوت يتكاثر من جديد حول المرقد الشريف. وأستخدم اللبن وهو كتل الطين المجفف في أبنية كربلاء في هذه الفترة ، فأزدهرت المدينة من الناحية العمرانية(3).
    وقد أستعمل في أبنية كربلاء ، في تلك الفترة ، كتل الطين المخمر والمخلوط من التبن (ما قطع من سنابل الحنطة) في قوالب ، مضلعة الشكل مختلفة

    (1) عبد الحسين الكليدار : تاريخ كربلاء المُعلى ، ص : 19. نور الدين الشاهرودي : تاريخ الحركة العلمية في كربلاء ، ص : 15.
    د. روؤف محمد علي الأنصاري : جريدة الحياة العربية ، العدد 11761/ ص : 21 ، لندن 1995م .
    (2) أعيان الشعية ، ج1/ ص : 627. تاريخ كربلاء وحائر الحسين ، ص : 197.
    (3) عبد الرزاق الحسني ، العراق قديماً وحديثاً ، ص : 129.
    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 97

    الأبعاد وصولاً إلى أشكال منتظمة للحصول على جدران مستقيمة ، وللحصول على متانة في البناء. وتعرف هذه الكتل الطينية المجففة طبيعاً بواسطة أشعة الشمس بـ (اللبن) . وقد عرف أستخدام (اللبن) قديماً في أبنية وبيوت المدن القديمة في وادي الرافدين كمدن أور وبابل والوركاء(1).
    وعُرف أستعمال (اللبن) أيضاً في تشييد أولى أبنية المدن الإسلامية في العراق كالبصرة والكوفة وواسط. وقد أستخدم الطين كمادة لاصقة وملاطية (بلاستر) لبناء الجدران المبنية باللبن(2).
    والبيوت التي شيدت من اللبن في كربلاء في تلك الفترة كانت غاية في البساطة ، تحتوي على ساحة داخلية مكشوفة تسمى (الصحن) أو الحوش الذي يعتبر مركز البيت ، متأثرة في تصاميمها بالبيوت الأثرية التي عثر على أطلالها في مدينتي أور في جنوب العراق وبابل في وسطه. وتحيط بالصحن غرفة أو غرفتا نوم وسائر المرافق ، وفي جانب آخر إيوان مسقف يسمى (الطارمة) للاستراحة الصيفية للعائلة(3).
    وعند أستلام الخليفة العباسي المتوكل الحكم سنة 236هـ (850م) ، كان المسلمون يقصدون كربلاء لزيارة مرقد (الإمام) الحسين. وكانت المنازل والدور قد كثرت حول المرقد وصار لهم سوق ، فأمر المتوكل بهدم المرقد الشريف وما حوله من المباني ثلاث مرات خلال فترات حكمه الذي أنتهى سنة 247هـ (861م)(4).
    وعاد العمران إلى مدينة كربلاء مرة أخرى في زمن الخليفة العباسي المنتصر بن المتوكل سنة 247هـ (861م) بعد أن أعاد بناء مرقد (الإمام)

    (1) سومر ، ج22/ ص : 65 ، بغداد العراق.
    (3 ، 2) الكشاف الأثري ، ص : 256.
    (4) السيد حسن الصدر : نزهة أهل الحرمين في عمارة المشهدين ، ص : 31.
    John L. Esposito: Modern Islamic World, page: 399, Volume 2,Now Yourk, Oxford University press- 1955.
    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 98

    الحسين ، وبمرور الزمن أخذت البيوت تتكاثر مرة أخرى من جديد وبصورة متراصة وخاصة في المنطقة التي تحيط بالمرقد(1).
    وكانت هذه البيوت ذات أرتفاع واحد تقريباً ولا يتعدى أرتفاع البيت ثمانية أذرع (أي سبعة أمتار تقريباً) . وهذا البناء يتلائم مع البيئة العمرانية والنسيج الخاص لمدينة كربلاء والسائد آنذاك(2).
    ثم شاع أستخدام الطابوق (الآجر) في العهد العباسي بشكل واسع في تشييد المساجد والمدارس الدينية والخانات وبعض دور السكن ، والذي كان يعتبر من أفضل مواد البناء المحلية وفرة وجودة وقوة وملائمة للعوامل المناخية في المنطقة(3).
    ويتميز الآجر بمرونته وسهولة أستعماله. مما ساعد في بناء القباب والأقبية لتغطية السقوف بصورة محدودة بدلاً من أخشاب جذوع النخيل وخشب الحور (القوغ) ، وبمساعدة مادة محلية أخرى شائعة هي الجص التي تساعد في تماسك الآجر بصورة سريعة جداً. وأستعمال الآجر هو تراث معماري قديم عرفته عمارة وادي الرافدين في المدن الأثرية كبابل ، وأور ، والوركاء(4).
    بدأت مرحلة جديدة في عمران مدينة كربلاء ، بعد أن دخل معز الدولة البويهي بغداد سنة 334هـ (946م) ، حيث تأثر الفن المعماري في العراق ، ومدينة كربلاء خصوصاً ، بفنون العمائر التي شيدت في العهد البويهي وخاصة في أستعمال الطابوق (الآجر) وزخرفته الذي وصل في عهدهم إلى مستوى رفيع(5).

    (1) السيد عبد الحسين الكليدار آل طعمة : بغية النبلاء في تاريخ كربلاء ، ص : 17. المسعودي : مروج الذهب ، ج4/ ص : 121.
    (2) محمد صادق الكرباسي : دائرة المعارف الحسينية ، باب مدينة الحسين ، تحت الطبع ، المركز الحسيني للدراسات لندن 1995م .
    (3) نعمت إسماعيل علام: فنون الشرق الأوسط في العصور الإسلامية ، ص : 47 ، 51 ، دار المعارف بمصر : القاهرة 1974م .
    (4) سومر : ج 38/ ص :376 مديرية الآثار العامة ، بغداد العراق ، 1982م .
    (5) حسين الأمين : دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ، ج11/ ص : 356. الطبعة الثانية دائرة التعارف للمطبوعات ، بيروت 1413هـ (1992م ) .
    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 99

    وقد بلغت مدينة كربلاء مرحلة عمرانية مزدهرة في عهد عضد الدولة البويهي. فقد أعيد بناء مرقد الإمام الحسين بين سنتي 369ـ 371هـ (980ـ 982م) ، وكذلك بناء مرقد العباس سنة 372هـ (983م) ، حيث شيدت البيوت والأسواق والمساجد والمدارس الدينية والمباني الأخرى حول المرقدين وما بينهما وأحيطت المدينة بسور عال يعتبر السور الأول لمدينة كربلاء ، وجعل لهذا السور ثلاثة مداخل ضمن تخطيط جديد للمدينة(1).
    وتعتبر هذه المرحلة في تاريخ كربلاء العمراني أهم مراحلها الأولى حيث بدأ تمصير كربلاء أي أصبح لها حدود في هذه الفترة.
    وقام الوزير البويهي أبو محمد الرامهرمزي في عهد الخليفة العباسي القادر بالله سنة 414هـ (1023م) بإعادة بناء سور مدينة كربلاء فكان السور الثاني لها(2).
    وقد ظل أستخدام الآجر والجص في أبنية مدينة كربلاء مقتصراً على بعض المباني الدينية المهمة والأسواق والخانات وبعض بيوت الميسورين. ولكن ظلت مادة (اللبن) هي المادة الرئيسية في بناء البيوت الكربلائية في هذه الفترة وما بعدها ، فالأبنية في مدينة كربلاء تحمل صفات وخصائص الأبنية العربية الإسلامية التي تتميز بالفناء المفتوح والذي يعتبر سقفه السماء ، هذا الأنفتاح أعطى لهذه الأبنية مزية مختلفة ، فالسماء هي مصدر الضوء والهواء.
    وفي عهد السلاجقة قام السلطان ملكشاه سنة 479هـ (1087م) بإعادة تعمير سور مدينة كربلاء الذي شيده أبو محمد الرامهرمزي(3).

    (1) إبراهيم الموسوي الزنجاني : جولة في الأماكن المقدسة ، ص : 83 ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت لبنان 1405هـ (1985م ) . محمد حسن مصطفى آل كليدار : مدينة الحسين ، ص : 25. موسوعة العتبات المقدسة ، قسم كربلاء ، ص : 260.
    (2) مدينة الحسين ، ص : 29 ، 30.
    (3) أبن الجوزي : المنتظم في تاريخ الإمم والملوك ، ج16/ ص : 259 .
    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 100

    وقد تعرضت مدينة كربلاء من الناحية العمرانية للإهمال عند بداية أستيلاء المغول على العراق سنة 656هـ (1258م) ولكن في نفس الوقت سلمت المدينة وعمارتها من الخراب والدمار الذي حدث لبغداد في تلك الفترة(1).
    وقد وصف عمارة مدينة كربلاء الرحالة أبن بطوطة عند زيارته لها سنة 727هـ (1327م) حيث قال عنها: (بأنها مدينة صغيرة والروضة المقدسة داخلها ويستدل من ذلك بأن كربلاء كان يحيطها سور وهو السور الذي شيده الوزير البويهي أبو محمد الرامهرمزي وأن أهل هذه المدينة طائفتان هما أولاد (زحيك) وأولاد (فائز) والخصام بينهما مستمر وهم علويون ويرجعون إلى أب واحد)(2) ويستدل من ذلك أيضاً بأن كربلاء كانت مقسمة عند زيارة أبن بطوطة إلى منطقتين عمرانيتين كبيرتين كل منطقة تشكنها إحدى الطائفتين ، فطائفة آل زحيك كانت تسكن المنطقة التي تعرف اليوم بباب النجف وباب الخان ، أما طائفة آل فائز فكانت تسكن المنطقة التي تعرف اليوم بباب السلالمة والقسم الشرقي من باب الطاق وباب بغداد وبركة العباس ـ.
    وقد سكنت أيضاً طائفة علوية أخرى هي آل عيسى المنطقة التي تعرف اليوم بمحلة المخيم والقسم الغربي من باب الطاق ـ(3).
    وممن أهتموا بعمران مدينة كربلاء ، السلطان أويس الجلائري سنة 767هـ (1366م) وواليه على بغداد الأمير مرجان وكذلك ولدا السلطان أويس حسين وأحمد ، حيث شملت المدينة حركة عمرانية واسعة وخاصة إعادة بناء مرقد الإمام الحسين وبعض المباني الدينية الأخرى(4).

    (1) سلمان هادي طعمة : تراث كربلاء ، ص : 40 ، 41.
    (2) رحلة بن بطوطة ، ص : 233.
    (3) سلمان هادي طعمة : تراث كربلاء ص : 98ـ 99. مصطفى الموسوي : العوامل التاريخية لنشأة وتطور المدن العربية والإسلامية ، ص : 186 ، منشورات وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد 1982.لآ (4) جعفر الخياط: موسوعة العتبات المقدسة قسم كربلاء ، ص : 266.
    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 101

    وأبدع ما أدخل في العهد الجلائري من فنون العمارة الإسلامية ، هو أسلوب زخرفة المباني الدينية في كربلاء بالنقوش الزخرفية ، وهو أستخدام قطع صغيرة من الفسيفساء والخزف البراق المتعدد الألوان في تغطية الواجهات والسطوح بالإضافة إلى البلاطات الخزفية (القاشاني) المتعددة الألوان أيضاً ، وهذا ما ظهر في مسجد ومئذنة العبد الشهيرة اللذين بناهما الأمير مرجان في الجهة الشرقية من صحن مرقد (الإمام) الحسين (1).


    الروضة الحسينية سنة 1935 م وتظهر مئذنة العبد إلى يمين الصورة

    السابق السابق الفهرس التالي التالي