المراقبات 123

ومنها : أنّك إذا عرفت المراد من جعل الصوم وإيجابه تعرف بذلك ما يكدّره وما يصفيه وتعلم معنى ما ورد فيه من أنّ الصوم ليس من الطعام والشراب فقط ، فإذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك حتّى ذكر في بعضها الجلد والشعر .
ومنها : أنّك تعرف أنّ النيّة بهذا العمل لا يليق أن يكون لدفع العقاب فقط ، ولا يليق أن يكون لجلب ثواب جنّة النعيم وإن حصلا به ، بل حقّ نيّة هذا العمل أنّه مقرّب من الله وموصل إلى قربه وجواره ورضاه ، بل جعل هذا العمل لأنّ من جهة أنّه مخرج للانسان من أوصاف البهيمة ومقرّب إلى صفات الروحانيين نفس التقرّب .
وإذا عرفت ذلك تعرف بأيسر ما تفطّن أنّ كلّ ما يلحقك من الأحوال والأفعال والأقوال المبعّدة لك عن مراتب الحضور فهو مخالف لمراد مولاك من تشريفك بهذه الدعوة والضيافة ، ولا ترضى أن تكون في دار ضيافة هذا الملك الجليل المنعم لك بهذا التشريف والتقريب ، العالم بسرائرك وخطرات قلبك ، غافلاً عنه وهو مراقب لك ، ومعرضاً عنه وهو مقبل عليك ، ولعمري إنّ هذا في حكم العقل من القبائح العظيمة التي لا يرضى العاقل أن يعامل صديقه بذلك ، ولكن كان من رفق الله وفضله لم يحرّم مثال هذه الغفلات ، وسامح عباده وكلّفهم دون وسعهم هذا ، ولكنّ الكرام من العبيد أيضاً لا يعاملون (ذلك) مع سيّدهم عند كلّ واجب وحرام بل يعاملونه بما يقتضيه حقّ السيادة والعبوديّة ، ويعدّون من اقتصر بذلك من اللئام .
وبالجملة يعملون في صومهم بما وصى به الصادق عليه السلام وهي أمور : منها أن يكون حالك في صومك أن ترى نفسك مشرفاً للآخرة ، ويكون حالك حال الخضوع والخشوع ، والانكسار والذلّة ، ويكون حالك حال عبد خائف

المراقبات 124

من مولاه وقلبك طاهراً من العيوب ، وباطنك من الحيل والمكر ، وتتبرّأ إلى الله من كل ما هو دونه ، تخلص في صومك ولايتك لله ، وتخاف من الله القهّار حقّ مخافته ، وتبذل روحك وبدنك لله عزّ وجلّ في أيّام صومك وتفرغ قلبك لمحبّته وذكره ، وبدنك للعمل بأوامره وما دعاك إليه ، إلى غير ذلك ممّا أوصى به من حفظ الجوارح من المحذورات والمخالفات ، ولا سيّما اللسان ، حتّى المجادلة واليمين الصادقة ثمّ قال في آخر الرواية : إن عملت بجميع ما بيّنت لك فقد علمت بما يحقّ على الصائم ، وإن نقصت من ذلك فينقص من فضل صومك وثوابه بقدر ما نقصت ممّا ذكرت .
أقول : فانظر بما في هذه الوصايا من وظائف الصائم ثمّ تأمّل في تأثيراته فاعلم أنّ من يرى نفسه مشرفاً للآخرة ، يخرج قلبه من الدنيا ، ولا يهتمّ إلا بتهيئة زاد للآخرة ، وهكذا إذا خضع قلبه وكان منكسراً وذليلاً بعد عن الفرح بغير الله والميل إليه ، ومن بذل روحه وبدنه لله وتبرّأ من كلّ شيء دون الله يكون روحه وقلبه وبدنه وكلّه مستهتراً في ذكر الله ومحبّة الله ، وعبادة الله ، ويكون صومه صوم المقرّبين ، رزقنا الله بحقّ أوليائه هذا الصوم ولو يوماً في عمرنا .
وكيف كان مراتب الصوم ثلاثة :
صوم العوامّ : وهو بترك الطعام والشراب والنساء على ما قرّره الفقهاء من واجباته ومحرّماته .
وصوم الخواصّ : وهو ترك ذلك مع حفظ الجوارح من مخالفات الله جلّ جلاله .
وصوم خواصّ الخواصّ : وهو ترك ما هو شاغل عن الله من حلال أو حرام .

المراقبات 125

ولكلّ واحد من المرتبتين الأخيرتين أصنافها كثيرة لا سيّما الأولى فإنّ أصنافه كثيرة لا تحصى بعدد مراتب أصحاب اليمين من المؤمنين بل كلّ نفس منهم له حدٌّ خاصٌّ لا يشبه حدّ صاحبه ومن أهل المراتب أيضاً من يقرّب عمله من عمل من فوقه ، وإن لم يكن منه .
هذا من جهة ما يصام عنه ، وأمّا من جهة قصد الصيام ، فينقسم الصائمون أيضاً على أصناف :
بعضهم ما قصدوا بصومهم قصداً صحيحاً يكفي في عدم بطلان عملهم ، بل صاموا لغير الله من خوف الناس ، ومن أجل جلب النفع منهم ، أو لمجرّد العادة المعمولة بين المسلمين .
وبعضهم يكون صومهم مشوباً مع ذلك بشيء من خوف عقاب الله ورجاء ثوابه .
وبعضهم يتمحّض قصدهم لأجل خوف العقاب أو الثواب الثاني قليل ، والأغلب من هذا الصنف يشترك في قصده جهة دفع العقاب ، وجلب الثواب .
وبعضهم يدخل مع ذلك في قصدهم كونه مقرّباً إلى الله وموجباً لرضا الله .
وبعضهم يتمحّض قصدهم في جهة القرب والرضا .
وقد يقال : الأولى أن يتمحّض قصد بعض الكاملين في كونه تعالى أهلاً لأن يعبد ويخلص من شوب الرغب والرهب رأساً حتى الوصول إلى لقائه والزلفى لديه ، كونه موافقاً لرضاه ، ويعدّون العمل من جهة الرغبة في الوصال ناقصاً ورأيت من عبّر عن مثل هذا العمل بأنّه عبادة النفس .

المراقبات 126

أقول : لا أظنّ نبيّاً ولا وليّاً ولا ملكاً مقرّباً يخلص جميع أعماله من ذلك وعدّ العمل بقصد أنّه موصل إلى رضا الله وقربه وجواره عبادة النفس كما في كلمات بعض أهل المعرفة إفراط ، نعم لا بأس بأن يكون لأولياء الله في بعض حالاتهم وتجلّياتهم حال يصدر منهم العمل لمجرّد كونه تعالى أهلاً له ، مع نسيان جهة القرب والرضا ، ولكن لا أقول بإمكان دوام ذلك لأحد من الأنبياء فضلاً عن غيرهم أو وقوعه بل ولا أفضّل العمل لذلك على العمل لشوق الوصول إلى جوار الحبيب تعالى ، كيف ولا مرتقى فوق عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ؟ والأخبار كاشفة عن كون بعض أعمالهم أو أغلبها لمجرّد تحصيل رضا الرب تعالى وقربه .
بل وأجسر وأقول : لا بأس أن يكون خوف العقاب أيضاً داخلاً في بعض الأحيان في قصودهم كيف ومن غلب عليه خوف عقاب الله بحيث غشي عليه من ذكر جهنّم لا يمكن أو يتعسّر أن لا يؤثّر ذلك في أعماله أصلاً ؟
بل وظنّي أنّ أحوال الأنبياء والأولياء حتّى سيّدهم نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ، كانت مختلفة ، وسبب اختلافها اختلاف تجلّيات أسماء الله تعالى لهم على وفق حكمة الله جل جلاله في تربيتهم وترفيع درجاتهم ، وتقريبهم من جواره ، وكان الله هو المتولّي لرياضة قلوبهم بذلك حتّى يكملوا كما في بعض فقرات الزيارة «مواليَّ لكم قلوب تولّى الله رياضتها بالخوف والرجاء» تارة يتجلّى لهم بالأسماء الجماليّة فيستأنسون لربّهم وتمنّون عليه بل يمنّون على غيرهم بالتصرّف في ملك مالكهم وسيّدهم ، أُخرى يتجلّى لهم بالأسماء القهريّة الجلاليّة ، فتراهم عند ذلك يتضرّعون ويستغفرون ويبكون ، ويناجونه بهذه المناجاة التي أغلبها الاستغفار والعوذة ، وطلب النجاة من جهنّم والنار كيف واختلاف أحوال الأنبياء شيء لا يخفى على من له أدنى مماسة بأخبارهم .

المراقبات 127

وقد روي لنا عن حالات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان في بعض حالاته يقول : كلّميني يا حميراء ، ومع ذلك قد كان ينتظر وقت الصلاة ويقول أرحني يا بلال ، وكان في بعض الأوقات يتغيّر لونه وحاله عند نزول الوحي ، وكان في بعض الأوقات يخاف عند هبوب الرياح من نزول البلاء ، وكلّ ذلك كاشف عن اختلاف الأحوال ، وهو لا يجتمع مع أن يتمخّض قصد العامل في جميع حركاته وسكناته عن جميع الوجوه إلا كونه تعالى أهلاً للعبادة ، هذا .
ولا يبعد أن يكون المراد من قصد كونه تعالى أهلاً للعبادة في لسان العظماء من أهل العلم معنى يجتمع مع قصد قربه ورضاه ، فإنّ قصد قرب الحبيب أيضاً قد يكون لكونه أهلاً للتقرّب إليه لا للتنعُّم من عطائه ونعمه ، ولا للفرار من عقابه ، هذا أحد معنيي كون العمل لأنّه أهل للعبادة ، كما يشعر بذلك كلام سيد الأولياء أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول : «ماعبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنّتك بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» فإنّه عليه السلام جعل قصد كونه أهلاً للعبادة مقابلاً للعبادة من خوف النار وطمع الجنّة لا ما يعمّ الوصول إلى رضاه وقربه فكيف كان ، نسأل الله جل جلاله أن يمنّ علينا بتوفيق قصد قربه ورضاه ، بل ويكرّمنا بمعرفة المقصود من قربه ، بل التسليم لإمكانه إجمالاً ، أما ترى جماعة من أجلّة أهل العلم ينكرون تصوّر معنى لقربه تعالى ويقولون : معنى قصد القرب هو قصد أمره تعالى ، وما زاد على ذلك فهو يخاف تنزيهه تعالى ، وإن كانوا في هذه العقيدة غير مصيبين .
ثمّ لا يذهب عليك أنّ القول ببطلان العبادة من جهة خوف العقاب أو طمع الجنّة وإن صدر عن بعض الأجلّة ولكنّه صادر عن الغفلة ولا غرو في وقوع أمثال هذه الغفلات والعثرات من الأجلّة والأعيان لحكمة إلهيّة في ابتلائهم بأمثاله .

المراقبات 128

ولا يذهب (عليك) أيضاً أنّ ما حكم به سيّدنا قدّس الله نفسه الزكيّة في إقباله بأنّ من عبد الله لمجرّد دفعه العقاب فهو من لئام العبيد ؛ إنّما هو كما صرّح به (قده) لمن كان ممّن لا يعبد لولا خوف العقاب ، فهو كما قال : يخالف كرائم الصفات ، بل مقصوده (قده) من لا يرى الله جل جلاله أهلاً للخدمة وهذا البتّة من لئام العبيد بل هذا الاعتقاد إنّما هو قذى في عين الإيمان والإسلام ، هذا .
وقد يزيد المخلصون في السوم على أنفسهم ـ زيادة على عدم شغلهم بغير محبوبهم ـ بكمال الجدّ في الأعمال الشاقّة ، ولو رأوا عملين متساويين في الفضل لاختاروا أشقّهما على أنفسهم ، أولئك هم المقرّبون حقّاً ، ولله درّهم كما حكي ذلك صريحاً عن أمير المؤمنين عليه السلام هذا .
وقد يقتسم الصائمون من جهة طعامهم وشرابهم إلى صنوف :
منهم : من يكون مأكله ومشربه من الحرام المعلوم هذا مثله في بعض الوجوه مثل حمّال يحمل أثقال الناس إلى منازلهم فالأجر لمالك الطعام ، وله وزر ظلمه وغصبه ، أو مثله مثل من ركب دابّة مغصوبة إلى بيت الله وطاف بالبيت على هذه الدابّة المغصوبة .
ومنهم من يكون (مأكله) ذلك من الشبهات : وهو على قسمين قسم يكون أخذ هذا المشتبه بالحرام الواقعيّ محلّلاً في الظاهر ، وقسم لا يكون محلّلاً ولو في الظاهر والأوّل يلحق في حكمه بمن يكون مأكله ومشربه من الحلال وإن كان دونه بدرجة ، والثاني بمن ياكل الحرام المعلوم وإن كان فوقه بدرجة .
ومنهم : من يكون مأكله حلالاً معلوماً ولكن يترف في كيفيّته بالألوان

المراقبات 129

الكثيرة ، وفي مقداره على حدّ الامتلاء ، ومثله مثل خسيس الطبع الذي يشتغل في حضرة حبيبه بالالتذاذ بما يكرهه ، وهو متوقّع أن لا يلتذّ بشيء غير ذكره وقربه وهذا عبد خسيس لا يليق بمجالس الأحبّاء ، بل حقّه أن يترك وما يلتذّ به ، وهو لأن يعدّ عبد بطنه أولى من أن يعدّ عبد ربّه .
ومنهم : من يكون حدّه في الكيفيّة والمقدار فوق الاتراف ويلحق بالاسراف والتبذير هذا أيضاً في حكمه ملحق بمن يأكل الحرام المعلوم وهو أيضاً بأن يعدُّ عاصياً أحقّ من أن يعدّ مطيعاً .
ومنهم : من يكون مأكله ومتقلّبه كلّها محلّلة ولا يسرف ولا يترف بل يتواضع لله في مقدار طعامه وشرابه عن الحدّ المحلّل وغير المكروه ، وهكذا يترك اللذيذ ويقتصر في الأدام على لون واحد ، أو يترك بعض اللذائذ وبعض الزياد .
فدرجاتهم عند ربّهم المراقب لحفظ مجاهداتهم ومراقباتهم محفوظة مجزية مشكورة ، ولا يظلمون فتيلاً فيجزيهم ربّهم بأحسن ما كانوا يعملون ، ويزيدهم من فضله بغير حساب ، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرّة أعين بل ولا خطر على قلب ، هذا .
واقتسموا أيضاً من جهة نيّات الإفطار والسحور على أصناف :
منهم : من يأكل فطوره وسحوره بلا نيّة غير ما يقصده الآكلون بالطبع لدفع الجوع أو لذّة المأكول .
ومنهم : من يقصد مع ذلك أنّه مستحبٌّ عند الله وأنّه عون على قوّة العبادة .
ومنهم : من لا يكون قصده من الإفطار والتسحّر إلا كونهما مطلوبين

المراقبات 130

لسيّدهم ومولاهم ، وعوناً على عبادته ، ويراعون مع ذلك آدابه المطلوبة من الذكر والعبر والكيفيّات ، ويقرأون ما استحبّ من قراءة القرآن والأدعية والحمد قبل الشروع وفي الأثناء وبعد الفراغ .
ومن أهمّ ما يقرأ بعد البسملة فيهما قبل الشروع سورة القدر ، ومن أجلّ ما يقرأ قبل الإفطار الدعاء المرويّ في «الإقبال» بإسناده إلى مفضّل بن عمر ، عن الصادق عليه السلام قال : «إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأمير المؤمنين ـ عليه الصلاة والسلام ـ : يا أبا الحسن ! هذا شهر رمضان قد أقبل فاجعل دعاءك قبل فطورك فإنّ جبرئيل جاءني فقال : يا محمد من دعا بهذا الدعاء في شهر رمضان قبل أن يفطر استجاب الله دعاءه وقبل صومه عنه وصلاته ، واستجاب له عشر دعوات ، وغفر له ذنبه ، وفرّج غمّه ، ونفّس كربته ، وقضى حوائجه ، وأنجح طلبته ، ورفع عمله مع أعمال النبيّين والصدّيقين وجاء يوم القيامة ووجهه أضوأ من القمر ليلة البدر فقلت : ما هو يا جبرئيل ؟ فقال : اللهم ربّ النور العظيم إلخ .
ثمّ إنّ الذي في الأخبار هو كون الغيبة والكذبة والنظرة بعد النظرة والسبّ والظلم قليلها وكثيرها مفطراً ، وأن ليس الصوم من الطعام والشراب فقط ولكن إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك وفرجك وبطنك ، واحفظ يدك ورجلك وأكثر السكوت إلا من خير ، وارفق بخادمك ، وأنّه إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح ، ودع المراء وأذى الخادم ، وليكن عليك وقار الصيام ، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك ، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ أيسرما افترض الله على الصائم في صيامه ترك الطعام والشراب ، وفتوى الفقهاء بصحّة صوم بعض هؤلاء إنّما يلتئم إذا أُريد من

المراقبات 131

كلام الفقهاء في معنى الصحّة ما يكون مسقطاً للقضاء ومما في الأخبار ما يكون موجباً للقبول .
وبالجملة الصوم الصحيح الكامل الذي شرّع الله تعالى لحكمة تكميل نفس الصائم ، هو ما يكون لا محالة تركاً لعصيان الجوارح كلّها فإن زاد الصائم مع ذلك ترك شغل القلب عن ذكر غير الله ، وصام عن كلّ ما سوى الله فهو الأكمل وإذا علم الانسان حقيقة الصوم ودرجاته وحكمة تشريعه ، فلا بدّ له من الاجتناب عن كلّ معصية وحرام لأجل قبول صومه لا محالة ، وإلا فهو مأخوذ مسؤول عن صوم جوارحه وليس معنى إسقاط القضاء أمراً ينفع الانسان يوم القيامة عن المؤاخذة ، هذا .
وقد ورد في فضل شهر رمضان وبسط رحمة الله فيه من الأخبار أمر عظيم نافع جدّاً «لِمَن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد» (ق : 37) .
منها : أنّ لله تعالى في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الافطار سبعين ألف ألف عتيق من النار كلا قد استوجب النار ، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه .
وفي رواية أخرى : إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان غفر الله لمن شاء من الخلق ، إذا كانت الليلة التي تليها ضاعفهم ، فإذا كانت التي تليها ضاعف كلّما أعتق حتّى آخر ليلة في شهر رمضان يضاعف مثل ما أعتق في كلّ ليلة .
ومن ذلك ما رواه السيد قدّس الله نفسه الزكيّة في الإقبال عن كتاب بشارة المصطفى لشيعة المرتضى بإسناده إلى الحسن بن علي بن فضّال ، عن الرضا ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبنا ذات يوم فقال :

المراقبات 132

«آيها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور ، وأيّامه أفضل الأيّام ، ولياليه أفضل الليالي ، وساعاته أفضل الساعات ، وشهرٌ دعيتم فيه إلى ضيافة الله ، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله ، أنفاسكم فيه تسبيح ، ونومكم فيه عبادة ، وعملكم فيه مقبول ، ودعاؤكم فيه مستجاب فاسألوا الله ربّكم بنيّات صادقة ، وقلوب طاهرة ، أن يوفّقكم لصيامه ، وتلاوة كتابه ، فإنّ الشقيّ من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم» .
«اذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه ، وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم ، ووقّروا فيه كباركم ، وارحموا صغاركم ، وصلوا ارحامكم واحفظوا ألسنتكم ، وغضّوا عمّا لا يحلّ إليه النظر أبصاركم ، وعمّا لا يحلّ إليه الاستماع أسماعكم ، وتحنّنوا على أيتام الناس يتحنّن على أيتامكم ، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم ، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم ، فإنّها أفضل الساعات ، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده ، ويجيبهم إذا سألوه وناجوه ، ويلبّيهم إذا نادوه ، ويستجيب لهم إذا دعوه» .
«أيها الناس إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم ، وظهوركم مثقلة من أوزاركم فخفّفوها بطول سجودكم ، واعلموا أنّ الله أقسم بعزّته أن لا يعذّب المصلّين والساجدين ، وأن لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين» .
«أيها الناس من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة ، ومغفرة لما مضى من ذنوبه ، فقيل : يا رسول الله وليس كلّنا يقدر على ذلك ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : اتّقوا النار ولو بشقّ تمرة ، اتّقوا النار ولو بشربة من ماء» .

المراقبات 133

«أيها الناس من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام ، ومن خفّف منكم في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه خفّف الله عليه حسابه ، ومن كفّ فيه شرّه كفّ الله غضبه عنه يوم يلقاه ، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه ، من وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه ، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه ، ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار ، من أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور ، ومن أكثر فيه من الصلاة عليَّ ثقّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين ، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور» .
«أيها الناس إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتّحة فاسألوا ربّكم أن لا يغلقها عليكم ، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم ، والشياطين مغلولة فاسألوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم» .
قال أمير المؤمنين عليه السلام : فقمت وقلت يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر ؟ فقال : يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّ وجل ، ثمّ بكى ، فقلت : ما يبكيك يا رسول الله ؟ فقال : يا عليّ ممّا يستحلّ منك في هذا الشهر كأنّي بك وأنت تصلّي لربّك ، وقد انبعث أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود ، فيضربك ضربةً على قرنك تخضب بها لحيتك .
قال أمير المؤمنين عليه السلام فقلت : يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني ؟ فقال : في سلامة من دينك .
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : يا عليّ من قتلك فقد قتلني ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، ومن سبّك فقد سبّني ، لأنّك منّي كنفسي ، روحك من روحي ، وطينتك من

المراقبات 134

طينتي ، إنّ الله عزّ وجل خلقني وخلقك واصطفاني وإيّاك ، واختارني للنبوّة واختارك للإمامة ، من أنكر إمامتك فقد أنكر نبوّتي .
يا علي أنت وصيّي ، وأبو ولدي وزوج ابنتي ، وخليفتي على أمّتي في حياتي وبعد موتي ، أمرك أمري ، ونهيك نهيي . أُقسم بالذي بعثني بالنبوة ، وجعلني خير البريّة ، إنّك لحجّة الله على خلقه ، وأمينه على سرّه ، وخليفته في عباده» .
ومن أبلغ ما ورد في البشارة لشهر رمضان دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على من لم يغفر فيه حيث إنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : «من انسلخ عنه شهر رمضان ولم يغفر له فلا غفر الله له» فإنّ هذا الدعاء بلحاظ أنّه صلى الله عليه وآله وسلم بعث رحمة للعالمين بشارة عظيمة لسعة الرحمة وعموم الغفران في الشهر وإلا لم يكن مع كونه رحمة للعالمين يدعو لمسلم ولو كان مذنباً .
ومن أجلّ ما ورد في ذلك الأخبار الكثيرة الواردة في غلّ مردة الشياطين وفتح أبواب الجنان ، وفتح أبواب الرحمة ، وغلق أبواب النار ، وكفاية الله عدوّ الجنّ ، نداء منادي الله من أوّل الشهر إلى آخره ولم يرد مثله في شهر من الشهور فإن الذي ورد في سائر الشهور إنّما هو الثلث الآخر من الليل إلا في ليالي الجمعات من أول الليل إلى آخره ، كذا في شهر رجب عامّة وأمّا شهر رمضان فورد فيه النداء من أوّل الشهر إلى آخره لياليها وأيّامها ، وما ورد من اختصاص شهر رمضان باجابة الدعاء وآية «ادعوني أستَجِب لكم» (غافر : 60) .
أقول : إنّ لكلّ واحد من هذه الأمور لشأناً عند أهله يعرفون به منّة الله عليهم ، يستقبلونه بشكر وفرح عظيم ، وينتفعون به ، وأمّا الغافل والمنكر فلعلّهما يقلّ انتفاعهما من جهة التضييع والإهمال والكفران أو يعدم .

المراقبات 135

ولقد حكي أنّه كان بعضٌ لا يرى من غلّ الشياطين في شهر رمضان كثير نفع وكأنّه عسر عليه تصديقه أو فهم ما أريد منه ، والحال أنّه محبوس في شهر رمضان وآثاره في العالم ظاهرة من جهة كثرة العبادات والخيرات فيه ، ولا يشكّ فيه أحد ومن يعرف حقيقة الشيطان ، وجهة ارتباطه مع البشر ومداخله ، يعرف أنّ نفس الامتناع من الطعام والشراب لا سيّما إذا اقترن بكفّ اللسان عن كثرة الكلام ، سبب لمنع تصرّف الشياطين في قلب الصائم كما أشير إلى بعض ذلك في قولهم عليهم السلام :
«ضيّقوا مجاريه بالجوع ، وإنّه يجري في بدن الانسان مجرى الدم» .
وكيف كان فهذا الذي هو المرئيّ من العامّة من كثرة العبادات ، والخيرات والقربات في شهر رمضان شيء لا ينكر . نعم ليس هذا بالنسبة إلى جميع الشياطين ، وبالنسبة إلى جميع المكلّفين ، وهذا أمر ظاهر لأهله كما صرّح تقييده في بعض أخبار الباب بمردة الشياطين .
ثمّ إنّ الشرع والعقل والعرف كلّها يحكم بلزوم التعرّض لنفحات الرب تعالى واستقبال ألطافه في توفيق العبد لتحصيل قربه ورضاه بالشوق والشكر والأدب ، من أقلّ مراتب التعرّض أن ينشئ العبد جواباً لمنادي هذا الشهر بإظهار الشكر ، وقبول المنّة ، وعذر التقصير ، وذلّ الاعتراف .
فالأولى له أن يتصوّر هذا الملك كأنّه رسول عزيز شريف لبعض ملوك الدنيا وجاءه من قبل هذا الملك لدعوة هذه الرعيّة لمجلس ضيافة السلطان ، وأخبر أنّ السلطان معه في غاية اللطف من مغفرة الزلات ، وعطاء الهبات ، وفرامين الولايات والخلع الفاخرات ، بل في مقام الرضا ، والدعوة لمجلس الأنس واللقاء ، القرب والوفاء ، وتشريفه في زمرة الأحبّاء والأولياء ، كيف يستقبله ويجيبه ؟ ويبذل مهجته دونه ؟ ويفديه بأعزّته وأهله ونفسه ؟ ثمّ يقدّر في

المراقبات 136

نفسه عظمة هذا الرب الودود ، والسلطان العظيم ، بالنسبة إلى جميع ملوك الدنيا ويعرف حقّ ما يجب عليه في إجابة هذا الدعاء وينشئ له جواباً يليق بحاله ، وإن لم يمكنه التحرّي في ذلك بما يليق فليقرأ ما أنشأناه في جواب منادي رجب بتغيير ما في بعض فقراته .
ثمّ الأولى أن يقرأه في أوّل الشهر بل في الليلة الأولى وفي بعض أوقاته الخاصّة .
وأمّا التعرّض لنفحة إجابة الدعوات ، فبكثرة الدعوات ، والمناجاة الواردات وغير الواردات ، وأن يكثر التدبّر في الآيات الواردة في ذلك من قوله تعالى : «قُل ما يَعبَأُ بكم ربّي لَولا دعاؤكم» (الفرقان : 77) وقوله : «ادعوني أستَجِب لكم» (غافر : 60) وقوله : «وإذا سَألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أُجيبُ دعوة الداعي إذا دعانِ فَليَستَجيبوا لي وَليُؤمِنوا بي لَعَلّهم يَرشُدون» (البقرة : 186) وقوله : «أمَّن يُجيبُ المُضطَرّ إذا دعاهُ ويَكشِفُ السوء» (النمل : 62) وقوله : «فَلَولا إذا جاءهم بَأسُنا تَضَرَّعوا» (الأنعام : 43) وقوله : «الذين يَستَكبِرون عَن عبادَتي سَيَدخُلون جَهَنّمَ داخِرين» (غافر : 60) حيث فسّر العبادة في الأخبار بالدعاء ، قوله : «واسألوا الله من فضله» (النساء : 37) «إنّ الله كانَ بكم رَحيماً» (النساء : 29) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة .
وليتأمّل في أخبار الباب ثمّ يتفكّر في عمل الأئمة عليهم السلام في هذا الأمر وما أنشأوا من الدعوات الجليلة والمضامين اللطيفة ، فإنّه يجد في ذلك فوق حدود البشر من فنون العلم بأسماء الله وصفاته ، وما يقتضيه جماله وجلاله ، وحقّ أدب العبوديّة مع كلّ فيما يناسبه مقامه وأوصافه وأحواله ، وكيفيّة الاستعطاف والاسترحام ، لطيف الاستدلالات في استيجاب عفوه وكرمه

السابق السابق الفهرس التالي التالي