المراقبات 151

يحول بين المرء وقلبه ، يا من هو بالمنظر الأعلى وبالأفق المبين ، يا من ليس كمثله شيء» ـ وفي بعضها غيرها .
وان يدعو الله بأسمائه المناسبة لدعائه ، وأن يذكر جملة من نعم الله عنده . يشكره ، ثم يذكر ذنوبه فيقرّ ثمّ يستغفر منه ويتلبّث في دعائه ، ويترك الاستعجال ويلحّ فيه فإنّ الله تعالى يحبّ السائل اللجوج ، وأقلّ الإلحاح أن يكرّر دعاءه ثلاث مرّات ويسمّي حاجته ، ويسرّ في دعائه لبعده عن الرياء ، وإجابة لقوله تعالى : «وخفية» وروي أنّ دعاء السرّ يعدل سبعين دعوة في العلانية .
ويعمّم في دعائه لأنّه أوجب للدعاء كما روي ، وأن يدعو مع الاجتماع أفضله أربعون ، وبدله أربعة يدعو كل واحد منهم عشر مرّات ، وعند الضرورة يدعو الواحد أربعين مرّة ، ويتضرّع في دعائه بقلب خاضع ، وبدن خاشع ، ويتملّق ويتبصبص .
وروي أنّه كان فيما أوحى الله إلى عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام : «يا عيسى ادعني دعاء الغريق الحزين الذي ليس له مغيث ، أذلّ لي قلبك وأكثر ذكري في الخلوات ، واعلم أنّ سروري أن تبصبص إليَّ ، وكن في ذلك حيّاً ولا تكن ميّتاً وأسمعني منك صوتاً حزيناً» .
وفيما أوحى الله إلى موسى عليه السلام : «يا موسى كن إذا دعوتني خائفاً مشفقاً وجلاً ، عفّر وجهك في التراب ، واسجد لي بمكارم بدنك ، واقنت بين يديّ بالقيام وناجني حيث تناجيني بخشية من قلب وجل ـ إلى أن قال ـ وأمت قلبك بالخشية ، وكن خلق الثياب جديد القلب ، تخفى على أهل الأرض وتعرف في السماء ، جليس البيوت ، مصباح الليل ، واقنت بين يديّ قنوت الصابرين ، وصح من كثرة الذنوب صياح الهارب من العدوّ ، واستعن بي على

المراقبات 152

ذلك فإنّي نعم العون ونعم المستعان» .
وأن يصلّي على محمد وآله أوّله وآخره ، روى محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما السلام :
«ما في الميزان شيء أثقل من الصلوات على محمد وآل محمد» .
روى هشام بن سالم ، عن الصادق عليه السلام : «لا يزال الدعاء محجوباً حتى يصلّي على محمد وآل محمد» .
وعنه عليه السلام : «من كانت له إلى الله حاجة فيبدأ بالصلاة على محمد وآل محمد ثم يسأل حاجته ثمّ يختم بالصلاة على محمد وآل محمد ، فإن الله عز وجل أكرم من أن يقبل الطرفين ، ويدع الوسط ، إذ كانت الصلاة على محمد وآله لا يحجب عنه» .
أقول : أمر الصلوات عظيم وهي من شؤون الولاية ، فكما أنّ الله لا يقبل الإيمان إلا بالإقرار بهم وولايتهم ، صلوات الله عليهم ، فكذلك أمر الدعاء والصلوات .
وليعلم أنّ الصلوات أيضاً مثل غيرها من الأعمال لها صورة وروح ، وروحها أن يعرف شأنهم ومقامهم من الله تعالى ، وأنّهم الوسائل والشفعاء ، وأنّ الله لا يقبل أحداً إلا بالتوسّل بهم ، وأنّهم عليهم السلام أولى به حقيقةً من نفسه ، وركن هذه المذكورات المعرفة الجزئيّة الحقيقيّة المؤثّرة في العمل بأولويّتهم ، فإذا تحقّقت المعرفة المؤثّرة ، وصلّى العبد عن هذه المعرفة واحدة صلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشراً بل وأزيد إلى ما لا نهاية له و(إذا) وقعت في الدعاء استجيب له .
وأن يقبل على مولاه الرؤوف الرحمن الرحيم بقلبه ، بل وروحه وسرّه ،

المراقبات 153

ويطهّر قلبه عن غيره ، ولا سيّما الأفكار الدنيّة التي تبجّس القلب وتقذّر الروح ، ومن الأفكار المحرّمة والمكروهة والمباحة ، ولا سيّما من هموم الدنيا وهمّ خوف المكروه ، والظنّ السوء على الرب جلّ جلاله وعدم الركون إلى مواعيده ، فإنّها مهلكة لقلب المؤمن ، بل مورثة لإعراض الله جلّ جلاله عنه : «ذلكم ظنُّكُم الذي ظننتم بربّكم أرداكم» (فصلت : 23) لما فيه من ضعف الايمان ، وسوء الأدب مع الرب وطاعة الشيطان و«الشيطانُ يَعِدُكُم الفَقرَ ويأمُرُكم بالفحشاء» (البقرة : 268) .
وأن يقدّم الدعاء ، ويدعو في الرخاء قبل الوقوع في الشدّة والبلاء ، لأنّ له شأناً من الشأن ، والدعاء بعد الوقوع في الشدّة قليل النفع ، وأن يدعو لإخوانه المؤمنين قبل دعائه لنفسه ، أو مع نفسه ، وتقديمهم في الذكر أولى ، ولكن يكون ذلك من منشأ الولاية والمحبّة لا بالتكلّف من أجل سرعة الاجابة ، وهو قليل النفع .
فالعمدة والمؤثّر الحبّ في الله ، ولعمري إنّ في القرآن والأخبار لتأكيداً عظيماً في ذلك ، وفي الأخبار الموثّقة : هل الإيمان إلا الحبُّ في الله والبغض في الله .
وفي الأخرى : أنّ أوثق عرى الايمان الحبُّ في الله .
وفي الأخرى : أنّ الله جل جلاله يدخل بين يدي المتصافحين ويصافح من هو أحبُّ لصاحبه من صاحبه له .
روي أنّ المؤمن إذا دعا لأخيه المؤمن بظهر الغيب ناداه ملك من السماء الدنيا : لك يا عبد الله مائة ألف ضعف ممّا دعوت ، وناداه ملك من السماء الثانية : ولك مئتا ألف ضعف ما دعوت وهكذا يزيدون كلّ مائة ألف ضعف ، فينادي ملك من السماء السابعة : لك سبعمائة ألف ضعف ، ثمّ يناديه الله عزّ

المراقبات 154

وجلّ : أنا الغنيّ الذي لا أفتقر يا عبد الله لك ألف ألف ضعف ممّا دعوت .
ويعجبني أن لا أخلي هذا المختصر من ذكر رواية حسن بن يقطين وإن كانت معروفة حبّاً لعمل هذا العامل الموالي المحبّ المجاهد المواسي ، وفيها أنّه كتب الصادق عليه السلام لرجل من كتّاب يحيى بن خالد والي أهواز في حقّ هذا الحسن في رقعة صغيرة : «بسم الله الرحمن الرحيم إنّ لله في ظلّ عرشه ظلاً لا يسكنه إلا من نفّس عن أخيه كربة أو أعانه بنفسه أو صنع إليه معروفاً ولو بشقّ تمرة ، وهذا أخوك والسلام» .
قال : فلمّا رجعت إلى بلدي صرت إلى منزله ـ أي الوالي ـ ليلاً فاستأذنت إليه وقلت : رسول الصادق عليه السلام ، فإذا أنا به قد خرج إليّ حافياً سلّم عليَّ وقبّل ما بين عيني ، ثمّ قال : أنت يا سيّدي رسول الصادق عليه السلام مولاي ؟ فقلت : نعم ، قال : فقد أعتقتني من النار إن كنت صادقاً .
فأخذ بيدي وأدخلني منزلاً وأجلسني في مجلسه ، وقعد بين يديّ ثمّ قال :
يا سيّدي كيف خلّفت مولاي ؟ قلت : بخير ، فقال : الله ، قلت : الله ـ حتّى أعاد ثلاثاً ـ ثمّ ناولته الرقعة فقرأها وقلّبها على عينيه ، ثمّ قال : يا أخي مر بأمرك ، فقلت : في جريدتك عليّ كذا وكذا ألف درهم ، وفيه عطبي وهلاكي ، فدعا بالجريدة فمحا عنّي كلّ ما كان فيها، وأعطاني براءة منها ، ثمّ دعا بصناديق ماله ، فناصفني عليها ، ثمّ دعا بدوابّه فجعل يأخذ دابّة ويعطني دابّة ، ثمّ دعا بغلمانه فجعل يعطيني غلاماً ، ويأخذ غلاماً ، ثمّ دعا بكسوته فجعل يأخذ ثوباً ويعطيني ثوباً حتّى شاطرني جميع ملكه ، فيقول : هل سررتك ؟ فأقول : إي والله وزدت على السرور .
فلمّا كان الموسم قلت : ما كان هذا الفرح يقابل شيئاً أحبّ إلى الله

المراقبات 155

ورسوله من الخروج إلى الحجّ والدعاء له والمصير إلى مولاي وسيّدي الصادق عليه السلام وشكره عنده وأسأله الدعاء له ، فخرجت إلى مكّة وجعلت طريقي إلى مولاي عليه السلام فلمّا دخلت عليه ، رأيت السرور في وجهه ، فقال لي : «يا فلان ما كان من خبرك مع الرجل» ؟ فجعلت أورد عليه خبري وجعل يهلّل وجه ويسرّ السرور ، فقلت : يا سيدي هل سررت بما كان منه إليّ ؟ فقال : «إي والله سرّني ، ولقد سرّ آبائي ، والله لقد سرّ أمير المؤمنين عليه السلام ، ولقد سرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والله لقد سرّ الله في عرشه .
وفي الخبر : من مشى في حاجة أخيه ولم يناصحه بكلّ جهده فقد خان الله ورسوله والمؤمنين .
وفيه : من قضى لأخيه المؤمن حاجة كان كمن عبد الله تسعة آلاف سنة صائماً نهاره ، قائماً ليله .
وحدّث الحسين بن أبي العلاء قال : خرجنا إلى مكة نيّفاً وعشرين رجلاً فكنت أذبح لهم في كلّ منزل شاةً فلمّا أردت أن أدخل على أبي عبد الله عليه السلام فقال : «واهاً يا حسين أوَ تذلُّ المؤمنين» ؟ قلت : أعوذ بالله من ذلك ، فقال : «بلغني أنّك كنت تذبح لهم في كلّ منزل شاةً» ؟ قلت : يا مولاي والله ما أردت بذلك إلا وجه الله تعالى ، فقال عليه السلام : «أما كنت ترى أنّ فيهم من يحبّ أن يفعل مثل فعلك ولا يبلغ مقدرته ذلك ، يتقاصر إليه نفسه» ؟ قلت : يا بن رسول الله ـ صلى الله عليك ـ أستغفر الله ولا أعود .
أقول : هذه (الأخبار) تكفي للإشارة وإلا ففي هذا المقام أخبار تملا الكتب وتحيّر العقول .
وأن يرفع كفّيه بدعائه ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين .

المراقبات 156

وسئل الصادق عليه السلام عن الدعاء ورفع اليدين فقال : على خمسة أوجه : أمّا التعوّذ فتستقبل القبلة بباطن كفّيك ، وأمّا الدعاء في الرزق فتبسط كفّيك فتفضي بباطنهما إلى السماء ، وأمّا التبتّل فإيماؤك باصبعك السبّابة ، وأمّا الابتهال فترفع يديك تجاوز بهما رأسك ، وأمّا التضرّع أن تحرّك إصبعك السبّابة ممّا يلي وجهك وهو دعاء الخفية .
وروي عنه عليه السلام في الرغبة : تبسط يديك وتظهر باطنهما ، وفي الرهبة تبسط يديك وتظهر ظاهرهما وفي التضرّع تحرّك السبّابة اليُمنى يميناً وشمالاً ، وفي التبتّل تحرّك السبابة اليسرى ترفعها في السماء رسلاً وتضعها رسلاً ، وفي الابتهال تبسط يديك وذراعيك إلى السماء .
قال : وهكذا التضرّع وحرّك إصبعه يميناً وشمالاً ، وهكذا التبتّل يرفع إصبعه مرّة ويضعها أخرى ، وهكذا الابتهال : ومدّ يديه تلقاء وجهه وقال : لا تبتهل حتّى تجري الدمعة .
وفي رواية : الاستكانة في الدعاء أن يضع يديه على منكبيه .
هذا كلّه في الدعاء جالساً وقائماً ويمكن أن يكون حال السجدة في بعض الأحوال أفضل كما ورد بالخصوص في بعض الأدعية وورد : أقرب حالات العبد من الله جلّ جلاله إذا كان ساجداً ، وهي صورة أسنى الحالات والمقامات ، وهو مقام الفناء في الله .
وفي مصباح الشريعة : لا يبعد عن الله تعالى أبداً من أحسن تقرّبه في السجود وفيه أيضاً : وقد جعل الله معنى السجود سبب التقرّب إليه بالقلب والسر والروح فمن قرب منه بعد من غيره ، ألا ترى في الظاهر أنّه لا يستوي حال السجود إلا بالتواري من جميع الأشياء ، والاحتجاب عن كلّ ما تراه

المراقبات 157

العيون ، كذلك أراد الله أمر الباطن . من كان قلبه في صلاته متعلّقاً بشيء دون الله فهو قريب من ذلك الشيء بعيد عن حقيقة ما أراد الله .
أقول : قد مضى في أخبار فضائل الشهر إيصاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطول السجود ، وهو أمر مهمّ ، وهو أقرب هيئات العبوديّة ، ولذا جعل في كلّ ركعة مرّتان وغيره مرّة واحدة ، وقد نقل عن أئمّتنا عليهم السلام ، وعن خواصّ شيعتهم في طول السجود أمر عظيم وقد عدّ للسجّاد عليه السلام في بعض سجداته ألف مرّة : لا إله إلا الله حقّاً حقّاً إلى آخره ، وأنّ الكاظم عليه السلام يقرب طول سجوده من أوّل اليوم إلى صلاة الظهر ونقل عن ابن أبي عمير وجميل وخرّبوذ ما يقرب من ذلك .
وكان لي شيخ جليل أيّام تحصيلي في النجف الأشرف ، وكان مرجعاً للأتقياء طلبة زمانه في التربية وسألته عمّا جرّبه من الأعمال البدنية في تأثير حال السالك إلى الله ، فذكر أمرين :
أحدهما : أن يسجد في كلّ يوم وليلة سجدة واحدة طويلة ، ويقول فيها : «لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنتُ منَ الظالمين» (الأنبياء / 87) يقصد بذلك أنّ روحي مسجونة في سجن الطبيعة ، ومقيّدة بقيود الأخلاق الرذيلة ، وإنّي بأعمالي جعلت نفسي مسجونة في هذا السجن ، ومقيّدة بهذه القيود ، وأُنزّه ربّي من أن يكون هو الذي فعل بي ذلك ظلماً ، وأنا الذي ظلمت نفسي ، وأوقعتها في هذه المهالك .
وكان يوصي أصحابه بهذه السجدة ، وكان كلّ من يعمل بها يعرف تأثيرها في حالاته لا سيّما من كان طول سجوده أكثر ، وكان بعض أصحابه يقول ذلك ألف مرّة ، وبعضهم أقلّ ، وبعضهم أكثر ، وسمعت أنّ بعضهم يقولها ثلاثة آلاف مرّة .

المراقبات 158

والثاني : أن يتختم بخاتم فيروزج أو عقيق ، وقد ورد أنّ الله تعالى قال : «إنّي لأستحيي من عبد يرفع يده وفيها خاتم فيروزج ، فأردّها خائبةً» .
وعن الصادق عليه السلام : ما رفعت كفٌ إلى الله عزّ وجلّ أحبّ إليه من كفّ فيها خاتم عقيق .
أقول : للتختم فائدة لا أجوز ذكرها وإن لم يكن ذكرها من محلّ كلامنا وهو أنّ الإنسان قلّ ما يكون خالياً من المعاصي الدائمة فينبغي أن يختار من الطاعات أيضاً ما يكون دائمة ليناسب تكفيرها والتختّم منها .
ومنها : الصدقة قبل الدعاء كما روي ذلك وفي الرواية : «استنزلوا الرزق بالصدقة» .
وينبغي أيضاً أن يختار من الأوقات ـ لدعائه وحوائجه ـ المخصوصة وهي كثيرة منها : ليلة الجمعة ويومها .
وروي عن الباقر عليه السلام : أنّ الله تعالى لينادي كلّ ليلة جمعة من فوق عرشه من أوّل الليل إلى آخره : ألا عبد مؤمن يتوب إليَّ من ذنوبه قبل طلوع الفجر فأتوب عليه ، ـ هكذا ذكره عدّة حوائج إلى أن قال ـ فلا يزال ينادي هذا حتّى يطلع الفجر .
وروي أنّ الله يؤخّر قضاء حاجة عبده المؤمن إلى يوم الجمعة .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يوم الجمعة سيّد الأيّام وأعظمها عند الله ، وأعظم من يوم الفطر ويوم الأضحى ـ إلى أن قال ـ : فيه ساعة لا يسأل الله عزّ وجل فيها أحد شيئاً إلا أعطاه ما لم يسأل حراماً ـ إلى أن قال ـ : وفي نهار الجمعة ساعتان ما بين فراغ الخطيب من الخطبة إلى أن يستوي الصفوف بالناس ، وأخرى من آخر النهار ، روي : إذا غاب نصف القرص .

المراقبات 159

ومنها ما بين الظهر والعصر من يوم الأربعاء للدعاء على الكفّار .
ومنها : العشاء الآخرة ، وروي أنّها لم تعط لأحد من الأُمم قبلكم .
ومنها : السدس الأوّل من النصف الثاني من الليل ، وروي عمر بن أُذينة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إنّ في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلّي ويدعو الله فيها إلا استجاب له قال : قلت : أصلحك الله أيّ ساعة الليل هي ؟ قال : إذا مضى نصف الليل ، وهي السدس الأول من أول النصف .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه خرج داود في هذه الساعة وقال : هذه ساعة لا يدعو فيها أحد إلا استجيب له إلا فلان .
ومنها : آخر الليل إلى طلوع الفجر وقدّر بالثلث الأخير وفي الرواية : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان آخر الليل يقول الله سبحانه وتعالى : هل من داع فأُجيبه ؟ هل من سائل فأُعطيه سؤله ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه .
وفي أخرى : يا طالب الخير أقبل ويا طالب الشرّ أقصر .
وفي رواية : إذا نام حتّى طلع الفجر بال الشيطان في أذنيه فاعتبروا يا أولي الألباب .
أقول : و(إنّ) للسيد الجليل ابن طاووس قدّس الله سرّه العزيز ـ الذي كان يقول شيخي (قده) إنّه ما جاء مثله في علم المراقبة في الأمّة من طبقة الرعيّة ـ في هذا المقام جواباً عمله للمراقبين أن يقولوا مخاطباً لهذا المنادي ، وهو في نفسي أمر عظيم ، وسنّة حسنة ، وهو فيما علمنا أوّل من سنّ هذه السنّة الفاخرة جزاه الله خيراً . ومن خصائصه نظير ما حكي عنه أنّه جعل يوم بلوغه عيداً تعظيماً لتشريف الله جلّ جلاله إيّاه في هذا اليوم بخلع التكاليف

المراقبات 160

ولعمري إنّ هذا أيضاً أمر عظيم ، ومراقبة جليلة مهمّة لم نسمعها من أحد من علمائنا المجاهدين ، وهو ما رواه عنه في عدّة الداعي وهو قوله : اللهم إنّي قد صدّقت ـ إلى أن قال ـ مرحباً بك أيّها الملك الخ .
ومنها : ما بين الطلوعين وبظنّي أنّه مختصّ بدعاء الرزق .
ومنها ليالي القدر الثلاث من شهر رمضان وأفضلها ليلة الجهنّي وليالي الإحياء وهي أوّل ليلة من رجب ، وليلة النصف من شعبان ، وليلتا العيدين ، ويوم عرفة والعيدان .
ومنها : وقت هبوب الرياح ، ونزول المطر ، وزوال الأفياء ، وأوّل قطرة من دم القتيل المؤمن ، فإنّ أبواب السماء تفتّح عند هذه الأشياء .
روي : إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء ، وأبواب الجنان ، وقضيت الحوائج العظام ، فقلت : من أيّ وقت ؟ فقال : بمقدار ما يصلّي الرجل أربع ركعات مترسّلاً .
من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .
وأن يختار الأمكنة الشريفة مثل رأس الحسين عليه السلام تحت قبّته كما ورد أنّ فيها يستجاب الدعاء ومثل سائر الأزمنة الشريفة والأمكنة الشريفة فإنّها لا بدّ أن تكون أقرب للإجابة من غيرها ، وإن لم يرد فيها شيء بالخصوص .
وقد روي عن الرضا عليه السلام أنّه ما وقف أحد بتلك الجبال ـ مشيراً إلى المواقف الشريفة من مكّة ونواحيها ـ إلا استجيب له ، أمّا المؤمن فيستجاب له في أُخراه ، أمّا الكافر فيستجاب له في دنياه ، واختصاص عرفات يوم العرفة معروف ، وهكذا الحالات الشريفة كحال الرقّة والبكاء .
والصلوات المكتوبة ، روي عن أمير المؤمنين عليه السلام : قال : قال

المراقبات 161

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أدّى لله مكتوبة فله في إثرها دعوة مستجابة ، قال ابن الفحّام ، رأيت أمير المؤمنين عليه السلام في النوم فسألته عن الخبر فقال : «صحيح ، إذا فرغت من المكتوبة فقل : وأنت ساجد : اللهمّ إنّي أسألك بحقّ من رواه وبحقّ من روي عنه صلّ على جماعتهم وافعل بي كذا وكذا» .
وعن الصادق عليه السلام : «أنّ الله تعالى فرض عليكم الصلوات في أحبّ الأوقات إليه فاسألوا الله حوائجكم عقيب فرائضكم» .
أقول : وهذه الرواية إنّما دلّت على أنّ الدعاء في أحبّ الأوقات أقرب إلى الإجابة كما ذكرنا .
وممّا ورد فيه الدعاء (بعد) الوتر وبعد الفجر والظهر وبعد المغرب .
وروي : يسجد بعد المغرب ويدعو في السجود .
وروي : يسجد بعد الوتر ويدعو لأربعين من المؤمنين .
وروي : في أغلب الأعمال المستحبّة في الأيّام والليالي الشريفة لا سيّما الصلوات المستحبّة فيها الدعاء بعدها .
أقول : هذه الجملة كافية لغرضنا في هذا الكتاب من الإشارة إلى الشرائط ، والمهمّ من ذلك كلّه أن يستقصي السالك في تصحيح الشرائط الباطنيّة كلّ الاستقصاء ويبالغ فيه بكلّ جهده وهو الإيمان بأنّ الضارّ والنافع هو الله ، والإيمان بعنايته وأنّ الله خير وأبقى ، وأن لا خير في الوجود إلا بولاية الله وقربه ولقائه ، وينحصر مطلوبه في ذلك أو فيما يرجع إليه حتّى أنّ هذا المؤمن لا يلتذّ من نعم الله إلا من جهة أنّه من الله بل لا يرى في النعم إلا نسبتها إلى الله ، فتكون نفسه وعقله وروحه مشغولة عن الدنيا بحمده وثنائه هذا .
ودوام هذا الحال عزيزٌ جدّا لا يبلغه إلا واحد بعد واحد من أهل

المراقبات 162

المعرفة ، ولكنّ الغالب لأصحاب اليمين النظر إلى الأسباب ، ولكنّ الاولى لهم أيضاً أن يكون مسبب الأسباب أهمّ عندهم فلا يطلبوا غيره إلا معه ، ولا يخلو دعاؤهم للدنيا عن ضميمة دعاء القرب والرضا واللقاء ، وإن قصر درجته عن ذلك فلا أقلّ من ضميمة المغفرة والجنّة ، فيكون موافقاً لما حكى الله من الذين يقولون : «ربّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً» (البقرة : 201) وإن فاته ذلك في بعض دعواته فليكن أغلبها وأهمّها في نفسه ولسانه تقديم الله جلّ جلاله على غيره والآخرة على الدنيا .
والمهمّ بعد ذلك تحصيل حال الرقّة والبكاء والخضوع والخشوع ، وإظهار الذل من الجلوس على التراب ، وكشف الرأس ، والتمرّغ في التراب ، والسجود ومسح الوجه على الأرض ، وغلّ الأيدي إلى الأعناق ، والتلطّف مع الله الرحمن الرحيم في ألفاظ الدعاء ، وذكر صفاته الموجبة للإجابة ، ممّا علّمنا أئمّتنا عليهم السلام في أدعيتهم .
ومن مراقبات شهر رمضان بعد تطهير القلب بالتوبة الصادقة تطهير المطعم والمشرب ، بل والمكان واللباس ، بل وكلّ ما يتقلّب فيه الصائم بالتخميس ، فإنّ الله رضي في تطهير المال بالخمس كما ورد في الأخبار ، فالأولى أن يحاسب في نفسه ذلك أوّل شهر ويعطي خمسة حتّى تكون تقلّباته وقوته من الحلال .
ثمّ إنّ الأخبار إنّما استفاضت في أنّ شهر رمضان أوّل السنة وأنّه إذا سلم سلمت السنّة .
أقول : من كان من أهل اليقظة ير تأثير أعماله في أحواله وإراداته وعلم أنّ لعمله في شهر رمضان من جهة كونه أوّل السنة ، وتقدير الخير والشرّ فيه ، تأثيراً عظيماً في جميع أموره ، لا سيّما أرزاقه وأجله ، وتوفيقه للخيرات

المراقبات 163

والعبادات وهكذا لليوم الأوّل منه في باقي الشهر ، ولذا يتأكد عند أهله الاهتمام بما ورد فيه من الأعمال لا سيّما الدعاء الطويل المختصّ بهذا اليوم الذي رواه في «الإقبال» عن التلّعكبريّ بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام فإنّه دعاء جليل جامع لجميع مطالب الدين والدنيا والآخرة .
والأهمّ أن يجتهد في تحصيل شرائط الدعاء ، ويؤدّي حقّ هذا الدعاء ، ولعمري إنّه لا يعرف حقّ هذا الدعاء أحد إلا ويكثر جدّه واهتمامه لتكميل شرائطه والإخلاص فيه ، ويعرف قدر منّة من علّمنا هذا الدعاء وأمثاله ، ويعرف قدر نعمة الله علينا بهم ـ صلوات الله عليهم ـ ولو لم يكن تعريفهم وتعليمهم لنا ، من أين كنّا نعلم حقّ أدب المخاطبة مع الله جلّ جلالة ومواقع رضاه في مكالمته ومناجاته وطلبه ، وكيفيّة شكره ؟ بل من أين علمنا مقدار قصورنا وتقصيرنا في رعاية مراسم عبوديّته ؟ بل بقينا في مهوى عوالم الجهل والضلال ، وهلكنا مع الهالكين من البهائم والأنعام .
ثمّ إنّ ألزم لوازم الدعاء ، وأوجب واجباته أن يعلم ما يقول ، ولا يكون حاله وصفته مخالفاً لما يشافه به ربّه في هذا الموسم العظيم ، والمقام الجليل ، فيكون كاذباً في دعواه أو غافلاً أو كالمستهزئ مع مولاه ، فإنّ ذلك في حكم العقل قريب من الكفر ، بل حقيقته كفر بالله العظيم ، فإنّ الذي هو عالم بمكنون السرائر ، وأسرار الضمائر ، إذا خاطبه عبده بهذه الاعترافات والتضرّعات التي أودعوها في هذا الدعاء من قوله عليه السلام : «يا من نهاني عن المعصية فعصيته فلم يهتك عنّي ستره عند معصيته» إلى آخره ، ويرى قلبه وسرّه وعمله كلّه مخالفاً لما يقول ، ومتّصفاً بغير حقيقة الاعتراف ويكون معتقداً لنفسه بالصلاح والعدل مع مولاه ، أو غير راضٍ في قلبه عن معاملة مولاه معه ، أو متّصفاً بغير ما يلزم هذا الاعتراف من الذلّة والانكسار ، والتملّق

المراقبات 164

والاحتقار ، ماذا يقتضي حكم العقل باستحقاق هذا المناجي الغافل أو الكاذب أو المستهزئ ؟.
فأخفّ هذه الأحوال الثلاثة في الجناية والشقاء حال الغفلة ، فما ترى في عبد دعاه سيّده إلى ضيافته ، ومجلس كرامته ، مع أوليائه الأطهار ، وأرسل إليه من يعرّفه حقّ أدب حضوره ومناجاته ، فحضر هذا العبد ، وأوقف نفسه موقف المناجاة والتكلّم معه ، فاشتغل في حضوره عنه بقلبه بعدوّه والتفكّر في طاعة هذا العدوّ واستغرق قلبه في هذا الفكر بحيث أسكره عن فهم معاني مخاطباته مع سيّده ومولاه ، فما يستحقّ في حكم عقلك هذا الضالّ الأضل من الأنعام فـي جـواب هـذه المخاطبـات ؟.
فلو قيل له : أما تستحيي أيّها الضالُّ المستخفّ بكرامة ربّه من أن تواجهني في مثل هذا المقام بما لا ترضى أن يواجهك به أحد من العالمين ، بل لا ترضى أن يواجه به عدوّك في حضوره ، أما كنت تخجل وتستحيي عن مثل هذا التهوين مع أمثالك من عبيدي ، فأين حياؤك من تهوينك إيّاي بما (لا) تهوّن به عبيدي الأذلاء ؟ أمّا وجدت أهون منّي عليك حيث لا تهتمّ في معاملتي بأن لا ترجّح عبيدي عليَّ ، وتجتنب عن سوء معاملتهم بما ترتكب معي ، وأنا أقول : سبحان هذا الرب الحليم الكريم ، كيف ولولا حلمه لأخذنا بهذا التهوين أخذ عزيز مقتدر ، وعذّبنا في سفلى دركات المعذّبين ، فطردنا عن بابه أبد الآبدين ، وجعلنا في مهوى عوالم السجّين .
ثمّ إنّ هذا القسم من الأقسام الثلاثة هو الغالب على الناس في دعائهم وبعده القسم الثاني وهو أن يعتقد لنفسه مقاماً من التقوى ، ولا يكون راضياً عن معاملة ربّه ، ويكون كاذباً في اعترافه بتقصير نفسه وفضل ربّه .
وأمّا القسم الثالث فهو المستهزئ فلا أظنّ وجود ذلك في المسلمين .

السابق السابق الفهرس التالي التالي