المراقبات 181

من قراءته قصراً في الجنّة من اللؤلؤ والزبرجد ، يقول معه في رفع الاستبعاد : انظروا إلى عالم الخيال الذي أُعطي لكلّ إنسانٍ من دون عمل وسؤال ، وجعله قادراً على أن يخلق في خياله في ساعة واحدة ألف مدينة من اللؤلؤ والله تعالى كما أنّه قادر على خلق عالم الخيال كذلك قادر على أن يبدّل ما في خياله بالأعيان الخارجيّة كما ورد ذلك في الأخبار لأهل الجنّة من أنّهم يوجدون كلّما يريدون ، وليس ذلك إلا من قوّة وجودهم وقدرتهم على جعل الصور أعياناً ، ولا استبعاد لقدرة الله لعباده المؤمنين بذلك في عوالم الآخرة ، وقد جعل ذلك وأعطاه بعض عباده في الدنيا كما نراه في بعض أنبيائه وأوليائه عند إظهارهم .
أما سمعت تبديل الرضا صلوات الله وسلامه عليه صورة الأسد بالأسد الخارجيّ العينيّ وأمره له أن يأكل الخبيث وليس ذلك إلا من هذا القبيل .
وأما سمعت إقداره تعالى كليمه على تبديل العصا بالحيّة وإقداره روحه عيسى على إحياء الموتى وإقداره حبيبه نبيّنا صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وعليهم على شقّ القمر ، وإحياء الموتى ، وتكليم الحصى ، وشفاء المرضى ، وغير ذلك من التصرّف في الأكوان ، بل الذي أنت عليه يا إنسان من القدرة على خلق الصور الكثيرة والعظيمة في الدنيا في عالم النوم أو عالم الخيال لو دام وزالت عنه بعض الموانع فهو بعينه نظير عالم الأعيان الخارجيّة .
ولو كان ما تراه في النوم دائميّاً وكان ما تراه في اليقظة أحياناً لانعكس الأمر عنك وحكمت بما تراه في النوم بأنّها أعيان خارجيّة ولما تراه في اليقضة بأنّها أعيان خياليّة ، فلا استبعاد من جهة القدرة ولا من جهة كرم الله تعالى بعد قدرته عليه بلا تكلّف ، مع ما يرى من لطفه وكرمه مع خلقه من الكفّار من

المراقبات 182

العطايا والنعم غير المحصورة واقعاً مع كفرهم وطول جحودهم وعنادهم معه وكيف بذلك لمن عرفه وآمن به وأطاعه .
وبالجملة إذا ضمّ الواعظ أمثال هذه المقدّمات إلى ما يصفه من هذه المثوبات ، يرتفع بذلك استبعاد العقول الضعيفة فلا يضرّهم وعظه في دينهم .
وبالجملة فليقدّر الواعظ المستمعين بأنهم مرضى بأمراض مختلفة روحانيّة ، وكونه طبيباً معالجاً ، وأقواله ومواعظه أدوية ومعاجين ، يريد معالجتهم بها ، فما يجب على الطبيب في علاج المرضى ـ لا سيّما إذا كانت أمراضهم كثيرة ، مختلفة ، صعبة العلاج ، مهلكة ـ من الاحتياط والمراقبة ؟ فليوجب على نفسه أزيد ممّا يجب على الأطباء في علاج الأمراض البدنيّة ، لأنّ أمر الروح أخفى وأشرف ، فهلاكها دائمي وخطرها أعظم .
وله أن يذاكر ذلك في تسليم نفسه وأعماله في يومه وليلته على خفرائه من المعصومين عليهم السلام بالخصوص ويدعو الله في ذلك قبل شروعه مفصّلاً ، ويستعين في أوّل شروعه ببسم الله الرحمن الرحيم ويدعو بعد الحمد والصلاة إجمالاً ، ويتعوّذ من الشيطان والنفس ثمّ يشرع ، ويتحفّظ نفسه من الخطأ وإذا فعل ذلك وصدق في تسليم أمره إلى الله وأوليائه يحفظه الله يقيناً ، ويجعل كلامه وعظته نافعاً مؤثّراً ونوراً وحكمة ، هذا .
ولتكن همّته في أن يحكم عقيدتهم في تعظيم أمر الدين ، ويحبّب الله جلّ جلاله وأنبيائه وأولياءه إلى قلوبهم ، ويكثر من نشر آلاء الله وتعظيم أمره ، وتشديد سخطه وشدّة عقابه ، ويعلّم المستمعين حقّ أدب المراقبة مع الله جلّ جلاله وأنبيائه وأوليائه ، ويحذّرهم ويزهّدهم عن زهرة هذه الحياة الدنيا ، وزخرفها وزبرجها .
ويكثر من ذكر أحوال المراقبين وخوفهم ، وعبادتهم ، ومراقباتهم ،

المراقبات 183

وشوقهم إلى لقاء الله ، ومقام لطف الله بهم ، وشرف كراماته لهم وعظيم عطاياه إيّاهم ، ويشير خلال كلماته إلى بعض مراتب المعارف من حقيقة العقائد الحقّة برفق وبيان سهل باصطلاح الأنبياء ويقرّبه إلى الأذهان بلطف البيان وألفاظ معروفة في الدين مألوفة لأهله ، هذا .
ومن مهام شهر رمضان ليلة القدر ، وهي ليلة خير من ألف شهر وقد ورد في الأخبار ما يدلّ على كونها خيراً من جهاد ألف شهر ، وكونها خيراً من سلطنة ألف شهر ، وكون عبادتها خيراً من عبادة ألف شهر .
وبالجملة هي ليلة شريفة تُقدّر فيها أرزاق العباد وآجالهم ، وسائر أمور الناس خيرهم وشرّهم ، وفيها نزل القرآن ، وهي ليلة مباركة بنصّ القرآن ، وفي أخبار أهل البيت عليهم السلام أنّه ينزلّ الملائكة في ليلة القدر ، وينتشرون في الأرض ، ويمرّون على مجالس المؤمنين ، ويسلّمون عليهم ، ويؤمّنون على دعائهم إلى طلوع الفجر .
وروي أنّه لا يردّ في تلك الليلة دعاء أحد إلا دعاء عاقّ الوالدين ، وقاطع رحم ماسّة ، وشارب مسكر ، ومن كان في قلبه عداوة مؤمن .
روي في «الإقبال» عن كنز اليواقيت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «قال موسى : إلهي أريد قربك ، قال : قربي لمن استيقط ليلة القدر ، إلهي أريد رحمتك ، قال : رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر ، قال : إلهي أريد الجواز على الصراط ، قال : ذلك لمن تصدّق بصدقة في ليلة القدر ، قال : إلهي أريد من أشجار الجنّة ، قال : ذلك لمن سبّح تسبيحة في ليلة القدر قال : إلهي أريد رضاك ، قال : رضاي لمن صلّى ركعتين في ليلة القدر» .
وعن الكتاب المذكور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : «تفتح أبواب السماوات في ليلة القدر ، فما من عبد يصلّي فيها إلا كتب الله تعالى له بكلّ سجدة شجرة

المراقبات 184

في الجنة ، لو يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها ، وبكل ركعة بيتاً في الجنّة من درّ وياقوت وزبرجد ولؤلؤ ، وبكلّ آية تاجاً من تيجان الجنّة ، وبكلّ تسبيحة طائراً من طير الجنّة ، وبكلّ جلسة درجة من درجات الجنّة ، وبكل تشهّد غرفة من غرفات الجنّة ، وبكلّ تسليم حلّة من حلل الجنّة ، فإذا انفجر عمود الصبح أعطاه الله من الكواعب المؤلّفات ، والجواري المهذّبات ، والغلمان المخلّدين ، والنجائب المطيّرات والرياحين والمعطّرات ، والأنهار الجاريات ، والنعم الراضيات ، والتحف والهدايات والخلع ، والكرامات ، وما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين وأنتم فيها خالدون» .
ثمّ إنّ الذي يظهر من بعض الأخبار أنّ ليلة القدر مراتب ، والليلة التي أُشير إليها في القرآن ما يكون فيها آخر مراتب التقدير من الامضاء الذي لا يغيّر ولا يبدّل والذي يفهم منها أيضاً أنّ منها ليلة النصف من شعبان ، والتاسع عشر ، وإحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين ، وأنّ الأخيرة أفضلهن وهو ليلة الجهنّي ، وأنّه الذي لا يبدّل ما قدّر فيها ، ويحتمل قويّاً أن تكون السابع والعشرين أيضاً من ليالي القدر ، والأقوى رواية أنّ التي خير من ألف شهر ليلة الجهنيّ ، ومن أراد الاحتياط فليجمع بين هذه الخمس ، وسائر الأقوال مرجوحة قولاً وسنداً فأعرضنا عن ذكرها لذلك .
ثمّ إنّ الذي ينبغي للمصدّق بالدين ، وبنصّ القرآن المبين ، وأخبار حضرة سيّد المرسلين ، وآله المعصومين عليهم السلام أن يجتهد في ليلة القدر بكلّ ما يقدر عليه من الوسائل ، ومن الاجتهاد ـ طول سنته ـ أن يكثر ويبالغ في الدعاء لتوفيقها ، وأن يرزق فيها أحبّ الأعمال إلى الله وأرضاها له ، وأن يجعلها له خيراً من ألف شهر ، وأن يقبلها منه كذلك ، وأن يكتبها في علّيّين ، ويربّيها له إلى يوم لقائه ، وأن يكتبه في هذه الليلة من المقرّبين ، وأن يكتب له

المراقبات 185

معرفته ومحبّته ، وقربه وجواره ، ورضاه وخيره مع عافيته ، وأن يرضى عنه رضا لا سخط عليه بعده أبداً ، وأن يرضي عنه نبيّه وأئمّته لا سيّما إمام زمانه عليهم السلام وأن يجمع بينه وبينهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وأن يوفّقه للاجتهاد في طاعته وتحصيل رضاه ، وأن يختم له بقربه ورضاه .
ثمّ من الاجتهاد أن يعدّ له عدّته لهذه الليلة من تحصيل مقدّمات العبادة مثلاً يحصّل في خلال سنته مكاناً مناسباً ، ولباساً مناسباً ، وعطراً وما يتصدّق به فيها ومضامين لطيفة لمناجاة ربّه ، وكلمات مهيّجة لمخاطبة سادته ، وخفرائه ، وحماته ، وأضيافاً مخصوصين مناسبين لليلته ، وفقراء مخصوصين لصدقته .
وظنّي أنّه لو دعا واحد من سلاطين الدنيا أحداً إلى ضيافته في يوم مخصوص وأرسل إليه رسولاً كريماً ، وتلطّف في دعوته ببعض هذه التلطّفات التي عاملك بها ملك الملوك تعالى ، ووعده بحضروه في هذا الموسم ـ بمراسم أدب حضوره ـ الخلع الفاخرة ، والأملاك الشريفة الواسعة ، وفرامين للملك والسلطان ، مع الأعيان والأشراف ، والملوك والسلاطين ، وعرّفه أنّه كلّما زاد هذا المدعوّ في تلطيف معاملته في حضور مجلس السلطان من جزئيّات المراقبات ، يزيد السلطان في إكرامه وإعطائه وإحسانه فوق حدّ الاحصاء ، لمات شوقاً إليه ، ويهلك نفسه في التزيّن لمثل هذا المجلس الشريف ، والمقام المنيف ، بكلّ ما يقدر عليه من الاهتمام ولا ينسى الجدّ في ذلك طول سنته في جميع حالاته ، ويجتهد في تحصيل العدّة لهذا المقام الكريم ، بما يعجز عنه المجتهدون ، ويحتال في تلطيف مراقبته بما يحار فيه اللبيب ويختار لأدب هذا المجلس ما يتأدّب منه الأديب ، ويرضاه الحبيب من الحبيب .

المراقبات 186

فكيف بك يا عاقل وقد دعاك إلى هذه الضيافة ملك الملوك ، وربّ الأرباب وجبّار السماوات والأرضين ، وقد أرسل إلى دعوتك الملائكة المكرّمين ، والأنبياء والمرسلين ، وسيّد الخلائق أجمعين ، وأكّد ذلك بخلفائه المعصومين ، ثمّ أكرمك بالملائكة الداعين ، في كلّ ليلة بدعوات خاصّة ، وألطاف ناصّة ، وكرامات ماسّة ، ولا خطر على قلب بشر ، ومن النور والبهاء والسرور ، والسلطنة والملك والحبور ، ما يكلّ عن تصوير جزء من أجزائه عقلك ، ويتحيّر فيه وهمك ، ومن قربه وجواره وبهجة لقائه ما لا تحتمله عقول العقلاء ، وفهوم العلماء ، وأوهام الحكماء .
فهل لك يا أخي أن تجتهد في الاستعداد لهذا المجلس بقدر ما يليق به ، لتكون من الفائزين ، أو تفوّته بغفلتك فتكون من الخاسرين ، فاعلم يقيناً أنّك إن غفلت عن مثل هذه الكرامة ، وضيّعتها بإهمالك ، ورأيت يوم القيامة ما نال منها المجتهدون ابتليت بحسرة يوم الحسرة التي تصغر عندها نار الجحيم ، والعذاب الأليم ، فتنادي في ذلك اليوم مع الخاسرين النادمين : «يا حَسرَتى على ما فَرَّطتُ في جَنبِ الله وإن كنتُ لَمِنَ الخاسرين» (الزمر : 56) ولا ينفعك الندم ، وقد أُغلقت أبواب التوبة والعلاج ، وظهرت آثار الأعمال والنتاج .
فعاتب نفسك في التضييع والإهمال قبل أن تُعاتَب ، وخاطبها في مثل هذا التهوين في كرامة الله ربّ العالمين من قبل أن تخاطب ، وحاسبها فيما ضيّعته من رأس مالك الذي لو بقي لنفعك أنفع أرباح التجارات في يوم الضرر والحاجات قبل أن تحاسب ، فيحكم لك بالذلّ والهوان ، بدل الكرامة والسلطان ، هذا .
وينبغي أن يزيد في شوقه إلى الفوز بكرامات ما أُعدَّ له في هذه الليلة من المحلّة العظمى ، والمقام الأسنى ، من مجلس حضور ربّ العالمين ،

المراقبات 187

وتقديس جبّار السماوات والأرضين ، إذا قرب وقته ، ويعيّن لليلته من الأعمال ما هو أنسب بحاله وإخلاصه وحضوره ورقّته وصفائه ورضا مولاه ، ويستمدّ في ذلك من الله جلّ جلاله ويستعين من خلفائه ـ صلوات الله عليهم ـ .
فإن عرف الأنسب يعمل به ، وإن تحيّر بنى على الاستخارة ، ويجعل لفكره بعد الذكر وقتاً خالياً من غلبة النوم وثقل الطعام وألم الجوع وسائر الشواغل ويجتهد أن لا يشتغل في شيء من أجزاء ليلته عن الله ولو بالمباحات ، وفي صلواته ومناجاته بغيرهما ولو من المندوبات ، فإنّ شغل القلب في الصلاة مثلاً ببناء المسجد وتطهيره أو بالصدقة من صفات الغافلين .
بل شغل القلب في القيام من الصلاة بالفكر في غيره أيضاً من الغفلة ، وإنّما يجتهد في أن لا يغفل قلبه عن حقيقة ما يعمله من الأفعال والأذكار حين اشتغاله به ويسهّل ذلك بأن يتفكّر إجمالاً قبل دخول العمل في العمل ثمّ يدخل فيه ، فإن عرض له في أثناء القراءة والذكر غفلة عنه فليعدهما .
مثلاً إذا أراد التوجه إلى القبلة يتفكّر إجمالاً في معنى التوجّه إليها ثمّ يتوجّه ، وإذا أراد القيام يتفكّر أولاً في حقيقته أنّه قيام لحقّ العبوديّة وفي الاعتماد فيها على الرجلين إشارة إلى التخوف والرجاء عن قبول العبادة وهكذا وهكذا حتى القراءة والأذكار ، يتذكّر قبل قراءة ـ بسم الله الرحمن الرحيم ـ مثلاً معناها إجمالاً ثمّ يقرؤها فإن عرضت له غفلة في أثناء قراءة آية ؛ فليعدها .
ولا بدّ لمثل هذا العامل في أوّل الليلة أن يبالغ في التوسّل والاستشفاع لخفير الليلة من المعصومين عليهم السلام ، ويذكر عند ذلك كلّ ما يحتاج إليه من التوفيق في أعماله وأحواله ، وأن يجدّ في تلطيف ألفاظ الاسترحام والاستشفاع بما يجلب الرحمة والرقّة ، ويهيّج العطوفة والكرامة ، ويستمطر

المراقبات 188

سحائب الجود والكرم والنوال ، فإنّهم أهل ذلك كلّه ومحلّه ، وأن يفوّض عقله ونفسه وقلبه وصفاته وأعماله وكلّه إلى مولاه ، ويراقب في آناء ليله أن لا يأتي بما يخالفه التفويض ، وإن قدر أن يفوّض ذلك أيضاً فقد فاز ونال .
ولكن كثيراً ما يشتبه على الإنسان عدم المراقبة والمبالاة بالتفويض فيغرّه الخبيث ، ويهلكه بالجهل ، ولا يطمئنّ حتّى يستكشفه بالعلوم الربّانيّة ، ومن بعض هذه الكواشف السديدة أن يوافق حاله مراده فيما فوّضه إليه فإنّ من علائم صحّة التفويض قبوله ، ومن علائم القبول أن يتولّى الله جلّ جلاله تدبير أمره فيما فوّضه إليه فوق آماله .
ثمّ إنّ من الأعمال المؤثّرة في تهييج الرقّة وإثارة الخشية والبكاء ، أن يغلّ يده إلى عنقه ، وأن يلبس المسوح ، وأن يثير التراب على رأسه ، وأن يخرّ على التراب ، وأن يمسح وجهه على التراب وأن يضع رأسه على الجدران ، وأن يمشي ويقف ، ويصيح ويسكت ، ويتمرّغ في التراب ! ويفرض نفسه في المحشر ، ثمّ يعاتب نفسه بما ورد من عتاب أهل الجرائم .
ثمّ ينظر نظرة عن يمينه ، ويتفكّر في أحوال أصحاب اليمين ، وصورهم ولباسهم وزيّهم ، ثمّ ينظر عن شماله ويقدّر نفسه مع أصحاب الشمال ويتصوّر أحوالهم المنكرة من سواد الوجه ، وزرق العين ، وغلّ الأيدي ، والاقتران مع الشياطين ، ولبس القطران ، ومقطّعات النيران ، والزبانية كلّهم حاضرون ، وإلى أمر ربّهم ناظرون ، ثمّ يحذر من صدور الخطاب بقوله : «خُذوهُ فَغُلّوهُ * ثُمّ الجحيمَ صَلّوه * ثُمّ في سِلسِلةٍ ذَرعُها سبعون ذِراعاً فاسلُكوه» (الحاقة : 30 ـ 32) .
ثمّ ينادي : يا أرحم الراحمين ، يا غياث المستغيثين ، أين رحمتك الواسعة ، أين عطاياك الفاضلة ، أين فضلك العظيم ، أين منّك الجسيم ، أين

المراقبات 189

كرمك يا كريم ، ثمّ يبكي ويذكر عظيم حلمه وكرمه ، وقديم فضله وإحسانه وعميم عفوه وغفرانه فإن أتاه الخبيث وأراد أن يقنّطه من رحمة ربّه ، وقال : أنت مع هذه الذنوب والعيوب لست أهلاً لرحمة الله والنظر إلى لطفه ، فإنّه قال : «فَسَأكتُبُها للذين يتّقون» (الأعراف : 156) وأنت لست من المتّقين ، فلا يقبل قوله ، ويعرض عن جوابه ، ويناجي ربّه في جوابه ، ويزيد في إظهار الرجاء ، ويقول : حاشا لوجهك الكريم ، أن يعرض عن مثلي من المحتاجين إلى عفوه وكرمه ، والمتوسلين إليه بأوليائه ، وأن لا يرحم على عيني الباكية ، وقلبي الخاشع ، وبدني الذليل الخاضع .
ثمّ لا يقوّي رجاءه ، ويبسط آماله ، ويستدعي كلّما يتصوّر ويتعقّل من المقامات العالية ، من المعرفة والمحبّة ، والقرب والزلفى ، والعمل والتقوى ، ويكثر من قول :
يا من يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء أحد غيره ، يا من لا يعظم عليه شيء من العطايا العظيمة ، والكرامات الجليلة الجميلة ، يا من لا ينقصه الإحسان ، ولا يزيده الحرمان .
ثمّ يؤكد هذا المعنى ويقول : إلهي إن كنت غير متأهّل لما سألتك ، فكرمك أهلٌ لذلك ولما فوقه ، إلهي إنّ معرفتي التي وهبتني يحكم بأن أتمنّى عليك العظائم ، لأنّك لم تهب ما وهبته من أوليائك باستحقاق منهم ، إلا بأن وهبتهم الاستحقاق بفضلك ، فإنّه لا يوجد الخير إلا منك ، فتفضّل عليَّ بما تفضّلت به عليهم من الاستحقاق ، حتّى أستحقّ إجابة ما سألتك .
إلهي أنت الذي لا تُسأل عن فعلك ، ولا تنازع في ملكك ، ولا يعترض عليك أحد في فعلك ، وأنت القادر الجواد ، وليس لقدرتك حدٌّ ولا لجودك منتهى ، فأهّلني بقدرتك ، وجد لي بجودك ، يا أجود الأجودين .

المراقبات 190

إلهي إنّك تجد من تعذّب غيري من أعداء أوليائك ، ومعاندي حضرة جلالك وأنا لا أجد من يعطيني غيرك يا كريم ، أيضيقني بعد كرمك ؟ فإنّك لا تحتاج إلى عذابي ومنعي ، وأنا أحتاج إلى عفوك وكرمك .
إلهي إنّ عدوّك وعدوّي جاءني ليحرمني من دعائك ، ويؤيسني من رحمتك الواسعة ، فبفضلك أعرضت عن قوله ، وخالفته فيما أمر به ، فانصرني عليه بتصديق رجائي وآمالك فيك ، إلهي أنا مع قلّة معرفتي بمبلغ جودك وكرمك ، وغناك وقدرتك ، لا أقطع بمنع عفوك وفضلك عن أحد من عبيدك حتى الكفّار إلا أعداء أوليائك الذين ظلموهم وآذوهم ، وليس عقيدتي في عذاب غيرهم من الكفّار إلا عن وجه التعبّد لكتابك ، وقول نبيّك في وعيدك للكفّار ، ولا يرى عقلي ـ هذا الذي مننت به عليّ ـ أن يوجب عليك شيئاً من العذاب ، ولا الوفاء بالوعيد ، ولا أرى عدم الوفاء بالوعيد نقصاً في قدس صفاتك بحكم عقلي ، ولا أقطع شيئاً في ذلك إلا أن يكون ذلك أيضاً من باب التعبّد ، إلهي هذا حكم عقلي في الكفّار والجاحدين ، فكيف بمن آمن بك ، وأحبّ أن يطيعك ، وأمّل فضلك ، وتمنّى قربك ، ورجا من كرمك العظائم ، وإن كان من العاصين والمذنبين .
إلهي من العبد الذنب ، ومن السيد العفو والكرم ، لا سيّما إذا كان كريم العفو إلهي هذا الذي تصوّرت من حكم عقلي في مطلق الأوقات وأمّا بالنسبة إلى هذه الأوقات التي خلقتها لكرمك ، ومننت بها على عبيدك ، وندبت فيها عبادك المذنبين إلى مغفرتك وعفوك ، والسائلين إلى الإجابة والعطاء ، وفتحت فيها أبواب كرمك وجودك ، فلا حكم لعقولنا في ذلك إلا العفو والكرم ، وتبديل السيئات بالحسنات وإجابة الدعوات ، وعطاء المسؤولات ، والجود بالعظيمات من الكرامات وهذا ظنّنا بك وبكرمك ، وأنت أعلم بما

المراقبات 191

بلغنا عن نبيّك وآله صلواتك عليهم من معاملتك مع من يحسن ظنّه بك .
ويصلّي الركعتين الواردتين في ليلة القدر بفاتحة الكتاب مرّة والاخلاص سبع مرّات ، ويقول بعد الفراغ سبعين مرّة أستغفر الله وأتوب إليه ثمّ يدعو بحوائجه ثمّ يصلّي مائة ركعة ، ويدعو ما بينها بما ورد فيها من الدعوات ، فإنّ هذه الدعوات من أهم المهمّات ، لما فيها من المضامين العالية التي صدرت عن صدور العلماء بالله من أئمّة الدين ، وفيها من العلوم الفاخرة التي لا يعلمها إلا من علّمه الله من الأنبياء والأوصياء : من العلم بالله ، وبصفات الله الجلاليّة والجماليّة ، وأسماء الله الحسنى ومن مراتب فضله ، وحكم عدله ، وقضايا فعله ، وأدب مناجاته .
وليكن في قراءة هذه الأدعية حيّاً وإن قدر أن يتأثّر بما يقوله ويذكره في دعائه فبخ وبخ له ، لأنّه لو لم يفرض لهذه الأدعية ثواب وجزاء من الله تعالى إلا استجلاب هذه التأثّرات ، لكفى للعاقل أن يبذل روحه ومهجته في تحصيله ، وكيف وقد أعدّ الله لكلّ كلمة بل لكلّ حرف منها جواباً ونوراً يعجز عن تقويمه العالمون وإن لم يتأثّر قلبه القاسي فلا محالة أن لا يقرأها مثل قراءة المنطر .
وليتأمّل في معاني ما يقولها ويستفهم المعاني المودعة فيها ، فإن لم يسمح قلبه ونفسه لذلك أيضاً فالأولى من قراءة هذه الدعوات أن يبكي على مصيبته ، وعقوبة الله عليه ، ويسترجع ويقول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون مصيبة عظم رزؤها وجلّ عقابها وقد ورد في الحديث القدسي في صفة أهل الآخرة أنّ دعاءهم عند الله مرفوع وكلامهم عنده مسموع ، تفرح بهم الملائكة ، يدور دعاءهم تحت الحجب ، يحبّ الربّ أن يسمع دعاءهم كما تحبّ الوالدة ولدها .

المراقبات 192

فأنصف يا مسكين في دعائك الذي لا يكون معه قلبك ، أترضى أن يرفع إلى الله ويراك تدعوه بلسانك ، وقلبك يخاطب الدنيا التي ورد فيها أنّها عدوٌّ لله ولأولياء الله ، ويشتاق إلى ما يبعّدك عن الله من زهرة هذه الدنيا الفانية ، فهل عند العاقل مصيبة أعظم من ذلك .
ويقرأ دعاء نشر القرآن ، ويرفعه على رأسه ، وينوي برفعه على رأسه بتقوية دماغه الذي هو مركب عقله ، وتكميله بعلوم القرآن ، وخضوع عقله للقرآن وضمّ نور عقله بنور القرآن ، وغيرها ممّا يناسب من القصود المناسبة .
ويزور الحسين عليه السلام ببعض زياراته الواردة ، ولا يترك قراءة سورة الروم والعنكبوت والدخان في الثالث والعشرين ، ويقرأ الدعوات الواردة في هذه الليالي لا سيّما الدعاء الذي رواه السيد عن بعض الكتب العتيقة ، وأوّله : «اللهمّ إن كان الشكُّ في أنّ ليلة القدر فيها أو فيما تقدَمَها واقعٌ فإنّه فيك وفي وحدانيّتِك وتزكيتك الأعمال زائل» .
وإن قدر أن يستفهم معنى زوال الشكّ في الله وفي وحدانيّته ، فهو يكفيه من جزاء عبادة الليلة ، ولا يترك الدعاء الصغير الذي رواه السيد عن عليّ بن الحسين عليه السلام وأوّله : «يا باطناً في ظهوره» فهو أيضاً دعاء كامل في التوحيد ، ولعمري لو لم يكن لوجود الأئمة عليهم السلام نفع غير ما عرّفونا وعلّمونا من هذه البيانات الكاشفة عن توحيد الله ، لكفى المؤمن أن يبذل كلّه في شكر صنيعهم ثمّ يستقل ذلك ، ويرى نفسه قاصرة في أداء شكر نعمتهم ، هذا .
وليجعل من ليلته ساعة للمراقبة خاصّة ، ويتحفّظ فيها علم ربّه سوء حاله وقدرته على إنجائه ، وعظم فضله وجوده وكرمه ، ثمّ يمدُّ عينه على باب جوده وكرمه بالرجاء ، وينتظر نفحات روحه ورحمته .

المراقبات 193

ثمّ إنّه إن عمل بما ذكرناه فهو وإلا وإيّاه أن يترك العمل راساً بتسويل الشيطان له بأنّك متى لم تعمل بما ينبغي لا ثمرة في هذا الجزئيّ الناقص وعدمه أولى من وجوده ، لأنّه إن أطاعه في ذلك سدّ عليه الباب رأساً ، وأهلكه بغفلته وأمّا إن عمل بما يريده ، ولو كان عمله قليلاً يمكن أن ينفعه نور هذا العمل القليل نوراً آخر للعمل وتوفيق الزيادة ، فيوفّق كلّ التوفيق .
وبالجملة لا قصد للخبيث ابداً إلا في منعه عن خدمة ربّه وعبادة مولاه فإن أطاعه تؤثّر طاعته في قلبه ظلمةً وتؤثّر هذه الظلمة خذلاناً وتركاً آخر للعبادة إلى أن يستحكم فيه الخذلان ، ويهلك هلاكاً دائماً ، أو تدركه عناية من الله فيجتنب طاعة الخبيث ، ويستنير قلبه من مخالفته ، ويصير سبباً للتوفيق الكامل .
وبالجملة للسالك أن لا يستقلّ من الخير ولو ذرّة فيتركه لأجل قلّته فيخسر ولا يستكثر شيئاً منه فيعجب ، أو يتركه من جهة أنّه لا يقدر عليه ، بل يفعل منه كلّ ما قدر عليه ، ويستصغره بعد فعله في جنب الله ، وكلّ ما عمل به العبد واستصغره عظم عند الله ولعلّه وقع محلاً لقبول الله جلّ جلاله ، وإذا وقع القبول فلا عبرة بالقلّة لأنّ الله إذا قبل من عبده ولو شيئاً قليلاً لجزاه كثيراً وإذا لم يقبل منه لا ينفعه ولو كان كثيراً اعتباراً بآدم وإبليس ، حيث اصطفاه عليه السلام ولعن إبليس .
فعلى العبد أن لا يستعظم عملاً ولو أتى بعبادة الثقلين ، لأنّه عجبٌ وإعجاب المرء بعمله محبط للعمل ، بل يبدّل نوره بالظلمة ، وأن لا يستحقر القليل فيتركه لأنّه قد يتّفق كونه مقبولاً فيعظم .
ثمّ إنّ ما ذكرناه من المداقّة في مراتب الإخلاص والصدق فيه إنّما هو لعمل الانسان في نفسه لئلا يكون قانعاً من نفسه إلا بالخالص الصادق في

المراقبات 194

الإخلاص ويعدّ غير الخالص كالمعدوم ، بل يعامل معه معاملة المعصية وليس له أن يعدّ ذلك عن غيره كالمعدوم ، ولا كالمعصية ، لأنّ معاملته بهذه المعاملة في أعمال غيره لا يثمر خيراً بل يصير سببا لتركه وسدّ باب الصلاح والخير ، فلا يحسن أن يعامل غيره بهذا الميزان ، بل له أن يعامل عباد الله بميزان ظواهر أعمالهم ، بل بميزان فضل الله ويظنّ في الأعمال الناقصة المشوبة من الناس ، القبول والرجحان ، ويرجو أن لا يحرموا من فضل الله وقبوله ، ولو كانت أعمالهم غير خالصة وناقصة ، وعن غير حضور .
ولا يستبعد أن يجيب الله من عباده دعاءهم بمجرّد صورة الدعاء ، ولو بلقلقة اللسان ، ويعاملهم بكرم عفوه ، وإيّاه وإيّاه أن يقنّط أحداً من رحمة الله أو يصير سبباً لأحد في ترك الأعمال ، ولو كان عملاً مغشوشاً مشوباً ببعض الأكدار ، ولعلّ الصورة إذا لم تُترك قد تتّفق مع بعض النفحات الإلهية ، فيفيضها روحاً وحقيقةً وتؤثر في تنوير القلب بحيث ينقلب الأمر رأساً ، وتكون أغلب أعماله بل كلّها ناشئة عن ظهر القلب ، فيفوز مع الفائزين ، وبالجملة ولو أنّ لوطيّاً قال في سكره يا الله ، ما أظنّ أن يردّه الله ولا يجيبه .
ثمّ إنّه روي عن زيد بن عليّ أنّه قال : سمعت أبي عليه السلام ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان يقول من أوّل الليل إلى آخره : «اللهمّ ارزقني التجافي عن دار الغرور والانابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت ، قبل حلول الفوت» .
أقول : لو عقلت معنى هذا الدعاء لاستكثرت منه وبيان ذلك أنّ الذي شهد عليه القرآن الكريم وأخبار آل محمد عليهم السلام ، ومكاشفات أهل اليقين ، أنّ هذه الدنيا دار غرور ، وليس ما يرى فيها على ما يرى بل الذي يرى ويحسّ فيها من صفات موجودات هذا العالم ، نظير ما يتراءى من السراب ، ليست

السابق السابق الفهرس التالي التالي