المراقبات 239

عند المراقبين لأنّ الذكر عند غفلة العامّة من مهامّ المراقبات ، وأسرع للإجابة ، وأقرب للقبول ، وأزيد في الأجر ، وأعظم عند الله ، فبادر إلى إجابة المنادي إلى كرامة الله جلّ جلاله بكمال الجدّ والشوق ، واغتنم الفرص واستيقظ عن نومتك ، فستأتيك عن قريب داهية الموت التي لا تقدر بعدها إلى تحصيل شيئ يسير من هذه الفوائد الجليلة ، وتستيقظ عند معاينة ناصية ملك الموت ، وتستمهله سنة ويقول لك قد فنيت السنين ، وتقول : يوماً ، ويقول : فنيت الأيّام ، وترضى بساعة ولا يمهلك ، تموت بحسرة بعد حسرة ، عن تفويت أيّام الفرصة ، وتضييع زمان المهلة ، فيا لها حسرة ما أعظمها وغصّة ما أشدّها ، هذا .
والعمدة في هذا الشهر العلم بما أنعم الله به على البشر يوم دحو الأرض ، فإنّ العلم بالنعمة ومقدارها كمّاً وكيفاً أوّل مراتب شكرها ، كما ورد به النصّ وحقّق في علم السرّ .
وقد ورد في الأخبار الكثيرة أنّ [في] الخامس والعشرين من ذي القعدة نصبت الكعبة ، ودحيت فيه الأرض ، وهبط فيه آدم ، وولد فيه الخليل وعيسى عليهم السلام ، ونشرت فيه الرحمة .
ومنها عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام : [إن] أوّل رحمة نزلت من السماء إلى الأرض في خمس وعشرين من ذي القعدة . ومن صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة فله عبادة مائة سنة ، صام نهارها وقام ليلها ، وأيّما جماعة اجتمعت ذلك اليوم في ذكر ربّهم عزّ وجل لم يتفرّقوا حتّى يعطوا سؤلهم ، وينزل في ذلك اليوم ألف ألف رحمة [يصنع] منها تسعة وتسعون [ألف] في حلق الذاكرين والصائمين في ذلك اليوم والقائمين تلك الليلة .
وروي أنّه يصلّي في هذا اليوم ركعتين عند الضحى بالحمد مرّة ،

المراقبات 240

والشمس وضحاها خمس مرّات ، ويقول بعد التسليم : لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم ويدعو ويقول : «يا مقيل العثرات أقلني عثرتي ، يا مجيب الدعوات أجب دعوتي ، يا سامع الأصوات اسمع صوتي ، وارحمني وتجاوز عن سيّئاتي وما عندي يا ذا الجلال والإكرام» .
ويستحبّ أن يقرأ بما روي فيه من الدعاء الذي أوّله : يا داحي الكعبة .
وأمّا معرفة نصب الكعبة ، ودحو الأرض ، اعلم أنّ لهذه النعمة صورة وحقيقة أمّا صورتها فهي [ما] أشار إليها في «الإقبال» أنّ الله تبارك وتعالى بنى في هذا اليوم الأرض لسكنى بني آدم وعيشه ، والأرض وما فيها من النعم حتى أبداننا وأرزاقنا كلها قد انتشرت ممّا نزل في هذا اليوم من الرحمة ، فكلّ نعمة في الدنيا على أجناسها وأنواعها وأصنافها التي لا يقدر على إحصائها إحد إنّما نزولها وانتشارها في هذا اليوم .
فعلى العبد المراقب لمولاه ، المريد لشكر نعمه ، أن يتفكّر فيما ينتهي إليه فطنته من نعمته العظيمة الفاخرة ، والتي أنعم بها عليه بخلق الأرض وما عليها .
مثلاً يتفكّر أولاً في داخل بدنه من نعم الله تعالى ، وهي من كثرتها ولطفها لا يبلغها علمه قطعاً ومن أراد تصديق ذلك فليرجع إلى علم التشريح ، وقد رأيت من تأليفات متأخّري الافرنج ما تحتوي لعكوس تشريحات الأعضاء ، وكان فيها عكوس ما في حجب كلّ عضو عضو مصبوغاً بألوان يبيّن العروق والسواقي الدقيقة ورأيت فيها من كثرة المدارات والسواقي والعروق وسائر الأجزاء ما يبهر عقل اللبيب والطبيب ، حيث يرى لكلّ ذلك دخلاً في صحّة مزاج ذلك العضو بلا واسطة أو بوسائط ، وبواسطتها في صحّة مزاج

المراقبات 241

الإنسان ، فالمحسوس منها يزيد على الكرورات ويعلم منها أنّ غير المحسوس أزيد من المحسوس .
هذا كلّه صنف واحد من النعم البدنيّة ، ولها أصناف أخرى لعلّها أكثر عدداً وأعجب أمراً من ذلك .
منها القوى غير المرئيّة التي هي عمّالة في هذه الأجزاء بأحداث وتحريكٍ ، تصوير وتغذية ، وتنمية ، وهضم ، ودفع ، وغيرها من ضروريّات التأثيرات الخارجيّة .
ومنها كلّيّات عوالم ملكوت هذه القوى ، وما تحتها من جنودها ، وسياسة تدابيرها في بروز تأثيراتها في أفعالها ، ونتائجها المقدّرة بكمّ خاصّ ، وكيف مخصوص ، ناسب مواردها باختلاف الأزمنة والأمكنة ، والواردات الداخليّة المنبعثة من الحركات المزاجيّة ، والأخلاقية الطبيعيّة ، والمكتسبة والخارجيّة التي لا يعلم عدد أجناسها وأنواعها وأصنافها إلا رب العالمين ، أو من علّمه ، فضلاً عن إحصاء أفرادها ، ولو عرف الإنسان كيفيّة ارتباط العوالم بعضها ببعض ، ظهر له أنّ لجميع هذه العوالم دخلاً في كمال صحّة كلّ عضو من أعضاء البدن ، بل كلّ جزء من أجزاء ذلك العضو ، فيصحّ عنده أنّ المنعم تعالى إنّما أنعم عليه في نعمة جزئيّة واحدة بهذه التفاصيل غير المحصورة كلّها .
ثمّ إذا أراد أن يتفكّر في النعم الخارجيّة من مآكله ومشاربه وملابسه ، وما يتصرّف فيه أعضاء بدنه ، وحواسّه الظاهرة والباطنة من العوالم آمن بقوله تعالى : «وإن تَعُدّوا نِعمة الله لا تحصوها» (إبراهيم : 34) وقوله تعالى : «وما يعلمُ جنودَ ربّك إلا هو» (المدثر : 31) إيماناً حقيقياً فإنّ من جزئيات ما يتصرّف فيه الإنسان من العوالم بخياله عالم المثال ، سعته خارجة عن حدّ

المراقبات 242

إحصاء كلّ البشر ، فضلاً عمّا يتصرّف فيه بعالم عقله المحيط بهذه العوالم كلّها ، أين أنت يا مسكين يا غافل عن الاحاطة بتفاصيل أمر واحد من أمور عالم واحد من العوالم التي يتصرّف فيها عقلك ، فانظر في أمرك واقض بعقلك ، ما يجب عليك في شكر هذه النعم ؟
ثمّ هذا كلّه في تصوير انتشار ظواهر النعم التي وهبها خالق الأرض بدحو الأرض ، إذا تأمّلت فيما وهبها مالك الدنيا والآخرة بخلق الأرض ، وعرفت ما في حقيقة ذلك لزادت حيرتك .
وإجمال هذا التفصيل أنّ الذي يفهمه أهل الحقّ والكشف ، وتشير إليه أخبار أهل بيت الوحي عليهم السلام أنّ الله تبارك وتعالى إنّما خلق آدم وجعله في عالم المثال الذي يعبّر عنه في لسان الأخبار بالجنّة ، وفي بعضها بمدينة جابلقا ، وهي جنّة آدم التي نزل منها إلى الأرض ، ثمّ أهبطه إلى الأرض ليستفيد من هذا السفر كلّ ما أُعدَّ له في عالم البرزخ من النعم المثاليّة ، وهذا العالم بحذاء جنّة آدم ويسمّى بجابلسا ، وفي عالم الآخرة في جنّات الخلد .
ولو لم ينزل آدم إلى هذا العالم لم ينل نعم دار الآخرة ، وكلّ ما وعد الله النبيين والأوصياء والأولياء والمؤمنين من نعم الآخرة ، فهو من فوائد سفر هذا العالم ، هذا العالم منزل من منازل سفر الآخرة ، بل من جهة منشأ نعيمها ، وأصل نعيمها ، لذلك سمّي في الأخبار بمزرعة الآخرة ولعلّ إلى ذلك أُشير أيضاً في قوله تعالى : «هذا الذي رُزِقنا مِن قبلُ وأُتوا به مُتَشابِهاً» (البقرة : 25) .
فجميع ما في عوالم البرزخ والقيامة ، ودار ثواب الله من النعم الباقية ، التي لا زوال لها ولا اضمحلال ، التي لا نسبة بينها وبين نعم هذه الدنيا الدنيّة ، التي ما نظر إليها خالقها مذ خلقها ، ولم يرضها لعباده في هذه الدنيا ،

المراقبات 243

التي ليست بدار ثواب منشأها وأصلها من هذا العالم ، فالعارف المراقب يرى ليوم دحو الأرض على نفسه شكراً بإزاء هذه النعم كلّها .
وحينئذ يعتقد عن حقيقة قلبه بأنّه لا يقدر على أداء حقّ شيء حقير من أجزاء جزء يسير منها ، ولو استعن في ذلك بجميع العابدين الشاكرين ، واشتغلوا بالشكر أبد الآبدين لا من جهة أنّ شكرهم أيضاً من نعم الله فهو أيضاً يقتضي شكراً آخر بل من كثرتها وعظمتها ولطفها ، وإذا اهتدى العبد إلى هذه المعارف من مراتب نعم المنعم تعالى ، يكون عليه سمة العارفين بحقيقة عجزه وقصوره وتقصيره عن شكره تعالى ، واستحيي عن عدّ جهده ـ بلغ ما بلغ ـ شكراً ، وعرف قدر منّة الله تعالى عليه في قبول هذا الحقير اليسير لشكر هذه النعم ، وشكره تعالى لهذا الشكر ، وعرف معنى اسمه الشكور ببعض المعرفة وإن كان معرفة كنه أسمائه تعالى محالاً ، هذا .
ومن عظائم تلك النعم جعل الكعبة بيتاً لنفسه ، وإذنه للناس أن يقصدوا زيارته ، قبوله منهم ذلك لزيادته في الأجر والقبول والرضا ، ولعمري إنّ هذا غاية اللطف والرفق والكرم ، فإنّ البصير إذا تأمّل في معاني نسك الحجّ ، يهتدي بذلك إلى عظيم لطفه تعالى ، بل ومحبّته إلى عناية المؤمنين ، وغاية عنايته في جذبهم إلى بابه ، ودعوتهم ، إلى قربه وجواره ، وعرف قدر نعمة وجود هذا النبيّ الكريم الذي هدانا به إلى هذه العوالم العزيزة ، وعرّفنا أسرار هذه المقامات الشريفة الكريمة ، وأحيا هذه القلوب الميّتة بروح الإيمان ، وهدى عماها بنور الإيقان .
وإجمال هذا التفصيل أنّه سبحانه وتعالى خلق بني آدم من التراب ، ودعاهم إلى لقائه وجواره ، وقربه وجواره إنّما هو أعلى علّيّين ، ومقام الروحانيّين ، ومن أجل أنّه لا يصل إلى هذه العوالم العالية في أوائل أمره من

المراقبات 244

جهة توغّله في ظلمات عوالم الطبيعة وإسارته في مهوى كرة الأرض بين الماء والطين ، جعل لهم بلطفه من عالمهم [محلاً و] عمراناً ، وسمّاه بيتاً له ، وجعله مطافاً لزوّاره ، ومريدي حضرته ليطوفوا حوله ويزوروه ، ويستأنسوا بربّهم على حسب حالهم ، ويستعدّوا بذلك لما فوقه من عوالم القدس ، وربوة التقريب ، وجعل لهذه الزيارة نسكاً كلّها مثاراً للترقّي من عالم الملك إلى عوالم الملكوت والجبروت واللاهوت .
وبعبارة أخرى هذه النسك معدّة لعامل بها إلى زيارة الكعبة الحقيقيّة التي ورد فيها أنّه لا تسعني أرضي وسمائي بل يسعني قلب عبدي المؤمن .
وبعبارة أخرى هي مورثة لمعرفة النفس التي فيها معرفة الرب كما أُشير إليه في المناجاة الشعبانيّة بقوله عليه السلام : «وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة ، وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك» .
فإنّ الإنسان محتجب عن الوصول إلى معدن العظمة بحجب ظلمانيّة ونورانيّة [الحجب] الظلمانيّة عبارة عن عالم الطبيعة التي هي من عالم الحسّ والشهادة ، بل وبعض عوالم المثال أيضاً يلحق بالحجب الظلمانيّة والحجب النورانيّة بعد الترقّي عن عوالم الطبيعة بإلقاء المادّة والصورة ، فحينئذ يرى نفسه مجرّدة عنهما ، وتتجلّلى له نفسه وحقيقة مجرّدة عن قشور المادّة والصورة ، ويرى نفسه أمراً عظيماً ، وتبقى الحجب النورانيّة وعند ذلك يفتح له باب المعارف الكشفيّة .
فكلّما طالع الحجب ، وتفكّر في العالم النوريّة ، انكشف له العلم بالمبدأ والمعاد ، وحقائق المقامات الدينيّة التي جمعها قوله تعالى : «كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكتهِ وكُتُبِهِ ورُسُلهِ» (البقرة : 285) الخ حتّى تخرق أبصار القلوب

المراقبات 245

حجب النور فتصل إلى معدن العظمة ، ويعدُّ من زوّار الله وجيرانه ، وبالجملة قد جعل الله بلطفه لأهل هذا العالم بيتاً من جنس عالمهم حتّى لا يحرموا من فيض زيارته ، وجعل لهذا البيت نسكاً مؤثّرة في إعداد الزائر وتأهيله لزيارة بيته الحقيقيّ .
ولا بأس بالاشارة إلى بعض ما تبيّن لنا من أخبار آل محمد ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من أسرار نسك الحجّ الموصلة إلى الزيارة الحقيقيّة الباطنيّة فنقول :
الأولى أن نتبرّك في ذلك أوّلاً بما روي عن الإمام سيد الساجدين عليه السلام من أسرار النسك ، وفسّر في هذه الرواية المقصود الحقيقيّ من كلّ واحد من أعمال الحجّ برواية الشبليّ وقال : لو لم تأت هذه الأعمال بهذه المقصود كأنّك لم تأت بها أصلاً وأوّل نزول الميقات بالانخلاع عن المعصية ، ولبس ثوب الطاعة ونزع الثياب التجرّد من الرياء والنفاق ، والغسل بالتطهير من الخطايا والذنوب ، التنظّف بالنورة بالتوبة الخالصة لله .
والإحرام بتحريم كلّ ما حرّمه الله ، والعقد على الحجّ بتحليل عقد غير الله ، والدخول على الميقات بعد الإحرام بقصد زيارة الله والصلاة عند ذلك بالتقرّب إلى الله ، التلبية بالنطق لله تعالى لكلّ طاعة ، والصون على كلّ معصية ، والدخول إلى الحرم بقصد تحريم كلّ غيبة لأهل ملّة الإسلام ، ورؤية البيت برؤية بيت الله ، قصد الله سبحانه ، والقطع عن غير الله ، والسعي إلى الهرب إلى الله تعالى ، والاستلام بالحجر بالمصافحة بالله .
والوقوف على مقام إبراهيم بالوقوف على كلّ طاعة ، والتخلّف عن كلّ معصية ، الصلاة في المقام بقصد صلاة إبراهيم الخليل عليه السلام ولعلّ فيه إشارة إلى الوصول بالخلّة ، والإشراف على زمزم والشرب منها على الإشراف

المراقبات 246

بالطاعة والغضّ عن المعصية ، والمشي بين الصفا والمروة بالكون بين الخوف والرجاء ، الخروج إلى منى بتأمين الناس من اللسان والقلب واليد .
والوقوف على عرفة بمعرفة الله واطّلاع الله على السرائر والقلب ، والطلوع إلى جبل الرحمة باعتقاد أنّ الله يرحم كلّ مؤمن ومؤمنة ، والمشي إلى المزدلفة والتقاط الحصى برفع كلّ معصية وجهل ، وإثبات كلّ علم وعمل ، وإلى المشعر بتشعير القلب شعائر أهل التقوى والخوف ، والوصول إلى المنى ورمي الجمار بالبلوغ للمقصود وقضاء الحوائج ، وحلق الرأس بالتطهير من الأدناس والخروج من الذنوب وتبعات بني آدم ، ومسجد الخيف بعدم الخوف إلا من الله وعدم الرجاء إلا منه والذبح بذبح الطمع والاقتداء بخليل الرحمن في ذبح ولده ، والرجوع إلى مكّة وطواف الإفاضة بالإفاضة برحمة الله والرجوع إلى طاعة الله والتقرّب إلى الله تعالى .
أقول : ومن أجل أنّ المقصود الأصليَّ من جعل الحجّ وكذا سائر العبادات تقوية جانب الروحانيّة ، حتى يكون الإنسان بشراً روحانياً ، ويترقّى من عوالم الجسمانيّين إلى عوالم الروحانيّين ، فيحصل له معرفة الله وحبّه وأُنسه ، ويجتمع مع أوليائه في دار كرامته ، وحسن أولئك رفيقاً .
ولأنّ كل إنسان إلا ما شذّ وندر ، قد كمل فيه الحيوانيّة قبل البلوغ لفقدان العقل والعلم والعمل ، حتّى قويت فيه الصفات الحيوانيّة من السبعيّة ، والبهيميّة والشيطانيّة ، وضعفت فيه قوّته العقلانيّة والروحانيّة ، وصار موجوداً بما هو حيوان ، فكأنّه في إهابه كلب وخنزير وشيطان بالفعل ، وإنسان ضعيف بالقوّة .
اقتضى لطفه تعالى أن لا يتركهم على ما هم عليه ، حتّى يبعث الأنبياء ، وشرّع لهم الشرائع ، والعبادات والنسك ، حتّى يردّوهم عن جسمانيّتهم إلى

المراقبات 247

الروحانيّة ، وعن عماهم إلى الهدى ، وعن حيوانيّتهم إلى الانسانية ، وعن ظلمتهم إلى النور ، وعن بعدهم إلى القرب ، وجعل لهم تكاليف وعبادات تنفع بعضها في دفع الظلمة ورفعها ، وبعضها في جلب النور وإثباتها .
وبعبارة أخرى بعضها تؤثّر في التخلية وبعضها في التحلية وبعضها جامع لكلا الأمرين ، والحجّ من القسم الأخير لأنّه معجون إلهيٌّ مركّب من أجزاء نافعة جداً لجميع أمراض القلوب ، العائقة لها من عالم النور ، وقد أُشير في الرواية السالفة ، إلى أنواعها ، ومثل ما فيه من علاج البخل مثلاً ببذل المال ، وعلاج الاستكبار بالخضوع والذلّ في أفعال الحجّ والطواف والصلاة ، لا سيّما بما لا يعلم سرّه من أفعالها مثل الهرولة في موضع خاصّ ، وعلاج الكسل بتحمّل مشاقّ أعماله إلى غير ذلك .
فإذاً يلزم على المكلّف العاقل أن تكون همّته في حجّه ، وكذا سائر عباداته على تأديته ، بحيث يحصل منه مقصود شارعه وجاعله اللطيف ، وهذا لا يتيسّر بالضرورة إلا بمعرفة المقصود من حقائق ما أُمر به ، ليوقعه على وجهه ولا تفوته النتيجة .
أقول : كفى في ذلك ما في رواية الشبليّ من حكم تفاصيل جزئيّات الأعمال ثمّ العمل بما عرفه ، والمراقبة في أن لا تفوته هذه الفوائد ، وليعلم أنّ المراد من قوله عليه السلام في تضاعيف هذه الكلمات : فنويت من العمل الفلانيّ المعنى الفلانيّ ؟ أن يتحقّق بحقيقة ما ذكر مثلاً ، [معنى] قوله عليه السلام : «هل نويت بالتجرّد عن الثياب أنّك خلعت ثوب المعصية» أن ينخلع واقعاً عن المعاصي الحاضرة بالفعل ، وعن الآتية بالعزم الصحيح ، وهكذا لأنّ النيّة لا تصحّ من المرتكب بالخلاف ، بل يكون الاخطار بالضمير مع الارتكاب الفعليّ استهزاءً وغفلة لا نيّة .

المراقبات 248

وبالجملة المراد من النيّة التحقّق بحقيقة المنويّ لا إخطاره بالبال ، ولو مع الاتّصاف بضدّه مثلاً ، قال عليه السلام : «فنويت بالسعي بين الصفا والمروة أنّك بين الخوف والرجاء» ؟ مقصوده عليه السلام أن يكون مردداً بين الصفا والمروة ، بالرجاء والخوف حقيقة ، كالمتردّد في فناء دار السلطان ، المشرف إلى لقائه ، كيف يرجو منه فضله وقبوله ، ويخاف من ردّه وأخذه وعقابه ، ويتردّد مشغول الهمّ بين هذين الأمرين ، بل تكون الرغبة والرهبة هما المحرّك له في نفسه هذه الحركة .
وإذ قد تبيّن ذلك ، فاعلم أنّ أوّل ما يجب على كلّ مكلّف في كلّ عبادة تصحيح النيّة وإخلاصها صادقاً ، وإجماله في المقام أن يكون باعثه لإتيان الحجّ المعرفة السابقة المذكورة ، من كون الحجّ معدّاً لرفع الحجب بينه وبين الربّ وموصلاً لزيارة الله ، ولا يدخل في قصده لحاظ غيره ، ويعرف ذلك ببعض الكواشف .
ومن جملتها أن يكون حاله بحيث لو علم بعد تجهيز السفر وشيوع خبره بين الناس أنّ مقصوده يحصل بصرف مؤونته إلى غيره ، بحيث لا يعلم أحد ، وأنّ ذلك آثر عند الله من حجّه ، ترك الحجّ ولا يكون ترك الحجّ عنده ثقيلاً ، ولا يستحيي عن الناس ، بل يكون وجود الناس وعلمهم واعتقادهم في حقّه بالطاعة والمعصية سواءً ، وأن لا يثقل في قلبه تسوية الناس له في المعاملات مع غير الحاجّ وبهذا المقدار يعرف أنّه قصد بحجّه القربة وأنّه أخلص في كونه لله وأمّا أنّه قصد به خصوص مقام القرب والزيارة ، فيعرف ذلك أيضاً بسمة طالبي القرب واللقاء من الجدّ في السعي والاهتمام والشوق وخفّة المشاقّ ، بل ارتفاع المشقّة من البين ، والاستظهار بكلّ القدرة في رفع الموانع .

المراقبات 249

روي في تفسير قوله تعالى حكاية عن الكليم : «وعَجِلتُ إليكَ رَبِّ لتَرضى» (طه : 84) أنّه ما أكل ولا شرب ولا نام أربعين يوماً شوقاً إلى لقاء الله ، وثانياً أن يعمل بلوازم هذا القصد ، ولعمري إنّ هذا القصد إذا تحقّق إنّما يكفي في البعث على لوازمه ، ولا يحتاج زيادة تنبيه وتعليم ، لأنّ تعليم طرق النياحة على الثكلى غلط ، ومن البديهيّات أنّ كل ما يشغله عن الله من المحرّمات والمكروهات والمباحات ، إنّما هي مانعة عن الوصول إلى المأمول ، فلا بدّ له من قطع علاقة الشهوات والمرادات لها إلا إرادة الوصول إلى الله .
وبالجملة لا بدّ لمن دخل هذا الميدان أن يتهيّأ بكمال جدّه ومبلغ استطاعته مستمدّاً من النفحات الإلهيّة الرحيميّة ، والجذبات الربّانيّة اللطيفة ، لتحصيل عُدّة حضور ربّ العالمين جلّ شأنه ، والعمدة في ذلك تحصيل الشوق ، والأولى في ذلك أن نذكر ما في مصباح الشريعة عن الصادق عليه السلام في وصف المشتاق وهو قوله عليه السلام : «المشتاق لا يشتهي طعاماً ، ولا يلتذّ شراباً ، ولا يستطيب رقاداً ، ولا يأنس حميماً ، ولا يأوي داراً ، ولا يسكن عمراناً ، ولا يلبس ثياباً ، ولا يقرّ قراراً ، يعبد الله ليلاً ونهاراً ، راجياً بأن يصل إلى ما يشتاق إليه ، ويناجيه بلسان الشوق معبّراً في سريرته ، كما أخبر الله تعالى عن موسى في ميقات ربّه «وَعَجِلتُ إليكَ رَبِّ لِتَرضى» (طه : 84) وفسّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن حاله أنّه ما أكل ولا شرب ولا نام ولا اشتهى شيئاً من ذلك في ذهابه ومجيئه أربعين يوماً شوقاً إلى ربّه ، فإذا دخلت ميدان الشوق فكبّر على نفسك ومرادك من الدنيا ، ودع جميع المألوفات ، اصرفه عن سوى مشوقك ولبّ بين حياتك وموتك (بقولك) لبّيك اللهم لبّيك ، هذا .
ويبالي أنّ أغلب الناس مثلي ليس لهم هذه المهمّة ، فالأولى أن نعرض

المراقبات 250

عن تفصيل هذا النمط فنقول : إن لم تكن من أهل المحبّة والشوق ، فلا محالة من أن تكون من المتوسّطين من أهل اليمين ، الخائفين من افتضاح حضور مجلس الروحانيّين ، فبادر إلى توبة صادقة واجبة على كلّ واحد من المكلّفين لا أقول : توبة الأولياء والأصفياء والخواصّ بل توبة العوامّ التي تجب على كلّ عامّي أن يتوب من الذنوب والكبائر الفقهيّة فيما يأتي ويستعلج بما يقدر عليه ما مضى من تدارك ما فات من الواجبات والكفّارات وردّ الحقوق والمظالم على ما قرّر في محلّه .
والأولى أن يأتي بالعمل الوارد في شهر ذي القعدة من الغسل والصلاة والدعاء لمريد التوبة ويدبّر بقدر تكليفه أموره في وطنه وأهله ، وأمانات ربّه ، بحيث يفرغ قلبه عن الشغل بفكرها ، ويوصي وصيّة ويفرض أنّه لا يرجع عن سفره هذا .
ولكن يكون تدبيره في ذلك لمحض أمر الله ، وبقدر أمر الله ، وأمّا في قلبه وسرّه فيوكّل أمر كلّ ما يتعلّق به في وطنه وأهله وجميع علائقه إلى ربّه ، ويفوّض أمرهم وأمر نفسه وما معه في سفره إلى ربّ البيت ، ويحسن رجاءه بحسن خلافته تعالى فيما خلّفه ، وحسن صحابته وجواره ـ في طريق زيارته ودار وفادته ـ في نفسه وما معه ، فإنّه نعم الخليفة ، ونعم الصاحب ، ونعم المزور .
وأيضاً ينبغي أن لا يحمل في سفره ما يشتّت فكره ، ويفرّق خياله وهمّه من العلائق ، من النسوان والأولاد والرفيق غيرالموافق ، والأسباب غير اللازمة أو ترك الأسباب اللازمة ولا يكون رفيقه إلا مثله في الحسب والمقدرة ، لئلا يذلّ المؤمن ، ولا يذل نفسه ، ولا يكون كلاًّ على غيره ،

المراقبات 251

وينبغي أن يكون رفيقه أعلم وأتقى منه ليستفيد من صحبته ، ويستكمل نفسه بتقليده ، ويتذكّر بذكره .
وبالجملة يودّع بقلبه جميع ما خلّفه كلاًّ حتّى لا يشغل همّه عن التوجّه التامّ إلى ما قصده ، ولا يستصحب معه شيئاً شاغلاً عن ذكر ربّه ، وهمّ زيارته ، والتقرّب إليه بتحصيل رضاه ، ليكون همّه همّاً واحداً ، وحاله في خدمته سرمداً ، حتّى يكون زائراً مقصور الهمّ في زيارة حبيبه ، وعبداً شاخصاً في خدمة مولاه ، وإذا كان كذلك فلا بدّ أن يحسن خلقه مع رفقائه ، ويعذب معاملته معهم ، ويحبّ صلتهم وخدمتهم ، والتحمّل عنهم ، ويلتذّ منهم ، ويستأنس بهم ، حتّى الجمّالين والأكرة بل المراكب والمنازل كما قيل :
أمرُّ على الدّيار ديار ليلى أُقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
فما حبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حبُّ من سكن الديارا

وكما قال الشاعر :
جمال كعبه جنان ميدواندم بنشاط كه خارهاي مغيلان حرير ميآيد
أجول جمال كعبة الجنان نشيطاً فتضحي أشواك أم الغيلان حريراً

ولعلّ من هذا الباب ما روي عن السيد السجّاد وإمام الزهّاد أنّه كان يستصحب في زاد سفر الحجّ لوزاً وسكّراً وغير ذلك من الحلويّات ، فلا بدّ أن يكون ذلك منه عليه السلام ليصرفها في الحجّاج ، وينفق في سبيل الله لزوّار الله أحسن النفقات ، ولأنّ ما يصرفه في هذا الطريق مصروف في الحبيب ، وهو بعين الحبيب .
وحينئذ لا يتصوّر أن يثقل عليه ما يتلف منه ، أو يصرفه باختياره من ماله ، ويبذله من جاهه وقوته ، ولا يقل عليه جفاء الخادم والرفيق ، بل يحلو عنده مرّ أذاهم ، يقابلهم من سوء المعاملة بالرفق والإحسان ، ومن الأذيّة

المراقبات 252

بالشكر والامتنان ، لأنّ رضا الخالق في جفاء المخلوق كما أُشير إليه في الحديث القدسيّ .
ثمّ إنّه ينبغي أن يقدّر سيره في الطريق سيراً إلى الله وتقرّباً إليه وبالجملة أيضاً زاده الذي هو التقوى ، وراحلته التي هي بدنه ، ورفيقه الذي هو أهل التقوى من المؤمنين ، ودليله الذي هو من يهديه إلى ربّه من أهل العلم واليقين ، وأمير الحاجّ الذي هو إمامه عليه السلام .
ومراعاة التقوى أن يجاهد نفسه في تحصيلها بمراتبها وأوّل مراتبها التقوى من المحرّمات ، ووسطها التقوى من الشبهات ، وآخرها التقوى من كلّ ما يشغله عن الله حتّى المباحات .
ومراعاة بدنه بتدبير أمره بحيث يحمله في سفره إلى الله ، ويحمل زاده ، ويطيعه في الحمل وقطع الطريق ، ولا يعصيه في ذلك إلا عن الضعف ولا عن الجموح .
وأمّا مراعاة الرفيق وهو أن يتّخذ لنفسه إخوان الصفا ، ويحذر عن مصاحبة إخوان المكاشرة ، ويجتهد في اتّحاد قلبه وعمله مع إخوانه ، في تحصيل معرفة الله ومحبّته ، وفي التعاون على ذلك كلّه ، فإنّ للاجتماع واتّحاد القلوب والهمم تأثيراً خاصّاً في نيل المقصود .
وأمّا مراعاة الدليل وهو المقلّدُ في المسائل الفقهيّة ، ومعلّم الخير في تهذيب الأخلاق ، والعارف الكامل في المراتب العرفانيّة ، فمراعاته الاقتداء به ، الاستضاءة بنوره ، والاستهداء بهداه .
وأمّا مراعاة الحاجّ وهو خليفة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وإمام زمانه عليه السلام ، ومراعاته معرفته وولايته وطاعته ، وهذا أهمّ الأمور وأوجبها ، ولا يتيسّر السير

السابق السابق الفهرس التالي التالي