المراقبات 325

صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ، أبد الآبدين ودهر الداهرين .
ومن عظائم الأوقات وشرائف الأيّام في هذا الشهر العظيم اليوم الرابع والعشرون لما وقع فيه من إقدام سيّد المرسلين لمباهلة النصارى وظهور تغيّر في العالم بحيث أذلّ رقابهم بقبول الصغار ، وإعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون .
وبالجملة أعزّ الله تعالى في هذا اليوم الاسلام بذلّة النصارى ، وأكرم الشيعة بتكريم أهل بيت نبيّه حيث أنزل آية المباهلة ، وأمر رسوله أن يباهل الكفّار بعليّ أمير المؤمنين وفاطمة زوجته سيّدة نساء العالمين ، وولديه الحسنين سيّدي شباب أهل الجنة أجمعين وعبّر في هذه الآية الكريمة عن عليّ عليه السلام بنفس النبيّ وأذلّ بذلك رقاب المخالفين المنافقين .
وإجمال هذا التفصيل أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا فتح مكّة ، وانقادت له العرب أرسل رسلاً وكتب كتباً إلى الأمم ودعاهم إلى الإسلام ومن جملة من أرسلهم إلى نصارى نجران ، أرسل إليهم عتبة بن غزوان ، وعبد الله بن أبي أميّة ، والهدير بن عبد الله وصهيب بن سنان ، يدعوهم إلى الإسلام فإن أجابوا فإخوان وإن أبوا واستكبروا فإلى الحطّة المخزية إلى أداء الجزية عن يد فإن رغبوا عمّا دعاهم إليه من أحد المنزلتين وعندوا ، فقد آذنهم على سواء ، وكان في كتابه صلى الله عليه وآله وسلم : «قُل يا أهل الكتابِ تَعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بينَنا وبينكم ألاّ نعبُدُ إلا الله ولا نُشرِكَ بهِ شيئاً ولا يَتّخِذَ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تَوَلّوا فقولوا اشهدوا بِأنّا مسلمون» (آل عمران : 64) .
فازدادوا لورود رسل نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم وكتابه هوراً واقتراحـاً ، ففرغـوا إلى بيعتهم العظمى ، واجتمعوا للمشورة ، وأسرعت إليهم القبائل مـن مذحج ،

المراقبات 326

وعك ، وحمير وأنمار ومن دنا منهم نسباً وداراً من قبائل سبأ وكلّهم قد ورم أنفهم غضباً لقومهم .
وكان أسقفهم الأوّل رجلاً موحّداً يؤمن بالمسيح وبالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن يكتم إيمانه ولمّا رأى مذاكراتهم في المسير إلى يثرب لمشاجرتهم رسول الله ، وعظهم ونصحهم ووصّاهم بالتَمثُّل والتأنّي واغتاظ من وعظه كرز بن سبرة الحارثي وهو يومئذ زعيم بني الحارث بن كعب وفي بيته شرفهم والمعصّب فيهم ، وأمير حروبهم وردّ على أبي حامد قوله ، وردّه السيّد والعاقب وهما من عظماء القوم وأجابوا أبو حامد . فطال التشاجر بينهم حتى آل الأمر في تعيّن تطبيق أوصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الذي أخبرت به الأنبياء إلى إحضار الجامعة ، فأحضروها ووجدوا ما ذكر أبو حامد من المطابقة صحيحاً وأنّه هو الذي أخبرت به الأنبياء في كتبهم ، فاضطرب حال السيّد والعاقب والتجآ إلى المسير إلى المدينة لمشاهدة صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتطبيق بمن بشّر به الأنبياء .
فلمّا تجهّزا للمسير إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم انتدب معهما أربعة عشر رجلاً من نصارى نجران من أكابرهم فضلاً وعلماً وسبعون رجلاً من أشراف بني الحارث بن كعب وسادتهم ، فساروا ولمّا دنوا من المدينة أحبّا أن يباهيا المسلمين وأهل المدينة بأصحابهما وبمن حفّ من بني الحارث معهما قالوا : لو كففتم صدور ركابكم ، مسستم الأرض فألقيتم عنكم تفثكم وثياب سفركم ، وشننتم عليكم باقي مياهكم كان ذلك أمثل .
فانحدر القوم عن الركاب فأماطوا من [أنفسهم] شعثهم وألقوا عنهم ثياب بذلتهم ولبسوا ثياب صونهم من الأنجميّات والحرير والحبر ، وذرّوا المسك في لممهم ومفارقهم ثمّ ركبوا الخيل واعترضوا بالرماح على مناسج خيلهم وأقبلوا يسيرون جماعة واحداً وكانوا من أجمل العرب صوراً وأتمّهم

المراقبات 327

أجساماً وخلقاً حتّى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده وحانت صلاتهم فقاموا يصلّون إلى المشرق فأراد الناس أن ينهوهم عن ذلك ، فكفّهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك .
ثمّ أمهلهم وأمهلوه ثلاثاً فلم يدعهم ولم يسألوه لينظروا إلى هداه ويعتبروا ما يشاهدون منه ممّا يجدون من صفته فلمّا كان بعد ثالثة دعاهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام فقالوا : يا أبا القاسم ما أخبرتنا كتُب الله عزّ وجلّ بشيء من صفة النبيّ المبعوث من بعد الروح عيسى عليه السلام إلا وقد تعرّفناه إلا خلّة واحدة هي أعظم الخلال آية ومنزلةً ، وأجلاها أمّارةً قال : وما هي قالوا : إنّا نجد في الانجيل من صفة النبيّ الغابر من بعد المسيح عليه السلام أنّه يصدّق به ويؤمن به وأنت تسبّه وتكذب به ، وتزعم أنّه عبد .
قال : فلم تكن خصومتهم إلا في المسيح ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا بل أُصدّق به وأُؤمن به ، أشهد أنّه النبيّ المرسل عن ربّه عزّ وجلّ ، وأنّه عبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً قالوا : وهل يستطيع العبد أن يفعل ما كان يفعل ؟ هل جاءت الأنبياء بما جاء به من القدرة القاهرة ؟ ألم يكن يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، وينبّئهم بما يكنّون في صدورهم ويدّخرون في بيوتهم ، فهل يستطيع هذا إلا الله عزّ وجلّ أو ابن الله ؟ قالوا في الغلوّ فيه وأكثروا تعالى الله عن ذلك .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : قد كان عيسى أخي كما قلتم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخبر قومه بما في نفوسهم وبما يدّخرون في بيوتهم وكلّ ذلك بإذن الله عزّ وجلّ وهو لله عبد وذلك عليه غير عار وهو منه غير مستنكف ، فقد كان لحماً ودماً وشعراً وعظماً وعصباً وأمشاجاً يأكل الطعام ويظمأ وينصب بأدبه وربّه الأحد الحقّ الذي ليس كمثله شيء وليس له ندٌّ ، قالوا : فأرنا مثله

المراقبات 328

جاء من غير فحل ولا أب ؟ قال : هذا آدم أعجب منه خلقاً جاء من غير أب ولا أمّ ، وليس شيء بأهون على الله عزّ وجلّ في قدرته من شيء وأصعب : «إنّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ له كُن فيكون» (يس : 82) وتلا عليهم : «إنَّ مَثَلَ عيسى عندَ الله كمَثَلِ آدم خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قال لهُ كُن فيَكون» (آل عمران : 59) .
قالا : فما نزداد منك في أمر صاحبنا إلا تبايناً ، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك هلمّ فلنلاعنك أيّنا أولى بالحقّ فنجعل لعنة الله على الكاذبين فإنّها مثلة وآية معجّلة فأنزل الله عزّ وجلّ آية المباهلة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «فَمَن حاجّك فيهِ من بعد ما جاءَكَ من العلمِ فقُل تعالَوا نَدعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفسَنا وأنفسَكم ثمّ نبتهلَ فنجعل لعنةَ الله على الكاذبين» (آل عمران : 59) .
فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نزل عليه في ذلك من القرآن ، فقال : إنّ الله أمرني أن أصير إلى ملتمسكم وأمرني بمباهلتكم إن أقمتم وأصررتم على قولكم ، قالا : وذلك آية ما بيننا وبينك إذا كان غداً باهلناك ثم قاما وأصحابهما من النصارى معهما .
فلمّا أبعدوا ـ وقد كانوا أنزلوا بالحرَّة ـ أقبل بعضهم على بعض فقالوا : قد جاءكم هذا بالفصل من أمركم وأمره فانظروا أوّلاً بمن يباهلكم ؟ أبكافّة أتباعه ؟ أم بأهل الكتابة من أصحابه ؟ أو بذوي التخشّع والتمسكن والصفوة ديناً وهم القليل منهم عدداً ؟ فإن جاءكم بالكثرة وذوي الشدّة منهم فإنّما جاءكم مباهياً كما يصنع الملوك فالفلج إذاً لكم دونه . وإن أتاكم بنفر قليل ذوي تخشّع سجيّة الأنبياء وصفوتهم ، موضع بهلتهم فإيّاكم والإقدام إذاً على

المراقبات 329

مباهلتهم فهذه لكم أمارة وانظروا حينئذٍ ما تصنعون بينكم وبينه ؟ فقد أعذر من أنذر .
فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بشجرتين فقصدتا وكسح ما بينهما وأمهل حتّى إذا كان من الغد أمر بكساء أسود رقيق فنشر على الشجرتين فلمّا أبصر السيّد والعاقب ذلك خرجا بولديهما صبغة المحسن ، وعبد المنعم ، وسارة ومريم ، وخرج معهم نصارى نجران وركب ، فرسان بني الحارث في أحسن هيئة .
وأقبل الناس من أهل المدينة والمهاجرين والأنصار وغيرهم من الناس في قبائلهم وشعارهم من راياتهم وألويتهم وأحسن أثارتهم وهيئتهم لينظروا مايكون من الأمر ولبث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجرته حتى ارتفع النهار ثمّ خرج وأخذ بيد علي ، والحسن والحسين أمامه ، وفاطمة عليهم السلام خلفه فأقبل بهم حتّى أتى الشجرتين فوقف بينهما من تحت الكساء على مثل الهيئة التي خرج بها من حجرته فأرسل إليهما يدعوهما إلى ما دعاهم إليه من المباهلة .
فأقبلا فقالا : بمن تباهلنا يا أبا القاسم ؟ قال : بخير أهل الأرض وأكرمهم صلوات الله عليهم ، قالا : فما نراك جئت لمباهلتنا بالكبير ولا من الكثير ، ولا أهل الشارة ممّن نرى ممّن آمن بك واتّبعك ، وما نرى ههنا معك إلا هذا الشاب والمرأة والصبيّين فبهؤلاء تباهلنا ؟ قال : نعم بهؤلاء أُمرت ـ والذي بعثني بالحقّ ـ أن أُباهلكم ، اصفرّت حينئذ ألوانهما وكرّا وعادا إلى أصحابهما .
فلمّا رأى أصحابهما ما بهما وما داخلهما قالوا : ما خطبكما فتماسكا وقالا : ما كان ثمّ من خطب فنخبركم ، وأقبل عليهم شابٌّ كان من خيارهم قد أوتي فيهم علماً فقال : ويحكم لا تفعلوا واذكروا ما عثرتم عليه في الجامعة من صفته فوالله إنّكم لتعلمون حقّ العلم أنّه الصادق وإنّما عهدكم بإخوانكم

المراقبات 330

حديث قد مسخوا قردة وخنازير ، فعلموا أنّه نصح لهم فأمسكوا .
قال : وكان للمنذر بن علقمة أخي أُسقفهم حظٌّ من العلم فهم يعرفونه بذلك فلمّا رأى المنذر انتشار أمر القوم وتردّدهم في رأيهم أخذ بيد السيّد والعاقب ، قال : خلوني وهذين فاعتزل بهما ثمّ أقبل عليهما فقال : إنّ الرائد لا يكذب أهله ، وأنا لكما جدّ شفيق ، فإن نظرتما لأنفسكما نجيتما وإن تركتما ذلك هلّكتما وأهلكتما قالا : أنت الناصح جيباً ، المأمون عيباً ، فهات .
قال : أتعلمان أنّه ما باهل قوم قطّ نبيّاً إلا كان مهلكهم كلمح البصر ، وقد علمتما وكلُّ ذي أرب من ورثة الكتب معكما أنّ محمّداً أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم هذا هو الذي بشّرت به الأنبياء ، وأُخرى أنذركما بها فلا تغشّوا عنها ، قالا : وما هي ؟ قال : انظر إلى النجم قد استطلع على الأرض ، وإلى خشوع الشجر ، وتساقط الطير ، بإزائكما لوجوههما قد نشرت على الأرض أجنحتها ، وفات ما في حواصلها ، وما عليها لله عزّ وجلّ من تبعة ليس ذلك إلا لما قد أظلّ من العذاب .
وانظرا إلى اقشعرار الجبال ، وإلى الدخان المنتشر ، وقزع السحاب هذا ، ونحن في حمارّة القيظ وإبّان الهجير ، وانظرا إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم رافعاً يده والأربعة من أهله معه إنّما ينتظر ما تجيبان به ، ثمّ اعلموا أنّه إن نطق بكلمة من مباهلته ، لم نتدارك هلاكاً ، ولم نرجع إلى أهل ولا مال ، فنظرا فأبصرا أمراً عظيماً فأيقنا أنّه الحقٌّ من الله عزّ وجلّ فتزلزلت أقدامهما وكادت أن تطيش عقولهما ، واستشعرا أنّ العذاب واقع بهما .
فلمّا رأى المنذر ما قد لقيا من الخيفة قال لهما : إنّكما إن أسلمتما له سلمتما في عاجله وآجله ، وإن آثرتما دينكما وغضارة أيكتكما وشححتما بمنزلتكما من الشرف في قومكما فلست أحجر عليكما ، الضنين بما نلتما من

المراقبات 331

ذلك ولكنكما بدءتما محمّدا صلى الله عليه وآله وسلم بتطلّب المباهلة ، وجعلتماها حجاراً وآية بينكما وبينه ، شخصتما من نجران فأسرع محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بغيتكما ، والأنبياء إذا أظهرت بأمر لم ترجع إلا بقضائه وفعله ، فإن نكلتما عن ذلك وأذهلتكما مخافة ما ترون فالحظُّ في النكول لكما فالوحا يا إخوتي الوحا ، صالحا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وارضياه ولا ترجيا ذلك فإنّكما وأنا معكما بمنزلة قوم يونس لمّا غشيهم العذاب .
قالا : كن أنت الذي تتلقى محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بكفالة ما يبتغيه لدينا ، والتمس لنا ابن عمّه إليه ليكون هو المبرم لأمر بيننا وبينه فإنّه ذو الوجه والزعيم عنده ، ولا تبطئنّ لنطمئنّ بما ترجع إلينا به .
وانطلق المنذر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله الذي ابتعثك وأنّك وعيسى عبدان لله عزّ وجلّ مرسلان ، فأسلم وبلّغه ما جاء له فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام لمصالحة القوم فقال عليٌّ عليه السلام : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله على ما أُصالحهم ؟ فقال له : رأيك رأيي فيما تبرم معهم .
فصار إليهم وصالحهم على ألف حلّة وألف دينار خرجا في كلّ عام يؤدّيان شطراً [من] ذلك في المحرّم وشطراً في رجب ، فسار عليٌّ عليه السلام بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذليلين صاغرين وأخبره بما صالحهما عليه وأقرّا له بالخرج والصغار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد قبلت ذلك منكم أمّا أنّكم لو باهلتموني تحت الكساء لأضرم الله عليكم الوادي ناراً تأجّج ثمّ لساقها إلى من ورائكم في أسرع من طرفة عين فحرقهم تأجّجاً .
فلمّا رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهله ، وصار إلى المسجد هبط إليه جبرئيل فقال : يا محمد إنّ الله عزّ وجلّ يقرئك السلام ويقول لك : إنّ عبدي موسى باهل

المراقبات 332

عدوّه قارون بأخيه فخسف بقارون وأهله وماله ومن آزره من قومه ، وبعزّتي وجلالي أُقسم يا أحمد لو باهلت بك وبمن تحت الكساء من أهلك لهلك أهل الأرض والخلائق جميعاً ، ولتقطّعت السماء كسفاً ، والجبال زبراً ، فلم تستقرّ أبداً ، إلا إن شاء ذلك .
فسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووضع على الأرض وجهه ثمّ رفع يديه حتّى تبيّن للناس عفرة إبطيه فقال : شكراً للمعم ثلاثاً ، فسأل عن السجدة وعن تباشير السرور في وجهه فقال : شكراً لله عزّ وجلّ لما أبلاني من الكرامة في أهل بيتي ثمّ حدّثهم بما جاء به جبرئيل عليه السلام ، هذا .
ومن العجب أنّ جماعة من أعيان علماء المخالفين ذكروا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّما جعل أهل المباهلة عليّاًً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وقد أنزل الله عليه :
«تعالَوا ندعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل» ولم يبق لعلي عليه السلام إلا مقام النفس بتصديق الله جلّ جلاله ، ومع ذلك يقدّمون عليه غيره ؟! هذا والله لظلم عظيم ، وحكم العقل السقيم !!.
ومن جملة من صرّح بذلك ما رواه مسلم في صحيحه : أنّ الذين باهل بهم النبيّ : عليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين .
وروى ذلك الثعلبيّ ، مقاتل والكلبيّ ، وابن مردويه ، وعبد الله بن عبّاس ، والحسن البصريُّ ، الشعبيُّ ، والسدّيّ والزمخشريُّ وغيرهم .
وروى الزمخشري في ذيل هذه الرواية عن عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج وعليه مرط مرحَّل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله ثمّ جاء الحسين فأدخله ثمّ فاطمة ثمّ قال : «إنّما يُريدُ الله ليُذهِبَ عنكُم الرّجسَ أهلَ البيتِ

المراقبات 333

ويُطَهِّرَكُم تَطهيراً» (الأحزاب : 33) . ثم قال :
فإن قلت : ما دعاه إلى المباهلة إلا لتبيّن الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختصّ به وبمن يكاذبه فما معنى الأبناء والنساء .
قلت : ذلك آكد في دلالته على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزّته وافلاذ كبده وأحبّ الناس إليه كذلك ـ إلى أن قال ـ : وفيه دليل لا شي أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام ، وفيه برهان على صحّة نبوّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا .
وللمراقب أن يعرف حرمة هذا اليوم ومحلّه للإسلام ومكانته للإيمان .
أقول : لهذا اليوم من الشرف وجهان كلٌّ منهما في الشرف نظير صاحبه :
الأول : ثبوت النبوّة .
الثاني : ثبوت الولاية .
فبالأول بناء الإسلام ، وبالثاني مباني الإيمان ، وقد استبصر بهذه الآية الشريفة حكيم من حكماء الإسلام من أهل السنّة واختار التشيّع بالتأمّل في آية المباهلة وتصديق الله جلّ جلاله لعليّ عليه السلام مقام النفس والاتحاد مع نبيّه صلّى الله عليه وآلهما .
فللمنصف الحكيم أن يضع هذا اليوم موضع ثبوت الإسلام والإيمان من الشرف والكرامة ، ويفرض كأنّ هذه الكرامة بمنزلة كرامة الإيمان بالله ورسوله ، وبحججه وآياته ، وكتبه كلها ورسوله ، بل ويعتقد لهذا اليوم فضيلة جميع النعم الأُخروية بل الدنيوية أيضاً ، ثمّ يتأمّل في لطفه تعالى في تسبيب هذه الأسباب لهدايته وعزّته في الدنيا بعزّة الإسلام .

المراقبات 334

ولو اكتفى في هدايته للإسلام ببعض الوجوه العقليّة ، ولم يؤكده بهذه المواسم الجليلة ، الواضحة البيّنة ، أمكن أن يدخل عليه عدوّه بعض الشكوك والشبه ويغرّه عن دين الإسلام ، ويغويه عن نور الإيمان ، ويوقعه في مهوى الكفر والعذاب الخالد الدائم .
ويتصوّر في نفسه أنّه لو لم تكن هذه الآية المذلّة لأعناق الكفّار ، بقبول الجزية والصغار ، وكانوا على عزّتهم وقوّتهم لطمعوا في مناجزة المسلمين ، ومعارضة الإسلام ، فاحتيج في دفعهم إلى المقاتلة والخوض في أخطار الجهاد ، وانجرّ إلى قتل النفوس وضياع الأموال ، وقلّة نسل المسلمين ، وكلّ ذلك أسباب شوكة الكفر وضعف الإسلام ، والعقول قاضية بأنّ ضعف شوكة الدين مانع عن قبوله والتديّن به على النفوس الضعيفة ، بل ربّما يصير سبباً للخروج عن الدين ، واللحوق بالكافرين بعد الإسلام ، ولا أقلَّ من الوقوع في الاشكال و الصعوبة فبدّلنا الله من ذلّ هذه الأخطار الوخيمة بعزّة قويمة ، ومن صعوبة المجاهدات الشديدة براحة عريضة طويلة بإظهار شرف أوليائه ، وكرامة وجوه أحبّائه ، فيا لها نعمة لا يقدّر قدرها القادرون ويعجز عن شكرها الشاكرون .
فإذا تمهّدت عندك هذه المقدّمات ، يلزمك بحكم العقل الحاكم بالصواب وجوب شكر هذه النعمة بقدرها ، وإذا فرض العجز عن القيام بحقّها فلا بدّ من الإتيان بالميسور ، بقدر المقدور .
وايضاً يجب بحكم العقل أن يعرف موقع نعمة وجود هؤلاء السادة الكرام ويثنى لهم ويصلّي عليهم بكلّ ما يقدر عليه ، فانظر كيف يكون حالك إذا ابتليت ببليّة فيها هلاكك وخلودك في العذاب الدائم ، أو ابتلاؤك بمناجزة الفرسان ، ومقاتلة الشجعان ، وما يلزمها من قتل النفوس ، وضياع الأعراض ،

المراقبات 335

فعلم ببليتك وضعفك عن احتمال هذه الفوادح سلطان زمانك ، وأنجاك من هذه البليّة بشفاعة بعض خدمه وعبيده ، وأعزّك مكان الذلّ والهوان في سلطانه ، وأمكنك من الراحة في مملكته ، كيف يكون شكرك لهذا السلطان ولهذا الشفيع ، وكيف تراك رهيناً بمنّة هذا السلطان وهذا الشفيع ، ويقبح عندك أن تعصيه ، وتطيع عدوّه في محضره بعد هذه النعمة ، أليس المفروض : أنّه خالقك وموجدك ووليّ سائر نعمك التي لا تحصيها ؟ ، وهكذا هذا الشفيع ، لم يكن علّة وجودك وسائر نعمك ؟ فقس من ذلك قبح ما أنت فيه من مخالفة ربّك ومالكك ، وخالق نفسك وعقلك وحياتك وجميع نعمك ، وعلّة ذلك كلّه .
وبالجملة إذا حكّم الإنسان عقله في معاملاته فلا يرضى العقل على (مخالفة ربّه) بعضو ذرّة وإذا عزل العقل عن الحكم ، فله أن يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد وأنت يا أخي إذا تأمّلت في شأن هذا اليوم وشرفه من جهة نعمة المباهلة . ومن جهة وضوح برهان النبوّة ، وسطوع أنوار الولاية ، وتفكّرت في فيما أشرنا إليه من فروع هاتين النعمتين ، يعظم في نفسك موقع هذا اليوم ، واجتهدت في القيام بحقّه واستقللت ما ورد فيه من العبادة ، وسمحت لا محالة بهذه الأعمال الخفيفة ، أتيت بها عن شوق ولم تتثاقل عن إتيانها ، وسعيت في إخلاصها بخالص قصد شكر المنعم تعالى جلّت آلاؤه ويكون عليك خجل المقصّرين ، أو سمة القاصرين وبعدت لا محالة عن دلالة المتعبّدين وفزت بكرامة ربّ العالمين .
ومن جملة الأعمال الواردة في هذا اليوم ما رواه سيّدنا قدّس الله نفسه الزكيّة في «الإقبال» باسناده إلى محمد بن عليّ بن أبي قرّة بإسناده إلى

المراقبات 336

محمد بن علي القمّي : رفعه في خبر المباهلة قال : وأصحّ الروايات يوم أربعة وعشرين والزيارة فيه ، قال :
«إذا أردت ذلك فابدأ بصوم ذلك اليوم شكراً لله تعالى ، واغتسل والبس أنظف ثيابك ، وتطيّب بما قدرت عليه ، وعليك بالسكينة والوقار ، والذي يعمله من يريد أن يمضي إلى مشهد وليّ من أولياء الله ، أو موضع خال ، أو جبل عال ، أو واد حصر وعليه ألا يقيم في منزله ، ويخرج بعد أن يغتسل ويلبس أحسن ثيابه» .
«فإذا وصل إلى ا لمقام الذي يريد فيه أداء الحقّ وطلب الحاجة والمسألة بهم صلّى ساعة ويدخل بقراءة وتسبيح فإذا جلس في التشهّد وسلّم ، استغفر الله تعالى سبعين مرّة ، ثمّ يقوم قائماً ويرفع يديه ، ويرمي طرفه نحو الهراء ، ويقول ـ وذكر الدعاء الذي اشتمل على حمد الله من جهة تعريف الولاية بآية المباهلة تعريفاً مفصّلاً ، ثمّ قال ـ وتصلّي عند كلّ دعاء ركعتين وتقيم إلى انتصاف النهار أو زوال الشمس وقد قيل إلى اصفرارها» ثمّ قال ـ :
ومن الدعاء في يوم المباهلة دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رويناه باسناده إلى الشيخ محمد بن أبي قرة باسناده إلى سليمان الديلميّ إلى الحسين بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال أبو جعفر عليه السلام : لو قلت إنّ في هذا الدعاء الاسم الأكبر لصدقت ، ولو علم الناس ما فيه من الإجابة لاضطربوا على تعلّمه بالأيدي ، وأنا لأُقدّمه بين يدي حوائجي فينجح ، وهو دعاء المباهلة من قول الله تعالى : «قُل تَعالَوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءَكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل» إلى آخر الآية ، وإنّ جبرئيل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بهذا الدعاء قال : أخرج أنت ووصيّك وسبطاك وابنتك ، وباهل القوم وادعوا به . قال أبو عبد الله عليه السلام : إذا دعوتم فاجتهدوا

السابق السابق الفهرس التالي التالي