المراقبات 351

قالوا نَشهدُ إنّك لَرَسولُ الله والله يعلمُ إنّك لَرَسولُهُ والله يَشهدُ إنّ المنافقينَ لكاذبون» (المنافقون : 1) .
وبالجملة فعلى العبد أن يجعل همّه وجدّه ، كلّه في تصحيح العمل وإخلاصه عن الآفات ، وعن شوائب الهدى ، فلو قدر أن يقول : لا إله إلا الله مرّة بقلبه وعمله بل وروحه وسرّه وجميع جوارحه ، فهو أنفع من أن يأتي تمام عمره بقيام الليالي وصيام الأيّام مع دوام الذكر من دون إخلاص .
وإن شئت تصديق ذلك فانظر إلى عمل إبليس فإنّه عبد الله مع الملائكة آلاف السنين لم ينفعه ولم يمنع عن العذاب واللعن ، وإلى آدم عليه السلام حيث إنّ كلمات منه في التوبة صارت سبباً لقبول توبته ، ومقام الاجتباء ، وفي الأخبار أنّ للمرائي في القيامة أربعة أسماء : يا كاذب ، يا فاجر ، يا غادر ، يا مرائي ، هذا .
ومن أهمّ ما يترتّب على المجاهدة في إخلاص العمل عن الآفات ، التواضع القلبيّ الحاصل من معرفة ضياع أعماله ، فإنّه يورث في القلب ذلّة باطنيّة بحيث يتنفّر عن عمله وعن نفسه ، ويكون زارياً لنفسه غير مدلّ بعبادته ، وغير معجب بها فكلّما سعى أن يأتي بعمل صحيح ولم يقدر عرف عجزه ، ويضطرّ إلى الاحتراف بأبواب الفضل والكرم والجود ، ويرى نفسه وهواه أعدى عدوّه فيزري نفسه .
وهذه الذلّة الباطنة ، وإزراء النفس تنفعه أكثر من عبادة سبعين سنة ، كما روي أنّ عابداً عبد الله سبعين سنة صائماً نهاره قائماً ليله ، فطلب إلى الله حاجة فلم يقضها له فأقبل لوماً على نفسه وقال : من قبلك أوتيت ، لو كان عندك خير قضيت حاجتك .
فأنزل الله إليه ملكاً فقال : يا بن آدم ساعتك التي أزريت فيها على نفسك خير من عبادتك التي مضيت .

المراقبات 352

نعم هو عند المنكسرة قلوبهم كما ورد في الأخبار ، ولعمري إنّ العمدة في ضياع أمر الآخرة والأديان ، وصحّة أمر الدنيا واستقامة أمر الهوى ، إنّما هو من هذا الباب لما نراه بالوجدان أنّ الغالب على أهل الدين في أمور الآخرة من عباداتهم وأعمالهم ، بل وإيمانهم وأخلاقهم الاكتفاء بالصورة ، والغالب على أهل الدنيا عدم الاكتفاء بها بل يداقّون في تكميل المعنى .
مثلاً أهل الأديان يكتنفون غالباً في صلاتهم بإقامة الصورة ، ويسعون في تكميل الصورة ولا يبالون بفقدان المعنى والروح ، فإنّ للصلاة صورةً وروحاً في كلّ جزء من أجزائها وشرائطها ، من طهارتها وتكبيرها إلى تسليمها وتعقيبها ، من أفعالها وأذكارها وهيئاتها ، ترى المصلّين يتعلّمون الصورة حتّى أنّهم يجتهدون في تصحيح أمر تقليدهم وتعلّم صورة الصلاة ويحتاطون في ذلك ويناقشون في علم المقلّدين وورعهم ، ويداقّون في تصحيح الرسائل ويناقشون في عباراتها ، ويبالغون في تطهير الماء وتطهير الأعضاء ، ويجتهدون في إيصال الماء على أعضاء الوضوء ، ما لم يأت به الشرع بل نهى عنه صريحاً وهكذا في تطهير المكان واللباس وفي أداء الحروف عن المخارج في القراءة والأذكار بحيث يفسدون القراءة والذكر من كثرة المبالغة وأما تطهير الجوارح من المعاصي والقلب عن الأخلاق الرذيلة وعن النفاق وعن محبة الدنيا وعن الشغل بغير الله فكأنّه غير مأمور به .
وهكذا يسامحون في إتيان حقائق الأفعال والأذكار حتّى ترى الفحول من أهل العلم لم يتعلّم المراد من بعض أفعال الصلاة مع أنّه مذكور في الأخبار مثل رفع اليد بالتكبير ونفس القيام وهكذا الركوع والسجود ومدّ العنق في الركوع ورفع الرأس من السجود والتشهّد والسلام ، وقد ورد في أخبار آل محمد عليهم السلام لكلّ منها معنى وحقيقة إن لم يأت [بها] بقصد ذلك المعنى منه فكأنّك لم تأت بها .

المراقبات 353

وهكذا التكبير والقراءة والتسبيح والتحميد والشهادة بالتوحيد وبالرسالة والسلام لكلّ منها حقائق إن لم يتحقّق المتكلّم بها بهذه الحقائق لا يصدق عليه أنّه مكبّر ومسبّح وحامد وقارئ وهكذا ، فمن أراد تحقيق ما ذكرنا فليراجع لما شرحناه في كتاب «أسرار الصلاة» في حقائق هذه المذكورات ، وما ورد فيها من الروايات .
وأمّا أهل الدنيا في أمورهم الدنيويّة ، فلا يقنعون بالصورة بل يجدّون في إتيان الحقائق ، فما رأيت أحداً من الناس أن يكتفي من الحلوى بصورتها ونقشها أو قراءة لفظها بل إذا نقص أحد أجزاءها عن حدّ الكمال ينفون الاسم ، ويقولون : هذا ليس بحلوى ، وهكذا في غيرها من الأشياء والأمور .
مثلاً إذا تواضع الولد لوالده في أغلب حالاته واقعاً ، وأتى في بعضها الآخر بالصورة الخالية عن المعنى ، وعرف ذلك الوالد ، يقول : إنّه لم يتواضع لي واستهزأ بي ، وإذا أمر لبنّاء أن يبني له عمارة وسوّى هذا البنّاء العمارة أنّها تخرب بعد أشهر لا يعطيه الأُجرة ويقول له : إنّك لم تبنِ ما أمرتك به ، فلا تستحقّ أُجرة ، بل يطلب منه قيمة الجصّ وغيره .
وبالجملة ما رأيت أحداً يقنع في أمور دنياه بالصورة ، ولكن أغلب الناس إن لم يكن كلّهم لا يأتون في أغلب الأمور الأخروية إلا بالصورة ، ومع ذلك يتوقّعون من الصورة أثر الروح فلا يجدون .
ومن جملة هذه الأمور قرباتنا حتّى هذا الكتاب الذي صرفت في كتابته عمراً فإنّ صورته كاملة في حدّها ، ولكن من أين يغني الصورة من المعنى ، فإنّ معنى كتابة أمثال هذه الكتب وروحها هو أن يكون قصد الكاتب القرية ، وتحصيل مرضاة الله جلّ جلاله ، ويكتب أموراً وعلوماً ربّانيّة ينتفع منها الناظر فيها ويعمل بها .

المراقبات 354

فإذا كان قصد الكاتب إثبات علوم نافعة للمسلمين لا يكتب إلا ما هو أنفع ولا يبالي لما يقال ، ولا يهمّ بتحسين العبارة ، ولا يعتني بإظهار الفضيلة ، بل لا يهمّ بحسن النظم والترتيب ، بل يكون اهتمامه في إثبات مطالب نافعة مؤثّرة في القلوب مرضيّة للخالق .
وبالجملة ابتلينا في أمر الدين وما يتعلّق بالآخرة بالتهوين ، واكتفينا بالصورة الخالية من الحقائق ، وسامحنا في تحصيل المعاني ، هذا .
ولا يذهب عليك أنّ مقصودنا من الاهتمام بالحقائق والمعاني والزجر عن الاكتفاء بالصور ، ليس نفي الاهتمام بالصورة فإنّ الصورة أيضاً مطلوبة جداً ، ولكنّ المقصود الترغيب في الجمع بين الاهتمام بالصور والمعاني كلٌّ بحسبه على ما يقتضيه حكم الله ، واهتمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمّا رفض الصور كلية كما قد تتراءى من بعض الصوفيّة ـ خذلهم الله ـ فهو أيضاً ضلال ، بل هو ضلال مع إضلال ، وفيه خروج عن الدين .
بل الذي يتراءى من هذه الطائفة المدّعين للحقائق والمهملين للصور والتاركين لها ، أنّهم يتركون المعاني أيضاً بل التارك للصورة أترك للمعاني من الصور ، وهذا أضر للإسلام من كل شيء ، لأنّ بقاء الدين بحفظ الصورة غالباً .
لا لأنّ الإسلام عبارة عن الصورة والمعنى معاً ، والتارك للجزء تارك للكلّ وإن كان هذا حقّاً لا مرية فيه ، بل لأنّ المراقبة للصورة وحفظها أقوى في اقتداء الناس بالشرائع والديانات لأنّ المعاني أمور باطنيّة لا يظهر في الأغلب على الناس حتّى يوجب اقتداؤهم والظاهر إنّما هو الصور ، ولكن زيادة الاهتمام بالأرواح والمعاني من جهة أنّها أنفسها أهم عند الشارع من الصور ، فليكن الاهتمام بكلا الأمرين مساوياً ، ولكن يزيد الاهتمام بالظواهر في الظاهر والصورة ، وبالأرواح والمعاني باطناً ومعنىً .

المراقبات 355

ثمّ إنّ سيّدنا قدوة اهل العلم والعمل طاووس أهل المراقبة ومعلّمهم ، ومروّج هذا العلم وعامله (قده) إنّما كتب في كتابه «الإقبال» أصول مراقبات أعمال السنة على أحسن ما يمكن أن يكتب ، ولم يكتب مثله في هذا المعنى ، ويظهر من هذا الكتاب أنّه ـ عليه سلام الله وسلام آبائه الطاهرين ـ أكمل في تحرير هذا الكتاب أيضاً مراقبة الله جلّ جلاله ، ولذا أنشأ في آخر الكتاب دعاء ومناجاةً وقال فيه :
قد امتثلت مرسومك اللهمّ فيما اعتمدت عليه مجتهداً بك في الإخلاص فيما هديتني إليه .
وأمّا هذا المفلس من الخيرات كلّها والمتدنّس بالأسواء جلّها الذي لم يحكم علماً ولا عملاً ، ولم يأمن من عمل نفسه بالإخلاص ، ولو في عبادة واحدة ، ولا بالخلوص ولو في نفس واحد ، كي يناجي ربه ؟ وبماذا يعرض كتابه إلى حضرة خالقه ومالكه ، بأيّ لسان يناجيه ؟ وبأيّ وجه يلقاه ؟ أبوجهه العاصي المظلم أم بلسانه الناسي الأبكم ، عن ذكر مالكه الأرحم ، ماذا يقول لو لم يحرز عن نيّته الصدق والإخلاص ، بل علم الريب والالتباس ؟
أيجترئ بالكذب على ربّه في دعواه ، وهو المخبر عمّا في سريرته ومعناه ، أم يصدق ويجسر ويقول : هذا ما قصدت به غيرك يا مولاه ، أو أشركت فيه عبادك يا سيّداه ، أما يخالف أن يقال له : أيها العبد اللئيم ما أجسرك على ربّك الكريم ، وما أجرأك على مولاك الحليم ، اما تستحي عن وجهك المظلم أن تواجه وجه ربّك المنير ، وعن لسانك الكاذب أن تخاطب إلهك الصادق ، أما تخاف من سطوات سلطانه ، أن تهدي إلى حضرة قدس جلاله بشركك وكفرك ، وهو أغنى الأغنياء من الشرك .
كيف يكون حالك لو قال لك : ألم تجد أهون منّي حيث راقبت عبيدي وإمائي ولم تراقبني ، بأيّ خيال راقبتهم وتركتني ، ألم ترج من خير ما رجوت

المراقبات 356

منهم والخير كله بيدي ، أليس قلوبهم بيدي ؟
أما اختبرت في تمام عمرك وجرّبت طول حياتك مقام لطفي وكرمي بك ، وسبوغ نعمتي عليك ؟ أليس وجودك وحياتك وروحك وعقلك وقلبك وجميع جوارحك وجميع أسبابك كلّها من نعمي عليك ؟
ألم تعرف أنّ عبيدي الذي آثرتهم عليَّ لا يقدرون على نفعك ولا ضررك ، ولا يقدرون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ؟
أليس قوّتك على هذا العمل الذي قصدت به قلوب عبادي من نعمي عليك وجميع أسبابه الداخليّة والخارجية بإيجادي وبقيت بحفظي ؟
ألم أخلق لك عقلاً تعقل به الحقّ من الباطل ، والإيمان من الفكر ، حتّى هديتك للإيمان ، وهديتك إلى العلوم الشرعيّة السرّيّة ، ودقائق علوم المراقبة حتّى عقلت ما يجب على العباد من حقّ أسرار معاملتهم معي ، ووفّقت لكتابتها ، ونشرتها ، مننت عليك بأسبابها التي لا تحصيها من كثرتها ؟
كيف لم يكفك هذه المنن العظيمة ، والنعم المتواترة الجسيمة ، أن تصادقني بالعبودية ، وتوحّدني بالإلهيّة ، ولم تراقب حضوري معك ، ولم تحفظ علمي بك ووصيّتي لك ، فغرّك عدوك عنّي ، وعن سعادتك وخيراتك ، والفوز بكراماتي وأدخل في قلبك مراقبة عبيدي وإمائي ، وقد عرّفتك بمنّي عليك أنّهم بكلّهم موجودون بإيجادي ، وأحياء بأمري ، لا وجود لهم من أنفسهم ، ولا حياة ولا قدرة ولا ملك ولا شيء أبداً إلا بي ، والموجودون كلّهم ملكي والملك قائم بي وأنا قيّمه والخير كلّه بيدي ولا ضارّ ولا نافع غيري ، أكفر بعد الإيمان ، وشكٌّ بعد الكشف والايقان ؟
آه آه واحسرتاه وافضيحتاه ماذا أصنع ؟ وكيف الجواب من هذا العتاب ؟ أأسكت وأقرُّ وأعترف ؟ أم أجسر وأحتال وأحترف . والأولى أن استهدي ربّي أن

المراقبات 357

يهديني إلى ما هو أرضى له ، فأقول مستعيناً :
بسم الله الرحمن الرحيم

سيّدي يا إلهي أنا عبدك الذي لم أكن شيئاً مذكوراً ، فأوجدتني بعنايتك وأكرمتني بمواهبك ، وتفضّلت عليّ بالنعم التي لا أُحصيها من كثرتها .
مولاي أنت الذي أنعمت ، أنت الذي أحسنت ، أنت الذي أجملت ، أنت الذي أفضلت ، أنت الذي مننت ، أنت الذي أكملت ، أنت الذي رزقت ، أنت الذي أعطيت ، أنت الذي أغنيت ، أنت الذي أقنيت ، أنت الذي آويت ، أنت الذي كفيت ، أنت الذي هديت ، أنت الذي عصمت ، أنت الذي سترت ، أنت الذي غفرت ، أنت الذي أقلت ، أنت الذي مكّنت ، أنت الذي أعززت ، أنت الذي أعنت ، أنت الذي عضدت ، أنت الذي أهديت ، أنت الذي نصرت ، أنت الذي شفيت ، أنت الذي عفيت ، أنت الذي أكرمت وتباركت ربّي يا إلهي وتعاليت .
أنا الذي أخطأت ، أنا الذي أغفلت ، أنا الذي أذنبت ، أنا الذي عصيت ، أنا الذي خالفت ، أنا الذي جهلت ، أنا الذي عميت ، أنا الذي سهوت ، أنا الذي اعتمتدت ، أنا الذي تعمّدت ، أنا الذي وعدت ، أنا الذي أخلفت ، أنا الذي نكشت .
أنا إلهي الذي أمرتني فعصيتك ، ونهيتني فارتكبت نهيك ، فأصبحت لا ذا براءة فأعتذر ، ولا ذا قوّة فأنتصر ، فبأيّ شيء أستقبلك يا مولاي ؟ أبوَجهي الخلق المظلم ، أم بسمعي المذنب ، أم بلساني العاصي ، أم بيدي المسيء ، أم برجلي المتعدّي أليس كلّها نعمك عندي وبكلّها عصيتك ؟!
ويلاه لو علمت الأرض بذنوبي لساخت بي وابتلعتني ، ويلاه لو علمت الجبال بذنوبي لهدّتني ، ويلاه لو علمت البحار لأغرقتني ، الويل لي إن كان عقابي مذخوراً لآخرتي .

المراقبات 358

فيا ويلي والعول لي أن اُتي بي يوم القيامة مغلولةً يدي إلى عنقي ، ويا ويلي والعول لي إن بدّلت النار جسدي ، يا ويلي والعول لي إن قصف على رؤوس الخلائق ظهري ، يا ويلي والعول لي إن اسودّ يوم القيامة وجهي ، فيا ويلي والعول لي إن قويست أو حوسبت أو جزيت بعملي .
ويلاه ليت الذي خفت منه نزل بي ولم أُسخط ، ويلاه إنّي لمفتضح بعظيم ذنوبي عند لقاء ربّي فما أقلّ حيائي . «فيا سبحان هذا الرب الودود يستر عليّ عيوبي كأنّه استحياني عند معصيتي له ، أظهر محاسني وكتم معصيتي حتّى كأنّي لم أزل في طاعته ، وأرضيت عباده بسخطه ولم يكلني إليهم وكفاني من سعته ، وعصيته فستر عليَّ ، وغضب على من عيّرني بمعصيته ، وسترني من الآباء والأمّهات أن يزجروني ، ومن العشائر والإخوان أن يعيّروني ، ومن السلاطين أن يعاقبوني ، ولو اطّلعوا على ما اطّلع منّي إذاً ما أنظروني .
مولاي إلهي لو علمت أنّك لا تحييني بعد الموت لألقيت بيدي استحياء من مواجهتك يوم ألقاك ، وفراراً من فضيحة يوم القيامة عند الأبرار ، ويا سيّدي ومولاي لو كان لي جلد على انتقامك ، وطاقة على عذابك ، لما سألتك العفو عنّي ، رضيت أن تعذّبني سخطاً على نفسي ، كيف عصتك ولم تراقب حضورك ، أقبلت عليها فأعرضت عنك .
ثمّ إنّي يا مولاي قد أكثرت التفكّر في أحوالي حتّى حار في ذلك ذهني ، وكلّ عقلي ، ولم أجد حيلة لإصلاح نفسي ، وعمدت إلى الإخلاص في عبادة ربّي ، فغلبني هواي وغرّني عدوّي ، فكلّما دنوت من رضاك شبراً أبعدني عنه ذراعاً ، فما بقي لي حيلة ولا وسيلة إلا عصمتك إن مننت بها عليَّ .
فأيقنت أنّه لا حول عن المعصية ، ولا قوّة للطاعة إلا بك ، فبقيت مضطرّاً

المراقبات 359

إلى رحمتك فها أنا ذا بين يديك ذليل عليل [مذعن] بذنوبي ، مقرّ بقبائحي ، معترف بمساءتي ولؤمي ، موقن بأنّه لا نجاة لي ممّا أوقعت فيه نفسي إلا منك ، ولا سبيل إلى الوصول بكرامتك إلا بك .
فأنا اليوم مفتضح بعملي ، وذلّ مقامي وقبيح فعالي ومستوجب لأليم عذابك ، بئيس عقابك بل وطردك وإبعادك إلا أن تدركني عنايتك ، وتسعني رحمتك وينالني كرم عفوك ، وتمحو عنّي دنس الخطيئات ، وتطهّرني من دنس السيّئات بعفوك وتبدّل سيئاتي بأضعافها من الحسنات بكرمك وتوصلني إلى رفيع الدرجات بفضلك .
وإن ناقشني فضلك بعدم الأهلية فمن أين آتي بها إن لم تجد بها عليَّ ، وإن كان ذنبي قد أخلق بوجهي عندك ، ومنع عن شمول رحمتك بي ، فبوجوه أوليائك المشرقة عندك أتوجّه إليك وأتوسّل أن لا تؤاخذني بلؤمي وذنبي ولا تخيّبني من جودك وكرمك وتقبلني بمحمد وعليّ وآلهما الطاهرين ـ صلواتك عليهم أجمعين ـ كما قبلت سحرة فرعون بموسى وهارون فإنّك جعلتهم الوسائل إليك وذرائع إلى رحمتك ، فاقبلني بهم وعملي المشوب بإخلاصهم ، ومعصيتي بإطاعتهم ، وكسلي بجدّهم ، وسوء خلقي بحسن أخلاقهم ، وغفلتي بذكرهم ، لؤمي بكرمهم ، وألحقني بهم واجعلني من شيعتهم المقرّبين وأوليائهم السابقين كما مننت عليَّ بمعرفتهم وولايتهم .
فبقديم فضلك الذي وهبتني ولايتهم والانتساب بهم أثبتني في أهل ولايتهم ، احشرني في زمرتهم ، وأكرمني بجوارهم ، واقبل منّي كتابي هذا بقبولك الحسن ، واجعله يوم القيامة بيميني والخلد في الجنان بيساري ، فإنّي وإن لم أُخلص فيه نيّتي بيد عبادك المخلصين أعرضه إلى جناب قدسك ، وباب أكرمك ، فاقبل زيّف عملي بخلوصهم .
فإنّك يا سيدي إن مننت عليَّ في جملة ما كتبته من مراتب الإخلاص

المراقبات 360

فاغلبه على شوائب الهوى فإنّ التغليب للشريف أمر معمول ، لا سيّما إذا عرض عليك بأيدي أشرف بريّتك وأكرم خليقتك ، وأحبّ أوليائك صلواتك عليهم فإنّ ظلمتي لا يقوم قبال نورهم ومقتضى حكمتك أن تقبل مسيئاً بمحسن وعاصياً بمطيع ، مشوباً بخالص ، فاقبل منّي كتابي واقبل استشفاعي بهم وإذا قبلت فعوّضني منه رضاك قبل لقائك ، ثم لقاك لقاك لقاك .
إلهي يا مولاي تقدّس رضاك أن يكون له علّة ، فكيف يكون علّة منّي وأنت غنيٌّ عنّي وعن كتابي ، وانفع به إخواني المؤمنين واجعله من أسباب مغفرتك ووسائل رضاك ، وحبائل توفيقك لي ولإخواني المؤمنين والمؤمنات ، وأنظمه في عداد رسائل أوليائك الخالصة لوجهك ، فإنّه لا يعظم عليك شيء من ذلك ولا ينقص من ملكك عطاؤك .
مولاي يا إلهي وسيّدي أنا من خوفك وخشيتك ما قدرت أن أحسب رسالتي هذه من حسناتي ، بل عددتها من سيّئاتي ، ولكن لا أستبعد من كرم عفوك أن تبدّلها بالحسنات ، فتعطيها يوم القيامة بيميني ، فتقرّ بها عيني ، ويفرّح بها قلبي ، واُقبّلها وأضمّها إلى صدري وأستأنس بها وأقول :
هذا ممّا قبلها ربّي ، ولك الحمد على ما وهبتني من الرجاء بعظيم فضلك ، وكرم عفوك ، كيف ولولا رجاؤك لأهلكنا القنوط وخوف العقاب . والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلّم .
اللهمّ نوّر ظاهرنا برحمتك ، وباطننا بمعرفتك ، وقلوبنا بمحبّتك ، وأرواحنا بمشاهدتك ، وأسرارنا باستقلال اتّصال حضرتك ، وصلّ على محمّد وآله وارزقنا بهم مغفرة بلا عذاب ، وجنّة بلا حساب ، وعفواً بلا عتاب ، ورؤية بلا حجاب بمحمّد وآله الأطياب .

السابق السابق الفهرس