الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 1
محاضرات في العقيدة (5)


الاسلام

محمدي الوجود ... حسيني البقاء


محاضرات
الشيخ أحمد الماحوزي

تدوين وتقرير
السيد مصطفى المزيدي

الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 2




الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 3


بسم الله الرحمن الرحيم

« الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء »

مقولة مشهورة ومتداولة عند المؤمنين ، وكون الإسلام محمدي الوجود مما لاشك ولا ريب فيه ومن البديهيات المتفق عليها عند كافة أهل الإسلام ، وغيرهم من بقية الأديان السماوية وغير السماوية ، أما القول ببقاء الإسلام واستمراريته بسبب الحسين وتضحيته فهذا مما يحتاج إلى دليل وبرهان.
فيا ترى هل ما يعتقده المؤمنون من أنه لولا الإمام الحسين عليه السلام ، ولولا مواقفه وشهادته في كربلاء لما بقي من الإسلام إلا اسمه ومن الدين إلا رسمه ، ولكان الإسلام اليوم كبقية الأديان السماوية الأخرى ـ اليهودية والمسيحية ـ ليس لها تطابق مع دين الكليم موسى والمسيح عيسى عليهما السلام إلا في الإسم ودعوى الإنتساب إليهما.

الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 4

فهل هذه الكلمة « الإسلام محمدي الوجود ، وحسيني البقاء » كلمة حب وعاطفة أطلقها عشاق ومحبي الإمام الحسين عليه السلام ، أم أنها كلمة لها واقع حقيقي ؟
إذ لعل إنسان يتساءل ويقول : كثير من المذاهب الإسلامية لا تنظر إلى الإمام الحسين عليه السلام على أنه إمام مفترض الطاعة ، كما ينظر إليه المؤمنون ، ومع ذلك فإنها متمسكة ظاهرا بالدين وبدستور الاسلام الخالد « القرآن الكريم » فالاسلام مستمر وباق حتى لو لم يقتل الإمام الحسين في كربلاء ، بل حتى لو لم يولد الإمام الحسين عليه السلام.
إلا إنا نصرّ ونقول :
انه لو لم يكن الإمام الحسين عليه السلام ، ولو لم تكن واقعة كربلا لكان الإسلام إسمه موجود وحقيقته مفقودة ، ولأصبح كبقية الأديان السماوية الموجودة الان ليس له من الحق إلا الاسم ، وأن مقولة « الإسلام حسيني البقاء » لها واقع حقيقي ملموس ممتد من قوله صلى الله عليه وآله « حسين مني وأنا من حسين » (1).

(1) أخرجه البخاري في الأدب من صحيحه ورواه في التاريخ الكبير : ج4 قسم 2 صفحة 415 ، مسند الإمام أحمد : 4 / 172 ، سنن ابن ماجه ، سنن الترمذي ، المستدرك على الصحيحين : 3 / 177 ، ولمعرفة دلالة الحديث راجع ما ألقيناه تحت عنوان « علي مني وأنا منه ».
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 5

ولتوضيح ذلك نقول : هناك طائفة من البشر يعتنقون المسيحية وطائفة أخرى يعتنقون اليهودية ، ويزعمون أنها المسيحية التي جاء بها عيسى ، واليهودية التي أنزلت على موسى عليهما السلام ، ولكن الواقع يشهد على أن المسيحية واليهودية الموجودة الان لا تشكل أكثر من 5% مما كانت عليه عند موسى وعيسى عليهما السلام ، بل لعله أقل من هذه النسبة .
وليس الكلام ـ في مقامنا هذا ـ في اسم المسيحية واليهودية وبعض الأمور الاعتقادية الضئيلة والقليلة والأحكام المتفرعة على ذلك ، وإنما الكلام في الطابع العام لهذا الدين أو ذاك ، فالطابع العام لليهودية والمسيحية الموجودتان الان لايمت بصلة الى المسيحية واليهودية التي جاء بها عيسى وموسى عليهما السلام ، لافي الاعتقاد ولا في الطقوس العبادية.
أما الإسلام الان ـ الموجود لدى المذاهب الإسلامية ـ طابعه العام ينطبق مع الإسلام الذي جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، نعم لا ينطبق عليه بحذافيره ولكنه في الأعم الأغلب وفي أكثر الأحكام يتطابق معه ، فما عند المسلمين اليوم بكافة فرقهم كثير منه مؤسس من قبل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، وهذه حقيقة واضحة لا يمكن التغافل والغفلة عنها وهو سر خلود الإسلام

الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 6

الى يوم القيامة ، فهو خالد بهذه الفرق الإسلامية التي تشكل بمجوعها 50% الى 70% تقريبا (1) من الدين الذي جاء به النبي الأمي صلى الله عليه وآله ، وخالد على نحو الحقيقة والواقعية بتلك الطائفة التي لا تزال على الحق وظاهرة به الى يوم القيامة (2) ، والتي تشكل الإسلام والإيمان صورة وقالباً.

(1) وهذا بفضل الحسين عليه السلام ولولاه ـ كما سيأتي ذكره ـ لكان شأن هذه المذاهب شأن المذاهب المسيحية لا تشكل من دين المسيح عليه السلام إلا الاسم ودعوى الانتساب.
(2) ففي الحديث المستفيض « لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين الى يوم القيامة » ، راجع : صحيح البخاري : 4 /253 كتاب المناقب باب 28 ، صحيح مسلم : 1 / 137 كتاب الإيمان باب نزول عيسى عليه السلام ، صحيح سنن أبي داود للألباني : 2 / 471 ، صحيح سنن ابن ماجه للألباني : 1 / 6 ، سنن الترمذي : 4 / 485 ، صحيح سنن النسائي للالباني : 2 / 756 ، سلسلة الأحاديث الصحيحة للالباني : 4 / 571.
وأخرجه الامام أحمد بن حنبل في المسند عن جابر ، وابي امامة ، وثوبان ، وزيد بن أرقم ، ومعاوية بن قرة ، وجابر بن سمرة ، وأبي هريرة ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومسلمة ، والمغيرة ، وعمران بن الحصين ، راجع المسند : 2/321 ، 340 ، 379 ، 5/345 ، 384 ، 4/93 ، 97 ، 99 ، 101 ، 104 ، 244 ، 248 ، 252 ، 369 ، 429 ، 434 ، 437 ، 5/34 ، 35 ، 92 ، 94 ، 98 ، 103 ، 105 ، 106 ، 108 ، 269 ، 278 ، 279 .
وفي بعض الروايات « ناس من أمتي » ، وبعضها الآخر كما في صحيح البخاري « أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك » ، وفي بعضها الثالث « لن يبرح الدين قائما ، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة » ، « والطائفة ، والعصابة ، والأمة ، وناس » فيها دلالة على أن الدين لا يزال قائما بفئة قليلة من الناس لا بالأغلبية من المسلمين.
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 7

إذا عرفت ذلك نقول : لولا الإمام الحسين عليه السلام لكان اسلام بقية المذاهب والفرق اسلاما طابعه العام لا يتلاءم مع الإسلام الواقعي والحقيقي الذي جاء به الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله ، بل ليس له من الإسلام الواقعي الا الاسم وزعم الانتساب ، كما هو شأن اليهودية والمسيحية.


مصادر التشريع

ولبلورة المطلب واتضاحه نمهّده بمقدمة ، فنقول :
لاشك أن مبدأ انحراف الاديان قاطبة هو الانحراف في مصادر لاتشريع في كل دين ، فما من دين إلا وله مصادر التشريع خاصة به يُستنبط منها عباداته ومعتقداته ، وترك هذه المصادر أو استحداث مصادر أخرى لم يقرّها هذا الدين أو ذاك ، هو منشأ وبداية الانحراف والابتعاد عن الدين ، بل الاختلاف في منابع المعرفة والتشريع هو منشأ كل الاختلاف والتنازع الفكري والثقافي والعقائدي بين بني البشر.
فمن باب التوضيح هناك خلاف بين البشر قاطبة في مصادر المعرفة ، هل هي العقل او الحس أو التجربة، فهناك مذهب ومدرسة عقلية صرفة ، وهناك مدرسة ثانية حسية صرفة ، وهناك مدرسة ثالثة تجريبية صرفة ، وهناك مدرسة رابعة تعتبر كل هذه

الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 8

المنابع مصادر للمعرفة مع اختلاف في متعلق المعرفة ؛ فبعض المعارف لا سبيل لمعرفتها إلا بالعقل ، وبعضها الاخر لا طريق لاستيعابها إلا عن طريق الحس ، وبعضها الثالث لا يعرف إلا عن طريق التجربة .
وبما أن هذه المدارس تختلف في مصادر المعرفة ومنابع التشريع ، فيتفرع على هذا الاختلاف ، الاختلاف والتباين في العقيدة والسلوك العبادي ، وهذا واضح لا غبار عليه ، إذ بداية الخلاف بين المدارس يرجع الى الخلاف في مصادر المعرفة كما ذكرنا.
وهذا الخلاف أيضا جار بين المسلمين في مصادر المعرفة المرتبطة بالدين والاسلام ، فالكتاب والسنة مجمع على كونهما من مصادر المعرفة والتشريع عند الجميع ، وهنالك خلاف في كون : سنة أهل البيت عليهم السلام ، وسنة الصحابي ، والقياس ، والمصالح المرسلة ، وسد الذرائع ، والاستحسان ، مصادر للمعرفة والتشريع الاسلامي.
وباختلاف المصادر تختلف الاحكام سواء المرتبطة بالجانب العقائدي أو المرتبطة بالاحكام الفرعية ـ العبادات والمعاملات ـ.

الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 9

فمن جعل أهل البيت عليهم السلام (1) مصدراً للمعرفة والتشريع تختلف عقائده وممارساته عمّن لم يجعلهم عليهم السلام مصدرا لذلك.
ومن جعل قول وفعل وتقرير الصحابي ـ مهما كانت صحبته مع الرسول صلى الله عليه وآله ـ مصدرا للمعرفة والتشريع ، تختلف عقائدة وممارساته عمن لم يجعلهم مصدرا للمعرفة والتشريع (2).
ولكن هذا الخلاف كما أشرنا إليه بشكل موجز لا يؤدي الى غياب الطابع العام للإسلام (3) ، بل يبقى الطابع العام طابعا اسلاميا ، نعم الاسلام بمعناه الحقيقي لايوجد إلا في طائفة واحدة المشار

(1) كما هو مقتضى الادلة الكثيرة والمعتبرة والواضحة كحديث الثقلين وحديث سفينة نوح وغيرهما.
(2) ولذلك ذهب اغلبية المسلمين ـ تبعا للخليفة عمر بن الخطاب ـ الى أن قول الرجل لزوجته : أنت طالق طالق طالق ، في مجلس واحد هو طلاق ثلاثي بحاجة الى محلل ، خلافا لقوله تعالى « الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان ... فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره » ، وخلافا لسنة الرسول وسيرة أبي بكر ، وستأتي تتمة لذلك فانتظر.
(3) مع ملاحظة الجهود التي بذلها سيد المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام في تصحيح سيرة الخلفاء بعد الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وارشاد بقية الصحابة والتابعين الى مصادر التشريع الحقة ، حتى قال الخليفة عمر بن الخطاب في مواقف كثيرة « لولا علي لهلك عمر » « لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن ».
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 10

إليها في قوله صلى الله عليه وآله المتقدم « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ».


الأئمة المضلون

نعم : الذي يمحق الاسلام محقا ويمحي تعاليمه وسننه هو اتخاذ الأئمة المضلين فقط وجعلهم حجة على الدين ومصادر للمعرفة والتشريع ، فهذا ما يخاف به على الاسلام ، وهذا ما حذّر منه الاسلام والقرآن ، في عدة من البيانات والآيات.
من تلك الايات التي تشير الى هذا الخطر الكبير قوله تعالى « اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ، وما امروا إلا ليعبدوا الله إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون » (1).
قال الامام الصادق عليه السلام في تفسير الآية : أما والله ما دعوهم الى عبادة أنفسهم ولو دعوهم الى عبادة أنفسهم ما أجابوهم ، ولكن أحلوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون (2).

(1) التوبة : 31.
(2) الكافي : 1/543 ، المحاسن : 246.
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 11

قال الرازي : الاكثرون من المفسرين (1) قالوا : ليس المراد من الارباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم ، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، نُقل أن عدي بن حاتم كان نصرانيا ، فانتهى الى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقرأ سورة براءة ، فوصل الى هذه الآية ، قال : فقلت : لسنا نعبدهم ، فقال صلى الله عليه وآله : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟! فقلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم (2) ، وقال الربيع : قلت لابي العالية ـ عامر الشعبي ـ : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل ؟ فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الاحبار والرهبان ، فكانوا يأخذون بأقوالهم ، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله .
قال : قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين « رض » : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء ، قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل ، وكانت مذاهبهم

(1) تفسير الطبري : 10/80 ، الكشاف للزمخشري : 2/185 ، تفسير القرطبي : 8/120 ، تفسير ابن كثير : 2/348 ، الدر المنثور : 4/174.
(2) أخرجه ابن سعد وعبد حميد والترمذي وحسنه ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه ، راجع الدر المنثور : 4/174.
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 12

بخلاف تلك الايات ، فلم يقبلوا تلك الايات ولم يلتفتوا إليها ، وبَقوا ينظرون إليّ كالمتعجب ، يعنى : كيف يمكن العمل بظواهر هذه الايات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا (1).
أما الأحاديث المحذرة من الأئمة المضلين فكثيرة جدا منها ما أخرجه الترمذي بسنده عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين (2).
فالخطر الذي يخاف منه على الاسلام هو : أن يصبح كل من تسلم زمام الامور السياسية والادارية للمسلمين قوله وفعله وتقريره حجة ، كحجية قول وفعل وتقرير الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله ، فيصبح مصدرا من مصادر التشريع ، وهذا ما حصل

(1) تفسير الرازي : 16/37.
(2) سنن الترمذي : 4/504 ، كتاب الفتن ، وقال : حديث حسن صحيح ، المستدرك : 4/449 ، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ، وقد روى الحديث عن ثوبان وعمر وأبي ذر وأبي الدرداء كل من : ابو داود في السنن : 4/97 ، احمد بن حنبل في المسند : 1/42 ، 5/145 ، 278 ، 284 ، 6/441 ، ابن ماجه في السنن 2/1304 ، والدارمي في السنن : 1/70 ، وصحح الحديث الالباني في صحيح سنن ابي داود : 3/801 ، وصحيح سنن ابن ماجه : 2/352.
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 13

بالفعل لدى المسلمين بالنسبة لبعض الخلفاء من الصحابة (1).
إذ أن بعض المسلمين ـ بل كثير منهم ـ يأخذون عقائدهم من الواقع المعاش ، فبما أن أبا بكر أول من جاء بعد الرسول صلى الله عليه وآله ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، فأبو بكر عندهم أفضل الصحابة ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، ولو أن معاوية لم يحارب عليا عليه السلام لكان بعد علي عليه السلام في الافضلية.
فتربى المسلمون على قبول كل ما يصدر من الخلفاء بعد الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله ، وأصبحت اقوالهم وافعالهم حجة ودليل على الحكم الشرعي والاعتقادي ، حتى معاوية بن أبي سفيان الذي هو طليق باجماع المسلمين قوله حجة عند عدة من المسلمين (2).

(1) وسنة الصحابي تارة تكون حجة بلحاظ أنها طريق الى سنة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، واخرى تكون حجة بما هي هي ، فعلى الأول تكون الحجية طريقية وعلى الثاني تكون الحجية موضوعية ، والحجية الموضوعية هي أن يكون الشيء بنفسه حجة يجب التعبد به كحجية الكتاب ، والحجية الطريقية هي أن يكون الشيء طريقا الى الحجة وكاشف عنها ، وليس الخلاف بين المسلمين في سنة الصحابي من كونها حجة طريقية ، وإنما الخلاف في كونها حجة موضوعية .
(2) وهؤلاء لم يفرقوا بين كون الصحابي عدل وثقة وبين كونه مصدرا للتشريع ، إذ كونه ثقة لايستلزم حجية أقواله وأفعاله ، فقد يخطأ وقد يغفل وقد ينسى ، والشاهد عليه اختلاف سيرة الشيخين أبي بكر وعمر.
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 14

بدع مستحدثة

ودلالة على مانقول نذكر عدة من الموارد التي غيّر فيها بعض الخلفاء من الصحابة سنة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وأتبعهم السواد الأعظم والاكثر من المسلمين الى اليوم.

البدعة الاولى : الطلقات الثلاث


روى مسلم بسنده عن ابن عباس قال : كان الطلاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم (1) ، وهو إلى اليوم ممضى خلافا لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله (2).
البدعة الثانية : التثويب في الأذان (3)


روى الترمذي عن مجاهد قال : دخلت مع عبدالله بن عمر

(1) صحيح مسلم 2/1099 ، كتاب الطلاق ، باب طلاق الثلاث ، سنن أبي داود : 2/261 ، صحيح سنن أبي داود للألباني : 2/415 ، صحيح سنن النسائي للالباني : 2/718.
(2) نعم رجعت مشيخة الازهر في هذه الاعصار الى كتاب الله وسنة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله والاقتداء بأهل البيت ، وتركوا سنة الخليفة عمر بن الخطاب ، فجعلوا الطلقات الثلاث بصيغة واحد طلقة واحدة.
(3) وهو قول المؤذن « الصلاة خير من النوم ».
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 15

مسجدا ، وقد أذن فيه ، ونحن نريد أن نصلي فيه ، فثوّب المؤذن ، فخرج عبدالله بن عمر من المسجد ، وقال : أخرج بنا من عند هذا المبتدع ، ولم يصل (1).
واول من ثوّب في الأذان وأمر به هو الخليفة عمر بن الخطاب فقد أخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن المؤذن جاء الى عمر يؤذِنه لصلاة الصبح ، فوجده نائما ، فقال : الصلاة خير من النوم ، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح (2).
وروى عبدالرزاق بسند متصل عن عمر بن حفص قال : أن سعدا ـ ابن القرظ مؤذن عمر ـ أول من قال الصلاة خير من النوم ، في خلافة عمر ، فقال : بدعة ثم تركه وأن بلال لم يؤذن لعمر (3).
قال الشوكاني : وذهبت العترة والشافعي في أحد قوليه الى أن التثويب بدعة ، قال في البحر : أحدثه عمر ، فقال ابنه : هذه بدعة ، وقال علي عليه السلام حين سمعه : لا تزيدوا في الأذان ما ليس

(1) سنن الترمذي 1/381 ، صحيح سنن أبي داود للألباني : 1/108 ، السنن الكبرى : 1/424.
(2) الموطأ : 42 حديث 151 ، وراجع المصنف لابن أبي شيبة : 1/189 حديث 2159 ، سنن الدارقطني : 1/243.
(3) المصنف : 1/473 رقم 1829.
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 16

منه (1).
وقال ابن أبي ليلى : ما ابتدعوا بدعة أحب إلي من التثويب في الصلاة ؛ يعني العشاء والفجر (2).
وروى ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن الاسود بن يزيد أنه سمع مؤذنا يقول في الفجر « الصلاة خير من النوم » ، فقال : لايزيدون في الاذان ما ليس منه.
وقد استمرت هذه البدعة الى الان ، قال السرخسي : أما المتأخرون فاستحسنوا التثويب في جميع الصلوات ، لان الناس قد ازدادت بهم الغفلة ، وقلّما يقومون عند سماع الاذان ، فيستحسن التثويب للمبالغة في الاعلام (3).

البدعة الثالثة : الصلاة بمنى تماماً


روى الشيخان وغيرهما بسندهم الى عبدالرحمن بن يزيد قال : صلى بنا عثمان بن عفان بمنى أربع ركعات ، فقيل ذلك لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع (4) ، ثم قال صليتُ

(1) نيل الاوطار : 2/38.
(2) المصنف لابن ابي شيبة : 1/190 حديث 2170 ، بسند صحيح عن وكيع عن سفيان عن عبدالرحمن بن عبدالله الاصفهاني عن ابن أبي ليلى.
(3) المبسوط : 1/131.
(4) أي قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا يقال ذلك إلا لمصيبة ، ولا مصيبة

==

الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 17

مع رسول الله صلى الله عليه وآله بمنى ركعتين ، وصلت مع ابي بكر بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان (1).

البدعة الرابعة : تحريم نكاح المتعة


أخرج مسلم في صحيحه عن جابر قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمر بن حريث (2). وقد ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء وابو هلال العسكري في كتاب الاوائل تحريم عمر للمتعة (3).

البدعة الخامسة : تحريم متعة الحج


روى البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين قال : أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وآله

==
أعظم من مصيبة الدين.
(1) صحيح البخاري : 1/325 تقصير الصلاة ، صحيح مسلم : 1/483 صلاة المسافرين ، صحيح سنن ابن داود : 1/369.
(2) صحيح مسلم : 2/1023 كتاب النكاح باب 13 ، مسند احمد : 3/380 ، 4/429 ، 438 ، 439 ، فلو أن الرسول صلى الله عليه وآله نهى عنها لما خفي ذلك على جابر وهو الحافظ لتراث النبي صلى الله عليه واله والمدمن صحبته.
(3) تاريخ الخلفاء : 108 ، الاوائل : 1/240.
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 18

ولم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ماشاء (1).
وروى بسنده عن مروان قال : شهدت عثمان وعليا عليه السلام وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلما رأى علي أهلّ بهما لبيك بعمرة وحجة ، قال : ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه واله لقول أحد (2).

البدعة السادسة : صلاة التراويح


روى البخاري بسنده عن عبدالرحمن بن عبد القاري أنه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان الى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب ، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة هذه (3).

(1) صحيح البخاري : 6/33 ، كتاب التفسير سورة البقرة ، والرجل الذي يقصده الصحابي عمران هو الخليفة عمر بن الخطاب.
(2) صحيح البخاري : 2/175 كتاب الحج باب التمتع والاقران ، سنن النسائي بشرح السيوطي : 5/148.
(3) صحيح البخاري : 2/595 ، الموطأ : 59 حديث 247.
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 19

هذا وقد روى البخاري ومسلم والترمذي وابو داود والنسائي والدارمي ومالك واحمد وغيرهم بأسانيدهم عن زيد بن ثابت : ان رسول الله صلى الله عليه وآله اتخذ حجرة ـ قال : حسبت أنه قال : من حصير ـ في رمضان ، فصلى فيها ليالي ، فصلى بصلاته ناس من أصحابه ، فلما علم بهم جعل يقعد ، فخرج إليهم فقال : قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم ، فصلوا أيها الناس في بيوتكم ، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة (1).
فمع هذا المنع من الرسول صلى الله عليه واله نجد حرص الناس والسواد الاكثر من المسلمين على اتباع سنة الخليفة عمر وترك سنة الرسول صلى الله عليه واله (2) ، وحينما حاول الامام علي عليه السلام المنع من هذه الصلاة ارتفعت العقائر « واسنة عمراه » فتركهم لشأنهم.


إحداث الصحابة

وقد تواترت الاحاديث عن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله

(1) صحيح البخاري : 1/228 كتاب الاذان باب 81 حديث 731 ، صحيح مسلم : 1/539 صلاة المسافرين باب 29 حديث 781 ، سنن الترمذي : 2/312 حديث 450 ، سنن أبي داود : 1/274 حديث 1044 ، سنن الدارمي : 1/317 ، مسند احمد : حديث 21665 ، 21686 ، 21709 تحقيق احمد شاكر ، الموطأ : 66 حديث 288.
(2) وهي القيام بأداء النوافل في البيت لا جماعة في المسجد.
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 20

بأن عددا غير قليل من الصحابة سوف يحدثوا في الدين ما ليس منه ، من هذه الروايات.
ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله ـ في حديث ـ قال ألا وإنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح « وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم » (1).
وما رواه البخاري عن ابي هريرة أنه كان يحدّث ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال : يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُحلّؤن (2) عن الحوض ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري (3). وما رواه مسلم واحمد عن عبدالله قال : قال رسول الله صلى

(1) صحيح البخاري : 6/69 كتاب التفسير ، سورة المائدة ، 6/122 سورة الانبياء ، 8/136 كتاب الرقاق باب 45 ، صحيح مسلم : 4/2195 كتاب الجنة باب 14 ، سنن الترمذي : 5/321 ، صحيح سنن النسائي للالباني : 2/449 ، مسند أحمد : 1/235 ، 253.
(2) أي يبعدون عن الحوض.
(3) صحيح البخاري : 8/150 كتاب الرقاق باب في الحوض.
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 21

الله عليه وآله : أنا فرطكم (1) على الحوض ، ولأُنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم (2) ، فأقول : يا رب ، أصحابي أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (3).
وما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إني فرطكم على الحوض ، من مر عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا ، وليردنّ علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم.
قال ابوحازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت : نعم ، فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيه : فأقول : إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا لمن غيّر بعدي (4).
فإذا كان عدد غير قليل من الصحابة هكذا وضعهم دنيا وآخرة ، فكيف بغيرهم ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وآله ؟


الرجوع الى أصل المطلب

وعليه فلولا الامام الحسين عليه السلام لكان كل خليفة يأتي

(1) أي متقدمكم .
(2) أي سأجادل عن أقوام رغبة في خلاصهم فلا ينفعهم ذلك.
(3) صحيح مسلم : 4/1796 كتاب الفضائل باب 9 ، مسند أحمد : 1/284 ، 406 ، 407 ، 425 ، 453.
(4) صحيح مسلم : 4/1793 ، صحيح البخاري : 8/150.
الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء 22

بعد الرسول الاكرم صلى الله عليه واله سواء كان من الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين قوله حجة وفعله حجة وتقريره حجة.
فإذا كان الخلاف في حجية قول الصحابة أوصلنا الى هذا الخلاف فكيف لو توسعت الحجية الى حجية أقوال وأفعال حكام بني أمية وحكام بني العباس والدولة العثمانية ، لو حصل ذلك لما بقي من الاسلام إلا اسمه ، إذ كل خليفة وأمير سوف يأتي بأحكام وممارسات لم يأت بها الخليفة السابق ، فينام المسلمون ويستيقظون وإذا بالإسلام والدين قد تحول الى دين لا يمت بصلة الى الدين الاسلامي الصحيح ، فيصبح كبقية الأديان السماوية المنحرفة عن واقعها المنزل من الله تعالى.
ثورة الامام الحسين عليه السلام أحدثت خندقا بين الخلفاء وبين التشريع وان ليس كل من تسلم الخلافة من بني أمية أو بني العباس قوله وفعله وتقريره حجة ، ولو أن الامام الحسين عليه السلام بعد وفاة أخيه الامام الحسن عليه السلام وفي حياة معاوية خرج على معاوية لما تحقق هذا الفصل بين الخلافة والتشريع ، إذ سينقسم المسلمون الى جماعة الحسين وجماعة معاوية وذلك لكون معاوية في نظرهم من الصحابة العدول ، بخلاف خروجه في وقت يزيد بن معاوية لا أحد يمكن أن يتجرأ من العلماء والمحدثين

الفهرس التالي التالي