لقد شيعني الحسين (ع) 25

الصحيح . ومن المضحكات التي لم أكن أعهدها على علماء الأديان السماوية . أن يقوم (تقي الدين الهلالي) ، في آخر أيامه ، بإعادة توزيع منشوره القديم (مناظرة . . . ) وأعطاه للأميين الذين يحيطون به كحواريي المسيح (ع) . لقد جاء لي البعض بهذا المنشور الساذج ، وهم يتوخون هدايتي . كانوا يتصورون بأنني مفتون أو قد حل بي جنون . وما أن أطلعت عليه ، حتى مزقت حجب الصمت ، ورحت أفضح حقائق الكاتب والكتاب . كان أحد من الشيوخ ممن تخرج على يد (تقي الدين الهلالي) ، وربما يروى عنه الحديث . سألته عن مصلحة الإسلام وراء نشر مثل هذه المنشورات .
فأجاب : إنها خدمة الإسلام .
قلت له : شيخنا ، ألا ترى إن هذا منكر؟! .
قال : أعوذ بالله ، اتق الله ، إنه تقي الدين الهلالي وما أدراك! .
كنت أعلم إن هذا الشيخ ، أكثر (أمية) من جدتي ، ولكنني حاولت إقناعه ، بأن يجد له صناعة أخرى ، غير الفتنة! .
نعم ، إن تقي الهلالي ، جاء فتانا ، ولم يأت ليوحد الصفوف ، وهو أكبر مروج للوهابية في المغرب . وكان واجهة سعودية في البلد ، ومن انحاز إلى صفه من الشباب ، أعطاه تزكية . وبعثه إلى (جدة)! .
في يوم من الأيام قبيل موته - رحت أزوره ، وكان قد خرج من المستشفى للتو ، وكان في مرضه الأخير ، وبينما أنا واقف قدام الباب ، إذا بصديق لي ، يخرج من البيت ، وبدت على وجهه حمرة . ولما سألته عن السبب ، قال لي : لقد ندمت على هذه الزيارة ، إن الشيخ ، لا يزال مستمرا في تكفيره للعلماء المسلمين ، لقد كفر مجموعة علماء وخطباء ، وكان من بين أولئك الذين أصابتهم شرارة التكفير ، الشيخ عبد الحميد كشك ، لأنه يكثر من مناداة الرسول صلى الله عليه وآله في خطاباته ، والرسول صلى الله عليه وآله ميت ، وهذا شرك صريح (5)! .

(5) أعتقد أن الفهم الوهابي التوحيد ، ليس إلا قصورا نجديا ، بدويا . وبهذا التصور جعلوا من الإسلام دينا راكدا ، جامدا ، لا يتعدى المسواك ، والمسك ، واللحي ، والتقصير و . .
لقد شيعني الحسين (ع) 26

وفي نفس المناسبة ، قام بتوزيع منشوراته الفتانة! .
كان الحوار والمناظرة التي أجراها الشيخ تقي الدين الهلالي ، مع بعض خطباء الشيعة من نوع خاص وإنني لم أعرف من هؤلاء الشيعة الذين ناظرهم ، ولم أكن أدري ما السبب الذي جعل تقي الدين الهلالي يستنكف عن مناظرة رجال الشيعة الكبار ، مثل السيد الحكيم ، والسيد الخوئي ، السيد الصدر ، والسيد محمد الشيرازي ، وعشرات العلماء والمراجع المعاصرين له في العراق ولبنان وقم . . . وعجبت كيف راح يبحث في القرى عن الأميين ، وهؤلاء موجودون طوع البنان . وكيف لا يستحيي من الله ولا من التاريخ أن يقول إنهم من كبار علماء الشيعة ، في زمن المراجع الكبار . أليس هذا هو التجهيل؟ إنهم يكتبون للأميين والمغفلين! لذلك تراهم لا يتورعون عن التلفيق! .
لقد أهدوني هذه المناظرة بين (عالم) يخدم آل سعود ، وشيعيين مجهولين ، لا يعرفهما أحد ، وأهديتهم كتاب (المراجعات) الأضخم حجما ، والأضبط مضمونا ، وهو حوار موضوعي متكافئ وهادئ بين عالمين معروفين للجميع .
الأول ، شيعي عاملي ، خريج النجف الأشرف ، والآخر شيخ للأزهر .
وشتان ، شتان (*) .
لهذا ، كان الحديث عن (الشيعة والسنة) ضرورة ، تقتضيها الفتنة والجهل .
لقد انجلت تلك الصورة التي ورثتها عن (الشيعة) وحل محلها المفهوم الموضوعي الذي يتأسس؟ على العمق العلمي المتوفر في الكتابات التأريخية ، والذين لم يتحرروا من أصدقائي ، من هذه النظرة ، هم أولئك الذين اكتفوا بالموروث ، وسحقا للموروث! .
بل وإنهم اليوم لهاربون من السؤال . ويتجاهلون الموضوع . حتى لا يتحملوا مسؤولية البحث ، ونتائجه! .

(*) الأول هو السيد شرف الدين الموسوي العاملي والثاني هو الشيخ سليم البشري .
لقد شيعني الحسين (ع) 27

ويجب أن يجرى الحديث البناء حول هذه المسألة ، لأسباب أخرى لا تحصى .
فبعد أحداث مكة المكرمة ، التي راح ضحيتها مسلمون كثر ، اهتز الإعلام العربي الرسمي وغير الرسمي . وتحول إلى موجة موحدة ذات إيقاع واحد ، موضوعها الرئيسي (الشيعة والتشيع) . ويومها كانت (الجدبة) في المغرب غير بسيطة .
قام المستر (مصطفى العلوي) بحملة مسعورة ، ومدفوعة الثمن أيضا ، واتهم الشيعة فيها بألوان من التهم التقليدية ، لم أجد لها مصدقات في واقع التراث الشيعي . وكنت على علم راسخ ، بأن مصطفى العلوي ، هذا ، لم يمسك كتابا واحدا من أمهات الكتب الشيعية . ولم تمض السنوات ، حتى يعلن (العلوي المدغري) وزير الأوقاف ، في الدروس الرمضانية ، عن الحقيقة ، ويكذب من اتهموا الشيعة بذلك . وخسئ (مصطفى العلوي) .
وفي هذه الأثناء ، جاء فخامة (أبو بكر الجزائري) زائرا للمغرب ، يحمل في حقيبته أوراقا وهابية جديدة . كان كما بدا لنا مبعوثا رسميا من جهة هو ساكنها .
وتواجد في تلك الأثناء في أحد بيوت الأصدقاء . وكانت كلمته تتمة لما سبق من (هرج ومرج) حول (الشيعة والتشيع) ومحاولا رسم صورة كاذبة وتشهيرية ، ضد الشيعة ، مستغلا بذلك جهل الناس بحقيقة التأريخ ولكنه ضل الطريق هذه المرة .
فقام أحد الأصدقاء ، وقال له : عفوا ، هلا حدثتنا عن (الماسونية) ونشاطها في العالم الإسلامي؟ (6) .
لهذا التجهيل ، ولهذا التشهير ، كان (الحديث عن الشيعة والسنة) ضرورة ، لتفويت الفرصة على الصيادين في الماء العكرة . وبذلك يمكننا أن نمنح التقاعد لمثل تلك الشخصيات التي دأبت على طلب الرزق ، بوظيفة التفريق والتشتيت! .

(6) وكان هذا الشاب للأسف من أهل السنة والجماعة مما أحرج أبا بكر الجزائري .
لقد شيعني الحسين (ع) 28




لقد شيعني الحسين (ع) 29

مدخل

من هم الشيعة ، ومن هم السنة؟ .

إن التسمية التي أطلقت على الفريقين ، ليست وفية للحقيقة . وهي أسماء سموها من عند أنفسهم ، نزاعة للتشويه والتضليل ، أكثر من حرصها على الموضوعية . واستخدام الاسمين في الأبعاد التضليلية ، كان من دأب التيار الأموي . فالنقطة الحساسة التي توحي بها المفارقة بن الاسمين ، هو أن (سنة) الرسول صلى الله عليه وآله لها شمتها في عنوان (السنة والجماعة) ، في الوقت الذي لا رائحة لها في عنوان (مذهب الشيعة) . هذا يعني إن مذهب الشيعة يقف مقابلا لمذهب (السنة والجماعة) بما هي الممثل الوحيد لسنة الرسول صلى الله عليه وآله! .
وهذا التشويه ، والتضليل ، قد أوتي أكله على امتداد الأيام التي أردفت عصور المحنة . فلقد أصبح (الشيعة) يفتقدون للمسوغات النفسية والإعلامية في ذهن الجمهور .
والسؤال الصميمي هنا : من هم الشيعة ، ومن هم السنة؟ .
السنة في اللغة ، تعني الطريقة ، والمنهاج . وسنة الرسول صلى الله عليه وآله معناها طريقته . وفي لسان العرب لابن منظور ، السنة ، والتسنن تعني الطريقة المحمودة المستقيمة . ولذلك قيل : فلان من أهل السنة ، بمعنى ، إنه من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة ، وهي مأخوذة من السنن وهو الطريقة ، ويقال للخط الأسود

لقد شيعني الحسين (ع) 30

على متن الحمار : سنة .
وهي اصطلاحا ، تعني كل ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وآله من قول وفعل وتقرير . ويسمى السنة مذهبهم (أهل السنة والجماعة) ويقصدون بذلك إنهم أصحاب الطريقة المحمودة (7) . واتباع الرسول صلى الله عليه وآله والجماعة ، وغيرهم لا يسلك طريق النبي صلى الله عليه وآله وهي الجماعة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وآله (يد الله مع الجماعة) .

الشيعة

والشيعة لغة ، هم الأتباع والأنصار . وفي لسان العرب (هم القوم الذين يجتمعون على الأمر . وكل قوم اجتمعوا على أمر ، فهم شيعة . وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع .
وفي القرآن الكريم : « وإن من شيعته لإبراهيم » .
وشايع تأتي بمعنى والاه ، من التولي . .
يقول الكميت :
وما لي إلا آل أحمد شيعة وما لي إلا مذهب الحق مذهب

و (الشيعة) اصطلاحا يراد بهم أتباع وأنصار آل البيت (ع) وهم الذين ناصروهم في كل محنهم ، وسلكوا سبيلهم . ووالوهم! .
يقول ابن خلدون (8) : (إعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والاتباع ، ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه (رضي الله عنهم) .

(7) هذا المعنى في الواقع جديد على هذا العنوان . لأنه تاريخيا كان له هدف معين ومعنى آخر ، كما سنوضح! .
(8) تاريخ ابن خلدون ، الفصل السابع والعشرون : في مذهب الشيعة في حكم الإمامة (ص 348) .
لقد شيعني الحسين (ع) 31

والشيعة حسب تعريف علمائهم ، هم الذين يسلكون سنة الرسول صلى الله عليه وآله مأخوذة من عترته الطاهرة .
بيد أن الملابسات السياسية والإيديولوجية التي رافقت حركت الفرقتين أضفت على القضية ، مجموعة من الشبهات لا تحصى ولا تعد . وبالتالي يكون من الضروري التعرض إلى المصطلحين . بشكل أعمق ، يستمد مرتكزاته من عمق التأريخ الإسلامي ذاته .
وذلك لأن أعداء الشيعة طالما تحاملوا على الشيعة ، ملتمسين كل سلبية غريبة وإلصاقها بهم . وفي ذلك يقول طه حسين (9) :
(وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة) .

(9) إسلاميات - طه حسين .
لقد شيعني الحسين (ع) 32




لقد شيعني الحسين (ع) 33

ثم ماذا؟

إنني ما زلت أتتبع تاريخ المذاهب الإسلامية ، حتى انتهيت إلى أن مذهب آل البيت (ع) هو أول مذهب في الإسلام . وهذا لا يعني إنهم انفردوا عن غيرهم بطريقة ابتدعوها ، ولكنهم احتفظوا بموقعهم الأصيل الذي عرفوا به ، هذا في الوقت الذي شردت فيه جميع الملل والنحل ، وتفرقت تبتغي الحق عند غير أهله .
يقول السيد محسن الأمين في الأعيان (10) : (فما يظهر من فهرست ابن النديم من أن تسمية أتباع علي (ع) باسم الشيعة كان ابتداؤه من يوم الجمل ليس بصواب ، بل تسميتهم بذلك من زمن الرسول صلى الله عليه وآله قال ابن النديم في الفهرست ما لفظه : ذكر السبب في تسمية الشيعة بهذا الاسم . قال محمد بن إسحاق لما خالف طلحة والزبير على علي وأبيا إلا الطلب بدم عثمان بن عفان وقصدهما علي (ع) ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله جل أسمه ، فسمى من اتبعه على ذلك الشيعة فكان يقول شيعتي) .
فالتشيع ليس بدعة في تاريخ الإسلام . ولطالما حاول البعض إلصاقه بالعهود المتأخرة . بل لقد بلغت القسوة ببعضهم فربطه (بالفرس) .
وكان لهذه الدعايات أثر علي في البداية ، مع أنني لم أستسلم لها بسهولة ، فلم

(10) أعيان الشيعة ، المجلد الأول : (ص 19) السيد محسن الأمين .
لقد شيعني الحسين (ع) 34

أكن سلسا لتقبل كل فكرة بدون اختبار .
واستقرت قناعتي في النهاية بعد أن تأكدت من تلك الحبكات الخرافية . ففي (فجر الإسلام) لأحمد أمين ، وهو من أكبر المناصبين للشيعة ، يقول : (كانت البذرة الأولى للشيعة ، الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله أن أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه) (11) .
وفي دحض فكرة (فارسية) التشيع ، قال : (والذي أرى - كما يدلنا التاريخ - إن التشيع لعلي بدأ قبل دخول الفرس في الإسلام ، ولكن بمعنى ساذج ، وهو أن عليا أولى من غيره من وجهتين ، كفايته الشخصية وقرابته للنبي) (12) .
فالذين لا يعلمون - من إخواننا السنة - يجب أن يدركوا ، كما أدركت - منذ فتحت قلبي للحقيقة - أن أغلب علمائهم من (فارس) .
إنني ما زلت أقتفي آثار علماء السنة الكبار ، في البلاغة والنحو والفقه والحديث والتصوف . . فأجد الأغلبية الغالبة منهم ، فرسا . ومنهم : البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة القزويني والإمام الرازي والقاضي البيضاوي وأبو زرعمه الرازي ، والفيروزآبادي (صاحب القاموس المحيط) والزمخشري والإمام فخر الدين الرازي ، والكازروني وأبو القاسم البلخي والقفال المروزي والتفتازاني والراغب الأصفهاني والبيهقي والتبريزي الخطيب ، والجرجاني وأبو حامد الغزالي . . وغيرهم مما يعجز عن عدهم اللسان ويضيق عنهم المقام . فأعلام (السنة والجماعة) الفطاحل ، وعلماؤهم النحارير ومحدثوهم النقاريس ، كانوا من بلاد (فارس) .
والتشيع أدخل إلى فارس ، من بلاد العرب ، وساهم في نشر التشيع في بلاد فارس علماء من العراق ، وجبل عامل والأحساء ، والمدينة المنورة .

(11) فجر الإسلام - أحمد أمين - (ص 366) .
(12) نفس المصدر (ص 277) .
لقد شيعني الحسين (ع) 35

ليست التسمية - إذا - هي موضوع الإشكال ، وإنما الواقع الفعلي للمذهبين هو موضوع النقاش . إذ إننا ونحن ننظر في سنة الرسول صلى الله عليه وآله القولية والفعلية والتقريرية . سوف نتبين أي الفريقين أقرب إليها .
إن الشيعة لم يكونوا يوما مبتدعة ، بل إن مذهبهم قائم في الأساس على (النص) . وإذا أتيت إن الإسلام الحقيقي بعد الرسول صلى الله عليه وآله تمثل في علي (ع) فإن التشيع لعلي (ع) هو التعبير المرحلي عن التشيع لمحمد صلى الله عليه وآله بالثبات على تعاليمه وتوصياته في حق علي (ع) والذي هو الإسلام)! .
فإسم (السنة) أتى ، كأستراق للفرصة ، لمحاصرة (الشيعة) اصطلاحيا ، لأن التيار السائد يومها لم يكن له من الحجة سوى اللعب على وتر المفاهيم القشرية . وكان اليوم الذي تحولت فيه الخلافة إلى ملك عضود ، هو عام الجماعة ، ومنها جاء (السنة والجماعة)! .
كان همي أن أبحث عن الإسلام الحق ، فأنا لم أكن أبحث عن التمذهب .
وما أن دخلت في لجج التأريخ ، حتى تبين لي أن الباحث عن اللامذهبية ، كالباحث عن السراب . إن الإسلام ، تفرق أهله إلى فرق لا تحصى ، وما بقي من إسلام حق ، بدا للمتمذهبين ، مذهبا . فأي المذاهب ، إذا ، تمثل الإسلام الصحيح . أو حتى ما يقارب 95 في المائة من الإسلام الصحيح؟
ومن يضمن لي يومها إن هذه الفرقة أو تلك ، هي الأقرب إلى (الحقيقة) وأنا في خضم المعترك أبحث عن خشبة نجاة؟ ولكنني لم أشك في القرآن الكريم .
ففيه عثرت على مقومات البحث عن الحقيقة . تعلمت أن من شروط البحث عن الحقيقة ، عدم الاستماع إلى القول الواحد ، وإلى الفرقة الواحدة . ولكن « والذين يستمعون القول ، فيتبعون أحسنه » . كما رأيت إن الله ، يمدح القلة ويذم الكثرة ، حسب معايير الحق والباطل . . حيث يقول « وقليل من عبادي الشكور » كما يقول ذاما الكثرة الجاهلة « بل أكثرهم لا يعقلون » .
إن قلبي بدأ ينفتح ، شيئا فشيئا على التأريخ ، والشيعة الآن أصبحوا جزءا من الإسلام ، وهذا ما توصلت إليه حتى تلك اللحظات . لقد كان

لقد شيعني الحسين (ع) 36

الرسول صلى الله عليه وآله أول من تكلم في الشيعة ، ووصفهم للصحابة . وأول من ربط التشيع بالإمام علي (ع) ، وهو يريد بذلك إثارة المستقبل في ذهن الصحابة ، ويلفت المسلمين إلى قيمة علي (ع) في الآن وفي المستقبل . ليكونوا في أجوائه حين يقع ما يقع . وإلا ماذا يعني أن يقول : (علي مع الحق والحق مع علي) .
أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وآله فأقبل علي (ع) فقال النبي صلى الله عليه وآله : (والذي نفسي بيده ، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة . ونزلت « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية » . (13) .
وأخرج ابن مردويه عن علي (ع) قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله ألم تسمع قول الله تعالى « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية »؟ ، هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرا محجلين) (14) .
وروى ابن حجر في الصواعق المحرقة ، وهو من أكبر الناقمين على الشيعة عن ابن عباس أنه قال ، لما أنزل الله تعالى : « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية » ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي (ع) : (هم أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ، ويأتي عدوك غضابا مقمحين .
قال : من عدوي؟ قال : من تبرأ منك ولعنك .
وروى الحمويني الشافعي في فرائد السمطين إن الآية الكريمة : « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية » ، نزلت في علي (ع) فكان أصحاب محمد صلى الله عليه وآله إذا أقبل علي (ع) قالوا قد جاء خير البرية .
وروى ابن المغازلي المالكي في مناقبه عن ابن عباس ، قال : سألت رسول

(13) الدر المنثور - السيوطي - .
(14) نفس المصدر السابق .
لقد شيعني الحسين (ع) 37

الله صلى الله عليه وآله عن قوله تعالى : « والسابقون السابقون أولئك المقربون » فقال :
قال لي جبريل : ذلك علي وشيعته هم السابقون إلى الجنة المقربون من الله لكرامته .
ولما كانت الأحاديث التي ربطت الآية بعلي (ع) وشيعته ، وبعد أن تواترت واستعصى تكذيبها ، لما كان رواتها من فطاحل أهل السنة والجماعة ، حاول ابن حجر - في صواعقه المحرقة - أن يفلسفها ويخنقها بترهاته المعهودة ، قائلا : عن علي (ع) فقال ، قال (ع) : إن خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله قال يا علي إنك ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين ويقدم عليه عدوك غضابا مقمعين ، ثم جمع علي يديه إلى عنقه يريهم الاقحام قال - بن حجر - وشيعته هم أهل السنة ولا تتوهم الرافضة ، والشيعة قبحهم الله) .
ولا أحد يشك؟ في هذا التهافت الباطل . إذ كيف يستقيم كلام هذا - المخرف - ، وهل يظن أنه يكتب للأرانب . إذا كان شيعة علي (ع) هم أهل السنة ، فأعداؤه من؟؟ هل هم شيعته الذين قاتلوا إلى جنبه الطاغوت الأموي؟ . ونحن إلى الآن ، لن نجد تراث بني أمية سوى عند أهل السنة ، ولم نجده عند الشيعة قط .
ومن المؤسف بالنسبة لي ، أن بدأت أخسر بعض أصدقائي المقربين . الذين ما ألفنا منهم سوى العمق في الدراسة والتحليل . إنه عزيز علي أن أرى صاحب (التأريخ الإسلامي) محمود شاكر ، يقول : (بل لم تكن كلمة الشيعة تحمل أكثر من معنى التأييد والمناصرة . ولكنها غدت مع الزمن فكرا خاصا وعقيدة خاصة ، ونسب إلى الأوائل أقوال لم يقولوها وأخبار لم يعرفوها ، وأفكار لم تخطر على بالهم أبدا) (15) .
وكان على أستاذنا الجليل أن يبحث أكثر من ذلك . فمع أنه لم ينكر إن

(15) محمود شاكر - التاريخ الإسلامي - الخلفاء الراشدون والعهد الأموي . الطبعة الرابعة (1405 ه‍ - 1985 م) المكتب الإسلامي .
لقد شيعني الحسين (ع) 38

(كلمة) الشيعة كانت في البداية . إلا أنه لم يحفر في الخلفيات التاريخية ، التي أظهرت التشيع كحالة مذهبية ، انفردت بأفكار وعقائد خاصة ، فأستاذنا ، لم يحدثنا عن الآخرين ، وهل ثبتت أفكارهم وعقائدهم . لقد ابتعد المسلمون عن الأفكار والعقائد في صفائها الإسلامي الأول ، حتى بدت لهم عقائد أهل البيت (ع) وكأنها هي المتحركة . فهم أشبه بمن يعتقد بحركة الجبال والأشجار من رواء نافذة القطار . ثم هل خصوصية هذه الأفكار والعقائد ، دليل على أخطائها؟!
كنت متأكدا من أن هؤلاء يجتهدون في دائرة أخطائهم ، ويتألقون في فلسفة الباطل .
فالشيعة لغة واصطلاحا ، هم أولئك الذين تمحوروا حول الرسول صلى الله عليه وآله ومن بعده على آل البيت (ع) استجابة للنصوص الواردة .

لقد شيعني الحسين (ع) 39

الفصل الأول

كيف كان تصوري للتاريخ الإسلامي؟


لقد شيعني الحسين (ع) 40




لقد شيعني الحسين (ع) 41

لم يكن وعيي التاريخي يختلف عن وعي أهل السنة والجماعة . فمنذ البداية كانوا قد زرقوني بهذا التاريخ ، وبمزاج خاص حول التاريخ الإسلامي .
وهذا الوعي الذي تلقيته مثل ما أتلقى القرآن عند الكتاب لم يكن يختلف هو الآخر - عن وعي جدتي بالتاريخ . إنه (دزينة) ضمن الحكايات (المفبركة) على نمط القصاصين ب‍ (جامع الفنا) (1) ، إنه تاريخ (كان ياما كان) و (كان في قديم الزمان) . وتحول التاريخ عندنا فجأة إلى ملجأ لكل من ضاقت به الحياة .
ليتفسح في فجاجه لاهيا . لقد تلقينا دروسا ديماغوجية خاصة ، لفهم التأريخ الإسلامي . وأن (نترضى) بعد ذكر كل اسم ينتمي إلى جوقة القديم . واذا رأينا الدم والفسق والكفر ، ليس لنا الحق سوى أن نغمض الأعين ، ونكف الألسن ، خوفا من الغيبة التاريخية . ثم نقول « تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم ، ولا تسألون عما كانوا يفعلون » .
عملية لجم مبرمجة ، وقيود توضع على عقل الإنسان ، قبل أن يدخل إلى محراب التأريخ المقدس . لقد علمونا ، أن نرفض عقولنا ، لنكون كائنات (روبوت) توجهنا كمبيوترات مجهولة .

(1) ساحة كبيرة بمدينة مراكش المغرب يكثر فيها السياح وحيث يكثر القصاصون الذين يسردون حكايات عن النبي صلى الله عليه وآله والصحابة وبعض الرجال القدماء .
لقد شيعني الحسين (ع) 42

وغلبت السياسة على التاريخ ، وحولته إلى بؤس حقيقي .
وخفنا من عقولنا ، ومن التاريخ ، ومن الموروث والفولكلور . بل وعاش كل واحد منا هاربا من عقله . . ومن التاريخ إلى الأوهام! فكان تصوري في تلك الأثناء تصورا سطحيا .

لقد شيعني الحسين (ع) 43

الخلافة الراشدة

من الدروس الديماغوجية التي حقنوا بها وعينا . هو أن ما كان في التاريخ الإسلامي ، هو الصواب المطلق . ولم يكن في الامكان أبدع مما كان . . . وإن الإيمان كل الإيمان ، هو التصديق بما وقع . والخلافة الرشيدة ، حبكة جميلة جدا ، بل وإنها تكاد تطفح إبداعا . وما زلت أضحك على نفسي لتقبلها بسذاجة الأمويين .
لقد تلقيت منهم واقع الخلافة الراشدة . دون مناقشة . وإذا راودتني نفسي بتساؤلات ، قمعتها ، لتستقيم على التزام التجاهل . وأذكر أن الشك بهذه الحبكة طرأ علي وأنا ابن خمسة عشر عاما . غير أنني طويت الصفحة عن ذلك الشك ، وتعمدت نسيانه! .
لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وهو راض عن أصحابه من الشرق إلى الغرب .
وأنه خلف وراءه (تركيبة) ثورية ، حضارية ، قيادية ، رباعية اسمها : أبو بكر ، عمر ، عثمان ، علي ، وكنت أحيانا أتسأل حول ما إذا كان التسلسل التلقائي للخلافة (الراشدة) كان أمرا متوقعا منذ البداية . فلقد قرأة الكثير من الروايات ، كلها تتحدث عن فضائل الأربعة ، بهذا الترتيب الرباعي! .
فكيف مات الرسول صلى الله عليه وآله وكيف خلفه هؤلاء الأربعة بالتوالي؟ أهل السنة والجماعة علمونا ، أن محمدا صلى الله عليه وآله مات وهو راض عن الجميع . وأنه قال لأبي

لقد شيعني الحسين (ع) 44

بكر ، صل بالناس . ومن هذا استنبط عمر بعقله المستنير ، أن أبا بكر ، هو الجدير بالخلافة ، فبايعه ، ثم لما كان عمر هو فاروق هذه الأمة ، استطاع أن يصرف الناس إلى مبايعة أبي بكر ، فبايعوه رغبة . ولم يتخلف عنه أحدا أبدا . !! وبأن الشورى التي جرت في السقيفة كانت عملية إسلامية ، متأصلة في الشريعة .
وحتى علي (ع) لم يتمرد عن المبايعة . وذلك بنص ما أخرجه أحمد والبيهقي بسند حسن عن علي ، أنه قال لما ظهر يوم الجمل :
(أيها الناس ، إن رسول الله (ص) لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا ، حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله ، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر فأقام واستقام ، ثم ضرب الدين بجرانه ثم إن أقواما طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضي الله فيها) .
وإنه لم يحدث أن تمرد واحد من المسلمين الصحابة ، على أبي بكر ، لأنه كان غاية في الجدارة ، وأقرب الناس في وعي الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وإن الإمام (ع) علي كان مطيعا له ، معترفا به . وفي ذلك تحدثنا الرواية ، عن الدارقطني وابن عساكر والذهبي وغيرهم : إن عليا أقام بالبصرة حين بايعه الناس فقام إليه رجلان فقالا له : أخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه لتستولي على الأمر وعلى الأمة . تضرب بعضها ببعض . أعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إليك؟ فحدثنا فأنت الموثوق به والمأمون على ما سمعت ، فقال : (إما أن يكون عندي عهد من رسول الله في ذلك فلا والله . لأني كنت أول من صدق به فلا أكون أول من كذب عليه . ولو كان عندي منه عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم بن مرة وعمر بن الخطاب يثبان على منبره ، ولقاتلتهما بيدي ، ولو لم أجد إلا بردي هذه ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقتل قتلا ، ولم يمت فجأة ، ومكث في مرضه أياما وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه للصلاة ، فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس وهو يرى مكاني . . الخ وهكذا استمر الحكم الراشدي ، بتآخي مطلق ، وانسجام دقيق . والتحق سيدنا أبو بكر بالرفيق الأعلى وخلفه عمر بن الخطاب . وكان ذلك اجتهادا منه

السابق السابق الفهرس التالي التالي