العباس عليه السلام19

سلسلة الآباء

هو العباس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
إلى هنا يقف الباحث عن الاتيان بباقي الآباء الأكارم الى آدم بعدما يقرأ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا بلغ نسبي إلى عدنان فامسكوا(1) .
وكأنّه نظر الى غرابة تلكم الأسماء وتعاصيها على نطق العامة فكان التصحيف إليها أسرع شيء فيعود وهناً في ساحة جلالتهم وخلفةً في مقدارهم وقد وردوا الرسول الأعظم

(1) مناقب ابن شهراشوب ج 1 ص 106 وكشف الغمة ص 6 .
العباس عليه السلام20

والوصي المقدم صلى الله عليهم أجمعين .
وكيف كان فالمهم الذي يجب الهتاف به هو كون كل واحد من هؤلاء الأنجاب غير مدنس بشيء من رجس الجاهلية ولا موصوماً بعبادة وثن وهو الذي يرتضيه علماء الحق لكونهم صديقين بين أنبياء وأوصياء .
وقد نزههم الله تعالى في خطابه لنبيّه الأقدس : «وتقلّبك في الساجدين» . فانه اثبت لهم جميعاً بلفظ الجمع المحلى باللام السجود الحق الذي يرتضيه لهم .
وان مايؤثر عنهم من أشياء مستغربة لا بدّ أن يكون من الشريعة المشروعة لهم أو يكون له معنى تظهره الدراية والتنقيب وليس آزر الذي كان ينحت الأصنام وكاهنة نمرود أبا إبراهيم الخليل(1) . الذي نزل من ظهره لأن أباه اسمه تارخ

(1) اختلفوا في ان الذي قيل له عرق الثرى إبراهيم أم اسماعيل فالذي عليه السهيلي في الروض الآنف ج 1 ص 8 انه ابراهيم وعلله بأن الثرى لا تأكله النار وابراهيم لا تأكله النار ويظهر من الصادق عليه السلام لما تخطّى النار وقال انا ابن اعراق الثرى انا ابن ابراهيم خليل الرحمن الاشارة اليه ونص عليه في البحار ج 9 ص 29 في باب نسب أبي طالب قال : وابراهيم عرق الثرى وفي ج 10 ص 124 عند قول الامام الحسن عليه السلام انا ابن اعراق الثرى قال : رأيت في بعض الكتب انه إبراهيم لكثرة ولده في البادية ولعل عبد الله بن
العباس عليه السلام21

وآزر اما ان يكون عمه كما يرتئيه جماعة من المؤرخين واطلاق الأب على العم شايع على المجاز وجاء به الكتاب المجيد : «أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم واسماعيل واسحاق» فأطلق على اسماعيل لفظ الأب ولم يكن أبا يعقوب وانما هو عمه كما اطلق على ابراهيم لفظ الأب وهو جدّه .
وأما ان يكون آزر جد إبراهيم لامه كما يراه المنقبون

أيوب الخريتي الشاعر في مرثية الامام الرضا يشير إليه كما في البحار في باب مراثيه
يا ابن الذبيح ويا ابن اعراق الثرى طابت أرومته وطاب عروقها
ولكن في نص الطبري ج 2 ص 191 والبداية والنهاية ج 2 ص 194 والبحار ج 9 ص 27 عن ام سلمة ان عرق الثرى اسماعيل وقد جاء ذكر الثرى في شعر امرئ القيس والفرزدق ولم يعلم منه المراد قال امرؤ القيس على ما في أ مال المرتضى ج 1 ص 119
فبعـض اللـوم عاذلتـي فـأني ستغنيني التجارب وانتسابي
الى عرق الثرى وشجت عروقي وهذا الموت يسلبني شبابـي
وقال الفرزدق كما في كامل ابن الاثير ج 3 ص 185
أنا ابن الجبال الشم في عدد الحصى وعرق الثرى عرقي فمن ذا يحاسبه
وفي اخبار الزمان ص 80 عدنان بن عرق الثرى .
العباس عليه السلام22

والجد للأم أب في الحقيقة ويؤيد أنه غير أبيه قوله تعالى «وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر» .
فميزه باسمه ولو أراد أباه الذي نزل من ظهره لاستغنى بإضافة الأبوة عن التسمية بآزر .
وصرّح الرسول بطهارة آبائه عن رجس الجاهلية وسفاح الكفر فقال : لما أراد الله أن يخلقنا صورنا عمود نور في صلب آدم فكان ذلك النور يلمع في جبينه ثم انتقل الى وصيه شيث وفيما أوصاه به الا يضع هذا النور الا في أرحام المطهرات من النساء ولم تزل هذه الوصية معمولاً بها يتناقلها كابر عن كابر فولدنا الاخيار من الجال والخيرات المطهرات المهذبات من النساء حتى انتهينا الى صلب عبد المطلب فجعله نصفين نصف في عبد الله فصار إلى آمنة ونصف في ابي طالب فصار إلى فاطمة بنت أسد .
أما عدنان فقد أوضح في خطبه في ظهور النبي وانه من ذريته وأوصى باتباعه .
وكان ابنه معد صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل ممن حاد عن التوحيد ولم يحارب أحداً إلا رجح عليه بالنصر والظفر ، ولكونه على دين التوحيد ودين إبراهيم الخليل أمر الله أرميا أن يحمله معه على البراق كيلا تصيبه

العباس عليه السلام23

نقمة بختنصر وقال سبحانه لارميا اني سأخرج من صلبه نبياً كريماً اختم به الرسل فحمله الى أرض الشام الى أن هدأت الفتن بموت بختنصّر(1) .
وكان السبب في التسمية «بنزار» ان أباه لما نظر إلى نور النبوة يشع من جبهته سره ذلك فأطعم الناس لأجله وقال انه نزر في حقه(2) .
وورد النهي عن سبّ ربيعة ومضر لأنهما مؤمنان ومن كلام مضر : من يزرع شراً يحصد ندامةً .
والياس بن مضر كبير قومه وسيد عشيرته وكان لا يقضى أمر دونه وهو أول من هدى البدن الى البيت الحرام وأول من ظفر بمقام إبراهيم لما غرق البيت في زمن نوح وكان مؤمناً موحداً ورد النهي عن سبّه(3) .
وقد أدرك مدركة بن الياس كل عز وفخر كان لآبائه وكان فيه نور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكنانة شيخ عظيم القدر حسن المنظر كانت العرب

(1) السيرة الحلبية ج 1 ص 20 .
(2) الروض الآنف ج 1 ص 8 .
(3) الروض الآنف ج 1 ص 8 .
العباس عليه السلام24

تحجّ إليه لعلمه وفضله وكان يقول قد آن خروج نبي من مكة يدعى أحمد يدعو إلى الله وإلى البر والاحسان ومكارم الأخلاق فاتبعوه شرفاً وعزاً الى عزّكم ولا تكذبوا ما جاء به فهو الحق ومما يؤثر عنه : رب صورة تخالف المخبرة قد غرت بجمالها واختبر قبح فعالها فاحذر الصور واطلب الخبر وكان يأنف ان يأكل وحده .
وولده النضر (قريش عند الفقهاء) فلا يقال لأولاد من فوقه قرشي وانما أولاده مثل مالك وفهر فمن ولده النضر فهو قرشي ومن لم يلده فليس بقرشي(1) .
وأما فهر فقد حارب حساس بن عبد كلال حين جاء من اليمن في حمير لأخذ أحجار الكعبة ليبني بها بيتاً باليمن يزوره الناس فانتصر فهر وأسر حسان وانهزمت حمير وبقي حسان في الأسر ثلاث سنين ثم فدى نفسه بمال كثير وخرج فمات بين مكة واليمن فهابت العرب فهراً واعظموه وعلا أمره خصوصاً مع ما يشاهدون في جبهته من نور النبوة .
ويؤثر عنه قوله لولده غالب : قليل ما في يدك أغنى لك من كثير ما اخلق وجهك وان صار إليك ، وكان موحداً(2) .

(1) سيرة حلبية : ج 1 ص 9 .
(2) المصدر ـ السابق ج 1 ص 9 .
العباس عليه السلام25

ولم يزل كعب بن لؤي يذكر النبي ويعلم قريشاً انه من ولده ويأمرهم باتباعه ويقول : اسمعوا وعوا وتعلموا تعلموا وتفهموا تفهموا ، ليل داج ونهار ساج والأرض مهاد والجبال أوتاد والأولون كالآخرين كل ذلك الى بلاء فصلوا أرحامكم واصلحوا أحوالكم فهل رأيتم من هلك رجع أو ميتاً نشر الدار أمامكم والظن خلاف ما تقولون زينوا حرمكم وعظموه وتمسّكوا به ولا تفارقوه فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم ثم قال :
نهار وليل واختلاف حوادث سواء علينـا حلوها ومريرها
يؤوبان بالأحداث حتى تأوبا وبالنعم الضافي علينا ستورها
على غفلة يأتي النبي محمد فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها

ثم قال :
يا ليتني شاهد فحواء دعوته حتى العشيرة تبغي الحق خذلانا(1)

(1) صبح الاعشى ج 1 ص 211 .
العباس عليه السلام26

ولجلالته وشرفه في قومه بموته ثم أرخوا بعام الفيل ثم بموت عبد المطلب وهو أول من سمى يوم الجمعة لاجتماع قريش فيه وكان اسمه في الجاهلية العروبة ولما جاء الإسلام امضاه(1) .
وكلاب بن مرة الجد الثالث لآمنه أم النبي والرابع لأبيه عبد الله كان معروفاً بالشجاعة ونور النبي لائح في جبهته .
ولا تسل عن سيد الحرم «قصي» فلقد جمع قومه من منازلهم وأسكنهم أرض مكة وأمرهم بالبناء حول البيت لتهابهم العرب فبنوا حول جوانبه الأربعة وجعلوا لهم أبواباً تخصهم فباب لبني شيبة وباب لبني جمح وباب لبني مخزوم وباب لبني سهم وتركوا قدر الطواف بالبيت وبني قصي دار الندوة للمشاورة والتفاهم فيما يعرض عليهم من المهمات وتيمنت قريش برأيه وسمي مجمعاً .
وعند مجيء الحاج قال لقريش هذا أوان الحج وقد سمعت العرب بما صنعتم وهم لكم معظمون ولا اعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام فليخرج كل انسان منكم من ماله خرجاً ففعلوا وجمع مالاً كثيراً ولما جاء الحاج نحر لهم

(1) السيرة الحلبية ج 1 ص 19 .
العباس عليه السلام27

على كل طريق من طرق مكة جزوراً غير ما نحره بمكة وأوقد النار بالمزدلفة ليراها الناس(1) .
وصنع للناس طعاماً أيام منى وجرى عليه الحال حتى جاء الاسلام فالطعام الذي يصنع السلطان أيام منى كل عام من آثار قصي(2) .
ومن هنا خضعت خزاعة لقصي وسلمت له أمر الحرم وسدانة البيت الحرام بعد أن كانت عند حليل وعند قصي ابنته وهي أم أولاده .
تولى قصي سدانة البيت اما بوصاية من حليل عند الموت إليه أو انها كانت عند ابنته زوج قصي بالوراثة فقام زوجها بتدبير شؤون البيت لعجز المرأة عن القيام بهذه الخدمة أو أن أبا غبشان الخزاعي كان وصي حليل على هذه السدانة فعاوضه عليها قصي بأثواب وأذواد من الابل .
هذا هو الصحيح المأثور في ولاية قصي سدانة البيت ويتفق مع العقل الحاكم بنزاهة جد الرسول الأقدس خاتم الأنبياء عمّا تأباه الشريعة إبراهيم الخليل من المعاوضة بالخمر

(1) السيرة الحلبية ج 1 ص 9 الى ص 15 .
(2) تاريخ الطبري ج 2 ص 185 .
العباس عليه السلام28

المحرم في جميع الأديان أيجوز لجدّ الرسول أن يجعل للخمر قيمة وثمنها سحت وهو المانع عنها المحذر قومه منها فانه قال لولده وقومه اجتنبوا الخمر فانها لا تصلح الأبدان وتفسد الأذهان فكيف يعاوض بها بل لا يتحيل الى مطلوبه بالخمر وهو القائل من استحسن قبيحاً نزل الى قبحه ومن أكرم لئيماً اشركه في لؤمه ومن لم تصلحه الكرامة اصلحه الهوان ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان والحسود هو العدو الخفي(1) .
وقد جمع أطراف المجد والشرف «عبد مناف» بن قصي ولبهائه وجمال منظره قيل له «قمر البطحاء» وكان سمحاً جواداً لا يعدم احداً من ماله حتى في أيام أبيه فقيل له «الفياض» ويسمى مناف لأنه أناف على الناس وعلا أمره حتى ضربة له الركبان من أطراف الأرض(2) وكان اسمه عبداً ثم اضيف الى مناف فقيل له «عبد مناف» وهذا هو الصحيح المأثور وأما ما أثبته ابن دحلان في السيرة النبوية من أن امه اخدمته صنماً اسمه مناف بعيد عن الصواب إذ لا شكّ في نزاهة آباء النبي وأمهاته في جميع أدوار حياتهم من

(1) السيرة الحلبية ج 1 ص 9 .
(2) اثبات الوصية ص 75 .
العباس عليه السلام29

الخضوع للأصنام كرامة لحبيبه وصفيّه الرسول الأعظم فليس بصحيح ما يقال من أن في آباء النبي وامهاته من يعبد الصنم أو يخضع له لشهادة ما تقدم من الأحاديث عليه وإليه أشار البوصيري :
لم تزل في ضمائر الكون تختار لك الامهات والآباء

على انه لم يكن من الأصنام اسمه «مناف» وانما الموجود «مناة» بالتاء المثناة من فوق ومن هنا كان يقول ابن الكلبي في كتاب الاصنام ص 32 : لا أدري أين كان هذا الصنم ولمن كان ومن نصبه ومنه نعرف الغلط في قول البرقي والزبير ان امه أخدمته مناة (بالتاء المثناة من فوق) فسمي عبد مناة ولكن رأي قصي يوافق عبد مناة بن كنانة فحوله عبد مناف(1) .
وكان بيت عبد مناف اشرف بيوتات قريش (2) ولسيادته كان عنده قوس اسماعيل ولواء نزار.
ومن وصيته ما وجد مكتوباً في بعض الأحجار أوصى قريشاً بتقوى الله جل جلاله وصلة الرحم(3) .

(1) الروض الانف ج 1 ص 6 .
(2) تاج العروس ج 6 ص 263 .
(3) السيرة الدحلانية بهامش الحلبية ج 1 ص 17 .
العباس عليه السلام30

وجرى ابنه هاشم على سيرته حتى فاق قريشاً وسائر العرب واذعنوا له وكان يطعم الحاج كما كان يصنع أبوه وأصابت قريشاً سنة مجدبة فخرج هاشم الى الشام واشترى الدقيق والكعك فهشم الخبز ونحر الجزر واطعم الناس حتى اشبعهم وكانت مائدته منصوبة لا ترفع في السراء والضراء وكان يحمل ابن السبيل ويؤمن الخائف وإذا أهل هلال ذي الحجة قام في صبيحته واسند ظهره الى الكعبة من تلقاء بابها وخطب الناس فقال :
يا معشر قريش انكم سادة العرب أحسنها وجوهاً واعظمها احلاماً وأوسطها نسباً وانكم جيران بيت الله أكرمكم الله بولايته وخصّكم بجواره دون بني اسماعيل وانه يأتيكم زوار الله يعظمون بيته فهم اضيافه وحق من اكرم أضياف الله أنتم فأكرموا ضيفه وزواره فأنهم يأتونه غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح فورب هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتموه وانا مخرج من طيب مالي وحلالي ما لم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم ولم يدخل فيه حرام فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعل وأسألكم بحرمة هذا البيت ان لا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله وتقويتهم الا طيباً لم يقطع منه رحم ولم يؤخذ غصباً .
فكانوا يجتهدون في ذلك ويخرجون من أموالهم

العباس عليه السلام31

ويضعونه في دار الندوة(1) .
وكان هاشم يطعم الحاج بمكة ومنى وعرفة وجمع(2) وهو أول من سن لقريش الرحلتين رحلة الى اليمن ورحلة الى الشام وأخذ لهم من ملوك الروم وغسان ما يعتصمون به(3) وذلك ان تجار قريش لم تعد تجارتهم نفس مكة وضواحيها وانما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها حتى رحل هاشم الى الشام ونزل على قيصر فأعجبه حسن خلقه وجمال هيئته وكرمه المنهمر فلم يحجبه واذن له بالقدوم عليه بالتجارة وكتب اماناً بينهم فارتقت منزلة هاشم بين الناس فكان يسافر في الشتاء الى اليمن وفي الصيف الى الشام وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن والشام وجعل له معهم ربحاً وساق لهم ابلاً مع إبله وكفاهم مؤنة الاسفار على أن يكفوه مؤنة الأعداء في طريقه ومنصرفه فكان في ذلك صلاح عام للفريقين فكان المقيم رابحاً والمسافر محفوظاً فأخصبت قريش بذلك وأتاها الخير من البلاد العالية والسافلة ببركة هاشم وهذا هو الإيلاف المذكور في القرآن المجيد(4) .

(1) شرح النهج الحديدي ج 3 ص 458 .
(2) السابق ج 3 ص 457 .
(3) تاريخ الطبري ج 2 ص 180 .
(4) شرح النهج الحديد ج 3 ص 454 وص 458 .
العباس عليه السلام32

وكان يقول في خطبته : أيها الناس نحن آل إبراهيم وذرية اسماعيل وبنو النضر بن كنانة وبني قصي بن كلاب وأرباب مكة وسكان الحرم لنا ذروة الحسب ومعدن المجد ولكل في كل خلف يجب عليه نصرته واجابة دعوته إلا ما دعا الى عقوق عشيرة وقطع رحم يا بني قصي أنتم كغصني شجرة أيهما كسر أوحش صاحبه والسيف لا يصان إلا بغمده ورامي العشيرة يصيبه سهمه ومن أمحكه اللجاج واخرجه الى البغي .
أيها الناس الحلم شرف والصبر ظفر والمعروف كنز والجود سؤدد والجهل سفه والأيام هول والدهر غيِّر والمرء منسوب إلى فعله ومأخذو بعمله فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد ودعوا الفضول تجانبكم السفهاء واكرموا الجليس يعمر ناديكم وحاموا الخليط يرغب في جواركم وانصفوا من أنفسكم يوثق بكم وعليكم بمكارم الأخلاق فانها رفعة وإياكم والأخلاق الدنيّة فانها تضع الشرف وتهدم المجد وان نهنهة الجاهل أهون من جريرته ورأس العشيرة يحمل أثقالها ومقام الحليم عظة لمن انتفع به(1) .
ولنور النبوة الحال في جبهته كان وجهه يضيء في

(1) بلوغ الارب ج 1 ص 322 طبع بغداد .
العباس عليه السلام33

الليلة الظلماء ولم يمر بحجر ولا شجر الا ناداه أبشر يا هاشم سيظهر من ذريتك أكرم خلق الله محمد خاتم النبيين .
وأوصاه أبوه عبد مناف بما أوصاه به أبوه قصي : أن لا يضع نور النبوة الا في الأرحام الطاهرات من النساء واخذ عليه العهد بذلك فقبل وقد تقدم انها موروثة من آدم عليه السلام ومن هنا رغب الاشراف من الاكاسرة والقياصرة في مصاهرة هاشم وهو يأبى حتى إذا رأى في المنام قائلاً يقول عليكم بسلمى بنت عمرو بن لبيد بن حداث بن زيد بن عامر بن غنم بن مازن من بني النجار فإنها طاهرة مطهرة الأذيال ليس لها مشبه من النساء فادفع المهر الجزيل فانك ترزق منها ولداً يكون منه النبي فمشى هاشم واخوه المطلب وبنو عمه الى المدينة ومعهم لواء نزار وعليهم أفخر الثياب والدروع .
ولما اجتمع القوم خطب المطلب بن عبد مناف فقال : نحن وفد بيت الله الحرام والمشاعر العظام والينا سعت الأقدام وأنتم تعلمون شرفنا وسؤددنا وما خصّنا به الله من النور الساطع والضياء اللامع ونحن بنو لؤي بن غالب قد انتقل هذا النور الى عبد مناف ثم الى أخينا هاشم وهو معنا من آدم عليه السلام وقد ساقه الله إليكم وأقدمه عليكم فنحن لكريمتكم خاطبون وفيكم راغبون .
فأجابه عمرو أبو سلمى بالقبول والانعام وساقوا المهر

العباس عليه السلام34

كما أرادوا ولما تزوج منها هاشم ودخل بها وحملت بعبد المطلب انتقل اليهـا النـور وما زالت تسمع البشائر بولادة خير البشر فأفزعها ذلك الا ان هاشماً عرفها أمر النبي(1) .
فلما ولدت عبد المطلب كان يدعى «شيبة الحمد» لكثرة حمد الناس له لكونه مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الامور فكان شريف قومه وسيدهم كمالاً ورفعة غير مدافع عن ذلك وهو من حلماء قريش وحكمائها .
وقد سنّ أشياء أمضاها له الإسلام : حرم نساء الآباء على الأبناء ووجد كنزاً اخرج خمسه وتصدّق به وسنّ في القتل مائة من الابل ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسنه سبعة أشواط وقطع يد السارق وحرم الخمر والزنا وان لا يطوف بالبيت عريان ولا يستقسم بالأزلام ولا يأكل ما ذبح على النصب(2) .
ومما يؤثر عنه : الظلوم لن يخرج من الدنيا حى ينتقم منه وان وراء هذا الدار دار يجزي فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وإذا لم تصب المظلوم في الدنيا عقوبة فهي معدة له في الآخرة(3) .

(1) البحار ج 6 ص 14 .
(2) الخصال للصدوق والسيرة الحلبية ج 1 ص 5 .
(3) السيرة الحلبية ج 1 ص 12 .
العباس عليه السلام35

وقيل له الفياض لكثرة جوده ونائله حتى ان مائدته يأكل منها الراكب ثم ترفع الى جبل أبي قبيس لتأكل منها الطير والوحوش(1) ولعزه المنيع وشرفه الباذخ كان يفرش له بإزاء الكعبة ولم يفرش لأي أحد غيره ولايجالسه على بساط الابهة إلا نبي العظمـة(2) وإذا أراحد أحد أعمامه أن ينحيه صاح به عبد المطلب وقال ان له لشأناً وملكاً عظيماً(3) .
ولا غرو في ذلك بعد أن كان وصياً من الأوصياء وقارئاً للكتب السماوية ولقد أخبر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : كان أبي يقرأ الكتب جميعاً وقال ان من صلبي نبياً لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به فمن أدركه من ولدي فليؤمن به(4) .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : والله ما عبد أبي ولا جدّي عبد المطلب ولا عبد مناف ولا هاشم صنماً وانما كانوا يعبدون الله ويصلون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به(5) .
وكان أبو طالب سيد البطحاء شبيهاً بأبيه شيبة الحمد

(1) السيرة الحلبية ج 1 ص 12 .
(2) اليعقوبي ج 2 ص 11 وتاريخ الخميس ج 1 ص 270 .
(3) السيرة الحلبية ج 1 ص 129 .
(4) البحار ج 9 : ص 31 .
(5) اكمال الدين للصدوق ص 104 .
العباس عليه السلام36

عالماً بما جاء به الأنبياء واخبرت به اممهم من حوادث وملاحم لأنه وصي من الأوصياء وأمين على وصايا الأنبياء حتى سلّمها الى النبي(1) .
قال درست بن منصور قلت لأبي الحسن الأول أكان رسول الله صلى الله عليه وآله محجوجاً بأبي طالب قال لا ولكن كان مستودع الوصايا فدفعها الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلت دفعها إليه على أنّه محجوج به قال عليه السلام : لو كان محجوجاً به ما دفعها إليه قلت : فما كان حال أبي طالب ؟ قال : اقر بالنبي وبما جاء به حتى مات(2) .
وقال المجلسي : أجمعت الشيعة على أن أبا طالب لم يعبد صنماً قط وانّه كان من أوصياء إبراهيم الخليل عليه السالم وحكى الطبرسي اجماع أهل البيت على ذلك ووافقه ابن بطريق في كتاب المستدرك وقال الصدوق كان عبد المطلب وأبو طالب من أعرف العلماء وأعلمهم بشان النبي وكانا يكتمان ذلك عن الجهال والكفرة(3) .

(1) مرآة العقول ج 1 ص 362 .
(2) البحار ج 9 ص 29 .
(3) اكمال الدين ص 102 .
العباس عليه السلام37

ومما يشهد على أنه كان على دين التوحيد وملّة ابراهيم ، ان قريشاً لماأبصرت العجائب ليلة ولادة أمير المؤمنين خصوصاً لما أتوا بالآلهة الى جبل أبي قبيس ليسكن بهم ما شاهدوه ارتجّ الجبل وتساقطت الأصنام ففزعوا الى أبي طالب لأنّه مفزع اللاجئ وعصمة المستجير وسألوه عن ذلك فرفع يديه مبتهلاً الى المولى جلّ شأنه قائلاً : إلهي أسألك بالمحمدية المحمودة والعلوية العالية والفاطمية البيضاء الا تفضّلت على تهامة بالرأفة والرحمة فسكن ما حلّ بهم وعرفت قريش هذه الأسماء قبل ظهورها فكانت العرب تكتب هذه الأسماء وتدعو بها عند المهمات وهي لا تعرف حقيقتها(1) .
ومن هنا اعتمد عليه عبد المطلب في كفالة الرسول وخصّه به دون بنيه وقال :
وصيـت من كنيته بطالب عبد مناف وهـو ذو تجارب
بابن الحبيب أكرم الأقارب بابن الذي قد غاب غير آئب

(1) روضة الواعظين : ج 1 ص 78 .
العباس عليه السلام38

فقال أبو طالب :
لا توصني بلازم وواجب أني سمعت أعجب العجائب
من كل حبر عالم وكاتب بأن بحمد الله قول الراهب(1)

فقال عبد المطلب :
أنظر يا أبا طالب أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ولم يذق شفقة أمه ، انظر أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك فانّي قد تركت بنّي كلهم وخصصتك به لأنك من أم أبيه وأعلم فان استطعت أن تتبعه فافعل وانصره بلسانك ويدك ومالك فانه والله سيسودكم ويملك ما لا يملك أحد من آبائي هل قبلت وصيّتي ؟ قال : نعم قد قبلت والله على ذلك شاهد .
فقال عبد المطلب : الآن خفف علي الموت ولم يزل يقبله ويقول : اشهد انّي لم أر أحداً في ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحسن وجهاً(2) .

(1) مناقب ابن شهراشوب ج 1 ص 25 .
(2) مرآة العقول ج 1 ص 368 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي