العباس عليه السلام73

الهوى فأعطاني ما لم تعرق فيه جبينه ولم تكدح فيه يمينه رزقاً اجراه الله على يديه وهو المحاسب عليه دوني لا محموداً ولا مشكوراً ثم التفت الى معاوية وقال اما والله يا ابن هند ما تزال منك سوالف يمرها منك قول وفعل فكأني بك وقد أحاط بك ما الذي منه تحاذر .
فأطرق معاوية ثم قال ما الذي يعذرني من بني هاشم وأنشأ :
أزيدهم الاكرام كي يشعبوا العصا فيأبوا لدى الاكرام ان لا يكرموا
و اذا عطفتـنـي رقتان عليهـم نأوا حسداً عني فكانـوا هـم هم
و اعطيهم صفو الاخا فكـأننـي معاً و عطايـاي المبـاحة علقم
واغضي عن الذنب الذي لا يقيله من القوم الا الهزبـري المقمـم
حباً واصطباراً وانعطـافاً ورقةً و اكظم غيظ القلب إذ ليس يكظم

أما والله يا ابن أبي طالب لولا أن يقال عجل معاوية لحرق ونكل عن جوابك لتركت هامتك اخف على أيدي

العباس عليه السلام74

الرجال من حوي الحنظل .
فأجابه عقيل :
عذيرك منهـم مـن يلوم عليهم و من هو منهم فـي المقالة اظلم
لعمرك ما اعطيتهم منـك رأفة ولكن لاسباب وحـولك علـقـم
أبى لهـم أن ينزل الذل دارهم بنو حرة مزهـر وعقـل مسلـم
وانهم لـم يقبلـوا الـذل عنوة اذا ما طغا الجبار كانـوا هم هم
فدونك ما اسديت فاشدد يداً به و خيركم المبسوط والشر فالزموا

ثم رمى عقيل عليه بالمائة ألف درهم وقام من مجلسه فكتب اليه معاوية : أمّا بعد يا بني عبد المطلب أنتم والله فروع قصي ولباب عبد مناف وصفوة هاشم فان احلامكم لراسخة وعقولكم لكاسية وحفظكم الأوامر وحبكم العشائر ولكم الصفح الجميل والعفو الجزيل مقرونان بشرف النبوة وعز الرسالة وقد والله ساءني ما كان جرى ولن أعود لمثله الى أن أغيب في الثرى .

العباس عليه السلام75

فكتب إليه عقيل :
صدقت وقلت حقـاً غيـر اني أرى الا اراك ولا تـرانـي
و لست أقول سوءاً في صديقي و لكني أصـد اذا جفـانـي

فكتب إليه معاوية يستعطفه ويناشده الصفح وألحّ عليه في ذلك فرجع إليه(1) .
فقال له معاوية لم جفوتنا يا أبا يزيد فأنشأ عقيل :
وانـي امرؤ منّـي التكرم شيمـة اذا صاحبي يوماً على الهون اضمرا

وقال يا معاوية لئن كانت الدنيا افرشتك مهادها واظلتك بسرادقها ومدت عليك اطناب سلطانها ما ذاك بالذي يزيدك مني رغبة وتخشعاً لرهبة .
فقال معاوية لقد نعتها أبو يزيد نعتاً هش له قلبي ثم قال له لقد أصبحت يا أبا يزيد علينا كريماً وإلينا حبيباً وما أصبحت اضمر لك إساءة(2)

(1) ربيع الابرار للزمخشري .
(2) العقد الفريد ج 1 ص 135 .
العباس عليه السلام76

هذا حال عقيل مع معاوية وحينئذ فأي نقص يلم به والحالة هذه وعلى الوصف الذي أتينا به تعرف أنه لا صحة لما رواه المتساهلون في النقل من كونه مع معاوية بصفين فإنه مما لم يتأكد اسناده ولاعرف متنه ويضاده جميع ما ذكرناه كما يبعده كتابه من مكة الى أمير المؤمنين حين أغار الضحاك على الحيرة وما والاها وذلك بعد حادثة صفين وهذه صورة الكتاب :
لعبد الله أمير المؤمنين من عقيل بن أبي طالب سلام عليك فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فان الله حارسك من كل سوء وعاصمك من كل مكروه وعلى كل حال فاني خرجت الى مكة معتمراً فلقيت عبد الله ابن أبي سرح مقبلاً من «قديد» في نحو من أربعين شاباً من أبناء الطلقاء فعرفت المنكر في وجوههم فقلت الى أين يا أبناء الشانئين أبمعاوية لاحقون عداوة لله منكم غير مستنكرة تريدون اطفاء نور الله وتبديل أمره .
فاسمعني القوم واسمعتهم فلما قدمت مكة سمعت أهلها يتحدثون ان الضحاك بن قيس اغار على الحيرة فاحتمل من اموالها ما شاء ثم انكفأ راجعاً سالماً وان الحياة في دهر جرأ عليك الضحاك لذميمة وما الضحاك الا فقع بقرقر وقد توهمت حيث بلغني ذلك ان شيعتك وأنصارك خذلوك فاكتب

العباس عليه السلام77

إلي يا ابن أبي برأيك فان كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت ومتنا معك إذا متّ فوالله ما احب أن أبقى في الدنيا بعدك فواق ناقة واقسم بالاعز الأجل ان عيشاً نعيشه بعدك لأهنأ ولأمرأ ولا نجيع والسلام .
فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام :
من عبد الله أمير المؤمنين الى عقيل بن أبي طالب سلام عليك فاني احمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد كلأنا الله وإياك كلأة من يغشاه بالغيب انه حميد مجيد .
وقد وصل اليّ كتابك مع عبد الرحمن بن عبيد الأزدي تذكر فيه انك لقيت عبد الله بن أبي سرح مقبلاً من «قديد» في نحو من أربعين فارساً من أبناء الطلقاء متوجهين إلى جهة المغرب وان ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه وصد عن سبيله وبغاها عوجاً فدع عنك ابن أبي سرح ودع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق الا وان العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم اجماعها على حرب النبي قبل اليوم فاصبحوا قد جهلوا حقه وجحدوا فضله وبادروه بالعداوة ونصبوا له الحرب وجهدوا عليه الجهد وجروا اليه جيش الاحزاب اللهم فاجز قريشاً عنّي الجوازي فقد

العباس عليه السلام78

قطعت رحمي وتظاهرت علي ودفعتني عن حقي وسلبتني سلطان ابن أمي وسلمت ذلك الى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول وسابقتي في الاسلام الا يدعي مدع ما لا أعرفه ولا أظن الله يعرفه والحمد لله على كل حال .
وأما ما ذكرت من غارة الضحاك على أهل الحيرة فهو أقل وأقل ان يسلب بها وان يدنو منها ولكنه قد أقبل في جريدة خيل فأخذ على السماوة حتى قربوا من واقصة وشراف والقطقطانة وما والى ذلك الصقع فوجهت إليه جنداً كثيفاً من المسلمين فلما بلغه ذلك فرّ هارباً فاتبعوه ولحقوه ببعض الطريق وقد أمعن وكان ذلك حين طفلت الشمس للاياب فتناوشوا القتال قليلاً فلم يبصر الا بوقع المشرفية وولى هارباً وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلاً ونجا مريضاً بعدما أخذ منه المخنق فلأيّ بلاء ما نجا .
وأما ما سألتني ان اكتب اليك برأيي فيما أنا فيه فان رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله لا تزدني كثرة الناس عزة ولا تفرقهم عنّي وحشة لأني محق والله مع الحق ووالله ما أكره الموت على الحق ، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقاً .
وأما ما عرضت به من مسيرك الى بنيك وبني أبيك فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشداً محموداً فوالله ما احب أن

العباس عليه السلام79

تهلكوا معي ان هلكت ولا تحسبن ابن أبيك لو أسلمه الناس متخشعاً ولا متضرعاً انه لكما قال اخو بني سليم :
فان تسأليني كيف أنت فانني صبور على ريب الزمان صليب
يعزّ عليّ أن تـرى بي كآبة فيشمت باغ أو يسـاء حبـيـب

وهذا الكتاب من عقيل المروى بطرق متعددة(1) يدلنا على انه كان مع أخيه الامام في حياته غير مفارق له فان الكتاب الذي كتبه اليه بعد غارة الضحاك على أطراف أعماله وذلك قرب شهادة أمير المؤمنين .
إذاً فالقول بأن وفادة عقيل على معاوية بعد أخيه متعين كما اختاره السيد المحقق في الدرجات الرفيعة وجعله ابن أبي الحديد الاظهر عنده وقد وضح من ذلك انه لم يكن مع معاوية بصفين .

(1) روى الكتابين أبو الفرج في الاغاني ج 15 ص 44 وابن أبي الحديد في شرح النهج ج 1ص 155 وابن قتيبة في الامامة والسياسة ج 1 ص 45 والسيد علي خان في الدرجات الرفيعة ترجمة عقيل وفي جمهرة رسائل العرب ج 1 ص 596 .
العباس عليه السلام80

الحديدة

أما حديث الحديدة المحماة التي أدناها منه أمير المؤمنين فليس فيها ما يدل على اقترافه اثماً أو خروجاً عن طاعة فان أمير المؤمنين أراد بذلك تهذيبه بأكثر مما تتهذب به العامة كما هو المطلوب من مثل عقيل والمناسب لمقامه فعرفه «سيد الأوصياء» أن انساناً بلغ من الضعف الى أن يئنّ من قرب الحديدة المحماة بنار الدنيا من دون أن تمسه ، كيف يتحمل نار الآخرة في لظى نزاعة للشوي وهو مضطرم بين أوارها فمن واجب الانسان الكامل التبعد منها بكبح النهمة وكسر سورة الجشع والمكابدة للملمات القاسية فهي مجلبة لمرضاة الرب ومكسبة لغفرانه وان كان غيره من أفراد الرعية يتبعّد عنها بترك المحرمات فحقيق بمثله وهو ابن بيت الوحي ورجالات عصبة الخلافة التجنب حتى عن المكروهات وما لا يلائم مقامه من المباحات ويروض نفسه

العباس عليه السلام81

بترك ذلك كله حتى تقتدي به الطبقات الواطئة بما يسعهم أو يسلون أنفسهم بمقاسات مثل عقيل الشدائد في دنياه فلا يبهضهم الفقر الملم والكرب المدلهم فرب مباح ينقم عليه من مثله ولا يلام من هو دونه بارتكابه فان «حسنات الابرار سيئات المقربين» .
وأمير المؤمنين أراد أن يوقف اخاه على هذا الخطر الممنع الذي حواه وقد ذهل عنه في ساعته تلك .

العباس عليه السلام82

افتراء

قال الصفدي لقد بغض عقيل الى الناس ذكره مثالب قريش وما اوتي من فضل وعلم بالنسب والسرعة في الجواب حتى قالوا فيه الباطل ونسبوه الى الحمق(1) واختلقوا عليه أحاديث كان بعيداً عنها فوضعوا على لسان أمير المؤمنين ما ينقص من قدره ويحط من كرامته زعماً منهم أن في ذلك تشويهاً لأهل هذا البيت الطاهر بيت أبي طالب بإخراجهم عن مستوى الانسانية فضلاً عن الدين بعد أن أعوزتهم الوقيعة في سيد الاوصياء بشيء من تلك المفتريات فطفقوا يشوهون مقام أبيه وحامته ولكن لا ينطلي ذلك على الجيل المنقب حتى كشف عن تلك النوايا السيئة وعرف الملأ افتعال الحديث وبعده عن الصواب .

(1) نكت الهميان ص 200 .
العباس عليه السلام83

قالوا في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام : ما زلت مظلوماً منذ كنت صغيراً ان عقيل ليرمد فيقول لا تذروني حتى تذروا علياً فاضطجع واذرى وما بي رمد .
لا أقرأ هذا الحديث الا ويأخذني العجب كيف رضي المفتعل بهذه الفرية البينة فان أمير المؤمنين ولد ولعقيل عشرون سنة وهل يعتقد أحد أو يظن أن إنساناً له من العمر ذلك المقدار إذا اقتضى صلاحه شرب الدواء يمتنع منه الا اذا شرب مثله اخوه البالغ سنة واحدة أو سنتين كلاً لا يفعله أي أحد وان بلغ الغاية في الخسة والضعف فكيف بمثل عقيل المتربي بحجر أبي طالب والمرتضع در المعرفة خصوصاً مع ما يشاهد من الآيات الباهرة من أخيه الامام منذ ولادته ، نعم الضغائن والاحقاد حبذت لمن تخلق بها التردد في العمي والخبط في الضلال من دون روية أو تفكير «استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله اولئك حزب الشيطان الا ان حزب الشيطان هم الخاسرون»(1) .
نعم كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول غير مرة : «ما زلت مظلوماً»(2) من دون تلك الزيادة يعني بذلك دفعه عن

(1) سورة المجادلة ، آية : 19 .
(2) الشافي للسيد المرتضى ص 203 .
العباس عليه السلام84

حقه الواجب على الامة القيام به والميل عنه وتعطيل أحكام الله بالأخذ من غيره وتقديم من ليس له قدم ثابت في كل مكرمة ولا نص من صاحب الشريعة ولا فقه ناجع ولا اقدام في الحروب .
وحيث ان في هذه الكلمة حطّاً بمن ناوأه زحزحوها عنهم والصقوها بذلك السيد الكريم وما أسرع أن عاد السهم فكان كالباحث عن حتفه بظلفه .

العباس عليه السلام85

الخلف عن عقيل

الخلف الصالح يخلد ذكر سلفه فلا يزال ذكره حياً بعمره الثاني من ذكر جميل وثناء جزيل وترحم متواصل واستغفار له منه وممن تعرف به وفي الحديث ان ابن آدم إذا مات انقطع عمله من الدنيا الا من ثلاث وعدّ منها الولد الصالح ومن أجلى الواضحات ان هذا التذكير يختلف حسب تدرج الاولاد في المآثر فمهما كان قسطهم منها أكثر فهم لمجد آبائهم أخلد وكذلك الاسلاف فكلما كانوا في الشرف والسؤدد أقرب فانتشار فضلهم بصالحي خلفهم أسرع .
إذاً فما ظنّك بمثل عقيل بن أبي طالب ذلك الشريف المبجّل وقد خلفه «شهيد الكوفة» وولده الاطايب «شهداء الطف»(1) الذين لم يسبقهم ولا يلحقهم لاحق فلو لم يكن

(1) في كامل الزيارة ص 107 كان علي بن الحسين يميل الى ولد =
العباس عليه السلام86

لعقيل شيء من الخطر والعظمة لتسنم بهؤلاء الأكارم أوج العلى والرفعة .
وكم أب قد علا بابن ذرى شرف كما عـلا برسـول الله عدنـان

وكيف به وهو من أشرف عنصر في العالم كله ؟!
ولم يزل له ذكر خالد في أحفاده المتعاقبين فانهم بين علماء اعاظم وفقهاء مبرزين وشعراء ومحدثين وامراء صالحين ونسابين وقد انتشروا في مصر ونصيبين واليمن وحلب وبيروت والمدينة والكوفة والحلة وطبرستان وخراسان وجرجان وكرمان وقم واصفهان .
وكان القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب فاضلاً تقياً .
وأخوه عقيل جليل ثقة ثبت صاحب حديث وعمهما عقيل بن عبد الله نسابة مشجراً وحفيد عقيل هذا جعفر بن عبد الله الاصفهاني عالم نسابة شيخ شبل ابن نكبن مات سنة 334 هـ .
ومحمد بن مسلم بن عقيل بن عبد الله بن محمد بن

= عقيل فقيل له ما بالك تميل الى بني عمّك هؤلاء دون آل جعفر فقال عليه السلام اني لأذكر يومهم مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام فأرقّ لهم .
العباس عليه السلام87

عقيل بن أبي طالب يعرف بابن المزينة كان أمير المدينة قتلة ابن أبي الساج .
وابنه أبو القاسم احمد بن محمد المذكور كان له ادب وفضل مات سنة 330 هجرية .
والعباس بن عيسى الاوقصي ولي القضاء للداعي الكبير الحسن بن زيد على جرجان وقد أولد بكرمان(1) ومن أحفاد عقيل العلامة الجليل السيد اسماعيل بن احمد النوري الطبرسي من علمائنا الأعاظم شارح نجاة العباد لشيخ الطائفة المحقق الحجة «صاحب الجواهر» قدس سره طبع منها جزءان الى آخر الزكاة وله كفاية الموحدين مطبوعة .
وكان في كربلاء المشرفة بيت كبير وطائفة جليلة يعرفون بالعقيلين لهم أوقاف كثيرة وقد انقرضوا وبقي منهم رجل واحد .

(1) انظر ذلك في عمدة الطالب : ص 35 .
العباس عليه السلام88

الطيّار

وأما جعفر بن ابي طالب فحسبه من العظمة شهادة الرسول الاقدس بأنه يشبهه خلقاً وخلقاً ذلك الخلق الكريم الموصوف في الذكر الحكيم بقوله عز شأنه : (وانك لعلى خلق عظيم»(1) وحيث لم ينص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صفة خاصة من اخلاقه فلا جرم من شمول تلك الكلمة الذهبية «اشبهت خَلقي وخُلقي» لجميع ما اتصف به الرسول حتى الدنس من الرجس والآثام .
ولو تنازلنا عن القول بعموم التشبيه لهذه الخاصة فلا بد من القول بتحقيق اظهر صفات المشبه به للمشبه ولا شك في أن ذلك المعنى اظهر ما في خلقه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .
وغير خاف ان هذه الكلمة قالها النبي لما تنازع عنده أمير المؤمنين وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة في ابنة

(1) سورة القلم ، آية : 4 .
العباس عليه السلام89

حمزة بن عبد المطلب وكان كل منهم يريد القيام بتربيتها .
وذلك ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج من مكة بعد انقضاء الأجل بينه وبين أهل مكة في عمرة القضاء الواقعة في السنة السابعة للهجرة تبعته ابنة حمزة تقول يا عم خذني معك فأخذها أمير المؤمنين ودفعها الى فاطمة عليها السلام وفي المدينة جرى ذلك النزاع بينهم فقال رسول الله لزيد أنت أخوها ومولانا وقال لجعفر اشبهت خَلقي وخُلقي وقال لامير المؤمنين «أنت منّي وأنا منك» ثم قضى بها للخالة وهي أسماء بنت عميس(1) .
هذا هو الحديث المذكور في الجوامع والنظرة الصادقة فيه تفيدنا معرفة السر في اختلاف خطاب النبي مع ابني عمه وكل منهما نصح له في التلبية على الدعوة الالهية واخلص في المفاداة في سبيل تبليغ الرسالة خصوصاً مع معرفته بأساليب المحاورة لانه سيّد البلغاء «وما ينطق عن الهوى»(2) فلا جرم حينئذ من كون الوجه فيه هو الاشارة الى صفة سامية تحلّى بها أمير المؤمنين وتخلّى عنها جعفر وليست هي إلا

(1) أخرج الحديث البخاري في صحيحه ج 3 ص 50 في عمرة القضاء والحاكم في المستدرك ج 3 ص 220 والحلبي في السيرة الحلبية ج 3 ص 76 وابن دحلان بهامشها ج 2 ص 261 .
(2) سورة النجم ، آية : 3 .
العباس عليه السلام90

خلافة الله الكبرى فان علياً عليه السلام حامل ما عند رسول الله الأعظم من علم متدفق وفقه ناجع وخبرة شاملة وتأمل فيّاض وخلق عظيم لا يستطيع البشر القيام به وهذا هو الذي تفيده المنزلة في قوله «أنت منّي وأنا منك» بعد فرض المباينة بينهما في الحدود الشخصية والنبي لا ينطلق ساهياً ولا لاهياً فلا بد أن يكون قاصداً تلك المنزلة الكبرى التي لم يحوها جعفر وان بلغ في خدمة الدين كل مبلغ .
وهذا النزاع انما هو في الحضانة التي هي سلطنة وولاية على تربية الطفل وإدارة شؤونه وقد كان لابنة حمزة يومئذ أربع سنين وهذا القضاء ، كما يفيدنا سقوط حضانة الام إذا تزوجت ، تفيدنا أولوية الخالة على العمة فان عمتها صفية كانت موجودة يومئذ وامها سلمى متزوجة بشداد بن الهادي الليثي حليف بني هاشم .
ويرشدنا طلب أمير المؤمنين الحضانة الى ان أولوية الخالة على غيرها من الاقارب انما هو عند المخاصمة والا فلم يخف الحكم على سيّد الوصيين وهو مستقى الاحكام وينبوعها وقد امتزجت ذاته المقدسة بالمعارف الالهية والاسرار الربوبية واستمد من اللوح المحفوظ .
ولعل السر الدقيق في مخاصمته معهما تعريف الامة مقامه الرفيع ومنزلته الكبرى التي لا يدانيها كل احد والواجب

العباس عليه السلام91

عليه بما انه المنقذ الاكبر وامام الامة ارشادها الى الطريق اللاحب بأي نحو من أنحاء الكلام .
لقد كان جعفر ملازماً لصاحب الرسالة ملازمة الظل لديه يرقب أفعاله وتروكه ويسمع تعاليمه وعظاته ويبصر اعماله وحكمه ويقتص أثره منذ كان يصل جناح الرسول الايسر في الصلاة بعد أمير المؤمنين وخديجة الكبرى .
وكانت قريش تخبط في غلواء جحوذها وتغلي مراجل بغضائها على الصادع بالدين الحنيف وعلى كل ذلك تمرنه التعاليم النبوية الخاصة به وتكهربه تهذيبات المشرع الاطهر ولا تدعه جاذبة الدعوة الالهية يلوي يميناً ولا شمالاً .
ومن هنا أئتمنه صاحب الرسالة على نشر كلمة التوحيد وعلى ضعفاء المسلمين يوم بعثه الى الحبشة في السنة الخامسة من الهجرة فأدّى النصيحة ونهض بالدعوة حتى استمال النجاشي الى الاسلام فآمن غير ان منيته حالت دون امنيته .
ولو لم يكن جعفر بتلك المنزلة الرفيعة لما تعاقبت مفاخرات أئمة الدين به كما افتخروا بعمّه أسد الله وأسد رسوله في كثير من مفاخراتهم ففي احتجاج الطبرسي ان أمير المؤمنين احتج على أهل الشورى بأن أخاه جعفر المزين

العباس عليه السلام92

بجناحين في الجنة يحل فيها حيث شاء فلم يرد عليه أحد بل قابلوه بالتسليم والقبول .
وفي نهج البلاغة فيما كتب به الى معاوية ان قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل له الطيار في الجنة وذو الجناحين .
فلو لم يكن كفاحه عن الدين عن بصيرة نافذة ويقين ثابت لما افتخر به المعصومون والعارفون بمآل العباد حتى جعلوا مواقفه في الدين ذريعة الى التوسل الى مطلوبهم .
ولحزمه الثابت ومواقفه المحمودة واصابته في الرأي وقديم إيمانه أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة مؤتة على المسلمين ولم يجعل عليه أميراً فإذا قتل فالامير زيد بن حارثة فان قتل فالامير عبد الله بن رواحة(1) فما ذهب اليه فريق من المؤرخين من تقديم زيد وابن رواحة عليه يدفعه صحيح الاثر والاعتبار الصادق .
وهذه العظمة هي التي تركت قدومه من الحبشة يوم فتح خيبر أعظم موهبة منح الله تعالى بها نبيّه تعادل ذلك الفتح المبين حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم (ما أدري

(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 واعلام الورى ص 64 ومناقب ابن شهراشوب ج 1 ص 143 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي