العباس عليه السلام175

ولما أصبحوا لم يكن لهم هم الا معرفة خبر الرجل وانه هل بقي على غيّه أو انّ الهداية الإلهية شملته فقصدوا داره وطرقوا الباب فقيل لهم ان الرجل في حرم العباس فتوجهوا إليه ليستبروا خبره فاذا الرجل قد ربط نفسه في الضريح الاقدس بحبل شد طرفه بعنقه والآخر بالضريح وهو تائب نادم مما فرط .
فسألوه عن شأنه وخبره فقال :
لما نمت البارحة وأنا على الحال الذي فارقتكم عليه رأيت نفسي في مجتمع من أهل الفضل واذا رجل دخل النادي وهو يقول أن أبا الفضل قادم عليكم فأخذ ذكره من القلوب مأخذاً حتى دخل عليه السلام والنور الالهي يسطع من أسارير جبهته والجمال العلوي يزهو في محياه فاستقر على كرسي في صدر النادي والحضور كلهم خاضعون لجلالته وخصتني من بينهم رهبة عظيمة وفرق مقلق لما اتذكره من تفريطي في جنب ولي الله فطفق عليه السلام يحيّي أهل النادي واحداً واحداً حتى وصلت النوبة الي .
ثم قال لي ماذا تقول انت فكاد أن يرتج علي القول ثم راجعت نفسي وقلت في المصارحة منتدحاً عن الارتباك وفوزاً بالحقيقة فأنهيت إليه ما ذكرته لكم بالامس من البرهنة .

العباس عليه السلام176

فقال عليه السلام أما أنا فقد درست عند أبي أمير المؤمنين وأخوي الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام وأنا على يقين من ديني بما تلقيته من مشيختي من الحقائق ونواميس الاسلام .
وأنت شاك في دينك شاك في إمامك أليس الامر هكذا ؟ فلم يسعني انكار ما يقوله ثم قال عليه السلام واما شيخك الذي قرأت عليه وأخذت منه فهو أتعس منك حالاً وما عسى أن يكون عندك من أصول وقواعد مضروبة للجاهل بالاحكام يعمل بها اذا أعوزه الوصول الى الواقع واني غير محتاج إليها لمعرفتي بواقع الاحكام من مصدر الوحي الإلهي .
ثم قال عليه السلام وفي نفسيات كريمة واخذ يعددها من كرم وصبر ومواساة وجهاد الى غيرها ولو قسمت على جميعكم لما امكنك حمل شيء منها .
على ان فيك ملكات رذيلة من حسد ومراء ورياء ثم ضرب بيده الشريفة على فم الرجل فانتبه فزعاً نادماً معترفاً بالتقصير ولم يجد منتدحاً الا بالتوسل به والانابة اليه صلوات الله عليه وعلى آبائه .

العباس عليه السلام177

اليقين

لقد كان أبو الفضل عليه السلام أحد الافذاذ العلويين الذين لم تكن المفاخر مزايا زائدة على ذاتياتهم وان مدحوا بآثارهم لأنهم زبد المخض حازوا شرف النبوة وفضيلة الخلافة تتنضد بهم حمل العلم وتعتدل موازين العمل وتترنح بهم صهوات المنابر .
فكان سلام الله عليه متربعاً على منصة المجد ومِلء الندي هيبة وملء العيون بهجة وملء المسامع ذكره الجميل وملء القلوب محبة وحشو اهابه علم وعمل وحشو الردى سؤدد وشرف .
وان الاحاطة بما حواه من اليقين الثابت والبصيرة النافذة بأحد طريقين الاول سبر احواله ومواقع اقدامه واحجامه ومواضع بطشه واناته وموارد صفحه وانتقامه ولا بد أن يكون المنقب عند ذلك مميزاً بين مدارج الرأي ومساقط

العباس عليه السلام178

الخطل بصيراً بمراقي الحلم ومهاوي البطش والثاني اخبار من وقف على ذلك بمباشرة وافية وعلم متسع تم شكله وظهر انتاجه أو تعليم الهي او اخذ عمن له صلة بذلك التعليم .
وغير خفي إن قمر بني هاشم ملتقى ذينك الطرفين في البصيرة واليقين في دينه وعقله في معارفه واخلاقه في حلّه وارتحاله وكان ينظر الى جملة الاحوال بين البصيرة التي تخرق الحجب وتبصر ما وراءها من اسرار وخبايا لا بناظر البصر الذي تحجبه الحواجز وتمنعه السدول فيرد عن الادراك خاسئاً فلا يكون أمر تهالك دونه الا بعلم ثابت ويقين راسخ وايمان لا يشوبه شك فانه :
سـر أبيـه وهـو سر الباري مليك عرش عالـم الاسرار
وارث من حاز مواريث الرسل أبو العقول والنفوس والمثل
وكيـف لا وذاتـه القـدسيـة مجموعة الفضائـل النفسية

لقد كان أبو الفضل يعرف العراقيين ونزاعات أهل الكوفة منذ عهد أبيه وأخيه السبط المجتبى بالتجارب الصحيحة وانهم تجمعهم الاماني وتفرقهم الرضائخ ويشاهد

العباس عليه السلام179

الامويين وقوة سلطانهم وتوغلهم في اراقة الدماء وبشطهم في الناس وطيشهم في الامور ويرى ضعف جانب (أبي الضيم «ع») وقلة انصاره وطبع الحال يحدو مثله الى التحيز الى فئة اخرى ولاقل من التقاعد عن أي الفريقين وما كان مثله لو سالم الامويين يعدم ولاية أو قيادة لجيوشهم أو عيشة راضية يقضي بها أيامه .
(لكن عباس اليقين) لم يكن له طمع في شيء من حطام الدنيا فلم يرقه الا الالتحاق بأخيه سيد الشهداء موطناً نفسه الكريمة لاي كارثة أو شدة مؤلمة هذا والتهكن بمصير أمر الحسين عليه السلام في مسيره نصب عينه والمغيبات المأثورة عن رسول الله وأمير المؤمنين والمسموعات من اخويه الامامين ملء اذنه فلم يبرح مع «أخيه الشهيد» يفترع ربوة ويسف الى واد لا يرى في هاتيك الثنايا والعقبات الا تصديقاً لما عرفه ويقيناً بمنتهى أمره وغايته حتى بلغهم نبأ فاجعة مسلم بن عقيل فعرف القوم انثيال الكوفيين عن الحق ورضوخهم الى حكم الطاغية هنالك خارت العزائم واخفقت الظنون وطفق أهل المطامع والشره يتفرقون عن السبط المقدس يميناً وشمالاً(1) الا من حداهم الى المسير حق

(1) لهوف ص 41 صيدا .
العباس عليه السلام180

اليقين وفي الطليعة منهم سيدنا العباس فانه لم يزدد الا بصيرة في النهضة الكريمة وسروراً بأزوف الغاية المتوخاة .
فسار به وبهم «شهيد العظمة» وهو لا يشاهد كما انهم لا يرون كلما قربوا من الكوفة الا تدبر الناس وتألبهم عليهم وتتوارد عليهم الأنباء بما هو اشد لكن لم يثن ذلك من عزائمهم شيئاً ولا يكدي املاً بل كانوا يخففون الخطا ويسرعون السير لينتهوا الى معانقة الرماح ومصافحة الصفاح اكثر مما يسرع الصب الى الخود الرداح ومرشدهم الى ذلك بعد إمام الهدى (أبو الفضل) .
ركب حجازيون بيـن رحالهـم تسري المنايا انجدوا أو اتهموا
يحدون في هزج التلاوة عيسهم والكل فـي تسبـيـحه يترنّم


العباس عليه السلام181

الاصحاب

هبط موكب العظمة عراص الغاضريات وهو يضم الفتية من آل عبد المطلب والاباة الصفوة من الاصحاب فكانوا فرحين بما أتاهم المولى من فضله واختصهم به من المنحة الكبرى حيث جعل أثر ميتتهم حياة للدين ومدحرة للاضاليل فكانوا رضوان الله عليهم بما أودع الله تعالى فيهم من النيات الصادقة لا يهابون في سبيل السير إليه تعالى عقبة كإداء أو نبأً موحشاً من تخاذل القوم وتدابر النفوس وتضاءل القوى لما عرفوه من انها موهبة لا يحظى بها الا الامثل فالامثل فقابلوا الاخطار بجأش طامن وجنان ثابت لا تزجره أي هائلة وكلما اشتد المأزق الحرج اعقب فيهم انشراحاً وانبساطاً بين ابتسامة ومداعبة ومن فرح الى نشاط .
ومذ اخذت في نينوى منهم النوى ولاح بها للغدر بعض العلائم


العباس عليه السلام182

غدا ضاحكاً هذا وذا متبسما سروراً وما ثغر المنون بباسم(1)

نازل برير بن حضير عبد الرحمن الانصاري فقال له عبد الرحمن ما هذه ساعة باطل فقال برير والله لقد علم قومي اني ما احببت الباطل شاباً ولا كهلاً ولكني لمستبشر بما نحن لاقون والله ما بيننا وبين الحور العين الا ان يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ولوددت انهم مالوا علينا الساعة(2) .
وخرج حبيب بن مضاهر يضحك فقال له يزيد بن الحصين ما هذه ساعة ضحك قال حبيب وأي موضع أحق بالسرور من هذا ما هو الا ان يميل علينا هؤلاء الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور(3) .
وناهيك بعابس بن أبي شبيب الشاكري حينما برز الى الحرب وقد احجم القوم عنه لأنهم عرفوه بالاقدام والبسالة فلما رأى انه لم يبارزه احد القى ما عليه من درع ولامة فاغتنمها القوم فرصة ومع ذلك لم يبرز إليه أحد لكنهم رموه

(1) من قصيدة للشيخ صالح الكواز الحلي وقيل للتميمي .
(2) تاريخ الطبري : ج 6 ص 241 ومثير الأحزان لابن نما ص 27 ، والبحار : ج 10 ص 241 .
(3) رجال الكشي : ج 1 ص 79 ونفس المهموم ص 127 .
العباس عليه السلام183

بالسهام والحجارة وانه ليطرد أكثر من مائتين فرحاً مبتهجاً بما يلاقيه من حبور ونعيم .
واني لأعجب من الرواة وحملة التاريخ إذ توسعوا في النقل وقذفوا اولئك الاباة الصفوة والغلب المصاليت بما تندى منه وجه الانسانية ويأباه الوجدان الصادق فقيل كان القوم بحالة ترتعد فرائصهم وتتغير ألوانهم كلما اشتد الحال وضاق المجال الا الحسين فان أسرة وجهه تشرق كالبدر المنير(1) .
وذلك بعد أن أعوزتهم الوقيعة في شهيد الاباء فلم يجدوا للغمز فيه نصيباً فمالوا على أصحابه وأهل بيته الذين قال فيهم الامام عليه السلام «اني لا أعلم أصحاباً خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبر وأوفى من أهل بيتي»(2) وقد استلمتهم فما وجدت فيهم الا الاشوس الاقعص يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل الى محالب امه(3) .
وليس ذلك الا من الداء الدفين بين اضالع قوم ذاقوا السم في الدسم الى سذج آخرين حسبوه حقيقة راهنة فشوهوا وجه التاريخ غير ان البصير الناقد لا تخفى عليه نفسية القوم ولا ما جاؤا به .

(1) الطبري : ج 6 ص 254 .
(2) المصدر السابق ج 6 ص
(3) الدمعة الساكبة ص 325 عن بعض المؤلفات .
العباس عليه السلام184

وأعجب من ذلك قول محفر ليزيد : انا احطنا بهم وهم يلوذون عنا بالاكام والحفر لواذ الحمام من الصقر(1) .
بفيك الكثك أيها القائل كأنك لم تشاهد ذلك الموقف الرهيب فترى ما للقوم من بسالة واقدام ومفادات دون الدين الحنيف حتى اغفل يومهم مع ابن المصطفى أيام صفين وما شاكلها من حروب دامية ووقائع هائلة وحتى اخذت اندية الكوفة لا تتحدث الا عن شجاعتهم(2) .
أجل ان تلك الاهوال ادهشتك فلم تدر ما تقول او ان الشقة بعدت عليك فنسيت ما كان ولكن هل غاب عن سمعك صراخ الايامى وعويل الايتام في دور الكوفة حتى طبق ارجاءها من جراء ما أوقعه اولئك الصفوة باعداء الله ورسوله بسيوفهم الماضية والعذر لك انك أدركت ساعة العافية فطفقت تشوه مقامهم المشكور طلباً لمرضاة (يزيد الخمور) .
ولقد صرّح عن صدق نياتهم واخلاصهم في التضحية عدوهم الألد عمرو بن الحجاج محرضاً قومه : «أتدرون من تقاتلون تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر تقاتلون قوماً

(1) تاريخ الطبري ج 6 ص 264 .
(2) مناقب ابن شهراشوب .
العباس عليه السلام185

مستميتين لا يبرز إليهم أحد منكم الا قتلوه على قلتهم والله لو لم ترموهم الا بالحجارة لقتلتموهم» فقال عمر بن سعد قد صدقت الرأي ما رأيت أرسل في الناس من يعزم عليهم ان لا يبارزهم رجل منهم(1) ولو خرجتم إليهم وحداناً لاتوا عليكم(2) .
وقيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد ويحك اقتلتم ذرية رسول الله فقال عضضت بالجندل انك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالاسود الضارية تحطم الفرسان يميناً وشمالاً وتلقي أنفسها على الموت لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال ولا يحول حائل بينها وبين حياض المنية أو الاستيلاء على الملك فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها فما كنا فاعلين لا أم لك(3) .
وأي فرد منهم أقلقه الحال حتى ارتعدت فرائصه أهو زهير بن القين الذي وضع يده على منكب الحسين وقال مستأذناً .

(1) الطبري ج 6 ص 249 .
(2) مقتل محمد بن أبي طالب .
(3) شرح النهج الحديدي ج 1 ص 307 .
العباس عليه السلام186

اقدم هديت هاديا مهديا فاليوم ألقى جدّك النبيا

أم ابن عوسجة الذي يوصي حبيب بن مظاهر بنصرة الحسين وهو في آخر رمق من الحياة فكأنه لم يقنعه عن المفادات كل ما لاقاه من جهد وبلاء .
أم أبو ثمامة الصائدي الذي لم يهمه في سبيل السير الى ربه سبحانه كل ما هناك من فوادح وآلام الا الصلاة التي دنا وقتها فقال للحسين نفسي لك الفداء اني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ولا والله لا تقتل حتى اقتل دونك واحب أن ألقى الله وقد صليت هذه الصلاة التي دنا وقتها فقال الحسين ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين(1) .
أم سعيد الحنفي الذي تقدم أمام الحسين وقت الصلاة واستهدف لهم فأخذوا يرمونه بالنبل يميناً وشمالاً حتى سقط لكثرة نزف الدم(2) فقال للحسين أوفيت يا ابن رسول الله قال نعم أنت أمامي في الجنة .
أم ابن شبيب الشاكري الذي ألقى جميع لامته لتقرب منه الرجال فيموت في حين نرى الكماة الابطال المعروفين

(1) الطبري ج 6 ص 251 .
(2) المصدر السابق ج 6 ص 252 .
العباس عليه السلام187

بالشجاعة والاقدام يتدرعون للحرب كي لا يخلص إليهم ما يزهق نفوسهم .
أم الغفاريان اللذان استأذنا الحسين في الحملة وهما يبكيان فقال عليه السلام لهما ما يبكيكما فوالله اني لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين فقالا ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك أبا عبد الله نراك قد احيط بك ولا نقدر على الدفع عنك والذب عن حرمك فجزاهما الحسين خيراً .
وإذا تأملنا قول الامام أبي جعفر الباقر عليه السلام «ان اصحاب جدّي الحسين لم يجدوا ألم مس الحديد»(1) .
وضح لنا ما عليه اولئك الاطايب من الثبات وانهم غير مكترثين بما لاقوه من ألم الجراح ولعاً منهم بالغاية شوقاً إلى جوار المصطفى .
ولا يستغرب هذا من يعرف حالة العاشق وانه عند توجه مشاعره نحو المحبوب لا يشعر بكل ما يلاقيه من عناء ونكد حكى المؤرخون ان عزة دخلت على كثير الشاعر وهو في خبائه يبري سهاماً له ولما نظر إليها ادهشه الحال وابهره الجمال فأخذ يبري أصابعه وسالت الدماء وهو لا يحس

(1) الخرايج للراوندي .
العباس عليه السلام188

بالألم(1) .
وأكبر مثال على ذلك حكاية الكتاب المجيد حالة النسوة حينما شاهدن جمال الصديق يوسف عليه السلام فقال تعالى «ولما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشر ان هو الا ملك كريم»(2) .
واذا كانت النسوة لم يشعرن بألم قطع المدية أيديهنّ لمحض جمال الصديق فليس من الغريب الا يجد اصحاب الحسين عليه السلام وهم زبد العالم كله ألم مس الحديد عند نهاية عشقهم لمظاهر الجمال الإلهي ونزوع انفسهم الى الغاية القصوى من القداسة بعد التكهرب بولاء سيد الشهداء عليه السلام .
هذا ما عليه الاصحاب من سر المفادات وقد كان مرشدهم الى ذلك والمقدم فيهم (حامل اللواء) إذا لم يكن هياباً بما شاهده من لغط وصخب وضوضاء وصهيل وجحفل مجر يتبعه جيش لجب وقد اخذ ابن ميسون عليهم اقطار الارض وآفاق السماء .

(1) الاغاني ج 7 ص 37 ترجمة كثير .
(2) سورة يوسف : الآية 31 .
العباس عليه السلام189

بجحافل بالطف أولها واخيرها بالشام متصل

فلا يرى الا وجوهاً عابسة كل يتحرى استئصال شافة الامامة وازهاق من يجنح إليها و«قمر الهاشميين» اسرة وجهه تشرق كالبدر المنير ، لأنه عليه السلام يجد ببصيرته الهادية له الى المفادات قرب الاجل المضروب وحصول الضالة المنشودة وهذا كله بعد العلم بأنه إذا فارق اخاه في ذلك الموقف يكون في سعة من الخطر .
وانا لكبر موقفه وثباته حينما قال لهم أبو عبد الله عليه السلام «هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا فأنتم في اذن منّي فان القوم لم يطلبوا غيري ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرقوا في سوادكم هذا»(1) .
هنا كان العباس الشرف والحفاظ موقفه المشهود الذي أظهر فيه من قوة الايمان وغزارة العلم وعوامل الشهامة ما أوقف جوالة الفكر وحيرة نفاذة الحلم حيث ابتدر الجماعة بقوله : «ولم نفعل ذلك لا أبقانا الله بعدك» وتابعه

(1) الطبري ج 6 ص 238 وابن نماص 26 .
العباس عليه السلام190

الهاشميون الصفوة والصحب الاكارم(1) متخذين قوله حقيقة راهنة من معلم هذبته المعرفة وبصرته التجارب وانه لم يرد بقوله الا التضحية الخالصة والسعادة الخالدة فأجابوا بما انحنت عليه الاضالع من إيثار موتة العز دون سبط الرسول على حياة مخدجة بعده وان كانت محفوفة بنعومة من العيش .
فقال آل عقيل : قبّح الله العيش بعدك نفديك بأنفسنا وأهالينا .
وقال ابن عوسجة : لو لم يكن معي سلاح لقذفتهم بالحجارة حتى أموت دونك .
وقال سعيد الحنفي أنحن نخلي عنك لا والله حتى يعلم الله انا قد حفظنا وصية رسول الله فيك ولو علمت اني اقتل ثم احيى ثم اقتل ثم احرق حيّاً ثم اذرى يفعل بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك وكيف لا أفعل ذلك وانما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً .
وتكلم الجماعة بما يشبه ذلك .

(1) الطبري ج 6 ص 239 وارشاد المفيد ص 231 .
العباس عليه السلام191

فأجادوا الجواب واخترطوا البيـ ـض اهتياجاً الى جلاد الاعادي
وانثنـوا للـوغى غضاب اسود عصفت في العدي بصرصر عاد
حرسوه حتى احتسوا جرع المو ت ببيض الضبـا وسمر الصعاد
سمحوا بالنفـوس في نصرة الد ين وادوا في الله حـق الجـهـاد

وبعد أن عرف الحسين منهم صدق النية والاخلاص في المفادات أوقفهم على غامض القضاء وقال اني اقتل وكلكم تقتلون حتى القاسم وعبد الله الرضيع الا السجاد فانه أبو الأئمة ثم كشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان وعرفهم منازلهم فيها(1) وليس ذلك في القدرة الالهية بعزيز ولا في تصرفات الامام بغريب ولقد حكى المؤرخون وقوع نظير هذا لسحرة فرعون لما آمنوا بموسى عليه السلام وأراد فرعون قتلهم فانهم شاهدوا منازلهم في الجنة(2) .

(1) الخرايج بالمعنى : ص 231 واسرار الشهادة ص 400 .
(2) اخبار الزمان ص 247 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي