العباس عليه السلام211

ثم قال عليه السلام :
(أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل) .
هاهنا أثبت لابي الفضل منزلة التسليم التي هي من أقدس منازل السالكين وفوق مرتبة الرضا والتوكل فان أقصى مرتبة الرضا ان يكون محبوب المولى سبحانه محبوباً له موافقاً لطبعه فالطبع ملحوظ فيه واقصى مراتب التوكل ان ينزل نفسه بين يدي المولى سبحانه وتعالى منزلة الميت بين يدي الغاسل بحيث لا ارادة له الا ما يفعله الغاسل به فصاحب التوكل مسلوب الارادة واما صاحب التسليم فلا يرى لغير الله وجوداً مع الله فضلاً عن نفسه ولا يكون له طبع يوافق او يخالف في الارادة او نفساً قد تنفست بالارادة فهو قريب من عالم الفناء وهذه المرتبة فوق مرتبة التوكل التي هي فوق مرتبة الرضا لا تحصل الا بالبصيرة النافذة والوصول الى اعلى مراتب اليقين تلك المرتبة التي اخبر عنها أمير المؤمنين عليه السلام «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً» .
أما العناوين الثلاثة وهي «التصديق والوفاء والنصيحة» فلا شك ان الامام يريد أن ابا الفضل في أرقى مراتبها لانبعاثها عن التسليم وهو حق اليقين فانه المناسب لتصديقه

العباس عليه السلام212

بأخيه الحجة وبنهضته في ذلك الموقف الحرج وهكذا وفاؤه ونصيحته فان وفاء شخص لآخر كما يمكن ان يكون لأجل الاخوة والرحم والصحبة ويمكن ان يكون لأجل المعرفة التامة بما أوجب الله له من الحرمة والحق على الامة .
وحيث ان الامام اثبت لابي الفضل أرقى مرتبة السالكين وهي التسليم اللازم لحق اليقين فلا بد ان يكون ما صدر منه من التصديق بنهضة أخيه والوفاء لحقه والمناصحة في العمل منبعثاً عن حق اليقين بذلك الامر الواجب لا لأجل ان الحسين اخوه أو رحمه أو ابن رسول الله فان هذه المرتبة وان مدح عليها الشخص الا ان المرتبة الاولى أرقى وأرفع ولا ينالها الا ذوو النفوس القدسية ممن وجبت لهم العصمة .
ويؤيد ذلك تعقيب العناوين الثلاثة بقوله عليه السلام (لخلف النبي المرسل) فانه لو لم يرد هذا لقال في الخطاب لاخيك أو للحسين أو لابن أمير المؤمنين فالتعبير بخلف النبي لا يراد منه الا ان الدافع لأبي الفضل على التسليم والتصديق والوفاء والنصيحة بالمفادات الا كون الحسين إماماً مفروض الطاعة وهذا مغزى لا يبعث إليه الا البصيرة المميزة لشرف الغايات المتحرية لكرائمها .
ثم ان من تخصيص الامام الخطاب له دون غيره من

العباس عليه السلام213

الشهداء بقوله «لعن الله من جهل حقك واستخف بحرمتك» نعرف ان غيره من الشهداء لم يدرك هذا المدى وان كان لكل منهم حقاً وحرمة الا ان شبل أمير المؤمنين كانت معارفه أوسع وإيمانه أثبت فكان له حق في الدين وحق على الامة لا ينكر فاستحق بكل منهما اللعن على جاهله والمستخف به فالشهداء وان اخلصوا في التضحية والمفادات وكان منبعثاً عن طهارة الضمائر والمعرفة بحق الامام فلهم حقوق وحرمات لكن لحق العباس منعة بين هاتيك الحقوق ولحرمته بذخ بين تلك الحرمات بعدما ثبت منهما لاخيه الامام المظلوم لنفوذ بصيرته وصلابة إيمانه بنص الصادق .
ثم قال الصادق عليه السلام في الزيارة المتلوة داخل الحرم :
(أشهد واشهد الله انك مضيت على ما مضى به البدريون) .
لقد جرى التشبيه بالبدريين مجرى التقريب الى الاذهان في الاشادة بموقف أبي الفضل من البصيرة فان أهل بدر اظهر افراد اهل البصائر لانهم قابلوا طواغيت قريش على حين ضعف في المسلمين وقلة في العدة والعتاد فلم يملكوا الا فرسين احدهما لمرثد بن مرثد الغنوي والآخر للمقداد بن

العباس عليه السلام214

الاسود الكندي وكانوا يتعاقبون على سبعين بعير الاثنان والثلاثة(1) .
لكنهم خاضوا غمرات الموت تحت راية النبوة بقوة الايمان وعتاد البصيرة الا من استولى الرين على قلبه فردوا سيوف قريش مفلولة ورماحهم محطمة وجموعهم بين قتلى واسرى ومشردين فحظوا بأول فتح اسلامي قويت به دعائمه وشيدت معالمه من الامداد بخمسة آلاف من الملائكة مسومين(2) .
وأعظم من ذلك مشهد الطف الذي التطمت فيه أمواج الموت وكشفت الحرب عن ساقها وكشفت عن نابها .
وللاخطـار وجـه مكفـهـر يشيب لهوله المردي الغلام
ترى الابطال من فرق سكارى يدار من الردى فيهم مـدام

فقابلهم عصبة الحق من غير مدد يأملونه أو نصرة

(1) شرح النهج الحديدي ج 3 ص 319 و320 .
(2) سورة آل عمران 124 .
العباس عليه السلام215

يرقبونها والعطش معتلج بصدورهم ونشيج الفواطم من ورائهم فتلقوا جبال الحديد بكل صدر رحيب وجنان طامن فلم تسل تلك النفوس الطاهرة الا على قتل أمية المنقوض ولا اريقت دماؤهم الزاكية الا على حبلهم المنتكث فلم تبرح آل حرب الا كلعقة الكلب انفه حتى اكتسحت معرتهم من اديم الأرض وتفرقوا أيدي سبا فيوم الطف فتح اسلامي بعد الجاهلية المستردة من جراء اعمال الامويين(1) .
وإليه أشار الإمام الشهيد في كتابه الى بني هاشم لما حل أرض كربلاء (من لحق بنا منكم استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح)(2) .
فانه عليه السلام لم يرد بالفتح الا ماترتب على نهضته المقدسة وتضحيته الكريمة من نقض دعائم الالحاد وكسح اشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهرة واحياء دين جده

(1) لقد اجاد العلامة السيد باقر نجل آية الله السيد محمد الهندي رحمه الله اذ يقول :
لو لم تكن جمعت كل العلا فينا لكان ما كان يوم الطف يكفينا
يوم نهضنا كأمثال الأسـود به و أقبلت كالدبـا زحفاً أعادينا
جاؤوا بسبعين ألفـاً سل بقيتهم هل قابلونا وقد جئنـا بسبعينا
(2) كامل الزيارة ص 75 .
العباس عليه السلام216

الصادع به الذي لاقى المتاعب في تأييده وتشييده .
وأنت أيها البصير اذا استشففت الحادثة من وراء نظارة في التنقيب تجد سيدنا أبا الفضل سيد القوم بعد أخيه السبط وهو المسدد لهم في النضال .
كما ان الباحث اذا اعطى النظر حقه يجد ضحايا (الطف) أشد انقطاعاً عن المدد من مجاهدي يوم بدر وابلغ بأساً واقل عدداً مع اكتناف الكوارث بهم واعواز الملجأ اكثر مما احتف بأهل بدر مع ان المناوئين لشهداء (الطف) أوفر عدداً وأقوى عتاداً وأوثق مدداً . وان لهم دولة مؤسسة تنضددت جحافلها وخفقت بنودها وتواصلت قواتها بخلاف الحالة يوم بدر فلقد كان المحاربون للمسلمين شتات من طواغيت العرب حداهم الى الحرب بواعث الحقد والنخوة ومن المحتمل القريب انحلال جامعتهم اذا ضربت الحرب عليهم بجرانها لأنهم كانوا يفقدون أي مدد من القبائل ولم يخرجوا متأهبين للاستمداد حيث ظنوا خوراً في المسلمين وحسبوا استئصال شأفتهم وانهم كشربة ماء (ولكن لا مبدّل لحكم الله تعالى) .
فالموقف يوم الطف احرج والكرب أكثر والمقاسات اصعب وبقدر المشقة تجري الاجور وتقسم الفضائل فشهداء

العباس عليه السلام217

كربلا أولى بالفضيلة .
وضرب الامام عليه السلام المثل لهم بأهل بدر اذ يقول (انك مضيت على ما مضى به البدريون) لا يوجب فضيلة أهل بدر عليهم كما هي قاعدة التشبية وانما ذلك من باب التقريب الى الافهام كما في قوله تعالى «مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح»(1) .
وأين من النور الالهي المشكاة ومصباحها ولكن لما لم تدرك الابصار ذلك النور الاقدس وانما تدركه البصائر ضرب الله تعالى المثل بما يدركونه تقريباً للاذهان وهكذا الحال فيما نحن فيه .
والى هذه الدقيقة وقع الايعاز منه عليه السلام فيما بعد هذه الفقرة من الزيارة بقوله عليه السلام :
«فجزاك الله أفضل الجزاء وأكثر الجزاء وأوفر الجزاء وأوفى جزاء أحد ممن وفى في بيعته واستجاب له دعوته واطاع ولاة أمره» .
فلو كان في المجاهدين من هو أوفر فضلاً من أبي الفضل العباس لكان هذا الدعاء أو الاخبار عن امره شططاً من القول خارجاً عن ميزان العدل تعالى عنه كلام المعصوم فاذن لم يكن غيره من المجاهدين مطلقاً أوفر فضلاً ولا أكثر

(1) سورة النور ، آية : 35 .
العباس عليه السلام218

جزاء ولا أوفى بيعة الا من اخرجه الدليل من الائمة المعصومين .
ثم ان هناك مرتبة اخرى ثبتت لابي الفضل خصه بها الامام الصادق عليه السلام بقوله :
«أشهد انك قد بالغت في النصيحة واعطيت غاية المجهود فبعثك الله في الشهداء وجعل روحك مع أرواح السعداء واعطاك من جنانه أفسحها منزلاً وأفضلها غرفاً» .
فان المبالغة في امثال المقام عبارة عن بلوغ الامر الى حدوده اللازمة وكم له من نظير في استعمالات العرب ومحاوراتهم ولا شك ان كل واحد من شهداء الطف قد بالغ في النصيحة ولم يأل جهداً في أداء ما وجب عليه ولكل منهم في ذلك المشهد الدامي شواهد من أقواله واعماله .
ومن المسلم ان المعروف بقدر المعرفة كماً وكيفاً فصاحب السنام الأرفع في العرفان المتربع على اعلى منصة من الإيمان لا بد وان يقاسي أشد ضروب الجهاد ويتظاهر بأجمل مظاهرها من الدؤوب على الحرب والضرب وان طال المدى وبعد الأمد ان كان الجهاد نضالاً كما لا بد له من المثابرة على مكافحة النفس الامارة وكسر شوكتها ورد صولتها وكبح جماحها وترويض النفس بالطاعة والزامها بلوازمها

العباس عليه السلام219

الشاقة طيلة حياته ان كان الجهاد نفسياً .
وفي هذين الحالتين لا بد وان يكتنف العمل المقارنات المطلوبة مثل نية القربة والاخلاص فيها المنبعث عن حب المولى سبحانه الهادي الى معرفة تؤهله الى الطاعة وعن معرفة نعم الباري عز وجل الواجب شكرها وعن الهيبة الناشئة عن لحاظ عظمته الى أمثال هذه من الملحوظات .
وقصارى القول كما ان مراتب الايمان والمعرفة متفاوتة مقولة بالتشكيك كذلك مراتب العمل متفاوتة حسب تفاوت تلك المراتب فصاحب عمل كل مرتبة محدود بحدودها .
وحينئذ فلا شك ان كل واحد من شهداء الطف وان بلغ الغاية في الجهاد وادى حق النصيحة لكن (شهيد العلقمي) لما كانت بصيرته أنفذ وعلمه أوفر وإيمانه أثبت كان مداه ابعد وغايته أسمى وحدوده أوسع ولذلك خاطبه الصادق عليه السلام بهذا الخطاب وخصّه بالمبالغة في التضحية فكان هذا كفضيلة مخصوصة به لأن هاتيك المراتب الراقية لم توجد في غيره .
ولعل من ناحية هذه المراتب الثلاث ثبت له عليه السلام حق في الدين وحق على الامة وحرمة لا تنكر فاستحق ان يخاطبه الامام في سلام الاذن بقوله :

العباس عليه السلام220

(لعن الله من جهل حقّك واستخف بحرمتك)
وهناك درجة أربى وأربع أشار إليها الصادق بقوله :
(ورفع ذكرك في عليّين) .
فان «حامي الشريعة» لم يبرح مواصلاً في الخدمات حتى اقبل الى الله تعالى متلفعاً بدم الشهادة شهادة صك نبؤها مسامع الملكوت حتى اشرأب له هنالك من أنبياء ومرسلين وحجج معصومين وملائكة مقربين وحور وولدان وأرواح مقدسة ومقدسات زاكيات طيبات فلم يلق عليه السلام في صعوده إليهم الا ثغوراً باسمة ووجوهاً مستبشرة وايذاناً له بالبشرى الخالدة ونعيم الابد فطفق يرفل بين ذلك الجيل القدسي الزاهر بنور العصمة ورونق العلم وهيبة العظمة وسمات الجلالة وشارات النزاهة وبهجة العطف الالهي وبهاء النظر الى الجلال السرمدي والاتصال بالرضوان الاكبر وعليه ابهة الولاء وجلالة الطاعة وبلج التضحية وزلفى المفادات وزهو العلم والعمل ولذكره في ذلك المنتدى الرهيب رفعة ومنعة وإليه يشير الامام الصادق عليه السلام في لفظ الزيارة (ورفع ذكرك في عليين) .
فان الغرض من هذا التعبير ليس الا ما شرحناه لا مجرد صعود ذكره الطيب الى ذلك الملأ الأرفع شأن كل صالح في

العباس عليه السلام221

عالم الوجود لكن الشأن كله ان يكون لذكر ما لمجيد هنالك بذخ واكبار فيرمقه كل طرف بنظر الاجلال ويسمع الهتاف به باذن التقدير وتنعقد الضمائر على تقديسه ولو أراد الامام مجرد ذكره الى ذلك العالم القدسي لقال في الخطاب (ورفع ذكرك الى عليين) ولكن حيث انه أراد رفع الذكر بين أفراد اولئك الذين اختص محلهم فيه جاء بفاء الظرفية فقال (في عليين) .
وأما قوله عليه السلام في الزيارة التي رواها المجلسي في مزار البحار ص 165 عن مزار الشيخ المفيد وابن المشهدي .
«لعن الله امة استحلت منك المحارم وانتهكت فيك حرمة الاسلام» .
فيرشدنا الى مكانة سامية لابي الفضل تصعد به الى فوق مرتبة العصمة فانا لم نجد مثل هذا الخطاب في أي واحد من الشهداء مع بلوغهم اعلى مرتبة الفضل التي لم يحزها اي شهيد غيرهم حتى استحقوا ان يخاطبهم الامام في زيارة النصف من رجب بقوله (السلام عليكم يا مهديون السلام عليكم يا طاهرون من الدنس) ويقول أيضاً (طبتم وطابت الارض التي فيها دفنتم) .

العباس عليه السلام222


بل لم يخاطب بمثل ذلك علياً الأكبر الذي لا شك في عصمته ومنه يظهر ان للعباس منزلة ومقاماً يشارف مقام الحجج المعصومين عليهم السلام تناط به حرمة الاسلام كما تناط بهم صلوات الله عليهم وانها تنتهك بمثله كما تنتهك بمثلهم عليهم السلام وهذا مقام فوق العصمة المرجوة له .

العباس عليه السلام223

العباس في نظر الأئمة

اني لا أحسب القارئ في حاجة الى الافاضة في هذه الغاية بعدما اوقفناه على مكانة أبي الفضل عليه السلام من العلم والتقى والملكات الفاضلة من اباء وشمم وتضحية في سبيل الهدى وتهالك في العبادة فان أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام يقدرون لمن هو دونه في تلكم الاحوال فضله فكيف به وهو من لحمتهم وفرع أرومتهم وغصن باسق في دوحتهم وقد اثبت له الامام السجاد منزلة كبرى لم ينلها غيره من الشهداء ساوى بها عمه الطيار فقال عليه السلام :
رحم الله عمّي العباس بن علي فلقد آثر وابلى وفدى اخاه بنفسه حتى قطعت يداه فأبدله الله بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب وان للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع

العباس عليه السلام224

الشهداء يوم القيامة(1) .
ولفظ الجميع يشمل مثل حمزة وجعفر الشاهدين للانبياء بالتبليغ واداء الرسالة وقد نفى البعد عنه العلامة المحقق المتبحر في الكبريت الاحمر ص 47 ج 3 .
ولعل ما جاء في زيارة الشهداء يشهد له (السلام عليكم أيها الربانيون انتم لنا فرط ونحن لكم تبع وانصار وانتم سادة الشهداء في الدنيا والآخرة)(2) .
وكذلك قوله عليه السلام فيهم انهم لم يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق(3) .
فقد اثبت لهم السيادة على جميع الشهداء وانهم لم يسبقهم ولا يلحقهم أي أحد وأبو الفضل في جملتهم بهذا التفضيل وقد انفرد عنهم بما اثبته له الامام السجاد من المنزلة التي لم تكن لاي شهيد .
ولهذه الغايات الثمينة والمراتب العليا كان أهل البيت عليهم السلام يدخلونه في أعالي أمورهم ما لا يتدخل فيه

(1) الخصال ج 1 ص 68 في باب الاثنين ح 101 وفيه : بها .
(2) مزار البحار ص 149 من كامل الزيارة .
(3) المنتخب للطريحي .
العباس عليه السلام225

انسان عادي فمن ذلك مشاطرته الحسين في غسل الحسن(1) .
وأنت بعدما علمت مرتبة الامامة وموقف صاحبها من العظمة وانه لا يلي امره الا إمام مثله فلا ندحة لك الا الايمان بأن من له أي تدخل في ذلك بالخدمة من جلب الماء وما يقتضيه الحال اعظم رجل في العالم بعد أئمة الدين فان جثمان المعصوم عند سيره الى المبدأ الأعلى تقدست أسماؤه لا يمكن أن يقرب أو ينظر إليه من تقاعس عن تلك المرتبة اذ هو مقام قاب قوسين أو أدنى ذلك الذي لم يطق الروح الأمين ان يصل إليه حتى تقهقر وغاب النبي الاقدس في سبحات الملكوت والجلال وحده الى ان وقف الموقف الرهيب .
وهكذا خلفاء النبي صلى الله عليه وآله المشاركون له في المآثر كلها ما خلا النبوة والازواج(2) ومنه حال انقطاعهم عن عالم الوجود بانتهاء أمد الفيض المقدس .
ومما يشهد له ان الفضل بن العباس بن عبد المطلب كان يحمل الماء عند تغسيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم

(1) ذخائر العقبى ص 141 .
(2) في الحديث عن الصادق عليه السلام انا ورثنا رسول الله فما كان له لنا الا النبوة والازواج .
العباس عليه السلام226

معاوناً لأمير المؤمنين عليه السلام على غسله ولكنه عصب عينيه خشية العمى ان وقع نظرة على ذلك الجسد الطاهر .
ومثله ما جاء في الاثر عن الاشراف على ضريح رسول الله حذراً ان يرى الناظر شيئاً فيعمى(1) وقد اشتهر ذلك بين أهل المدينة فكان إذا سقط في الضريح شيء انزلوا صبياً وشدوا عينيه بعصابة فيخرجه .
وهذه أسرار لا تصل إليها أفكار البشر وليس لنا الا التسليم على الجملة ولا سبيل لنا الى الانكار بمجرد بعدنا عن ادراك مثلها خصوصاً بعد استفاضة النقل في ان للنبي والأئمة بعد وفاتهم احوالاً غريبة ليس لسائر الخلق معهم شركة كحرمة لحومهم على الارض وصعود أجسادهم الى السماء ورؤية بعضهم بعضاً واحيائهم الاموات منهم بالاجساد الاصلية عند الاقتضاء اذ لا يمنع العقل منه مع دلالة النقل الكثير عليه واعتراف الاصحاب به(2) فيصار التحصل

(1) مرآة العقول ج 1 ص 373 .
(2) قال الشيخ المفيد في المقالات ان الأئمة يسمعون كلام المناجي لهم عند مراقدهم المعظمة ولا تخفى عليهم احوال شيعتهم في دار الدنيا اعلاماً من الله لهم حالاً بعد حال .
ووافقه عليه الكراجكي في كنز الفوائد والمجلسي في مرآة العقول ج 1 ص 373 والشيخ كاشف الغطاء ص 51 في رسالته منهج الرشاد وفي دار

=

العباس عليه السلام227

ان الحواس الطاهرة العادية لا تتحمل مثل تلك الامثلة القدسية وهي في حال صعودها الى سبحات القدس الا نفوس المعصومين بعضها مع بعض دون غيرهم مهما بلغ من الخشوع والطاعة .
لكن (عباس المعرفة) الذي منحه الامام في الزيارة أسمى صفة حظى بها الأنبياء والمقربون وهي (العبد الصالح) تسنى له التوصل الى ذلك المحل الأقدس من دون أن يذكر له تعصيب عين أو اغضاء طرف فشارك السبط الشهيد والرسول الأعظم ووصيه المقدم مع الروح الامين وجملة الملائكة في غسل الامام المجتبى الحسن السبط صلوات الله عليهم اجمعين(1) .

= السلام ج 1 ص 289 ان لحومهم محرمة على الأرض وانها ترتفع الى السماء بعد ثلاثة أيام وحكى عن الشيخ الاعظم قدوة السالكين المولى فتح علي بن المولى حسن السلطان آبادي انه لما زار أمير المؤمنين عليه السلام ورجع الى مشهد الحسين اسف على عدم مذاكرته مع علماء النجف في مسألة بقاء جسد الامام طرياً او انه يبلى فراى في المنام انه داخل الى الروضة فرأى جسداً موضوعاً على الحصير والدم يجري من أعضائه فسأل عنه ، قيل أنّه جسد الحسين أماعلمت أن أجسادهم لا تُبلى .
(1) روي الصفار في بصائر الدرجات عن الباقر عليه السلام ان امير المؤمنين شاهد جبرائيل والملائكة يعينونه على غسل النبي وتكفينه وحفر القبر ونزولهم معه في القبر وكذا شاهدهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسن والحسين يعينونهما على غسل امير المؤمنين وتكفينه وشاهدهم الحسين مع النبي وأمير المؤمنين يعينونه على غسل الحسن وشاهدهم الباقر مع النبي

=

العباس عليه السلام228

وهذه هي المنزلة الكبرى التي لا يحظى بها الا ذوو النفوس القدسية من الحجج المعصومين ولا غرو ان غبط أبا الفضل الصديقون والشهداء الصالحون .
وإذا قرأنا قول الحسين للعباس لما زحف القوم على مخيمه عشية التاسع من المحرم «اركب بنفسي أنت يا أخي» حتى تلقاهم وتسألهم عما جاءهم فاستقبلهم العباس في عشرين فارساً فيهم حبيب وزهير وسألهم عن ذلك فقالوا ان الامير يأمر اما النزول على حكمه أو المنازلة فأخبر الحسين فأرجعه ليرجئهم الى غد(1) .
فانك ترى الفكر يسف عن مدى هذه الكلمة وانى له أن يحلق الى ذروة الحقيقة من ذات مطهرة تفتدى بنفس الامام علة الكائنات وهو الصادر الاول والممكن الاشرف والفيض الاقدس للممكنات (بكم فتح الله وبكم يختم)(2) .
نعم عرفها البصير الناقد بعد أن جربها بمحك النزاهة فوجدها غير مشوبة بغير جنسها ثم اطلق تلك الكلمة الذهبية

= وأمير المؤمنين والحسن والحسين يعينونه على غسل أبيه السجاد .
(1) الطبري ج 6 ص 237 .
(2) زيارة الجامعة من كتاب مفاتيح الجنان : ص 1014 ط الوفاء .

السابق السابق الفهرس التالي التالي