العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 203

« ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أول وقتها.. »
وأمر الاِمام ( عليه السلام ) أصحابه أن يطلبوا من معسكر ابن زياد أن يكفّوا عنهم القتال ليصلّوا لربّهم ، فسألوهم ذلك فانبرى الرجس الخبيث الحصين ابن نمير قائلاً: « أنها لا تقبل » فقال لهُ حبيب بن مظاهر بسخرية:
« زعمت أن لا تقبل الصلاة من آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقبل منك يا حمار!! ».
وحمل عليه الحصين فسارع إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فثبت به الفرس فسقط عنها ، وبادر إليه أصحابه فاستنقذوه(1).
واستجاب أعداء الله ـ مكيدة ـ لطلب الاِمام فسمحوا له أن يؤدّي فريضة الصلاة ، وانبرى الاِمام للصلاة ، وتقدّم أمامه سعيد بن عبدالله الحنفي يقيه بنفسه السهام والرماح واغتنم أعداء الله انشغال الاِمام وأصحابه بالصلاة فراحوا يرشقونهم بسهامهم وكان سعيد الحنفي يبادر نحو السهام فيتقيها بصدره ونحره ، ووقف ثابتاً كالجبل لم تزحزحه السهام ، ولا الرماح والحجارة التي اتخدته هدفاً لها ولم يكن يفرغ الاِمام من صلاته حتى أثخن سعيد بالجراح فهوى إلى الاَرض يتخبّط بدمه وهو يقول:
« اللهمّ العنهم لعن عاد وثمود ، وأبلغ نبيّك منّي السلام ، وابلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت بذلك ثوابك ونصرة ذريّة نبيّك.. »
والتفت إلى الاِمام قائلاً له بصدق وإخلاص:
« أوفيت يا بن رسول الله؟. ».

(1) تأريخ ابن الاَثير 3: 291.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 204

فأجابه الاِمام شاكراً له:
« نعم أنت أمامي في الجنّة.. ».
وملئت نفسه فرحاً حينما سمع قول الاِمام ، ثم فاضت نفسه العظيمة إلى بارئها فقد أصيب بثلاثة عشر سهماً عدا الضرب والطعن(1) وكان هذا منتهى ما وصل إليه الوفاء ، والاِيمان ، والولاء للحقّ.

مصرع بقيّة الاَنصار:

وتسابقت البقيّة الباقية من أصحاب الاِمام من شيوخ وشباب ، وأطفال إلى ساحات المعركة ، وقد أبلوا بلاءً حسناً يقصر عنه كل وصف واطراء ، وقد جاهدوا جهاداً لم يعرف التأريخ له نظيراً في جميع عمليات الحروب التي جرت في الاَرض ، فقد قابلوا على قلّة عددهم الجيوش المكثفة ، وانزلوا بها أفدح الخسائر ، ولم تضعف لاَي رجل منهم عزيمة ، ولم تلن لهم قناة ، وقد خضبوا جميعاً بالدماء ، وهم يشعرون الغبطة ، ويشعرون بالفخار.
وقد وقف الاِمام العظيم على مصارعهم ، فكان يتأمّل بوجهه الوديع فيهم ، فيراهم مضمخين بدم الشهادة ، فكان يقول:
« قتلة كقتلة النبيّين وآل النبيّين.. »(2).
لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الاَعلى ، وقد حازوا الفخر الذي لا فخر مثله ، فقد سجلوا شرفاً لهذه الاَمة لا يساويه شرف ، وأعطوا للاِنسانية أفضل ما قُدّم لها من عطاء على امتداد التأريخ.

(1) مقتل الحسين للمقرم : 297.
(2) حياة الاِمام الحسين 3: 239.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 205

وعلى أيّ حال فقد شارك أبو الفضل العبّاس الاَنصار الممجدين في جهادهم وخاض معهم غمار الحرب ، وكانوا يستمدّون منه البسالة ، وقوّة الاِرادة والعزم على التضحية ، وقد أنقذ بعضهم حينما وقع عليه التفاف من بعض قطعات الجيش الاَموي.


مصارع آل النبيّ:

وبعدما سقطت الصفوة الطيّبة من أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) صرعى وهي معطرة بدم الشهادة والكرامة ، هبّت أبناء الاَسرة النبوية كالاَسود الضارية للدفاع عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والذبّ عن عقائل النبوة ومخدّرات الرسالة ، وأول من تقدّم إلى البراز منهم شبيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خلقاً وخُلقاً عليّ الاَكبر ( عليه السلام ) فقد آثر الموت وسخر من الحياة في سبيل كرامته ، ولا يخضع لحكم الدعيّ ابن الدعيّ ، ولما رآه الاِمام أخذ يطيل النظر إليه ، وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات ، وأشرف على الاحتضار ، فرفع شيبته الكريمة نحو السماء وراح يقول بحرارة وألم ممض:
« اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمّد ( صلى الله عليه وآله ) خلقاً وخُلُقاً ومنطقاً ، وكنّا اذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه... اللهمّ امنعهم بركات الاَرض وفرقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبداً ، فانّهم دعونا لينصرونا ، ثم عدّوا علينا يقاتلوننا... ».
لقد تجسّدت صفات الرسول الاَعظم النفسية والخلقية بحفيده عليّ الاَكبر ( عليه السلام ) ، وأعِظم بهذه الثروة التي ملكها سليل هاشم وفخر عدنان ، وقد تقطع قلب الاِمام ( عليه السلام ) على ولده ، فصاح بابن سعد:

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 206

« مالك قطع الله رحمك ، ولا بارك لك في أمرك ، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم تلا قوله تعالى:«ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم» (1) ..» .
وشيّع الاِمام ( عليه السلام ) فلذة كبده وهو غارق بالاَسى والحسرات وخلفه عقائل النبوة ، وقد علا منهنّ الصراخ والعويل على شبيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي ستتناهب شلوه السيوف والرماح وبرز الفتى مزهواً إلى حومة الحرب ، لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وهو يحمل هيبة جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وشجاعة جدّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبأس حمزة عمّ أبيه ، واباء الحسين ، وتوسّط حراب الاَعداء ، وهو يرتجز بفخر وعزّة قائلاً:
أنا عليّ بن الحسين بن علي نحن وربّ البيت أولى بالنبيّ

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي(2)

أجل ـ يا بن الحسين ـ فخر هذه الاَمة ، ورائد نهضتها وكرامتها ، أنت وأبوك أحقّ بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وأولى بمركزه ومقامه من هؤلاء الاَدعياء الذين حوّلوا حياة المسلمين إلى جحيم لا يطاق.
وأعلن عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) في رجزه عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وانّه يؤثر الموت على الذلّ والخنوع للدعي ابن الدعيّ ، وقد ورث هذه الظاهرة من أبيه سيّد الاَباة في الاَرض ، والتحم فخر هاشم مع أعداء الله ، وقد ملاَ قلوبهم رعباً وفزعاً ، وقد أبدى من الشجاعة والبسالة ما يقصر

(1) سورة آل عمران: 33.
(2) تأريخ ابن الاَثير 3: 293.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 207

عنه الوصف ، ويقول المؤرّخون: انّه ذكرهم ببطولات جدّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي هو أشجع إنسان خلقه الله ، فقد قتل فيما يقول المؤرّخون مائة وعشرين فارساً(1) سوى المجروحين ، وألحّ عليه العطش ، واُضر به الظمأ فقفل راجعاً إلى أبيه يطلب منه جرعة من الماء ، ويودعه الوداع الاَخير واستقبله أبوه بأسى ، فبادر عليّ قائلاً:
« يا أبة العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل الى شربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الاَعداء ، .. ».
والتاع الاِمام كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة ، فقال له بصوت خافت ، وعيناه تفيضان دموعاً:
« واغوثاه ، ما أسرع الملتقى بجدّك ، فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً.. ».
وأخذ لسانه فمصّه ليريه ظمأه فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه(2).
لقد كان هذا المنظر الرهيب من أقسى ما فجع به ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لقد رأى فلذة كبده وهو في ريعان الشباب وغضارة العمر كالبدر في بهائه قد استوعبت الجراحات جسمه الشريف ، وقد اشرف على الموت من شدّة العطش ، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ، يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق:
يشكـو لخير أب ظماه وما اشتكى ظمأ الحشا الا الى الظامي الصدي
كُـلِّ حـشاشتـه كـصالية الغضا ولسـانـه ظـمأ كـشقّة مبـرد


(1 و2) مقتل الخوارزمي 2: 30.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 208

فانصاع يؤثره عليه بريقه لو كان ثمة ريقة لم يجمد

وقفل فخر هاشم إلى ساحة الحرب ، قد فتكت الجروح بجسمه الشريف وفتت العطش قلبه ، وهو لم يحفل بما هو فيه من آلام لا تطاق ، وانما استوعبت مشاعره وعواطفه وحدة أبيه يراه وقد أحيط به من كل جانب ومكان ، وجميع قطعات الجيش متعطشة إلى سفك دمه لتتقرب به إلى ابن مرجانة ... وجعل عليّ بن الحسين يرتجز أمام الأعداء :
الحـرب قد بانت لها حقائق وظهرت من بعدها مصادق
والله رب العرش لا نفارق جموعكم أو تغمد البوارق (1)

لقد تجلت حقائق الحرب ، وبرزت معالمها وأهدافها بين الفريقين ، فالإمام الحسين إنما يناضل من أجل رفع الغبن الاجتماعي ، وضمان حقوق المظلومين والمضطهدين وتوفير الحياة الكريمة لهم ، والجيش الأموي انما يقاتل من أجل استعباد الناس وجعل المجتمع بستاناً للامويين يستغلون جهودهم ، ويرغمونهم على ما يكرهون ، وأعلن علي بن الحسين ـ في رجزه ـ أنه سيبقى يناضل عن الأهداف النبيلة والمبادئ العليا حتى تغمد البوارق .
وجعل نجل الحسين يقاتل أشد القتال وأعنفه حتى قتل تمام المائتين (2) وقد ضج العسكر من شدة الخسائر الفادحة التي مُني بها ، فقال الرجس الخبيث مرة بن منقذ العبدي عليّ آثام العرب إن لم أثكل أباه (3) وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله فطعنه بالرمح في ظهره

(1) حياة الامام الحسين 3 : 247 .
(2) مقتل الخوارزمي 2 : 31 .
(3) مقتل المقرم : 316 .
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 209

وضربة ضربة غادرة بالسيف على رأسه ، ففلق هامته فاعتنق الفتى فرسه ظنا منه أنه سيرجعه إلى أبيه ليودعه الوداع الأخير إلا أن الفرس حمله إلى معسكر الأعداء ، فأحاطوا به من كل جانب ، فقطعوه بسيوفهم إربا إربا تشفيا منه لما ألحقه بهم من الخسائر الفادحة ، ورفع الفتى صوته :
« عليك مني السلام أبا عبدالله ، هذا جدي رسول الله صلى الله عليه وآله قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها ، وهو يقول : ان لك كأسا مذخورة ... ».
وحمل الأثير هذه الكلمات إلى ابيه فقطعت قلبه ، ومزقت أحشاءه ففزع إليه وهو خائر القوى مهندّ الركن ، قد أشرف على الموت ، فوضع خدّه على خد ولده ، وهو جثة هامدة ، قد قطعت شلوه السيوف فأخذ يذرف أحرّ الدموع ، وهو يقول بصوت خافت قد حمل شظايا قلبه الممزق :
« قتل الله قوما قتلوك ، يا بني ما أجرأهم على الله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول على الدنيا بعدك العفا ... » (1) .
وكان العباس عليه السلام إلى جانب أخيه ، وقد ذاب قلبه وذهبت نفسه حزنا وأسى على ما حل بهم من عظيم الكارثة وأليم المصاب ، لقد قتل ابن أخيه الذي كان ملء فم الدنيا في فضائله ومآثره ، فما أعظم رزيته ، وما أجلّ مصابه !!
وهرعت الطاهرة حفيدة النبي صلى الله عليه وآله زينب عليها السلام إلى جثمان ابن أخيها فانكبت عليه تضمخه بدموعها ، وهي صارخة معولة تندبه بأشجى ما تكون الندبة قائلة :

(1) نسب قريش : 57 .
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 210

« وابن أخاه ... » .
« واثمرة فؤاداه .. » .
وأثر منظرها الحزين في نفس الإمام ، فجعل يعزيها بمصابها الأليم وهو بحالة المحتضر ، ويردد بأسى :
« على الدنيا بعدك العفا يا ولدي ... » .
لك الله يا أبا عبدالله على هذه الكوارث التي تميد بالصبر ، وتهتز من هولها الجبال ، لقد تجرعتها في سبيل هذا الدين الذي عبثت به العصابة المجرمة من الأمويين وعملائهم .

مصارع آل عقيل :
وهبت الفتية الأماجد من آل عقيل إلى الجهاد لتفدي إمام المسلمين وريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وهي ساخرة من الحياة ومستهينة بالموت وقد نظر الإمام عليه السلام إلى بسالتهم واندفاعهم بشوق إلى الذب عنه ، فقال :
« اللهم اقتل قاتل آل عقيل ، صبرا آل عقيل ان موعدكم الجنة ... » (1).
وقد ألحقوا بالعدو خسائر فادحة ، فقد قاتلوا كالأسود الضارية وعلوا بإرادتهم ، وعزمهم الجبار على جميع فصائل ذلك الجيش وقد استشهد منهم تسعة من أطائب الشباب ، ومن مفاخر أبناء الأسرة النبوية ، وفيهم يقول الشاعر :
عين جودي بعبرة وعويل واندبي إن ندبت آل الرسول


(1) حياة الإمام الحسين 3 : 249 .
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 211

سبعة كلهم لصلب علي * قد أصيبوا وتسعة لعقيل (1)
وقد صعدت أرواحهم الطاهرة إلى الفردوس الأعلى حيث مقر النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

مصارع أبناء الحسن :
وسارعت الفتية من أبناء الامام الزكي أبي محمد عليه السلام إلى نصرة عمهم والذب عنه ، وقلوبهم تنزف دماً على ما حل به من عظيم الكوارث والخطوب وكان من بينهم القاسم ، وقد وصفه المؤرخون بأنه كالقمر في جمال طلعته وبهائه وقد غذاه عمه بمواهبه ، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتى صار من أمثلة الكمال والآداب .
وكان القاسم وبقية اخوانه يتطلعون إلى محنة عمهم ، ويودون أن يردوا عنه عوادي الأعداء بدمائهم وأرواحهم ، وكان القاسم يقول : « لا يقتل عمي وأنا حي » (2) .
وانبرى القاسم يطلب الإذن من عمه ليجاهد بين يديه ، فاعتنقه الإمام ، وعيناه تفيضان دموعا ، وأبى أن يأذن له إلا أن الفتى ألح عليه ، وأخذ يقبل يديه ورجليه ليسمح له بالجهاد ، فأذن له ، وانطلق رائد الفتوة الإسلامية إلى ساحة الحرب ، ولم يضف على جسده الشريف لامة حرب ، محتقراً لأولئك الوحوش ، وقد التحم معهم يحصد رؤوسهم ، ويجندل أبطالهم كأن المنايا كانت طوع إرادته ، وبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله الذي هو أشرف من ذلك الجيش ، وأنف سليل النبوة والإمامة أن تكون

(1) المعارف : 204 .
(2) حياة الإمام الحسين 3 : 255 .
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 212

إحدى رجليه بلا نعل فوقف يشده متحديا لهم ، واغتنم هذه الفرصة كلب من كلاب ذلك الجيش وهو عمرو بن سعد الأزدي فقال : والله لأشدن عليه ، فأنكر عليه ذلك حميد بن مسلم ، وقال له :
« سبحان الله !! وما تريد بذلك ، يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم ... » .
فلم يعن الخبيث به ، وشد عليه فضربه بالسيف على راسه الشريف فهوى إلى الأرض كما تهوي النجوم صريعا يتخبط بدمه القاني ، ونادى بأعلى صوته :
« يا عماه أدركني .. ».
وكان الموت أهون على الإمام من هذا النداء ، فقد تقطع قلبه وفاضت نفسه أسى وحسرات ، وسارع نحو ابن أخيه فعمد إلى قاتله فضربه بالسيف ، فاتقاها بساعده فقطعها من المرفق ، وطرحه أرضا ، وحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلا أن الأثيم هلك تحت حوافر الخيل ، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يوسعه تقبيلا والفتى يفحص بيديه ورجليه كالطير المذبوح ، وجعل الإمام يخاطبه بذوب روحه :
« بعدا لقوم قتلوك ، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك ، عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك صوت ، والله هذا يوم كثر واتره ، وقل ناصره ... » (1).
وحمل الإمام ابن أخيه بين ذراعيه ، وهو يفحص بيديه ورجليه (2) حتى فاضت نفسه الزكية بين يديه ، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر ،

(1) البداية والنهاية 8 : 186 .
(2) حياة الامام الحسين 3 : 256 .
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 213

وسائر القتلى الممجدين من أهل بيته ، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدع قلبه ، وأخذ يدعو على السفكة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرية نبيهم ، قائلا :
« اللهم احصهم عددا ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبدا صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً ... » (1) .
وبرز من بعده عون بن عبدالله بن جعفر ، ومحمد بن عبدالله بن جعفر وأمهما العقيلة الطاهرة حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله زينب الكبرى عليها السلام وقد نالا شرف الشهادة مع حفيد النبي وريحانته ، ولم يبق بعد هؤلاء الصفوة من أهل البيت عليهم السلام إلا أخوة الإمام الحسين عليه السلام وفي طليعتهم أخوه أبو الفضل العباس عليه السلام وكان إلى جانب أخيه كقوة ضاربة يحميه من أي اعتداء عليه ، وقد شاركه في جميع آلامه وأحزانه .
* * *


(1) مقتل الخوارزمي 2 : 28 .
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 214




العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 215


على ضفاف العلقمي


العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 216




العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 217

وذاب قلب أبي الفضل أسىً وحزناً ، وودّ أن المنيّة قد اختطفته ، ولا يشاهد تلك الكوارث والخطوب التي تذهل كل كائن حيّ ، وتميد بالصبر ، ولا يقوى على تحملها أي إنسان إلاّ أولي العزم من أنبياء الله الذين امتحن الله قلوبهم للاِيمان واصطفاهم على عباده.
ومن بين تلك الكوارث المذهلة التي عاناها أبو الفضل عليه السلام أنّه كان يستقبل في كل لحظة شاباً أو غلاماً لم يراهق الحلم من أهل بيته قد مزّقت أشلاءهم سيوف الاَمويين وحرابهم ، ويسمع صراخ بنات الرسالة ، وعقائل النبوة ، وهنّ يلطمن وجوههن ، ويندبن بأشجى ما تكون الندبة أُولئك البدور الذين تضمخوا بدم الشهادة دفاعاً عن ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله ... ومن بين المحن الشاقة التي عاناها أبو الفضل عليه السلام أنّه يرى أخاه ، وشقيق روحه الاِمام الحسين عليه السلام قد أحاطت به أوغاد اهل الكوفة لتتقرّب بقتله إلى سليل الاَدعياء ابن مرجانة ، وقد زادته هذه المحن إيماناً وتصميماً على مناجزة أعداء الله ، وبذله حياته فداءً لسبط رسول الله صلى الله عليه وآله .
ونعرض ـ يإيجاز ـ إلى شهادته وما رافق ذلك من أحداث.

العباس مع أخوته:

وانبرى بطل كربلاء إلى أشقّائه بعد شهادة الفتية من أهل البيت عليهم السلام

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 218

فقال لهم :
«تقدّموا يا بني أمّي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله ، فانه لا ولد لكم...»(1).
لقد طلب من اخوانه الممجدين أن يقدموا نفوسهم قرابين لدين الله ، وأن ينصحوا في جهادهم لله ورسوله ، ولم يلحظ في تضحيتهم أي اعتبار آخر من النسب وغيره ، والتفت أبو الفضل إلى أخيه عبدالله فقال له:
«تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً ، واحتسبك..»(2).
واستجابت الفتية إلى نداء الحق فهبّوا للدفاع عن سيّد العترة وإمام الهدى الحسين عليه السلام .

قول رخيص:

ومن أهزل الاَقوال ، وأبعدها عن الحق ما ذكره ابن الاَثير ان العباس عليه السلام قال لاَخوته: «تقدّموا حتى أرثكم ، فانه لا ولد لكم..»(3).
لقد قالوا بذلك ، ليقلّلوا من أهمية هذا العملاق العظيم الذي هو من ذخائر الاِسلام ، ومن مفاخر المسلمين ، وهل من الممكن أن يفكّر فخر هاشم في الناحية المادية في تلك الساعة الرهيبة التي كان الموت المحتم منه كقاب قوسين أو أدنى ، مضافاً إلى الكوارث التي أحاطت به ، فهو يرى أخاه قد أحاطت به جيوش الاَمويين ، وهو يستغيث فلا يغاث ، ويسمع صراخ عقائل النبوة ومخدرات الرسالة ، فقد كان همّه الوحيد الرحيل من

(1) الارشاد: 269.
(2) مقاتل الطالبيين: 82.
(3) تأريخ ابن الاَثير 3: 294.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 219

الدنيا ، واللحوق بأهل بيته الذين حصدتهم سيوف الاَمويين ، وبالاضافة لهذا كله فان السيدة أم البنين أم السادة الاَماجد كانت حيّة فهي التي تحوز ميراث أبنائها لاَنها من الطبقة الاَولى لو كان لاَبنائها أموال فان أباهم الاِمام أمير المؤمنين قد انتقل من هذه الدنيا ولم يخلف صفراءً ولا بيضاء ، فمن أين جاءت أبناءه الاَموال... ومن المحتمل قوياً أن يكون الوارد في كلام سيّدنا أبي الفضل عليه السلام «حتّى أثأركم..» أي أطلب بثاركم فحرّف كلامه.

مصارع اخوة العبّاس:

واستجاب السادة اخوة العباس إلى نداء أخيهم فهبّوا للجهاد ، ووطّنوا نفوسهم على الموت دفاعاً عن أخيهم ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقد برز عبدالله ابن أمير المؤمنين عليه السلام والتحم مع جيوش الامويين وهو يرتجز:
شيخي علي ذو الفخار الاَطول من هاشم الخير الكريم المفضل
هذا حسين بـن النبي المرسل عنه نحامـي بالحسام المصقل
تفديه نفســي من أخ مبجّل يا رب فامنحنـي ثواب المنزل

لقد أعرب بهذا الرجز عن اعتزازه وافتخاره بأبيه الامام أمير المؤمنين عليه السلام باب مدينة علم النبيّ صلى الله عليه وآله ووصيه ، كما اعتزّ بأخيه سيّد شباب أهل الجنّة الاِمام الحسين عليه السلام ، وقد أعلن أنّه انّما يدافع عنه لاَنّه ابن النبيّ صلى الله عليه وآله ويلتمس بذلك أن يمنحه الله الدرجات الرفيعة.
ولم يزل الفتى يقاتل أعنف القتال وأشدّه حتى شدّ عليه رجس من أرجاس أهل الكوفة وهو هاني بن ثبيت الحضرمي فقتله(1).

(1) حياة الاِمام الحسين 3: 262.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 220

وبرز من بعده أخوه جعفر ، وكان له من العمر تسعة عشر سنة فجعل يقاتل قتال الاَبطال فبرز إليه قاتل أخيه فقتله(1).
وبرز من بعده أخوه عثمان وهو ابن إحدى وعشرين سنة فرماه خولي بسهم فأضعفه ، وشدّ عليه رجس من بني دارم وأخذ رأسه ليتقرّب به إلى ابن الاَمة الفاجرة عبيدالله بن مرجانة(2).
لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الاَعلى ، وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله ، وأشدّ ما تكون إيماناً بعدالة تضحيتهم التي هي من أنبل التضحيات في العالم.
ووقف أبو الفضل على اشقّائه الذين مزّقت أشلاءهم سيوف الاَعداء فجعل يتأمّل في وجوههم المشرقة بنور الاِيمان ، وأخذ يتذكّر وفاءهم ، وسموّ آدابهم ، وأخذ يذرف عليهم أحرّ الدموع ، وتمنّى أن تكون المنيّة قد وافته قبلهم ، واستعدّ بعد ذلك إلى الشهادة ، والفوز برضوان الله.

مصرع أبي الفضل:

ولما رأى أبو الفضل عليه السلام وحدة أخيه ، وقتل أصحابه ، وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق فلم يسمح له الاِمام ، وقال له بصوت حزين النبرات:
«أنت صاحب لوائي..».
لقد كان الاِمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل فهو كقوة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه ، ويردّ عنه كيد المعتدين ، وألحّ عليه أبو الفضل

(1) الاِرشاد: 269.
(2) مقاتل الطالبيين: 83.

السابق السابق الفهرس التالي التالي