الملهوف على قتلى الطفوف 157

ثم أوصل (43) كلامه (عليه السلام) بأبيات فروة بن مسيك المرادي (54) :
فـإن نهزم فهزامن قدما وإن نغلب فغيــر مغلبينا
وما أن طبنــا جبن ولكن منايانا ودولة آخـــرينا
إذا ما الموت رفع عن أناس كلاكله أنـــاخ بآخرينا
فأفنى ذلك سـروات قومي كما أفنى القـرون الأولينا
فلو خلد الملـوك إذاً خلدنا ولو بقي الكرام إذاً بقينـا
فقل للشامتين بـنا : أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا

ثم قال : « أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس حتى يدور بكم دور الرحى ويقلق بكم قلق المحور عهدٌ عهده إلي أبي عن جدي ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ، ثم اقضو إلي ولا تنظرون.
إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذٌ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم.
اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسنين يوسف ، وسلط عليهم غلام ثقيف يسومهم كأساً (55) مصبرةٌ ، فإنهم كذبونا وخذلونا ، وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا واليك المصير »
.

(53) ر : وصل.
(54) فروة بن مسيك أو مسيكة بن الحارث بن سلمة الغطيفي المرادي ، أبو عمرو ، صحابي ، من الولاة ، له شعر ، وهو من اليمن ، كان موالياً لملوك كندة في الجاهلية ، رحل إلى مكة سنة تسع أو عشر وأسلم ، سكن الكوفة في أواخر أعوامه ، مات سنة 30 هـ.
الطبقات 1|63 ، الإصابة ترجمة رقم 6983 ، رغبة الآمل 4|10 ، الأعلام 5|143.
(55) ر : كأس.
الملهوف على قتلى الطفوف 158

ثم نزل (عليه السلام) ودعا بفرس رسول الله صلى الله عليه وآله المرتجز ، فركبه وعبى أصحابه للقتال.
فروي عن الباقر (عليه السلام) : « أنهم كانوا خمسة وأربعين فارساً وماءة راجل ».
وروي غير ذلك.
قال الراوي (56) : فتقدم عمر بن سعد ورمى نحو عسكر الحسين (عليه السلام) بسهم وقال : اشهدوا لي عند الأمير : أني أول من رمى ، وأقبلت السهام من القوم كأنها القطر.
فقال (عليه السلام) لأصحابه : « قوموا رحمكم الله إلى الموت ، إلى الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم (57) ».

فاقتتلوا ساعة من النهار حملةً وحملةَ ، حتى قتل من أصحاب الحسين (عليه السلام) جماعة.
قال (58) : فعندها ضرب الحسين (عليه السلام) يده (59) على لحيته وجعل يقول : « اشتد غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً ، واشتد غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتد غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ، واشتد غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم.
أما والله لا اجيبنهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله تعالى وأنا مخضب بدمي ».
وروي عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنه قال : « سمعت أبي يقول : لما التقى

(56) قال الراوي ، لم يرد في ر.
(57) إليكم ، لم يرد في ر. وفي حاشية رجاء لفظ : المةت خ ، بدلاً من لفظ القوم.
(58) قال ، لم يرد في ر.
(59) ر : بيده.
الملهوف على قتلى الطفوف 159

الحسين (عليه السلام) وعمر بن سعد لعنه الله وقامت الحرب على ساق ، أنزل الله النصر حتى رفرف على رأس الحسين (عليه السلام) ثم خير بين النصر على أعدائه وبين لقاء ربه (60) ، فاختار لقاء ربه(61) ».
قال الراوي : ثم صاح الحسين (عليه السلام) : « أما من مغيثٍ يغيثنا لوجه الله ، أما من ذاب يذب عن حرم رسول الله ».
قال : فإذا الحر بن يزيد الرياحي قد أقبل على عمر بن سعد ، فقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟
فقال : إي والله قتالاً أيسره أن تطير الرؤوس وتطيح الأيدي.
قال : فمضى (62) الحر ووقف موقفاً من أصحابه وأخذه مثل الإفكل.
فقال له المهاجر بن أوس (63) : والله إن أمرك لمريب ، ولو قيل : من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، فما هذا الذي أراه منك ؟
فقال : إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار ، فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطعت وأحرقت.

(60) ب : الله تعالى.
(61) ب : الله تعالى.
وجاء بعد هذا في ع : رواها أبو طاهر محمد بن الحسين النرسي في كتاب معالم الدين . ولم ترد هذه العبارة في ر . ب.
(62) ر : فمر.
(63) لم يذكروه.
وفي كتاب تسمية من قتل مع الامام الحسين : 155 ، ذكر من جملة شهداء الاصحاب المهاجر ابن أوس من بجيلة.
ولا أعلم هل المهاجر بن اوس اثنان ؟ أم واحد كان في عسكر ابن سعد ثم التحق بمعسكر الامام الحسين واستشهد معه ؟
الملهوف على قتلى الطفوف 160

ثم ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين (عليه السلام) ويده على رأسه وهو يقول : اللهم إني تبت إليك فتب علي ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيك.
وقال للحسين : جعلت فداك أنا صاحبك الذي حبسك عن الرجوع وجعجع بك ، والله ما ظننت أن القوم يبلغون بك ما أرى ، وأنا تائب إلى الله ، فهل ترى لي من توبة ؟
فقال الحسين (عليه السلام) : « نعم يتوب الله عليك فانزل ».
فقال : أنا لك فارساً خيرٌ مني راجلاً ، وإلى النزول يؤول آخر أمري.
ثم قال : فإذا كنت أول من خرج عليك ، فأذن لي أن أكون أول قتيل بين يديك ، لعلي أكون ممن يصافح جدك محمداً غداً في القيامة.
قال جامع الكتاب : إنما أراد أول قتيل من الآن ، لأن جماعة قتلوا قبله كما ورد.
فأذن له ، فجعل يقاتل أحسن قتال حتى قتل جماعة من شجعان وأبطال ، ثم استشهد ، فحمل إلى الحسين (عليه السلام) ، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : « أنت الحر كما سمتك أمك ، حر في الدنيا وحر الآخرة ».
قال الراوي (64) : وخرج برير بن خضير(65) ، وكان زاهداً عابداً ، فخرج إليه يزيد بن معقل(66) واتفقا على المباهلة إلى الله : في أن يقتل المحق منهما المبطل ، فتلاقيا ، فقتله برير ، ولم يزل يقاتل حتى قتل رضوان الله عليه.

(64) الراوي ، لم يرد في ر.
(65) ر : حضير.
(66) ع : يزيد بن المغفل.
لم يذكروه ، وهو خبيث ملعون.
الملهوف على قتلى الطفوف 161

قال : وخرج وهب بن حباب الكلبي(67) ، فأحسن في الجلاد وبالغ في الجهاد ، وكان معه زوجته ووالدته ، فرجع إليهما وقال : يا أماه ، أرضيت أم لا ؟
فقالت : لا ، ما رضيت حتى تقتل بين يدي الحسين (عليه السلام).
وقالت امرأته : بالله عليك لا تفجعني في نفسك.

فقالت له أمه : يا بني اعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيك تنل شفاعة جده يوم القيامة.
فرجع ، ولم يزل يقاتل حتى قطعت يداه ، فأخذت امرأته عموداً ، فأقبلت نحوه وهي تقول : فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين حرم رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأقبل ليردها إلى النساء ، فأخذت بثوبه ، وقالت : لن أعود دون أن أموت معك.
فقال الحسين (عليه السلام) : « جزيتم من أهل بيتٍ خيراً ، ارجعي إلى النساء يرحمك الله » ، فانصرفت إليهن.
ولم يزل الكلبي يقاتل حتى قتل ، رضوان الله عليه.
ثم خرج مسلم بن عوسجة ، فبالغ في قتال الأعداء ، وصبر على أهوال البلاء ، حتى سقط إلى الأرض وبه رمق ، فمشى إليه الحسين (عليه السلام) ومعه حبيب بن مظاهر.
فقال له الحسين (عليه السلام) : « رحمك الله يا مسلم ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلو تبديلاً ».
ودنا منه حبيب ، فقال : عز والله علي مصرعك يا مسلم أبشر بالجنة.

(67) ع : جناح.
في ضياء العينين : 25 : وهب بن عبدالله بن حباب الكلبي ، امه قمرى ، وذكر الكثير من أخباره في واقعة الطف ، أخذها من كتاب الملهوف وغيره من كتب المقاتل.
الملهوف على قتلى الطفوف 162

فقال له بصوت ضعيف(68) : بشرك الله بخيرٍ.
ثم قال له حبيب : لولا أنني أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إلي بكل ما أهمك.
فقال له مسلم : فإني أوصيك بهذا ـ وأشار بيده إلى الحسين (عليه السلام) ـ فقاتل دونه حتى تموت.
فقال له حبيب : لأنعمنك عيناً.
ثم مات رضوان الله عليه.
فخرج عمرو بن قرظة الأنصاري (69) ، فاستأذن الحسين (عليه السلام) ، فأذن له ، فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء وبالغ في خدمة سلطان السماء حتى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد ، وجمع بين سداد وجهاد ، وكان لا يأتي إلى الحسين (عليه السلام) سهمٌ إلا اتقاه بيده ولا سيف إلا تلقاه بمهجته ، فلم يكن يصل إلى الحسين (عليه السلام) سوء ، حتى أثخن بالجراح.
فالتفت إلى الحسين (عليه السلام) وقال : يابن رسول الله أوفيت ؟
قال : « نعم ، أنت أمامي في الجنة ، فاقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله عني السلام وأعلمه أني في الأثر ».

(68) ع : فقال له مسلم قولاً ضعيفاً.
(69) ر . ع : عمرو بن قرطة ، والمثبت من ب.
وهو عمرو بن قرظة الأنصاري ، ذكر في أكثر الموارد ، وفي الزيارة : عمر بن كعب الأنصاري ، وفي نسختها الأخرى : عمران ، أرسله الحسين مفاوضاً إلى عمر بن سعد.
تاريخ الطبري 5|413 ، المناقب 4|105 ، البحار 45|71 و22 ، مقتل الحسين 2|22 ، أنصار الحسين : 104 ، تسمية من قتل مع الحسين : 153.
الملهوف على قتلى الطفوف 163

فقاتل حتى قتل رضوان الله عليه (70) .
ثم برز جون مولى أبي ذر (71) ، وكان عبداً أسوداً.
فقال له الحسين (عليه السلام) : « أنت في إذنٍ مني ، فإنما تبعتنا طلباً للعافية ، فلا تبتل بطريقنا (72) ».

فقال : يا بن رسول الله أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم ، والله إن ريحي لمنتن وإن حسبي للئيم ولوني لأسود ، فتنفس علي بالجنة (73) ، فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض وجهي ، لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم . ثم قاتل حتى قتل ، رضوان الله عليه.
قال الراوي (74) : ثم برز عمرو بن خالد الصيداوي(75) ، فقال للحسين :

(70) في نسخة ب جاء بعد قوله رضوان الله عليه :
وفي المناقب كان يقول :
قـــد علمت كتيبة الأنصار أن سوف أحمي حوزة الذمار
ضرب غلام غير نكس شاري دون حسيـن مهجتي وداري
(71) ب : ثم تقدم جون مولى أبي ذر الغفاري.
وجون من الموالي ، أسود اللون ، شيخ كبير السن ، هو ابن حوي ، وذكر في بعض المصادر اسمه : جوين أبي مالك.
تسمية من قتل مع الحسين : 152 ، رجال الشيخ : 72 ، المناقب 4|103 ، المقتل 1|237 و2|19 ، تاريخ الطبري 5|420 ، البحار 45|82 ، أنصار الحسين : 72.
(72) ر : بطريقتنا.
(73) ر : الجنة.
(74) الراوي ، لم يرد في ر.
(75) ر : عمر بن خالد الصيداوي.
وعمرو بن خالد الصيداوي من صيدا ، ذكر في أكثر المصادر ، وفي الرجبية ، عمرو بن خلف ،

=

الملهوف على قتلى الطفوف 164

يا أبا عبدالله ، جعلت فداك قد هممت أن ألحق بأصحابي ، وكرهت أن أتخلف فأراك وحيداً فريداً بين أهلك قتيلاً.
فقال له الحسين (عليه السلام) : « تقدم فإنا لا حقون بك عن ساعة ».
فتقدم فقاتل حتى قتل رضوان الله عليه.
قال الراوي(76) : وجاء حنظلة بن سعد الشبامي (77) ، فوقف بين يدي الحسين (عليه السلام) يقيه السهام والسيوف والرماح بوجهه ونحره.
وأخذ ينادي : يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، وما الله يريد ظلماً للعباد ، ويا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم التناد ، يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ، يا

=
ويحتمل أنه تصحيف خالد ، وبنو الصيدا بطن من أسد من العدنانية ، وذهب بعض العلماء إلى اتحاده مع عمرو بن خالد الأزدي ، ذاهباً إلى أن الأزدي مصحف عن الأسدي ، والمرجح التعدد ، وإن كان احتمال الإتحاد وارداً.
تسمية من قتل مع الحسين : 155 ، تاريخ الطبري 5|446 ، المقتل 2|24 ، البحار 45|72 و23 ، أنصار الحسين : 102.
(76) الراوي ، لم يرد في ر . ب.
(77) كذا في ب . وفي ر : حنظلة بن سعد الثامي . وفي ع : حنظلة بن أسعد الشامي.
والشبامي : شبام بطن من همدان من القحطانية ، كوفي ، ذكر في أكثر المصادر مع اختلاف في ضبط اسمه ، واحتمل بعض العلماء اتحاده مع حنظلة بن أسعد الشبامي ، واستدل بأن ابن شهر آشوب لم يذكر حنظلة المتفق عليه وهو الشبامي ، والمرجح أن سعداً غيرحنظلة ، لأن غير ابن شهر آشوب ذكر سعداً وأنه تميمي من عرب الشمال ، وحنظلة وأنه شبامي من عرب الجنوب . واحتمل آخر اتحاده مع حنظلة ابن عمر الشيباني ، وهذا الاحتمال بعيد أيضاً.
رجال الشيخ : 73 ، المقتل 2|24 ، تاريخ الطبري 5|443 ، تسمية من قتل مع الحسين : 156 ، قاموس الرجال 4|318 ، معجم رجال الحديث 6|306 ـ 307 ، انصار الحسين : 86 و89 ـ 90 و116 ـ 117.
الملهوف على قتلى الطفوف 165

قوم لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم الله بعذابٍ وقد خاب من افترى.
ثم التفت إلى الحسين (عليه السلام) وقال : أفلا نروح إلى ربنا ونلحق بأصحابنا ؟
فقال له : « بل (78) رح إلى ما هو خيرٌ لك من الدنيا وما فيها وإلى ملكٍ لا يبلى ».
فتقدم ، فقاتل قتال الأبطال ، وصبر على احتمال الأهوال ، حتى قتل ، رضوان الله عليه.
قال : وحضرت صلاة الظهر ، فأمر الحسين (عليه السلام) زهير بن القين وسعيد بن عبدالله الحنفي أن يتقدما أمامه بنصف من تخلف معه ، ثم صلى بهم صلاة الخوف.

فوصل إلى الحسين (عليه السلام) سهمٌ ، فتقدم سعيد بن عبدالله الحنفي ، ووقف يقيه بنفسه ما زال ، ولا تخطى حتى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهم العنهم لعن عادٍ وثمود ، اللهم أبلغ نبيك عني السلام ، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإني أردت ثوابك في نصر ذرية نبيك ، ثم قضى نحبه رضوان الله عليه ، فوجد به ثلاثة عشر سهمأً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح.
قال الراوي (79) : وتقدم سويد بن عمر بن أبي المطاع (80) ، وكان شريفاً كثير الصلاة ، فقاتل قتال الأسد الباسل ، وبالغ في الصبر على الخطب النازل ، حتى

(78) ع : ونلحق بإخواننا بلى.
(79) الراوي ، لم يرد في ر.
(80) هو سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي ، ذكر في عدة مصادر ، كان شريفاً كثير الصلاة ، وهو أحد آخر رجلين بقيا مع الحسين وقتل بعد مقتل الحسين (عليه السلام) ، فكان آخر قتيل ، قتله هاني بن ثبيت الحضرمي ، والخثعمي : خثعم بن أنمار بن أراش ، من القحطانية.
رجال الشيخ : 74 ، المناقب 4|102 وفيه : عمرو بن أبي المطاع الجعفي ، البحار 45|24 ، تسمية من قتل مع الحسين : 154 وفيه : سويد بن عمرو بن المطاع ، أنصار الحسين : 91 ـ 92.
الملهوف على قتلى الطفوف 166

سقط بين القتلى وقد أثخن بالجراح ، ولم يزل كذلك وليس به حراك حتى سمعهم يقولون : قتل الحسين ، فتحامل وأخرج من خفه سكيناً ، وجعل يقاتلهم بها حتى قتل ، رضوان الله عليه.
قال : وجعل أصحاب الحسين (عليه السلام) يقاتلون(81) بين يديه ، وكانوا كما قيل :
قـــــومٌ إذ نودوا لدفع ملمة والخيل بين مدعس ومكردس
لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا يتهافتون على ذهـاب الأنفس

فلما لم يبق معه إلا أهل بيته ، خرج علي بن الحسين (عليه السلام) ـ وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً ـ فاستأذن أباه في القتال ، فأذن له.
ثم نظر إليه نظرة آيسٍ منه ، وأرخى (عليه السلام) عينيه وبكى.
ثم قال : « اللهم اشهد ، فقد برز إليهم غلامٌ أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسولك صلى الله عليه وآله ، وكنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إليه ».
فصاح وقال : « يابن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي (82) ».
فتقدم (عليه السلام) نحو القوم ، فقاتل قتالاً شديداً وقتل جمعاً كثيراً.
ثم رجع إلى أبيه وقال : يا أبه ، العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل إلى شربة ماء من سبيل ؟
فبكى الحسين (عليه السلام) وقال : « واغوثاه يا بني ، من أين آتي بالماء قاتل قليلاً ، فما أسرع ما تلقى جدك محمداً (عليه السلام) ، فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظلمأ بعدها(83) ».

(81) ع : يسارعون إلى القتل.
(82) من قوله : وكنا إذا اشتقنا ... إلى هنا ، لم يرد في ر ، وورد في ع.
(83) ع : بعدها أبداً.
الملهوف على قتلى الطفوف 167

فرجع (عليه السلام) إلى موقف النزال ، وقاتل أعظم القتال ، فرماه منقذ بن مرة العبدي(84) بسهمٍ فصرعه ، فنادى : يا أبتاه عليك مني(85) السلام ، هذا جدي يقرؤك السلام ويقول لك : عجل القدوم علينا ، ثم شهق شهقة فمات.
فجاء الحسين (عليه السلام)(86) حتى وقف عليه ، ووضع خده على خده (87) وقال : « قتل الله قوماً قتلوك ، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله ، على الدنيا بعدك العفاء ».

قال الراوي(88) : وخرجت زينب ابنت علي تنادي : يا حبيباه يا بن أخاه ، وجاءت فأكبت عليه.
فجاء الحسين (عليه السلام) فأخذها وردها إلى النساء.
ثم جعل أهل بيته يخرج منهم الرجل بعد الرجل ، حتى قتل القوم منهم جماعة ، فصاح الحسين (عليه السلام) في تلك الحال : صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي صبراً ، فوالله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً.
قال الراوي(89) : وخرج غلام(90) كأن وجهه شقة قمر ، فجعل يقاتل ،

(84) كذا في النسخ ، ولكن في تاريخ الطبري 6|625 والكامل 4|30 والأخبار الطوال : 254 ومقاتل الطالبيين : 84 ورد اسمه هكذا : مره بن منقذ بن النعمان العبدي ثم الليثي.
لم يذكروه ، وهو خبيث ملعون.
(85) مني ، لم يرد في ر.
(86) الحسين ، لم يرد في ر.
(87) ووضع خده على خده ، لم يرد في ر.
(88) الراوي ، لم يرد في ر.
(89) الراوي ، لم يرد في ر.
(90) هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، أخو أبي بكر بن الحسن لأبيه وأمه المقتول قبله.
مقاتل الطالبيين : 50.
الملهوف على قتلى الطفوف 168

فضربه ابن فضيل الأزدي(91) على رأسه ، ففلقه ، فوقع الغلام لوجهه وصاح : يا عماه.
فجلى الحسين (عليه السلام) كما يجلي الصقر ، وشد شدة ليثٍ أغضب ، فضرب ابن فضيل بالسيف ، فاتقاها بساعده فأطنها من لدن المرفق ، فصاح صيحة سمعه أهل العسكر ، فحمل أهل الكوفة ليستنقذوه ، فوطأته الخيل حتى هلك.
قال : وانجلت الغبرة ، فرأيت الحسين (عليه السلام) قائماً على رأس الغلام وهو يفحص برجله ، والحسين عليه اللسلام يقول : « بعداً لقومٍ قتلوك ، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك(92) ».
ثم قال : « عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك صوته ، هذا يوم والله(93) كثر واتره وقل ناصره ».

ثم حمل الغلام على صدره حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته.
قال : ولما رأى الحسين (عليه السلام) مصارع فتيانه وأحبته ، عزم على لقاء القوم بمهجته ، ونادى : « هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله ؟ هل من موحدٍ يخاف الله فينا ؟ هل من مغيثٍ يرجو الله بإغاثتنا ؟ هل من معينٍ يرجو ما عند الله في إعانتنا ؟ ».
فارتفعت أصوات النساء بالعويل ، فتقدم إلى باب الخيمة وقال لزينب : « ناوليني ولدي الصغير (94) حتى أودعه » ، فأخذه وأومأ إليه ليقبله ، فرماه

(91) في مقاتل الطالبيين : 88 ذكر اسمه : عمرو بن سعيد بن نفيل الأزدي.
(92) ع : جدك وأبوك.
(93) ر : فلا ينفعك صوت والله.
(94) هو عبدالله بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وأمه الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس ،

=

الملهوف على قتلى الطفوف 169

حرملة بن الكاهل(95) بسهم ، فوقع في نحره فذبحه ، فقال لزينب : « خذيه ».
ثم تلقى الدم بكفيه حتى امتلأتا ، ورمى بالدم نحو السماء وقال : « هون علي ما نزل بي ، إنه بعين الله ».
قال الباقر (عليه السلام) : « فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض ».
وروي من طرق أخرى ، وهي أقرب إلى العقل ، لأن الحال ما كان وقت توديع للصبي ، لاشتغالهم بالحرب والقتل ، وإنما زينب أخته عليها السلام أخرجت الصبي وقالت : يا أخي ، هذا ولدك له ثلاثة أيام ما ذاق الماء ، فاطلب له شربة ماء.
فأخذه على يده وقال : « يا قوم قد قتلتم شيعتي وأهل بيتي ، وقد بقي هذا الطفل يتلظى عطشاً ، فاسقوه شربةً من الماء ».
فبينما هو يخاطبهم إذ رماه رجل منهم بسهم فذبحه.
فدعا عليهم بنحو ما صنع بهم المختار وغيره(96) .

=
وفي اسم قاتله اختلاف ، فقيل : حرملة ، وقيل عقبة بن بشر.
مقاتل الطالبيين : 89 ـ 90.
(95) لم يذكروه ، وهو خبيث ملعون.
ولما قبض على حرملة ورآه المختار ، بكى المختار وقال : يا ويلك أما كفاك ما فعلت حتى قتلت طفلاً صغيراً وذبحته ، يا عدو الله ، أما علمت أنه ولد النبي ، فأمر به فجعلوه مرمى ، فرمي بالنشاب حتى مات.
وقيل : إنه لما نظر المختار إلى حرملة قال : الحمد الله الذي مكنني منك يا عدو الله ، ثم أحضر الجزار فقال له : اقطع يديه ورجليه ، فقطعها ، ثم قال : علي بالنار ، فاحضرت بين يديه ، فأخذ قضيباً من حديد وجعله في النار حتى احمر ثم ابيضٌ ، فوضعه على رقبته ، فصارت رقبته تجوش من النار وهو يستغيث حتى قطعت رقبته.
حكاية المختار : 55 و59.
(96) من قوله : وروي من طرق أخرى ... إلى هنا ، لم يرد في ع
الملهوف على قتلى الطفوف 170

قال الراوي(97) : واشتد العطش بالحسين (عليه السلام) ، فركب المسناة يريد الفرات ، والعباس أخوه بين يديه ، فاعترضتهما خيل ابن سعد ، فرمى رجل من بني دارم الحسين (عليه السلام) بسهمٍ فأثبته في حنكه الشريف ، فانتزع صلوات الله عليه السهم وبسط يده تحت حنكه حتى امتلأت راحتاه من الدم(98) ، ثم رمى به وقال : « اللهم إني أشكوه إليك ما يفعل بابن بنت نبيك ».

ثم اقتطعوا العباس عنه ، وأحاطوا به من كل جانب ومكان ، حتى قتلوه قدس الله روحه (99) ، فبكى الحسين (عليه السلام) بكاءً شديداً . وفي ذلك يقول الشاعر :
أحق الناس أن يبكى عليه فتىً أبكى الحسين بكربلاء
أخــوه وابن والده علي أبو الفضل المضرج بالدماء
ومن واساه لا يثنيه شيء وجــادله على عطش بماء

قال الراوي (100) : ثم أن الحسين (عليه السلام) دعا الناس إلى البراز ، فلم يزل يقتل كل من برز اليه ، حتى قتل مقتلة عظيمة ، وهو في ذلك يقول :
القتل أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار

قال بعض الرواة : والله ما رأيت مكثوراً(101) قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه (102) أربط جأشاً منه ، وإن الرجال كانت لتشد عليه فيشد عليها

(97) الراوي ، لم يرد في ر .
(98) ر : راحته دماً .
(99) جاء بعد قوله قدس الله روحه في نسخة ب : وكان المتولي لقتله زيدبن ورقاء الحنفي وحكيم بن الطفيل السنبسي .
(100) الراوي ، لم يرد في ر .
(101) ر : مكسورا .
(102) ب : وصحبه .
الملهوف على قتلى الطفوف 171

بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب ، ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكملوا ثلاثين ألفاً ، فينهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر ، ثم يرجع إلى مركزه(103) وهو يقول : « لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » .
قال الراوي(104) : ولم يزل (عليه السلام) يقاتلهم حتى حالوا بينه وبين رحله .
فصاح بهم : « ويحكم(105) يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين وكنتم لاتخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه(106) وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون » .
قال : فناداه(107) شمر : ما تقول يابن فاطمة ؟
قال : « أقول : أنا الذي أقتاتلكم(108) وتقاتلوني والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا أعتاتكم وجهالكم وطغاتكم(109) من التعرض لحرمي ما دمت حياً » .
فقال شمر : لك ذلك يا بن فاطمة .
وقصدوه بالحرب ، فجعل يحمل عليهم ويحملون عليه ، وهو مع ذلك (110)

(103) ر : معسكره .
(104) الراوي ، لم يرد في ر .
(105) ر. ع : فصاح (عليه السلام) ويلكم .
(106) هذه ، لم يرد في ب .
(107) ب : إذ كنتم أعراباً فناداه .
(108) كذا في ب . وفي ر : قال إني أقاتلكم .
(109) وجهالكم وطغاتكم ، لم يرد في ب .
(110) ب : فقال شمر : لك هذا ، ثم صاح شمر : إليكم عن حرم الرجل فاقصدوه في نفسه فلعمري لهو كفؤ كريم ، قال فقصده القول وهو في ذلك .

السابق السابق الفهرس التالي التالي