الامام علي بن الحسين (ع) دراسة تحليلية 113

الموقف من أعوان الظلمة :


إن الطواغيت ليس بإمكانهم الوصول إلى مآربهم إذا لم يجدوا أعواناً لهم يعينونهم على ما يقومون به من مظالم ومآثم... ولعلَّ من السذاجة بمكان إلقاء اللوم على عاتق شخص واحد توضع على مشجبه أو شماعته كل الجرائم والجنايات التي ترتكب بحق الاُمم والشعوب ، وإغضاء الطرف عن الدائرة المحيطة به ، الملتفة حوله ، بدءاً بولاته وقادته العسكريين ، مروراً بإعلامييه وأبواقه وفقهائه ووعاظ سلطته ، وانتهاءً بهذا المطرب أو ذاك الشاعر اللذين لا ينفكان ينشدان لنظامه الظالم ويروّجان له ويخففان جرائمه ويأخذان على أيدي من يحاول التعريض به أو الحديث عن جرائمه...
ولعلّ الزيارة الشهيرة المعروفة بزيارة « عرفة » الخاصّة بالاِمام الحسين عليه السلام التي جاء نصّها : « ... فلعن الله أمةً قتلتك ، ولعن الله أمةً ظلمتك ، ولعن الله أمةً سمعت بذلك فرضت به .. » تعبّر بشكل واضح وصريح عن هذه النقطة المهمة ، أي على ضرورة تحميل الاُمّة مسؤولية حرب الحسين عليه السلام ومناهضته وتكثير سواد خصومه.
هذا الخيط الرابط بين الطاغية وبين أعوانه ، استطاع الاِمام السجاد عليه السلام تشخيصه بدقّة ، وتأكيده والطرق عليه... أي إن موالاة الجائر تعتبر كبيرة من الكبائر لما تنطوي عليه من تمكين واضح له لدرس الحق وإحياء الباطل وإظهار الظلم والجور ، وإبطال الكتب ، وقتل الاَنبياء والمؤمنين ، وهدم المساجد وتبديل السُنّة وتغيير شرائع الله وتعاليم دينه..
فكانت الخطوة الثانية هي : تنبيه الاَمّة على أنّ أيّ تعامل مع الحكام

الامام علي بن الحسين (ع) دراسة تحليلية 114

وأية مساعدة لهم ، حتّى في أبسط الاَمور وأدنى الاَشياء يعتبر تقويةً لحكومتهم ، ومشاركةً لهم في جناياتهم لاَنّ تقديم أيّ خدمةٍ لهم وإن كانت ضئيلة جدّاً يكون ـ بقدره ـ تمكيناً ومعاضدةً لهم ، فراح عليه السلام يؤكد على لعن ( من لاق لهم دواة ، أو قطّ لهم قلماً ، أو خاط لهم ثوباً ، أو ناولهم عصاً ) ، بل حرّم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم (1).
اعتمد الاِمام السجاد عليه السلام هذه القاعدة الاِسلامية ، وجعلها ركيزة مهمة في مقاومة النظام الفاسد ، وحاول تجريده من سلاح الوعّاظ المحيطين به ، أو عصابات المتزلّفين المتملّقين الذين تمرّر السلطة الظالمة مشاريعها من خلال ملقهم وتزلّفهم وتلميعهم لاجراءات هذه السلطة لدى العوام والسذّج والبسطاء...
وكان الاِمام السجاد كثيراً ما يقول : « العامل بالظلم والمعين له ، والراضي به شركاء ثلاثة » (2).
وكان عليه السلام يحذّر الناس من التورّط في أعمال الظلمة ، ولو بتكثير سوادهم والتواجد في مجالسهم ومصاحبتهم ، لاَنّ الظالم لايريد من الصالح فعلاً الاستفادة من صلاحه أو الاقتداء به ، وإنّما يحاول توريطه في جرائمه وآثامه أو توظيفه لتحقيق مفاسده ومشاريعه.. فكان عليه السلام يقول « ... ولا يقول رجل في رجل من الخير مالا يعلم ، إلاّ أوشك أن يقول فيه من الشرّ مالا يعلم ، ولا اصطحب اثنان على غير طاعة الله إلاّ أوشك أن يتفرّقا على

(1) تحف العقول : 332.
(2) راجع : بلاغة علي بن الحسين عن الاثني عشرية / العاملي : 224.
الامام علي بن الحسين (ع) دراسة تحليلية 115

غير طاعة الله... » (1).
قد يتصوّر بعض الناس من ذوي المكانة في المجتمع أنّ اصطحاب أولئك الحكّام الظالمين لا يضرّ شيئاً ، وإنّما يفيد خدمة أو تقديم خدمة للطرفين : للظالم بتخفيف ظلمه والحدّ من سُعاره ، ولاَعوان الصالح وأصحابه ليكفيهم شرّه ويدفع عنهم وعن إخوانهم ضرره ، وما دروا ، أو غاب عنهم ، خبث الظالم باستغلال صلاحهم وأسمائهم وسمعتهم في تنفيذ ما لا يرضي الله ، وتمريره على البسطاء من الناس والتغرير بهم... وربما راحوا يستعملون كلمات الملاطفة والتبجيل المقنّع لهذا الظالم أو ذاك ، متوهّمين أن في بعض ذلك تصحيحاً لتصرفاته وتقليص هوسه ، متناسين براءة الناس وانخداعهم به عبر إسباغ الشرعية على أفعاله من قبل هؤلاء وذلك بالتقرّب إليه أو القرب منه ، وما يجرّ ذلك من ارتجاج قيم ونسف مقاييس واهتزاز ثوابت ومعايير.
ولعلّ أكثر مواقف الاِمام عليه السلام وضوحاً في مساعيه لسلخ الوعّاظ عن حاشية الحاكم الظالم هو موقفه عليه السلام من الزهري الذي أكسبه الاَمويون شهرة عظيمة ، وروّجوا له كثيراً ، حيث شدّد هو والعلماء الصالحون النكير عليه لقربه من بني أمية والسكوت عن جرائمهم وشنائعهم ، ففيما كان هو يبرّر صحبته لهم بقوله : ( أنا شريك في خيرهم دون شرهم ). كان العلماء يردّون عليه بقولهم : ( ألا ترى ماهم فيه فتسكت ؟! ) (2). فيسكت ولا يحير جواباً.

(1) تاريخ دمشق ( الحديث 128 ) ومختصره لابن منظور 17 : 24.
(2) لاحظ وفيات الاَعيان/ ابن خلّكان 3 : 371.
الامام علي بن الحسين (ع) دراسة تحليلية 116

ومن حوارات الاِمام الساخنة مع بعض أعوان الظلمة ردّه على الزهري هذا الذي قال للاِمام يوماً : ( كان معاوية يُسكته الحلم ، ويُنطقه العلم ) !! فقال الاِمام : « كذبت يا زهري ، كان يُسكته الحصر ، وينطقه البطَر » (1).
وأكثر من ذلك تقريعه الزهري وعروة بن الزبير وهما جالسان في مسجد المدينة ينالان من الاِمام علي عليه السلام ، فبلغه ذلك ، فجاء حتى وقف عليهما ، فقال : « أما أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك الى الله ، فحكم لاَبي على أبيك ! وأما أنت يا زهري فلو كنت بمكة لاَريتك كِيرَ أبيك » (2).
ولنا مع الزهري هذا وموقف الاِمام منه ، الجولة الاَخيرة في هذا البحث الموجز المقتضب.. فإلى حين يأتي هذا المشوار ، وما أخفاه أو يخفيه في سطوره وكلماته ودقّة معانيه وعباراته... نقف عند كلمات الاِمام السجاد عليه السلام التي يوجهها من محرابه دروساً يستنير بها المظلومون ، وسهاماً في نحور الظالمين.
« اللهمّ إنّ الظَلَمة جحدوا آياتك ، وكفروا بكتابك ، وكذّبوا رسلك واستنكفوا عن عبادتك ، ورغبوا عن ملّة خليلك ، وبدّلوا ما جاء به رسولك ، وشرّعوا غير دينك ، واقتدوا بغير هداك ، واستنّوا بغير سنّتك ، وتعدّوا حدودك ، وتعاونوا على إطفاء نورك ، وصدّوا عن سبيلك ، وكفروا نعماءك ، ولم يذكروا آلاءك ، وأمنوا مكرك ، وقست قلوبهم عن ذكرك ، واجترأوا على معصيتك ، ولم يخافوا مقتك ، ولم يحذروا بأسك واغترّوا بنعمتك... » .
ويواصل عليه السلام بيانه السياسي العبادي الغاضب هذا ، مستنهضاً متمرداً

(1) الاعتصام 2 : 257. ونزهة الناظر : 43.
(2) شرح نهج البلاغة 4 : 102.
الامام علي بن الحسين (ع) دراسة تحليلية 117

ثائراً ليقول :
« اللهمّ إنّهم اتخذوا دينك دغلاً ، ومالك دولاً ، وعبادك خولاً... اللهمّ افتِتْ أعضادهم واقهر جبابرتهم ، واجعل الدائرة عليهم ، وأقضض بنيانهم ، وخالف بين كلمتهم ، وفرّق جمعهم ، وشتّت شملهم ، واجعل بأسهم بينهم ، وابعث عليهم عذاباً من فوقهم ، ومن تحت أرجلهم ، واسفك بأيدي المؤمنين دماءهم ، وأورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم... » .
إلى أن يقول عليه السلام شارحاً ، موضّحاً ، مفصّلاً :
« اللهمّ إنّهم اشتروا بآياتك ثمناً قليلاً ، وعتوا عتوّاً كبيراً... اللهمّ إنّهم أضاعوا الصلوات واتّبعوا الشهوات.. اللهمّ ضلّل أعمالهم ، واقطع رجاءهم ، وادْحَضْ حجتهم ، واستدرجهم من حيث لا يعلمون ، وآتهم بالعذاب من حيث لا يشعرون ، وأنزل بساحتهم ما يحذرون ، وحاسبهم حساباً شديداً ، وعذّبهم عذاباً نكراً ، واجعل عاقبة أمرهم خُسراً... » (1).
وهكذا ، في كلِّ كلمة ثورة ، وفي كلِّ عبارة لوحة ، وفي كلِّ جملة بيان وإيضاح للثوار والاَحرار والشرفاء.
وليس كما تقول تلك الكاتبة الجامعية التي أكّدت : « أنّ الشيعة بمصرع الحسين افتقدت الزعيم الذي يكون محوراً لجماعتهم وتنظيمهم والذي يقودهم إلى تحقيق تعاليمهم ومبادئهم ، وانصرف الاِمام علي زين العابدين عن السياسة إلى الدين وعبادة الله عزَّ وجلّ وأصبح للشيعة زعيماً روحياً ولكنه لم يكن الثائر السياسي الذي يتزعم جماعة الشيعة.. »

(1) الاقبال / السيد بن طاووس : 45. والصحيفة الخامسة السجادية : 405.
الامام علي بن الحسين (ع) دراسة تحليلية 118

إلى أن تقول : « وحاول المختار بن أبي عبيدة الثقفي أن ينتزع علياً من حياة التعبّد والاشتغال بالعلم إلى ميادين السياسة دون جدوى... » (1).

كتاب الاِمام السجاد عليه السلام إلى الزهري :


حين أوغل الزهري في دائرة الحكم الاَموي الغاشم ، والتحق ببلاط السلطة بالكامل ، وحين لم يبق أمام الاِمام بدّ من كشف الزيف في هذه المواقف ونفاقيتها ونفعيتها ، ورغم ماقد يكلفه هذا الكشف من ضريبة ربما تكون باهضة.. إلاّ أن الاِمام كتب إلى الزهري كتاباً ضمّنه أدّق الخيوط سياسةً وعمقاً ، ورواه العامة والخاصة ، ونقله العديد من المؤرخين وكتّاب السير بفروق بسيطة.
قال الغزالي ما نصه : ( إنّ هذه الرسالة كُتبت إلى الزهري لما خالط السلطان ) (2) ، كما رواها ابن شعبة (3) وآخرون.. وفيما يلي بعض نصوص هذه الوثيقة السياسية السجادية التاريخية الدقيقة ، نتركها بلا تعليق أولاً ، ثم نتبعها بشيء من التعليق فيما بعد :
« ... أما بعد.. كفانا الله وإياك من الفتن ، ورحمك من النار ، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك ، فقد أثقلتك نعم الله بما أصحَّ من بدنك ، وأطال من عمرك ، وقامت عليك حججه الله بما حمّلك من كتابه ، وفقّهك من دينه ، وعرّفك من سُنّة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فرضي لك في

(1) د. سميرة الليثي / جهاد الشيعة : 29.
(2) إحياء علوم الدين / الغزالي 2 : 143. والمحجة البيضاء في إحياء الاَحياء 3 : 260.
(3) تحف العقول : 274. والمحجة البيضاء 3 : 260.
الامام علي بن الحسين (ع) دراسة تحليلية 119

كلِّ نعمة أنعم بها عليك ، وفي كلِّ حجّة احتج بها عليك..
فانظر أي رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي الله ! فسألك عن نعمه عليك ، كيف رعيتها ؟ وعن حججه عليك ، كيف قضيتها ؟!
ولا تحسبنَّ الله قابلاً منك بالتعذير ، ولا راضياً منك بالتقصير ! هيهات.. هيهات ! ليس كذلك إنّه أخذ على العلماء في كتابه إذ قال : « لتبيننه للناس ولا تكتمونه »(1).
واعلم أن أدنى ما كتمت ، وأخفّ ما احتملت أن آنست وحشة الظالم ، وسهلت له طريق الغيّ بدنوّك منه حين دنوت ، وإجابتك له حين دُعيت.
فما أخوفني أن تبوء بإثمك غداً مع الخونة ، وأن تُسأل عما أخذتَ بإعانتك على ظلم الظلمة ! إنّك أخذتَ ماليس لك ممن أعطاك ، ودنوت ممن لم يردّ على أحد حقاً ، ولم تردّ باطلاً حين أدناك ، وأحببت من حادّ الله... » .
ثم يتساءل الاِمام السجاد عليه السلام مستنكراً مستفهماً دقيقاً حين يقول « أوليس بدعائهم إياك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم ، وسلّماً إلى ضلالتهم.. » لاحظ... ويواصل عليه السلام رسالته هذه قائلاً : « داعياً إلى غيّهم ، سالكاً سبيلهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم..
فما أقلَّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ، وما أيسر ما عمّروا لك ! فكيف ماخرّبوا عليك ، فانظر لنفسك ، فإنّه لا ينظر إليها غيرك وحاسبها

(1) سورة آل عمران : 3 / 187.
الامام علي بن الحسين (ع) دراسة تحليلية 120

حساب رجل مسؤول ... انظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً ؟
فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه : « فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ، يأخذون عرض هذا الاَدنى ويقولون سيغفر لنا »(1) !
بعدها يروح الاِمام السجاد عليه السلام يحذّره الله والآخرة ، ويذكّره بما ينبغي أن يتذّكره ، أو يذكّر به فيقول : « إنّك لست في دار مقام ، أنت في دار قد آذنت برحيل ... طوبى لمن كان في الدنيا على وجل ، يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده . إحذر فقد نُبئت ، وبادر فقد اُجّلت . إنّك تُعامل من لايجهل ، وإن الذي يحفظ عليك لا يغفل . تجهّز فقد دنا منك سفر بعيد ، وداو دينك فقد دخله سقم شديد ...
ولا تحسب أني أردتُ توبيخك وتعنيفك وتعييرك ، لكني أردت أن يُنعش الله ما فات من رأيك ، ويردّ إليك ما عزب من دينك ، وذكرت قول الله تعالى :« وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين ».
أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك ، وبقيت بعدهم كقرن أعضب.. اُنظر : هل إبتلوا بمثل ما ابتُليت به ؟ أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه ؟ أم هل تراهم ذكرتَ خيراً أهملوه ؟ وعلمت شيئاً جهلوه ؟
بل حظيت بما حلَّ من حالك في صدور العامّة ، وكلفهم بك ، إذ صاروا يقتدون برأيك ، ويعملون بأمرك ، إن أحللت أحلّوا ، وإن حرّمت حرّموا ، وليس ذلك عندك ، ولكن أظهرهم عليك رغبتهم فيما لديك ذهاب علمائهم ، وغلبة الجهل عليك وعليهم ، وحبّ الرئاسة ، وطلب الدنيا منك

(1) سورة آل عمران : 3 / 168.
الامام علي بن الحسين (ع) دراسة تحليلية 121

ومنهم .
أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرّة ؟ وما الناس فيه من البلاء والفتنة؟ ! قد ابتليتهم ، وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم مما رأوا ، فتاقت نفوسهم إلى أن يبلغوا من العلم ما بلغت ، أو يدركوا به مثل الذي أدركت ، فوقعوا منك في بحر لا يُدرك عمقه وفي بلاء لا يقدر قدره ، فالله لنا ولك ، وهو المستعان... » .
بعد ذلك يروح الاِمام السجاد محذّراً منذراً ، مذكّراً منبّهاً ، ينتقل من الدنيا إلى الآخرة ومن الاَرض إلى السماء ، ومن الغيب إلى الواقع ومن الواقع إلى الغيب ، لا تفوته إشارة إلاّ لمّح لها ولا يترك فراغاً إلاّ ملأه ، فيقول : « أما بعد ... فأعرض عن كل ما أنت فيه حتى تلتحق بالصالحين الذين دُفنوا في أسمالهم ، لاصقةً بطونهم بظهورهم ، ليس بينهم وبين الله حجاب ، ولا تفتنهم الدنيا ولا يُفتنون بها.
فإن كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ ، مع كبر سنّك ورسوخ علمك ، وحضور أجلك ، فكيف يسلم الحدث في سنّه ؟ الجاهل في علمه ؟ المأفون في رأيه ؟ المدخول في عقله ؟ ! ... على من المعوّل ؟ وعند من المستعتب ؟ نشكو إلى الله بثّنا ، وما نرى فيك ! ونحتسب عند الله مصيبتنا بك...
فاُنظر : كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً.. ! وكيف إعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلاً ! وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيراً !! وكيف قربك أو بعدك ممن أمرك ان تكون منه قريباً ذليلاً !!
مالك لا تنتبه من نعستك ؟ وتستقيل من عثرتك ؟ فتقول : والله ما قمت لله

الامام علي بن الحسين (ع) دراسة تحليلية 122

مقاماً واحداً أحييت به له ديناً ! أو أمّتُ له فيه باطلاً ! ! أفهذا شكرك من استحملك ؟ ! ما أخوفني أن تكون كما قال الله تعالى في كتابه : « أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً »(1)استحملك كتابه ، واستودعك علمه ، فأضعتهما ! فنحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به ! والسلام... (2) .
وهكذا يتّضح من سطور هذه الرسالة وحروفها وكلماتها ، أنّ الاِمام السجاد عليه السلام دخل في مواجهة مكشوفة مع السلطة الحاكمة ، عبر تنديده العلني هذا بأحد رموزها ، المقربين من بلاطها ، أي عبر تحذيره وإنذاره وتوبيخه وتأنيبه له : « مالك لا تنتبه من نعستك ؟ ولا تستقيل من عثرتك؟ » ... « أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرّة ؟ وما الناس فيه من البلاء والفتنة ؟ » .
إذن ، وبايجاز جليّ وواضح ، وكلمات ساطعة صادحة ، كشف الاِمام ، من خلال هذه الرسالة ، كل الخيوط المخفية التي يتستر بها وعّاظ السلاطين عادة ، للتعتيم على نفعيتهم ووصوليتهم ولصوصيتهم (3) .

(1) سورة مريم : 19/ 59.
(2) وردت الرسالة في تحف العقول : 274 ـ 277. ورواها الحائري في بلاغة علي بن الحسين عليه السلام : 122 ـ 126. ورواها المقرّم في الاِمام زين العابدين : 154 ـ 159. ورواها الغزالي في إحياء علوم الدين 2 : 143.
(3) جاء في كتاب « الكشكول » المعروف لبهاء الدين العاملي ما نصه : ( إذا رأيت العالم يلازم السلطان فاعلم أنه لص. وإياك أن تُخدع بما يقال إنّه يردّ مظلمة أو يدافع عن مظلوم ، فان هذه خدعة ابليس اتخذها فخّاً والعلماء سلّما ً) راجع كتاب الفقيه والسلطان / د. وجيه كوثراني : 155 .
الامام علي بن الحسين (ع) دراسة تحليلية 123

« لقد سهّلت له طريق الغيّ بدنوّك منه ، وأنك سوف تُسأل عمّا أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة.. » الذين « جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم وسلّماً إلى ضلالتهم » ! وغير ذلك مما يعدّ وثيقة سياسية دقيقة جداً ومعبّرة جداً لكلِّ من يحاول تبرير قربه من الظلمة أو إدعائه إصلاحهم بوعظه وإرشاده ونصائحه...
ولعلّ الموقف من أعوان الظلمة هذا هو أدّق الخيوط في نسيج التعامل السياسي الذي ينبغي غزله أو السير فيه بدّقة وحذر متناهيين...
ولذلك نرى الاِمام يدعو لاَهل الثغور في دعائه المعروف « دعاء الثغور » تارة ، قبال عدوّ مشترك تنكمش لتحدّيه الجزئيات أمام الكليات ، فيما نراه يندّد بحكام الثغور وأعوانهم وظلمهم وتعسفهم تارة اُخرى في الدائرة الاَضيق ، أو ما يُسمى في المصطلح الحديث « النقد داخل البيت » وبهذا الاسلوب المندد المقرع : « والله ما قمت له مقاماً واحداً أحييت به له ديناً ، أو أمتّ له فيه باطلاً » !
فمن هذه المداخلات ، إذن ، ومن هذه الخيوط الدقيقة تجب دراسة الاِمام السجاد وقراءة مواقفه قبل الحكم له أو عليه عليه السلام . ومن هذه القراءة يمكن أن تُفهم منطلقات الاِمام وأهدافه في سكوته أو كلامه ، وفي عزلته أو تصديه وفي صمته أو ثورته ، لاسيّما وهو القائل في ردّه على من يقول( إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ) .. « لكلِّ واحد منهما آفات ، وإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت » وأضاف : « لاَنّ الله عزَّ وجلّ ، ما بعث الاَنبياء ، والاَوصياء بالسكوت ، وإنما بعثهم بالكلام ، ولا استُحقت الجنة بالسكوت.. ولا استُوجبت ولاية الله بالسكوت ، ولا توقيت النار بالسكوت ! » .

الامام علي بن الحسين (ع) دراسة تحليلية 124

وأكثر من ذلك : « إنّك تصف فضل السكوت بالكلام ، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت.. » (1) وتلك هي الحكمة البالغة والبيان البليغ..
فسلام على الاِمام السجاد ساكتاً ومتكلماً ، وسلام عليه معتزلاً ومتصدياً ، وسلام عليه داعياً لاَهل الثغور ومندداً بظلمهم وجورهم وتعسفهم ، وسلام عليه مصفحاً متغافلاً عن عبد من عبيدالله سبَّه وشتمه ، ومعنّفاً مقرّعاً لواعظ من وعّاظ السلاطين جعل من نفسه جسراً لبلايا سلاطينه ، وسلّماً لضلالهم وغواياتهم ...

(1) الإحتجاج / الطبرسي : 315 .


السابق السابق الفهرس