جهاد الامام السجاد عليه السلام 117

الفصل الثالث


النضال الاجتماعيّ والعَمَلِيّ


أولاً : فـي مـجـال الأخـلاق والتربية
ثانيا : في مجال الإصلاح وشؤون الدولة
ثالثا : فـي مجــال مقاومـة الفسـاد
وأخيراً : مــع كتاب « رسالة الحقوق »


جهاد الامام السجاد عليه السلام 118




جهاد الامام السجاد عليه السلام 119

إن من أهمّ أهداف الرجال الإلهيين إصلاح المجتمع البشريّ ، بتربيته على التعاليم الإلهية ، ولابدّ للمصلح أن يمرّ بمراحل من العمل الجادّ والمضني في هذا الطريق الشائك :
1 ـ أن يربّي جيلا من المؤمنين على التعاليم الحقّة التي جاء بها ، والأخلاق القيّمة التي تخلّق بها ، لكي يكونوا له أعوانا على الخير.
2 ـ أن يدخل المجتمع بكلّ ثقله ، ويحضر بين الناس ، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه ، ويبلّغهم رسالات الله.
3 ـ أن يقاوم الفساد ، الذي يبثّه الظالمون في المجتمع ، بهدف تفكيكه وشلّ قواه ، وتفريغه من المعنويات ، وإبعاده عن فطرته السليمة المعتمدة على الحقّ والخير والجمال ، لئلاّ يصنعو منه آلة طيّعة تستخدم حسب رغباتهم وطوع إرادتهم.
وقد كان للإمام زين العابدين نشاط واسع في كلّ هذه المجالات ، حتى عدّ ـ بحقّ وجدارة ـ في صدر المصلحين الإلهيّين ، بالرغم من تميّز عصره بتحكّم طغاة بني اُمية على الأمة ، وعلى مقدّراتها وباسم الخلافة الإسلامية ، التي تقتل من يعارضها وتهدر دمه بعنوان الخروج على الإسلام.
إنّ مقاومة الإمام زين العابدين عليه السلام في مثل هذا الظرف ، بل وتمرير خططه ، وإنجاح مهمّاته وأهدافه ، مع قلّة الأعوان والأنصار ، يعدّ معجزة سياسية تحقّقت على يد هذا الإمام العظيم ، الذي سار على خطى جدّه الرسول الأعظم ، في خلقه العظيم.
وقد عقدنا هذا الفصل الثالث للوقوف على أوجه نشاطه العملي في تلك المجالات الاجتماعية :

جهاد الامام السجاد عليه السلام 120

أوّلاً : في مجال الأخلاق والتربية

ضرب الإمام زين العابدين أروع الأمثلة في تجسيد الخلق المحمدي العظيم في التزاماته الخاصة ، وفي سيرته مع الناس ، بل مع كلّ ما حوله من الموجودات.
فكانت تتبلور فيه شخصيّة القائد الإسلامي المحنّك الذي جمع بين القابليّة العلميّة الراقية ، والفضل والشرف السامق ، والقدرة على جذب القلوب وامتلاكها ، ومواجهة المشاكل والوقوف لصدّها بكلّ صبر وتوءدّة وهدوء.
فالصبر الذي تحلّى به ، بتحمّله ما جرى عليه في كربلاء ، وفي الأسر ، ممّا لا يحتاج الى برهان وذكر.
ومثابرته ومداومته على العمل الإسلامي ، بارزة للعيان ، وهذا الفصل يمثّل جزءا من نشاطه السياسيّ والاجتماعيّ الجادّ.
وحديث مواساته للإخوان ، والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام ، بالبذل والعطاء والإنفاق ، مما اشتهر عند الخاص والعام ، وسيأتي الكلام حول ذلك كله.
وحنوّه وحنانه على الرقيق ، وعلى الأقارب والأباعد ، بل على أعدائه وخصومه ، مما سارت به الركبان.
وأخبار عبادته وخوفه من الله وإعلانه ذلك في كلّ مناسبة ، ملأت الصحف ، حتى خصّ بلقب « زين العابدين ، وسيّد الساجدين ».
ومن أمثلة خلقه الرائع : العفو :
وقد تناقل المؤلّفون حديث هشام بن إسماعيل الذي كان أميرا على مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، للامويّين ، فعزلوه ، وقد كان منه أو بعض أهله شيء يكره ، تجاه الإمام زين العابدين عليه السلام ، أيام كان أميرا ، فلمّا عزل اُوقف للناس ، فكان لا يخاف إلاّ من الإمام أن يؤاخذه على ما كان منه.
فمرّ به الإمام ، وأرسل إليه : « استعن بنا على ما شئت ».

جهاد الامام السجاد عليه السلام 121

فقال هشام : « الله أعلم حيث يجعل رسالته » [ سورة الانعام (6) الآية (124) ] (1).
وبهذا ، تمكّن الإمام من جذب قلوب الناس ، حتى الدّ الأعداء ، فكان سببا لانفتاح الجميع على أهل البيت عليهم السلام ومذهبهم ، بعد ان انغلقوا عنهم ، واعتزلوهم بعد وقعة كربلاء.
ولقد ظهرت ثمرة تلك الأخلاق والجهود ، في يوم وفاة الإمام عليه السلام ، فقد خرج الناس كلّهم ، فلم يبق رجل ولا امرأة إلاّ خرج لجنازته بالبكاء والعويل ، وكان كيوم مات فيه رسول الله (2).
وكان من أطيب ثمرات هذه الجهود أن مهّدت الأرضيّة للإمام محمد بن علي ، الباقر عليه السلام كي يتسنّم مقام الإمامة بعد أبيه زين العابدين ، ويقوم بتعليم الناس معالم دينهم ، وتتكوّن المدرسة الفقهيّة الشيعيّة على أوسع مدى وأكمل شكل وأتقنه.
ومن أبرز الجهود التي بذلها الإمام زين العابدين عليه السلام في تحرّكه القياديّ هو ما قام به من جمع صفوف المؤمنين ، والتركيز على تربيتهم روحيّا ، وتعليمهم الإسلام ، وإطلاعهم على أنقى المصادر الموثوقة للفكر الإسلامي ، ومن خلال روافده الثرّة الغنيّة ، بهدف وصل الحلقات ، كي لا تنقطع سلسلة عقد الإيمان ، ولا تنفرط اُسس العقيدة.
وبهدف تحصين العقول والنفوس من الانحرافات التي يثيرها علماء السوء الذين كانوا يبعدون الناس عن الإسلام الحقّ ، ويكدّرون ينابيعه وروافده بالشبه والأباطيل.
وتعدّ هذه البادرة من أهم معالم الحركة عند الإمام زين العابدين ، وأعمقها أثرا وخلودا في مقاومة الدولة الحاكمة ، التي استهدفت كل معالم الإسلام ، بغرض القضاء عليه ، وإبادته ، والعودة بالأمة الى الجاهلية الأولى بوثنيّتها ، وفسادها ، وجهلها.

(1) تاريخ دمشق الحديث (111) ومختصره لابن منظور ( 17 : 243 ) وانظر صورا أخرى للقصة في بحار الأنوار ( 46 : 94 و 167 ) وشرح الأخبار ، للقاضي ( 3 : 260 ) وكشف الغمة ( 2 : 100 ) وتاريخ الطبري ( 5 : 216 ) وتاريخ اليعقوبي ( 2 : 280 و 283 ).
(2) الإمام زين العابدين ، للمقرم (ص 412).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 122

فراح الإمام يدعو الأمة الى التفكير والتدّبر :
فمن أقواله عليه السلام : الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته (1).
ويدعو الى العلم والفضل والحكمة :
فقال عليه السلام : سادة الناس في الدنيا : الأسخياء ، وفي الآخرة : أهل الدين ، وأهل الفضل ، والعلم ، لأنّ العلماء ورثة الأنبياء (2).
وقال عليه السلام : لو يعلم الناس ما في طلب اللم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج .
إن الله أوحى الى دانيال : إنّ أمقت عبيدي إليّ الجاهل ، المستخفّ بحقّ أهل العلم ، التارك للاقتداء بهم ، وإنّ أحبّ عبيدي إليّ التقيّ ، الطالب للثواب الجزيل ، الملازم للعلماء ، التابع للحكماء (3).
وكان عليه السلام يحثّ الأمة ـ والشباب منهم خاصة ـ على طلب العلم ، فكان إذا نظر الى الشباب الذين يطلبون العلام أدناهم اليه ، فقال : مرحبا بكم ، أنتم ودائع العلم ، أنتم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين (4).
وكان إذا جاءه طالب علم قال : مرحبا بوصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (5).
ويدعو الأمة الى المراقبة الذاتيّة لنفسها ، لتتحصّن من اجتياح وسائل التزوير والخداع ، ونفوذ نفثات الشياطين.
فيقول عليه السلام : ليس لك أن تقعد مع من شئت ، لأنّ الله تعالى يقول في الأنعام [ الآية : 68 ] : «وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، وإمّا ينسينّك فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ».
وليس لك أن تتكلّم بما شئت ، لأنّ الله يقول في الإسراء [ الآية : 36 ] : «ولا تقف ما

(1) تاريخ دمشق ( الحديث 138 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 254 ).
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 85 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 239 ).
(3) الوافي ، للفيض الكاشاني ( 1 : 42 ).
(4) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام (ص 171). عن الأنوار البهية ، للقمي.
(5) الخصال ، للصدوق (ص 517).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 123

ليس لك به علم» وقال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم : « رحم الله عبدا قال خيرا فغنم ، أو صمَتَ فسلم».
وليس لك أن تسمع ما شئت ، لانّ الله يقول : [ الإسراء : 36 ] : «إنّ السمع والبصر والفؤاد كل اُولئك كان عنه مسؤولا »(1).
وبهذا يحذّر الإمام عليه السلام الأمة من الجلوس مع المزوّرين والظالمين ، ومن التحدّث والكلام معهم ، أو صرف العمر معهم في حديث الجهالات والخرافات ، وما لا يزيد الإنسان معرفة بحياته أو قوّة وتركيزا في عقيدته وإيمانه ، أو تعديلا في سلوكه وأخلاقه ، بل لا تعدو لغو السمر ، والشعر الساقط ، وأحاديث الفكاهة والمجون ، التي كان يروّجها السلاطين وأمراء السوء.
وهو عليه السلام في الوقت نفسه يحيي بهذا الاسلوب سنن الاستدلال بآيات القرآن الكريم ، والاعتماد عليه وعلى سنة رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم اللذين دأب الظالمون على إبعاد الأمة عنهما ، وإماتتهما ، وإبادتهما بالإحراق بالنار ، والإماثة في الماء ، والدفن تحت الأرض ، ومنع التدوين.
كما حذّر الأمة من الارتباط بمن لا يدعو الى الله والحقّ ، ومن الاستماع إليهم ، وهم دعاة السوء ، وأدعياء العلم ، من علماء البلاط ، الذين ركنوا الى الظالمين وآزروهم.
وقد كان عليه السلام يدأب على تربية الأمة وتهذيبها ، وتقديم الإرشادات إليها ، وتجلّى ذلك في وصاياه المأثورة التي جمعت بين معالم الهداية والحكمة ، ووسائل الحذر والوقاية ، وبثّ الأمل والقوة ، وبعث النشاط والهمّة في نفوس أصحابه :
ففي رسالته إليهم يقول عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم
كفانا الله وإيّاكم كيد الظالمين ، وبغي الحاسدين ، وبطش الجبّارين.
أيّها المؤمنون ، لا يفتنكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا ، المائلون إليها ، المفتنون بها ، المقبلون عليها ، وعلى حطامها الهامد ، وهشيمها البائد غدا
.

(1) علل الشرائع ، للصدوق ( ص 5 ـ 606 ) الحديث (80) وانظر بحار الأنوار ( 1 : 101 ) طبع الحجر.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 124

فاحذروا ما حذّركم الله منها ، وازهدوا في ما زهّدكم الله فيه منها.
ولا تركنوا الى ما في هذه الأمور ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان.
والله ! إنّ لكم مما فيها لدليلا ، وتنبيها ، من تصرّف أيّامها ، وتغيّر انقلابها ومثلاتها ، وتلاعبها بأهلها ، إنّها لترفع الخميل ، وتضع الشريف ، وتورد أقواما الى النار غدا ، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه.
إنّ الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مضلاّت الفتن ، وحوادث البدع ، وسنن الجور ، وبوائق الزمان ، وهيبة السلطان ، ووسوسة الشيطان ، لتثبّط القلوب عن تنبّهها ، وتذهلها عن موجود الهدى ، ومعرفة أهل الحقّ إلاّ قليلا ممن عصم الله ، فليس يعرف تصرّف أيّامها وتقلّب حالاتها ، وعاقبة ضرر فتنتها إلاّ من عصم الله ، ونهج سبيل الرشد ، وسلك طريق القصد ، ثم استعان على ذلك بالزهد ، فكرّر الفكر ، واتّعظ بالعبر فازدجر ، وزهد في عاجل بهجة الدنيا ، وتجافى عن لذّاتها ، ورغب في دائم نعيم الآخرة ، وسعى لها سعيها ، وراقب الموت ، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين ، ونظر الى ما في الدنيا بعين نيّرة حديدة النظر ، وأبصر حوادث الفتن ، وضلال البدع ، وجور الملوك الظلمة.
فقد ـ لعمري ـ استدبرتم الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة ، والانهماك فيها ، ما تستدلّون به على تخيّب الغواة وأهل البدع ، والبغي ، والفساد في الأرض ، بغير الحقّ.
فاستعينوا بالله ، وارجعوا الى طاعة الله ، وطاعة من هو أولى بالطاعة ممّن اتبع فاطيع.
فالحذر ، الحذر ، من قبل الندامة والحسرة والقدوم على الله ، والوقوف بين يديه.
وتالله ! ما صدر قوم قطّ عن معصية الله إلاّ الى عذابه ، وما آثر قوم ـ قطّ ـ الدنيا على الآخرة ، إلاّ ساء منقلبهم ، وساء مصيرهم.
وما العلم بالله والعمل بطاعته إلاّ إلفان مؤتلفان ، فمن عرف الله خافه ، وحثّه الخوف على العمل بطاعة الله .
وإنّ أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ، ورغبوا إليه ، فقد قال الله
: «إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ» [ فاطر «35» الآية : 4 ].
فلا تلتمسوا شيئا مما في هذه الدنيا بمعصية الله ، واشتغلوا في هذا الدنيا بطاعة الله ،

جهاد الامام السجاد عليه السلام 125

واغتنموا أيّامها ، واسعوا لما فيه نجاتكم من عذاب الله ، فإن ذلك أقلّ للتبعة ، وأدنى من العذر ، وأرجى للنجاة.
فقدّموا أمر الله ، وطاعة من أوجب الله طاعته ، بين يدي الأمور كلها ، ولا تقدّموا الأمور الواردة عليكم من الطواغيت ، من زهرة الدنيا ، بين يدي أمر الله وطاعته وطاعة اُولي الأمر منكم.
واعلموا انكم عبيد الله ، ونحن معكم ، يحكم علينا وعليكم سيّد غدا ، وهو موقفكم ، ومسائلكم ، فأعدّوا الجواب قبل الوقوف والمسألة والعرض على ربّ العالمين.
واعلموا أن الله لا يصدّق كاذبا ، ولا يكذّب صادقا ، ولا يردّ عذر مستحق ، ولا بعذر غير معذور ، له الحجّة على خلقه بالرسل والأوصياء.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واستقبلوا في إصلاح أنفسكم طاعة الله ، وطاعة من تولّونه فيها ، لعلّ نادما قد ندم في ما فرّط بالأمس في جنب الله ، وضيّع من حقوق الله.
فاستغفروا الله ، وتوبوا إليه ، فإنه يقبل التوبة ، ويعفو عن السيّئة ، ويعلم ما تفعلون.
وإيّاكم ، وصحبة العاصين ، ومعونة الظالمين ، ومجاورة الفاسقين ، احذروا فتنتهم ، وتباعدوا من ساحتهم.
واعلموا أنّه من خالف أولياء الله ، ودان بغير دين الله ، واستبدّ بأمره دون وليّ الله كان في نار تلهب ، تأكل أبدانا قد غاب عنها أرواحها ، وغلبت عليها شقوتها ، فهم موتى لا يجدون حرّ النار ، ولو كانوا أحياءا لوجدوا مضض حرّ النار.
فاعتبروا يا أولي الأبصار واحمدوا الله على ما هداكم ، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله الى غير قدرته ، وسيرى الله عملكم ورسوله ، ثمّ إليه تحشرون.
وانتفعوا بالعظة.
وتأدّبوا بآداب الصالحين (1).

(1) الكافي ( 8 : 14 ـ 17 ) الأمالي للمفيد ( ص 200 ـ 204 ) وفيه : قال أبو حمزة الثمالي ـ راوي هذا الكتاب : « قرأت صحيفة فيها كلام زهد من كلام علي بن الحسين عليه السلام ، فكتبت ما فيها ، وأتيته به ، فعرضته عليه فعرفه وصحّحه » وأمالي الطوسي ( 1 : 4 ـ 127 ) ورواه في تحف العقول ( 252 ـ 255 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 126

بهذا يحصّن الإمام عليه السلام أصحابه خاصّة والمسلمين عامة بالطاعة ، والزهد ، والورع عن المعاصي ، والبعد عن بهجة الدنيا وعن مفاتن الحياة المادّية ، التي يستخدمها الطواغيت ، كمغريات لتحريف الأمة عن سنن الهدى.
ويحاول الإمام عليه السلام أن يهوّن عليهم المصائب والأتعاب التي تواجههم على هذا الطريق الوعر.
ويؤكّد عليه السلام على إلتزامهم بالحقّ ، واعتقادهم بولاية الأئمة الاطهار عليهم السلام الذين فرض الله ولايتهم وأوجب طاعتهم.
ويبثّ في نفوسهم روح المقاومة والصبر والصمود والمثابرة والجدّ ، ويثير فيهم روح العمل والتحرّك والنشاط !
ويملؤهم بالأمل ، والبشرى بالنجاح والفلاح ، ويصلّي عليهم لتكون صلاته سكنا لهم.
فيقول في دعائه ليوم عرفة بعد الصلاة على الإئمة :
أللهمّ !
وصلّ على أوليائهم ، المعترفين بمقامهم ، المتّبعين منهجهم ، المقتفين آثارهم ، المستمسكين بعروتهم ، المتمسكين بولايتهم ، المؤتمّين بإمامتهم ، المسلّمين لأمرهم ، المجتهدين في طاعتهم ، المنتظرين أيّامهم ، المادّين إليهم أعينهم
(1).
وبهذه القوة ، ليصنع منهم جيلا ، متكتّلا ، متوثّبا ، طموحا ، ثابت الجأش ، قويّ العزيمة ، متماسك الصفّ ، متّحد الهدف.
وفي نصّ آخر ، يحثّهم الإمام عليه السلام على المواساة والإحسان ، والمنافسة فيقول :
شيعتنا !
إما الجنّة فلن تفوتكم ، سريعا كان أو بطيئا ، ولكن تنافسوا في الدرجات !
واعلموا أنّ أرفعكم درجات ، وأحسنكم قصورا ، ودورا ، وأبنية : أحسنكم إيجابا بإيجاب المؤمنين ، وأكثركم مواساة لفقرائهم.


(1) الصحيفة السجادية ، الدعاء (47) ليوم عرفة.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 127

إنّ الله ليقرّب الواحد منكم الى الجنّة بكلمة طيّبة يكلّم أخاه المؤمن الفقير ، بأكثر من مسيرة ماءة عام بقدمه ، وإن كان من المعذّبين بالنار.
فلا تحتقروا الإحسان الى إخوانكم ، فسوف ينفعكم حيث لا يقوم مقام غيره
(1).
وهو عليه السلام في الوقت الذي يجد من أنصار الحق تذمّرا ، أو وهنا ، أو تألما من مجاري الأحداث حولهم ، يهبّ لنجدتهم ، وتقويتهم روحيا ومعنويا ، فيقول :
فما تمدّون أعينكم ؟
لقد كان من قبلكم ، ممّن هو على ما أنتم عليه ، يؤخذ فتقطع يده ورجله ويصلب !

ثم يتلو عليه السلام : «أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء »... ) [ البقرة (2) : 214 ] (2).
وبكل هذه الجهود والتحصينات والتعاليم المركّزة ، ترّبى جيل صامد من المؤمنين ، المتسلّحين بالإسلام ، بعلومه وعقيدته وتقواه وإخلاصه ، فأصبحوا أمثلة للشيعة وقدوة صالحة للتعريف لمن يستحق هذا الاسم من المنتمين الى التشيّع ، من أمثال :
يحيى بن اُمّ الطويل :
الذي عدّ من القلائل الذين بقوا ـ بعد كربلاء ـ على ولائهم واتصالهم بالإمام زين العابدين عليه السلام (3) ، بل هو من حوارييه (4) ، ومن أبوابه (5).
وكان من المجاهرين بالحق ، كان يقف بالكناسة في الكوفة ، وينادي بأعلى صوته :
معاشر أولياء الله !
إنا بُرءآء مما تسمعون.
من سب عليّا عليه السلام فعليه لعنة الله.
ونحن برءآء من آل مروان وما يعبدون من دون الله.
ثم يخفض صوته فيقول : من سبّ أولياء الله فلا تقاعدوه ، ومن شكّ في ما نحن

(1) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام (ص 50).
(2) بحار الأنوار ( 67 ـ 197 ).
(3) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص 123) رقم (194).
(4) معجم رجال الحديث ( 20 : 42 ).
(5) تاريخ أهل البيت عليهم السلام (ص 48).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 128

عليه فلا تفاتحوه ، ومن احتاج الى مسألتكم من إخوانكم.. فقد خنتموه (1).
وكان يدخل مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ـ حيث يجتمع المشبّهة الملحدون ـ ويقول : كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء (2).
وقد طلبه الحجّاج ، وأمر بقطع يديه ورجليه ، وقتله (3).
وسعيد بن جُبَير : الذي مثّل به الحجّاج وقتله (4) وكان قد خرج مع عبدالرحمن بن الأشعث ، يحارب دولة بني اُمية وكان يومئذ يقول : قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم ، بنيّة ويقين ، على آثامهم قاتلوهم ، وعلى جورهم في الحكم ، وتجبّرهم في الدين ، واستذلالهم الضعفاء ، وإماتتهم الصلاة (5).
والذين اختفوا من جور بني اُمية مثل سالم بن أبي حفصة ، وسليم بن قيس الهلالي ، وعامر بن واثلة الكناني ، ومحمد بن جبير بن مطعم.
والذين هربوا فنجّاهم الله مثل أبي خالد الكابلي ، وأبي حمزة الثمالي ، وشعيب مولى الإمام (6).
وآل أعين الذين قال الحجّاج فيهم : « لا يستقيم لنا الملك ومن آل أعين رجل تحت حجر » ، فاختفوا وتواروا (7).
وفي طليعة من ربّاهم الإمام زين العابدين أبناؤه :
الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام ، الذي تحمّل الإمامة من بعده ، وقاد الاُمة الى

(1) الكافي ، الأصول ( 2 : 281 ) باب مجالسة أهل المعاصي (ح 16).
(2) الاختصاص (ص 64) ورواه الخصيبي في ( الأبواب ) بزيادة قوله : « حتى تؤمنوا بالله وحده » فلاحظ الباب (5) ص ( 124 : ألف ).
(3) رجال الكشي (ص 123) رقم (194).
(4) انظر رجال الكشي (ص 119) رقم (190) بحار الأنوار ( 46 : 136 ) ومروج الذهب ( 3 : 173 ) والامامة والسياسة ( 2 : 51 ) والاختصاص (ص 205).
(5) أيام العرب في الإسلام (ص 478).
(6) لاحظ تراجم هؤلاء في كتب رجال الحديث عند الشيعة الإمامية وغيرهم وانظر عوالم العلوم (ص 279).
(7) رسالة أبي غالب الزراري (ص 190) الفقرة (4).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 129

الهدى والرشاد ، وأسّس المدرسة الفقهيّة على قواعد الإسلام المتينة ، ومصادره واُصوله الرصينة ، عندما بدأ الحكّام بترويج فقه وعّاظ السلاطين ، فحفظ بذلك الشريعة المقدّسة من الزوال.
وابنه الحسين الأصغر ، الذي روى عن أبيه العلم ، وكان مشارا إليه في العبادة والصلاح (1).
وأخذ الحديث عن عمّته فاطمة بنت الحسين ، وأخيه الإمام الباقر عليه السلام (2).
وقال فيه الإمام الباقر عليه السلام : أمّا الحسين فحليم ، يمشي على الأرض هونا (3).
وابنه العظيم المجاهد في سبيل الله زيد الشهيد عليه السلام الذي ضرب أروع الامثلة في الإباء والحميّة ، والفداء والتضحية.
وكان عين اخوته ـ بعد أبي جعفر عليه السلام ـ وأفضلهم ، وكان عابدا ورعا ، فقيها ، سخيّا ، شجاعا ، وظهر بالسيف ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويطلب بثارات الحسين عليه السلام (4).
إن ثورة زيد بن علي عليه السلام كانت عظيمة من حيث توقيتها ، وآثارها التي خلّفتها ، لخدمة حقّ أهل البيت عليهم السلام ، ونستعرض في ما يلي بعض ذلك :
1 ـ إنّ هذه الحركة الشجاعة دلّت على أنّ البيت الذي يلد مثل زيد من الرجال ، في البطولة والشهامة ، والجرأة والإقدام ، فضلا عن العلم والعبادة والتقى ، لا يبنى على التخاذل والمهادنة مع الظالمين ، أو الابتعاد عن السياسة والتوجّس من العذاب ، والهول من المصائب.
ولو كان لأحد أثر في تربية زيد الشهيد على كلّ تلك الصفات ، فليس إلاّ لأبيه الإمام الطاهر زين العابدين ، وإلاّ لأخيه الإمام الباقر عليهما السلام ، اللّذين علّماه الإسلام بما فيه من تعاليم الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودرّساه التاريخ بما فيه

(1) الإرشاد للمفيد (ص 269).
(2) الإرشاد للمفيد (ص 269).
(3) حياة الإمام محمد الباقر ( 1 : ).
(4) الإرشاد للمفيد (268).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 130

بطولات جدّه عليّ أمير المؤمنين عليه السلام وذكّراه بثارات جدّه الحسين عليه السلام ، وزقّاه المجد والكرامة ، ولقّناه الإباء والحريّة (1).
واستلهم ـ هو ـ من حياة أبيه وأخيه ، وسيرتهم الحميدة والأصيلة ، ونضالهم الصامت والناطق سنن التضحية والفداء ، حتى جعل في مقدمة أهداف ثورته العظيمة : الطلب بثارات الحسين عليه السلام في كربلاء (2).
2 ـ إنّ ثورة زيد بن علي عليه السلام هي الثمرة اليانعة للجهود السياسية التي بذلها الإمام زين العابدين ، طول فترة إمامته ، فهو الذي تمكّن بتخطيطه الدقيق من استعادة القوى ، وتهيئة النفوس ، لمثل حركة ابنه الشهيد ، وإن صحّ التعبير فهو الذي جيّش لابنه زيد ذلك الجيش المسلّح ، الذي فاجأ الظالمين ، وزعزع ثقتهم بالحكم الظالم.
فلم يكن الجيش الذي كان مع زيد وليد ساعته ، أو يومه ، أو شهره ، أو سنته ، مع تلك المقاومة الباسلة التي أبداها أصحابه وأنصاره (3).
3 ـ ويكفي زيد بن علي عليه السلام عظمة أنه ضحّى بنفسه في سبيل تعزيز مواقع الأئمة الطاهرين من أهل البيت عليهم السلام ، فقد كشف للأمويين الطغاة ، في فترة حساسة من تاريخ حكمهم ، أنّ أهل البيت عليهم السلام لا يزالون موجودين في الساحة ، ولديهم القدرة الكافية على التحرّك في أيّ موقع زمني ، وأي موضع من البلاد ، وهذا ما جعل الأمويين يهابون الأئمة عليهم السلام ويعدّونهم المعارضين الأقوياء ، المدافعين عن هذا الدين ، برغم جسامة التضحيات التي كانوا يقدّمونها ، وأبان الشهيد زيد لكلّ الظالمين أنّ أهل اليت عليهم السلام لا يسكتون عمّن يعتدي على كرامة الإسلام ، مهما كلّف الثمن.
وبهذا يفسّر قوله لابن أخيه الصادق جعفر بن محمد ـ لما أراد الخروج الى الكوفة ـ : أو ما علمت يابن أخي أن قائمنا لقاعدنا ، وقاعدنا لقائمنا ، فإذا خرجت أنا وأنت ، فمن يخلفنا في حرمنا ؟ (4)

(1) تعلم زيد على ابيه وعلى أخيه الباقر عليهما السلام انظر : طبقات ابن سعد ( 5 : 240 ) وتاريخ ابن عساكر ( تهذيب بدران ) ( 6 : 19 ) وانظر : ثورة الحسين لناجى حسن ( ص 28 و 32 ).
(2) الإرشاد للمفيد (268) وانظر الفرق بين الفرق ، للبغدادي (ص 35).
(3) لاحظ ثورة زيد لناجي حسن ( ص 98 ).
(4) نقله الإمام الهادي في المجموعة الفاخرة (ص 220).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 131

4 ـ إن قيام الشهيد زيد بن علي عليه السلام ، بحركته خارج حدود المدينة صرف أنظار الحكّام عن قطب رحى الدين ، ومحور فلك الإمامة والقيادة ، وهم الأئمة القائمون في المدينة المنوّرة ، بحيث تمكّن الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام من أداء دوره القياديّ ، مستفيدا من كلّ الأجواء الإيجابيّة التي خلقتها ثورة عمّه الشهيد زيد بن علي عليه السلام ، لينشر علوم آل محمد الحقّة ، ويربّي الجيل الإسلامي المؤمن.
وكفى ذلك عظمة ومجدا وهدفا ساميا.
5 ـ وكان من ثمرات ثورة زيد بن علي عليه السلام أنه أثبت للأمة صدق الدعوى التي يرفع رايتها أئمة أهل البيت ، في الدفاع عن هذا الدين والنضال من أجله ، فهذه التضحيات الكبرى أوضح شاهد على ذلك.
وكان ذلك تعزيزا علميا لمواقع أهل البيت عليهم السلام في أوساط الأمّة الإسلامية (1).

(1) إقرأ مفصلا عن زيد الشهيد وأخباره في عوالم العلوم (ص 219) وما بعدها من الجزء الخاص بترجمة الإمام السجاد عليه السلام.

السابق السابق الفهرس التالي التالي