جهاد الامام السجاد عليه السلام 132

ثانيا : في مجال الإصلاح وشؤون الدولة

إن كان الإصلاح من أبرز ما يقصده الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، لأنّ مهمتهم إنّما جعلت في الأرض لدفع الفساد عنها بهداية الخلق الى ما هو صالح لهم ، وقطع دابر المفسدين.
فإن كان هذا هو الحق : فإن الإمام زين العابدين عليه السلام لم يتخلّ عن موقعه الإلهي ، كقائد للأمة الإسلامية ، ومصلح للمجتمع الإسلاميّ ، وقد تبلور في ساحة العمل الأجتماعي ، في كل زواياها وأطرافها ، وأبرزها المطالبة بإصلاح جهاز الحكم.
أنّ أقصى ما يريد أن يبعده المؤرخون المحدثون عن حياة الإمام زين العابدين هو العمل السياسي ، والتعرّض للجهاز الحاكم ، والتطلّع الى إصلاح الدولة ، فيحاولون الإيحاء ـ بعبارات شتّى ـ أنّ الإمام عليه السلام لم يكن سياسيّا ، وكان بعيدا عن التورّط في ما يمسّ قضايا السياسة من قريب أو بعيد ، وأنه انزوى متعبّدا بالصلاة والدعاء والاعتكاف !
ومع اعتقادنا أنّ مزاولات الإمام الدينيّة ـ كلّها من صميم العمل السياسي ، وخصوصا في عصره ، إذ لم يسمع نغم الفصل بين السياسة والدين ، بعد !
فمع ذلك : نجد في طيّات حياة الإمام زين العابدين عليه السلام عيّنات واضحة ، من التدخّلات السياسيّة الصريحة.
فهو في ما يلي من النصوص المنقولة عنه ، يبدو رجلا مشرفا على الساحة السياسية ، فهو يدخل في محاورات حادّة ، ويتابع مجريات الأحداث ، ويدلي بتصريحات خطرة بشأن الأوضاع الفاسدة التي تعيشها الأمّة ، وهو ينميها ـ بكل صراحة ـ الى فساد الدولة.
1 ـ قال عبد الله بن حسن بن حسين :
كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يجلس كلّ ليلة ، هو ، وعروة بن الزبير ، في مؤخّر مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ! بعد العشاء الآخرة ، فكنتُ أجلس معهما ، فتحدّثا ليلة ، فذكرا جور من جار من بني اٌمية ، والمقام معهم ، وهما لا يستطيعان تغيير ذلك !
ثمّ ذكرا ما يخافان من عقوبة الله لهم !

جهاد الامام السجاد عليه السلام 133

فقال عروة لعلي : يا علي ، إنّ من اعتزل اهل الجور ، والله يعلم منه سخطه لإعمالهم ، فكان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رجي له أن يسلم مما أصابهم.
قال : فخرج عروة ، فسكن العقيق.
قال عبدالله بن حسن : وخرجت أنا فنزلت سويقة (1).
إمّا الإمام زين العابدين فلم يخرج ، بل : آثر البقاء في المدينة طوال حياته (2) لأنه يعدّ مثل هذا الخروج فرارا من الزحف السياسي ، وإخلاءا للساحة الاجتماعية للظالمين ، يجولون فيها ويصولون.
وما أعجب ما في النصّ من قوله : « يجلسون كلّ ليلة... في مسجد الرسول» وكأنّه اجتماع منظّم ، ولا ريب أن فيه تحدّيا صارخا للنظام يقوم به الإمام زين العابدين عليه السلام.
ولعلّ اقتراح عروة بن الزبير ـ وهو من أعداء أهل البيت عليهم السلام ـ (3)كان تدبيرا سياسيّا منه ، أو من قبل الحكاّم ، ومحاولة لإبعاد الإمام عليه السلام عن الحضور في الساحة الاجتماعية ، لكنه عليه السلام لم يخرج ، وظل يداوم مسيرته النظاليّة.
2 ـ وفي حديث آخر : قال الإمام زين العابدين عليه السلام : إنّ للحمق دولة على العقل وللمنكر دولة على المعروف ، وللشرّ دولة على الخير ، وللجهل دولة على الحلم ، وللجزع دولة على الصبر ، وللخُرْق دولة على الرفق ، وللبؤس دولة على الخصب ، وللشدّة دولة على الرخاء ، وللرغبة دولة على الزهد ، وللبيوت الخبيثة دولة على بيوتات الشرف ، وللأرض السبخة دولة على الأرض العذبة.
فنعوذ بالله من تلك الدول ، ومن الحياة في النقمات (4).

وإذا كانت « الدولة » ـ في اللسان العربّي ـ هي : الغلبة والاستيلاء ، وهي من أبرز مقوّمات « السلطة الحاكمة » فإنّ الإمام عليه السلام يكون قد أدرج قضيّة السلطة السياسيّة

(1) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( 17 : 21 ).
(2) جهاد الشيعة ، لليثي (ص 29).
(3) لاحظ تنقيح المقال ( 2 : 251 ).
(4) تاريخ دمشق ( الحديث 142 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 255 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 134

في سائر القضايا الحيويّة ، والطبيعية ، التي يهتّم بها ، ويفكّر في إصلاحها ، ويحاول رفع مشكلاتها التي تستولي على الإنسان ، من اقتصاديّة ، وثقافيّة ، ونفسيّة ، ودينيّة.
فمن ـ يا ترى ـ يعني الإمام عليه السلام بالبيوتات الخبيثة التي لها السلطان على الأشراف ، في عصر الإمام عليه السلام ؟!
ومن هي البيوتات الشريفة المغلوبة في عصره عليه السلام ؟!
وهل التعوّذ بالله من دولة السلطان ، يعني أمرا غير رفض وجوده ، واستنكار سلطته ؟!
وهل لسياسيّ آخر حضور أقوى من هذا ، في مثل ظروف الإمام عليه السلام وموقعه ، وضمن تخطيطه الشامل لحلّ المشاكل ؟!
وأخيرا هل يصدر مثل هذا من رجل ادُّعيَ : أنّه ابتعد عن السياسة ، أو اعتزلها ؟!

جهاد الامام السجاد عليه السلام 135

ثالثا : في مجال مقاومة الفساد

وإذا كان من أهم واجبات المصلح ، وخاصّة الإلهي ، مقاومة الفساد ، ومحاربة المفسدين في الأرض ، فإنّ الإمام زين العابدين عليه السلام قام بدور بارز في أداء هذا المهمّ.
وقد تميّز عصر الإمام عليه السلام ، بمشاكل اجتماعيّة من نوع خاصّ ، وقد تكون موجودة في كثير من الأوقات ، إلاّ أنّ بروزها في عصره كان واضحا ، ومكثّفا ، كما أنّ الإمام زين العابدين قام بمعالجتها بأسلوبه الخاصّ ، مما أعطاها صبغة فريدة ، تميّزت في نضال الإمام عليه السلام ، أهمها :
1 ـ مشكلة العصبيّة ، والعنصريّة.
2 ـ مشلكة الفقر العام.
3 ـ مشكلة الرقّ والعبيد.
ولنبحث عن كل واحدة ، وموقف الإمام عليه السلام في معالجتها :
1ـ مقاومة العصبيّة والعنصريّة :


إن الأمويين ـ بعد إحكام قبضتهم على الحكم ـ اعتمدوا سياسة التفرقة العنصرية بين طوائف الأمة ، والعصبية القبليّة بين مختلف طبقاتها ، محاولين بذلك تفتيت المجتمع الإسلامي ، وتقطيع أواصر الوحدة بين أفراد الأمة الإسلامية ، تلك الوحدة التي شرّعها الله بقوله تعالى :« إنّ هذه أمتّكم أمّة واحدة» * « وأنا ربكم فاعبدون » [ سورة الأنبياء : «21» الآية : 92 ].
ودفعا لها على التفرّق الذي نهى عنه الله بقوله تعالى :« واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا »[ سورة آل عمران : «3» الآية : 103 ].
حتى وصل الأمر الى : أنّه تتابع فخر النزاريّة على اليمنيّة ، وفخر اليمنيّة على النزاريّة ، حتى تخرّبت البلاد ، وثارت العصبيّة في البدو والحضر ـ كما يقول المسعودي ـ (1).

(1) مروج الذهب ( 2 : 197 )
جهاد الامام السجاد عليه السلام 136

وقال ابن خلدون : إن عصبيّة الجاهلية نسيت في أول الإسلام ، ثم عادت كما كانت ، في زمن خروج الحسين عليه السلام عصبية مضر لبني اُمية كما كانت لهم قبل الإسلام (1).
فقاموا بأعمال تسير على هذه السياسة الخارجة عن حدود الدين والشرع ، مثل تأمير العراب ، وتقديم العربي ولو كان خاملا على الكفوئين من غير العرب ، والسعي في تعريب كل شرائح وأجهزة الدولة ، بتنصيب العرب في مناصب الديوان ، والقضاء ، وحتى الفقه.
وتجاوزوا كلّ الأحكام الشرعية في التزامهم باساليب الحياة العربية الجاهلية ، فتوغّلوا في اللهو والاستهتار بالمحرّمات ، والظلم ، والقتل ، حتى تجاوزوا أعرافا عربية سائدة بين العرب قبل الإسلام ، فخانوا العهد ، وأخفروا الذمّة ، وهتكوا العرض (2).
ولقد بلغت تعدّياتهم أن كان معاوية : يعتبر الناس العرب ، ويعبر الموالي شبه الناس (3).
وقد استغّل الجاهلون هذا الوضع ، فكان العرب لا يزوّجون الموالي (4).
وجاء في بعض المصادر أن حاكم البصرة ـ بلال بن أبي بردة ـ ضرب شخصا من الموالي ، لأنه تزوج امرأة عربيّة (5).
ووصلت عدوى هذا المرض الى علماء البلاط أيضا فاتبعوا سياسة الاسياد ، فقد وجّهت الى الزهريّ تهمة أنه لا يروي الحديث عن الموالي ، فسئل عن ذلك ؟ فاعترف به (6).

(1) نقله علي جلال في كتاب : الحسين عليه السلام ( 2 : 188 ).
(2) لاحظ : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، لأبي الحسن الندوي. وأقرأ ثورة زيد ( ص 77 وما بعدها ).
(3) تاريخ دمشق ، مختصر ابن منظور ( 17 : 284 ).
(4) وسائل الشيعة ، كتاب النكاح ، الباب (26) الحديث (4) تسلسل ( 25060 ) ولاحظ العقد الفريد ، للأندلسي ( 3 : 360 ـ 364 ).
(5) لاحظ : طبقات ابن سعد ( 7 : 26 ق 2 ). وانظر تهذيب الكمال ، للمِزي ( 4/272 ).
(6) المحدث الفاصل ، للرامهرمزي ( ص 409 ) رقم (431) والجامع لأخلاق الراوي ،
جهاد الامام السجاد عليه السلام 137

قال أحمد أمين المصريّ : لم يكن الحكم الأموي حكما إسلاميا يسّوى فيه بين الناس ، ويكافأ فيه المحسن عربيا كان أو مولى ، ويعاقب من أجرم عربيا كان أم مولى ، ولم تكن الخدمة للرعيّة على السواء ، وإنّما كان الحكم عربيّا ، والحكّام فيه خدمة للعرب على حساب غيرهم ، وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية ، لا النزعة الإسلاميّة (1).
ولقد قاوم الإمام زين العابدين عليه السلام هذه الردّة الاجتماعية عن الإسلام بكل قوّة ، وتمكن ـ بحكم موقعه الاجتماعي ، واصالته النسبية ـ أن يقتحم على بني اُميّة ، بلا رادع أو حرج.
قال الدكتور صبحي : في ما كان الأمويون يقيمون ملكهم على العصبيّة العربيّة عامة ، كان زين العابدين عليه السلام يشيع نوعا من الديمقراطيّة الاجتماعية (2) بالرغم مما يجري في عروقه من دم أصيل ، أباً وأمّاً ، وقد أقدم على ما زعزع التركيب الاجتماعي للمجتمع الإسلامي الذي أراد له الأمويّون أن يقوم على العصبيّة (3).
وقد قاوم الإمام زين العابدين عليه السلام ذلك ، نظريا بما قدّمه من تصريحات ، وعمليّا بما أقدم عليه من مواقف :
فكان يقول : لا يفخر أحدٌ على أحدٍ ، فإنّكم عبيد ، والمولى واحدٌ (4).
وكان يجالس مولى لآل عمر بن الخطاب ، فقال له رجل من قريش ـ هو نافع بن جبير ـ : أنت سيّد الناس ، وأفضلهم ، تذهب الى هذا العبد وتجلس معه ؟!

=
للخطيب ( 1/192 ).
(1) ضحى الإسلام ( 1 : 187 ).
(2) يلاحظ أن هذا الكاتب نفسه يقول عن الإمام : « لكن الإقبال على الله ، واعتزال شؤون العالم... كان منهجه في حياته الخاصة » وقد سبق كلامه في المقدمة ( ص 10 ـ 11 ).
(3) نظرية الإمامة ، للدكتور صبحي ( ص 6 ـ 257 ).
(4) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 217 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 138

فقال عليه السلام :أءتي من أنتفع بمجالسته في ديني (1) أو قال : إنما يجلس الرجل حيث ينتفع (2).
ومن المعلوم أن ما ينتفع به الإمام عليه السلام من هذا المولى ليس إلاّ بنفس المجالسة ، فإنّ هذه المجالسة تحقّق للإمام غرضه السياسي من إعلان معارضته لسياسة بني اُميّة المبتنية على طرد الموالي وعدم احترامهم ، فإذا جالسه الإمام زين العابدين عليه السلام ـ وهو من لا ينكر شرفه نسبا وحسبا ـ فإنّ ذلك نسف لتلك السياسة التي تبنتها الدولة ورجالها !
وقال له طاوس اليماني ـ وقد رآه يجزع ويناجي ربّه بلهفة ـ : يابن رسول الله ، ما هذا الجزع والفزع ،... ، وأبوك الحسين بن علي ، واُمّك فاطمة الزهراء ، وجدّك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
فالتفت الإمام عليه السلام إليه وقال : هيهات ، هيهات ، يا طاوس ، دع عنّى حديث أبي ، وأُمّي ، وجدّي ، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ، ولو كان عبدا حبشيا ، وخلق النار لمن عصاه ، ولو كان ولدا قرشيّا ، أما سمعت قوله تعالى : « فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون » [ سورة المؤمنون (23) الآية : 101 ].
والله ، لا ينفعك ـ غدا ـ إلاّ تقدمة تقدّمها من عمل صالح (3).
واعتق الإمام زين العابدين عليه السلام مولاة له ، ثم تزوّجها ، فبلغ ذلك عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي ، فعدّها تحدّيا لعرف السلطة الحاكمة ، فكتب الى الإمام يحاسبه ويعاتبه على ذلك ، ومما جاء في كتابه : « إنّك علمت أنّ في أكفائك من قريش من تتمجّد به في الصهر ، وتستنجبه في الولد ، فلا لنفسك نظرت ، ولا على ولدك أبقيت... ».
وهذا كلام ـ مع أنه ينمّ عن التعزّي بعزاء الجاهلية في عنصريتها وغرورها ـ فهو تعريض بالإمام عليه السلام أنه ليس بحكيم ، وأنه بحاجة الى أن يتمجّد بمصاهرة واحد من

(1) سير أعلام النبلاء ( 4 : 388 ) وانظر حلية الأولياء ( 3 : 137 ) وصفوة الصفوة ( 2 : 98 ).
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 30 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 233 ) وطبقات ابن سعد ( 5 : 216 ).
(3) مناقب ابن شهر آشوب ( 3 : 291 ) كشف الغمة ( 4 : 151 ) بحار الأنوار ( 46 : 82 ) ونقل عن مجالس ثعلب ( 2 : 462 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 139

قريش ، وأن ولده لا ينجب إلاّ بمثل ذلك ، متغافلا عن أن الإمام عليه السلام بنفسه هو مصدر الحكمة والمجد والنجابة.
فأجابه الإمام زين العابدين عليه السلام بكتاب ، جاء فيه :
« أمّا بعد : فقد بلغني كتابك ، تعنّفني فيه بتزويجي مولاتي ، وتزعم : « أنه كان في قريش من أتمجّد به في الصهر ، واستنجبه في الولد ».
وإنه ليس فوق رسول الله مرتقى في مجد ، ولا مستزاد في كرم.
وكانت هذه الجارية ملك يميني ، خرجت منّي إرادة لله عزوجل بأمر ألتمس فيه ثوابه ، ثم ارتجعتها على سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن كان زكيّا في دين الله تعالى فليس يخلّ به شيء من أمره.
وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة ، وتمّم به النقيصة ، وأذهب به اللؤم ، فلا لؤم على امرىء مسلم ، وإنّما اللؤم لؤم الجاهلية.
والسلام » (1)

وقد عرّض الإمام عليه السلام في هذا الكتاب بأن ما يقوم به حكّام بني اُمية من تبنّي العصبية هو مخالف للإسلام ولسنة الرسول ، بل قلب عليه كل الموازين التي اعتمدها في كتابه الى الإمام ، وجعل العتاب مردودا عليه ، والنقص والعار واردا على الجاهلية التي يتبجّح بها من خلال العصبية.
وقال عليه السلام : لا حسب لقرشي ، ولا عربي إلاّ بالتواضع ، ولا كرم إلاّ بالتقوى ، ولا عمل إلاّ بالنيّة ، ولا عبادة إلاّ بالتفقّه ، ألا وإن أبغض الناس الى الله من يقتدي بسنّة إمام ، ولا يقتدي بإعماله (2).
وقال عليه السلام : العصبية التي يأثم صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه ، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه

(1) الكافي ، الفروع ( 5 : 344 ).
(2) تحف العقول ( ص 28 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 140

على الظلم
(1).
وهذا حسم قيّم في هذا المجال ، حيث أن الميل الى العصبة والقبيلة أمر طبيعيّ ، جرت عليه العادة ، فإذا كان على أساس الحب والولاء فهو أمر جيّد ، لكن إذا كان على أساس المحاباة ، وظلم الآخرين وعلى حساب حقوق الأباعد ، أو كان من باب اعانة الظالم ، فهذا هو المردود في الإسلام.
والذي يدّعيه أصحاب النعرات العنصريّة ، وأهل الغرور والجهل ، الفارغين من القيم ، كبني اُميّة ، هو النوع الثاني.
إنّ هذه التصريحات ، وتلك المواقف ، بقدر ما كانت مثيرة للسلطة المتبيّنة لسياسة العصبية والعنصرية ، حتّى أثارت أحاسيس الملك نفسه ، فهي في الوقت ذاته كانت منيرة للدرب أمام الاُمة الإسلامية بكلّ طوائفها وأجناسها وألوانها وشعوبها وقبائلها ، تلك المغلوبة على أمرها ، تفتح أمامها أبواب الأمل بالإسلام ورجاله المخلصين ، الذين يقود مسيرتهم في ذلك العصر الإمام زين العابدين عليه السلام.
2 ـ ضد الفقر :


من المشاكل الاجتماعيه الخطيرة ، التي يستغلها الحكام لاٍحكام سيطرتهم على الأمة هي مشكلة الفقر والعوز والحاجة الى المال ، فإن السلطات تحاول اتّباع سياسة التجويع من جهة ، لإخضاع الناس وترغيبهم في العمل مع السلطات ، وثم سياسة التطميع والتمويل من جهة أخرى ، لتعويد الناس على الترف وزجّهم في الجرائم والآثام.
وهم بهذه السياسة يسيطرون على عصب الحياة في البلاد ، وهو المال ، يستفيدون منه في القضاء على من لا يرضى بهم ، وفي جذب من يرضون به من ضعفاء النفوس أمام هذه المادّة المغرية.
وقد ركن معاوية الى هذه السياسة في بداية سيطرته على البلاد ، فأوعز الى ولاته في جميع الأمصار : انظروا من قامت عليه البينّة أنه يحبّ علياً وأهل بيته فامحوه من

(1) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 203 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 141

الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه (1).
ولا ريب في أن رفع المستوى المعيشي لدى أفراد الأمة هو واحد من أهمّ الأهداف المرسومة لأيّة محاولة ثورية ، أو عمل إصلاحي ، حتى لو لم تكن دينية ، فكيف بها إذا كانت إلاهيّة ، يقودها شخص الإمام العادل ؟!
إنّ التحرّك للإصلاح ، والناس في بؤس وتخلّف اقتصادي ، سوف يكلّفهم الكثير الذي قد يعجزون عنه ، ولو تمكّن قائد ما أن يرفع من المستوى الأقتصادي للأمة ، فهم يكونون في حالة أفضل لتقبّل اُطروحة الإصلاح ، ويكون أوكد على صمودهم أمام الضغوط التي تفرض عليهم من قبل الظالمين والمعتدين.
ثم إنّ السعي في هذا المجال ، والمال حاجة يوميّة لكل أحد ، أوكد في تعميق الصلة بين القيادة والقاعدة ، من حيث تحسّس القيادة لأمسّ الحاجات ، وأكثرها ضرورة وأسرعها نفعا ، فتكون دليلا على حقّانيّة سائر الأهداف التي تعلن للخطة الإصلاحية.
ولقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يزاول عمليّة تموين الناس بدقة فائقة ، خاصّة عوائل الشهداء والمنكوبين في معارك ضد الدولة ، يقوم بذلك في سرّية تامّة ، حتى خفيت ـ في بعض الحالات ـ على أقرب الناس إليه عليه السلام.
والأهم من ذلك : أن الفقراء انفسهم لم يطلّعوا على أن الشخص المموّن لهم هو الإمام زين العابدين عليه السلام إلاّ بعد وفاته ، وانقطاع اُعطياته !
فعن أبي حمزة الثمالي : إن علي بن الحسين عليه السلام كان يحمل الخبز بالليل ، على ظهره يتبع به المساكين في ظلمة الليل ، ويقول : « إنّ الصدقة في سواد الليل تطفىء غضب الرّب» (2).
وعن محمد بن إسحاق ، قال : كان ناس من أهل المدينة يعيشون ، لا يدرون من أين كان معاشهم ، فلمّا مات علي بن الحسين عليه السلام فقدوا ما كان يؤتَوْو به بالليل (3).

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 11 : 45 ).
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 76 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ).
(3) تاريخ دمشق ( الحديث 77 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 142

وعن عمرو بن ثابت ، قال : لمّا مات علي بن الحسين عليه السلام وجدوا بظهره أثراً ، فسألوا عنه ؟ فقالوا : هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره الى منازل الأرامل (1).
وهذه الدقة في السّرّية كانت من أجل إلهاء عيون الدولة عن مواقفه.
مع أن الهدف الأساسي من هذا العمل ـ وهو تمويل الناس وتموينهم ـ كان يتحقّق بتلك الطريقة الهادئة.
ومع أن معرفة الناس للأمر ـ ولو بعد حين ـ كان أوقع في النفوس وأكثر تأثيرا في حبّ الناس لأهل البيت عليهم السلام.
ومع ما في ذلك من البعد عن الرياء ، والسمعة ، والمباهاة.
وقد وصلت سرية عمله عليه السلام الى حدّ أنه كان يتّهم بالبخل :
قال شيبة بن نعامة: كان علي بن الحسين يبخّل ، فلمّا مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة (2).
وقال ابن عائشة ، عن أبيه ، عن عمّه : قال أهل المدينة : ما فقدنا صدقة السرّ حتى مات علي بن الحسين (3).
وهذا واحد من أساليب عمله في رفع هذه المشكلة ، وقد اتّبع أساليب اُخرى ، نقرأ عنها الأحاديث التالية :
إنه عليه السلام كان يعتبر المشكلة الاقتصادية محنة كبيرة أن يجد الفقر متفشيا في الدولة الإسلامية ، وهي السعة بحيث لا يمكن معالجتها بسهولة :
ففي الحديث : شكا إليه عليه السلام بعض أصحابه دينا ، فبكى الإمام عليه السلام فلمّا سئل عن سبب بكائه ؟ قال عليه السلام : وهل البكاء إلاّ للمحن الكبار !؟ وأي محنة أكبر من أن يرى الإنسان أخاه المؤمن في حاجة لا يتمكّن من قضائها ، وفي فاقة لا يطيق دفعها (4) .
وأسلوب آخر في التركيز على مقاومة المشكلة :

(1) تاريخ دمشق ( الحديث 79 ) مختصر أبن منظور ( 17 : 238 ).
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 80 ) مختصر أبن منظور ( 17 : 239 ).
(3) حلية الاولياء ( 3 : 361 ) ، تاريخ دمشق ( الحديث 81 ) مختصر أبن منظور ( 17 : 239 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 4 : 393 ).
(4) أمالي الصدوق ( ص 367 ) ونقله في عوالم العلوم ( ص 29 ) في حديث طويل.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 143

عن الرضا عن أبيه ، عن جده عليهم السلام ، قال : قال علي بن الحسين : إنّي لأستحيي من الله عزوجل أن أرى الأخ من إخواني ، فاسأل الله له الجنة ، وأبخل عليه بالدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل لي : « لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل وأبخل» (1).
إنه رفع لمستوى مقاومة المشكلة الى مستوى مثاليّ رائع ، وخطاب موجّه الى كل من يعمل في الدنيا على حساب نعيم الآخرة ، لا على معطياتها الدنيوية فقط ، إنّه معنى عرفاني دقيق ، ورفيع ، وبديع.
وأسلوب آخر ، يدلّ على إصرار الإمام عليه السلام لتجاوز المشكلة :
قال عمرو بن دينار : دخل علي بن الحسين على محمّد بن اُسامة بن زيد ، في مرضه ، فجعل محمّد يبكي ، فقال : ما شأنك ؟
قال محمد : عليّ دين.
قال : كم هو ؟ قال : خمسة عشر ألف دينار ـ أو بضعة عشر ألف دينار ـ.
قال الإمام : فهي عليّ (2).
وقد جاء في الحديث أن الإمام عليه السلام قاسم الله تعالى ماله مرتين (3).
هذا من جهة.
ومن جهة اُخرى : نجد الإمام عليه السلام يؤكّد على تداول الثروة ويحثّ على تنميتها ، واستثمار الأموال ، وعدم تجميدها ، لأن تجميدها هو التكنيز المذموم ، للخسارة الواضحة فيها ، ولاحتمال سقوط القيمة الشرائية لها ، وتسبيبها لعدم ازدهار السوق الإسلامية ، بينما تداولها يؤدّي الى نقيض كلّ ذلك.
فقد قال الإمام عليه السلام : استنماء المال تمام المروءة(4) وفي نصّ آخر : استثمار المال (5).
وأذا قارنّا هذه المواقف من الإمام عليه السلام بما كان يجري على أيدي بني أميّة من

(1) تاريخ دمشق ( الحديث 84 ) مختصر أبن منظور ( 17 : 239 ) وتهذيب التهذيب ( 7 : 306 ).
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 83 ) مختصر أبن منظور ( 17 : 239 ).
(3) تاريخ دمشق ( الحديث 75 ).
(4) تحف العقول ( ص 283 ).
(5) فيي هامش المصدر السابق.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 144

البذخ والترف والإسراف والإهدار لأموال بيت المال ، ومن منع الموالين لعلي عليه السلام من الرزق والعطاء ، ومن حاجة الشخصيات مثل محمد بن اُسامة بن زيد ، فضلا عن عوائل الشهداء المغضوب عليهم من قبل الدولة.
لو قارنّا بين الأمرين : لعلمنا ـ بكل وضوح ـ أن لأعمال الإمام عليه السلام بعدا سياسيّا ، وهو الوقوف أمام استغلال السلطة للأزمة الأقتصادية عند الناس ، ومنع استدراج الظالمين لذوي الحاجة والمحنة وخاصة المنكوبين الى مهاوي الانتماء إليها أو حتى الفساد والجريمة ، بالمال الذي استحوذت الدولة عليه ، وأن لا تطبّق به سياسة التطميع بعد التجويع.
3 ـ ضدّ الرقّ :


إن تحرير الرقيق يشكل ظاهرة بارزة في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام بشكل ليس له مثيل في تاريخ الإمامة ، فهو أمر يسترعي الانتباه والملاحظة.
وإذا دقّقنا في الظروف والملابسات التي عايشها الإمام ، وقمنا ببعض المقارنات بين أعمال الإمام ، والأحداث التي كانت تجري من حوله ، والظروف التي تكتنف عملية الإعتناق الواسعة التي تبنّاها الإمام زين العابدين عليه السلام ، تتضح الصورة الحقيقيّة لأهداف الإمام عليه السلام من ذلك.
فيلاحظ أولا :
1 ـ أنّ أعداد الرقيق ، والعبيد ، كانت تتواتر على البلاد الإسلامية ، فكان الموالي في ازدياد بالغ مذهل ، على أثر توالي الفتوحات (1).
2 ـ أن الأمويين كانوا ينتهجون سياسة التفرقة العنصرية ، فيعتبرون الموالي شبه الناس (2).
3 ـ أن الجهاز الحاكم على الدولة الإسلامية ، أخذا من نفس الخليفة ، الى جميع الأمراء وموظفي الدولة ، لا يمثّل الإسلام ، بل كان كل واحد يعارض معنوياته

(1) لاحظ فجر الإسلام لأحمد أمين ( ص 90 ).
(2) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( 17 : 284 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 145

وأخلاقه ، وإن تنادى بشهاداته واسمه.
4 ـ إن انتشار العبيد والموالي ، وبالكثرة الكثيرة ، ومن دون أي تحصين أخلاقي ، أو تربية إسلامية ، لأمر يؤدّي ـ لا محالة ـ الى شيوع البطالة ، والفساد ، وهو ما تركز عليه الدولة الظالمة التي تعمل في هذا الاتجاه بالذات.
ويلاحظ ثانيا :
1 ـ أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان يشتري العبيد والإماء ، ولكن لا يبقي أحدهم عنده أكثر من مدّة سنة واحدة فقط ، وأنه كان مستغنيا عن خدمتهم (1).
فكان يعتقهم بحجج متعدّدة ، وبالمناسبات المختلفة ؟
إذن ، فلماذا كان يشتريهم ؟ ولماذا كان يعتقهم ؟
2 ـ إنه عليه السلام كان يعامل الموالي ، لا كعبيد أو إماء ، بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية ، ممّا يغرز في نفوسهم الأخلاق الكريمة ، ويحبّب إليهم الإسلام ، وأهل البيت الذين ينتمي إليهم الإمام عليه السلام.
3 ـ إنّة عليه السلام كان يعلّم الرقيق أحكام الدين ويملؤهم بالمعارف الإسلاميّة ، بحيث يخرج الواحد من عنده محصّنا بالعلوم التي يفيد منها في حياته ، ويدفع بها الشبهات ، ولا ينحرف عن الإسلام الصحيح.
4 ـ إنه عليه السلام كان يزوّد كلّ من يعتقه بما يغنيه ، فيدخل المجتمع الجديد ليزاول الأعمال الحرة ، كأي فرد من الاُمّة ، ولا يكون عالة على أحد.
إن المقارنة بين هذه الملاحظات ، وتلك ، تعطينا بوضوح القناعة بأنّ الإمام كان بصدد إسقاط السياسة التي كان يزاولها الأمويون في معاملتهم مع الرقيق.
إنّ عمل الإمام زين العابدين عليه السلام أنتج نتائج عظيمة ، هي :
1 ـ حرّر مجموعة كبيرة من عباد الله ، وإمائه الذين وقعوا في الأسر ، وتلك حالة استثنائية غير طبيعيّة ، ومع أن الإسلام كان قد أقرّها لأمور يعرف بعضها من خلال قراءة التاريخ ، إلاّ أن الشريعة قد وضعت طرق عديدة لتخليص الرقيق وإعطائهم

(1) لاحظ الإقبال للسيد ابن طاوس ( ص 477 ).

السابق السابق الفهرس التالي التالي