جهاد الامام السجاد عليه السلام 176

حتى تنظروا ماعقدة عقله ؟ فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع الى عقل متين ، فيكون ما يفسد بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.
فإذا وجدتم عقله متينا ، فرويداً لا يغرّنكم !
حتى تنظروا ، أمع هواه يكون على عقله ، أم يكون مع عقله على هواه ؟ وكيف محبّته للرئاسات الباطلة ؟ وزهده فيها ؟
فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة ، بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة ، حتى إذا قيل له : « اتّق الله » أخذته العزّة بالإثم ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد
(1).
فهو يخبط خبط عشواء ، يوفده أول باطل الى أبعد غايات الخسارة ، ويمدّ به ـ بعد طلبه لما لا يقدر عليه ـ في طغيانه ، فهو يحلّ ما حرّم الله ، ويحرّم ما أحلّ الله ، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرئاسة التي قد شقي من أجلها.
فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذابا مهينا
(2).
ولكن الرجل ، كلّ الرجل ، نعم الرجل :
هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضا الله ، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب الى عزّ الابد ، من العزّ في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه الى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وأن كثير ما يلحقه من سرّائها ـ إن أتّبع هواه ـ يؤدّيه الى عذاب لا انقطاع له ولا يزول.
فذلكم الرجل ، نعم الرجل :
فبه فتمسّكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، والى ربكم فتوسّلوا ، فإنه لا ترّد له دعوة ، ولا يخيب له طلبة
(3).
ولحن هذا الكلام ، يعطي أنّه خطاب عام وجّهه الإمام الى مستمعيه ، أو من طلب منه الإجابة عن سؤال حول من يجب الالتفات حوله والأخذ منه ؟

(1) اقتباس من القرآن الكريم ، سورة البقرة (2) الآية : 206.
(2) اقتباس من القرآن الكريم ، سورة الاحزاب (33) الآية (57).
(3) الاحتجاج ( ص 320 ـ 321 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 177

ومهما يكن ، فإنّ كلام الإمام عليه السلام يبدو واضحا قاطعا للعذر ، وهو غير متّهم في موقفه من الزهد والتواضع ، وما الى ذلك مما يراد استغلاله من قبل المشعوذين ، لإغراء العوام ، وإغواء الجهّال.
إنّ فيه تحذيرا من علماء السوء ، المتزيّين بزيّ أهل الصلاح ، والمتظاهرين بالورع والتقى ، ولكنهم يبطنون الخبث والمكر ، والدليل على ذلك ارتباطهم الوثيق بأهل الدنيا والرئاسات الباطلة ، من الحكّام والولاة وأصحاب الأموال.
وسيأتي الحديث عن موقفه من أعوان الظلمة في الفصل الخامس.
5 ـ إرعاب الظالمين :
إن الواقعيّة التي التزمها الإمام زين العابدين عليه السلام في حياة الزهد والعبادة ، كما اتفتحت له بها قلوب الناس الطيّبين ، فكذلك اقتحم بها على الظالمين أبراجهم ، وقصورهم ، فملأ أثوابهم خيفة ورهبة ، كما غشّى عيونهم وأفكارهم بما رأوه عليه من المظهر الزاهد ، والاشتغال بالعبادة.
ولقد قرأنا في حديث مسلم بن عقبة ـ سفّاح الحرّة ـ لمّا طلب الإمام ، فأكرمه ، وقد كان مغتاظا عليه ، يبرأ منه ومن آبائه ، فلمّا رآه ـ وقد اشرف عليه ـ اُرعب مسلم بن عقبة ، وقام له ، وأقعده الى جانبه !
فقيل لمسلم : رايناك تسبّ هذا الغلام وسلفه ، فلما اُتي به إليك رفعت منزلته ؟
فقال : ما كان ذلك لرأي منّي ، لقد مليء قلبي منه رعبا (1).
وسنقرأ في حديث عبدالملك بن مروان ، لمّا جلب الإمام مقيّدا مغلولا من المدينة الى الشام ، فلمّا دخل عليه الإمام عليه السلام بصورة مفاجئة قال لعبد الملك : ما أنا وأنت ؟
قال عبد الملك : قلت : أقم عندي.
فقال الإمام : لا اُحبّ ، ثم خرج.
قال عبدالملك : فوالله ، لقد امتلأ ثوبي منه خيفة (2).

(1) مروج الذهب ( 3 : 80 ) وانظر ما مضى ص (71) الفصل الأول.
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 42 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 4 ـ 235 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 178

ومهما يكن من تدخل أمر « الغيب » في هذه القضايا ، وفرضه لنفسه على البحث ، الاّ أن من المعلوم كون تصرف الإمام عليه السلام نفسه ، وحياته العملية وتوجّهاته المعنوية ، وتصرّفاته المعلنة في الإدعية ، والمواعظ ، والخطب والمواقف ، وما تميّزت به من واقعية ، كل هذا ـ المجهول لاُولئك العمي البصائر ـ قد أصبح أمرا يهزّ كيانهم ، ويزعزع هدوءهم ، ويملؤهم بالرعب والخفية.
ولقد استغلّ الإمام ذلك لصالح أهدافه الدينيّة وأغراضه الاجتماعية.
ومع كلّ هذا التعرض والتحدّي ، وكل هذه الأبعاد المدركة والآثار المحسوسة ، مع دقتها وعمقها ، فإنّ التحفظ على ما في ظواهرها ، وجعلها « روحيّة » فقط وعدم الاعتقاد بكونها نتائج طبيعيّة من صنع الإمام وإرادته ، يدلّ على سذاجة في قراءة التاريخ ، وظاهريّة في التعامل مع الكلمات والأحداث ، وقصور في النظر والحكم.
وكذلك الاستناد الى كلّ تلك المظاهر ، ومحاولة إدراج الإمام مع كبار الصوفيّة وجعله واحداً منهم (1) ، فهو بخلاف الإنصاف والعدل ؟!
ولماذا يقع اختيار عبد الملك الخليفة على الإمام عليه السلام ، من بين مجموعة الزهّاد والعبّاد ، ليوجّه اليه الإهانة ، ويلقي القبض عليه ، ويكبّله بالقيود والأغلال ، ويرفعه الى دمشق ؟! دون جميع المتزهدين والعباد الآخرين ؟!
بينما كل اولئك المتظاهرين بالزهد ، متروكون ، بل محترمون من قبل السلطان وأجهزة النظام !؟
لو لم يكن في عمل الإمام ما يثير الخليفة الى ذلك الحدّ !

(1) لاحظ الفكر الشيعي ( ص 31 و 68 ) والصلة بين التصوف والتشيع ( ص 148 ) و ( ص 151 و 157 ) وانظر خاصة ( ص 161 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 179

ثانيا : التزام البكاء على سيد الشهداء عليه السلام

لقد صاحبت هذه الظاهرة الإمام زين العابدين عليه السلام مدّة إمامته ونضاله ، بحيث لا يمكن المرور على أيّ مرفق من مرافق عمره الشريف ، أو أيّ موقف من مواقفه الكريمة : إلاّ بالعبور من مجرى دموعه وفيض عيونه.
ولا ريب أنّ البكاء ، كما أنه لا يتهيّأ للإنسان إلاّ عند التأثّر بالأمور الأكثر حساسية ، وإثارة وحرقة ، ليكون سببا للهدوء والترويح عن النفس.
فكذلك هو وسيلة لإثارة القضية ، أمام الآخرين ، وتهييج من يرى دموع الباكي تنهمر ، ليتعاطف معه طبيعيا ، وعلى الأقل يخطر على باله التساءل عن سبب البكاء ؟
وإذا كان الباكي شخصية مرموقة ، وذا خطر اجتماعي كبير ، مثل الإمام زين العابدين عليه السلام ، فإن ظاهرة البكاء منه ، مدعاة للإثارة الاكثر ، وجلب الاهتمام الأكبر ، بلا ريب.
والحكّام الظالمون ، فهم دائما يهابون الثوّار في ظلّ حياتهم ، فيحاولون إسكاتهم بالقتل والخنق ، مهما أمكن ، ويتصّورون ذلك أفضل السبل للتخلّص منهم ، أو تطويقهم بالسجن والحبس.
وكذلك هم يحاولون بكل جدّية ، في إبادة آثار الثورة ومحوها عن الأنظار ، والأفكار حتى لا يبقى منها ولا بصيص جذوة.
ولكنهم ـ رغم كل قدراتهم ـ لم يتمكّنوا من اقتلاع العواطف التي تستنزف الدموع من عيون الباكين على أهليهم وقضيّتهم ، فالبكاء من أبسط الحقوق الطبيعية للباكين.
والإمام زين العابدين عليه السلام قد استغل هذا الحقّ الطبيعي في صالح القضية التي من أجلها راح الشهداء صرعى على أرض معركة كربلاء.
وإذا أمعنّا النظر في تحليل التاريخ وتابعنا مجريات الأحداث ، التي قارنت كربلاء ، وجدنا أن المعركة لم تنته بعد ، وإنما الدماء الحمر ، أصبحت تجري اليوم دموعا حارة بيضا ، تحرق جذور العدوان ، وتجرف معها مخلفّات الانحراف وتروّي بالتالي اُصول الحق والعدالة.

جهاد الامام السجاد عليه السلام 180

وبينما يعدّ الطغاة ظاهرة البكاء دليلا على العجز والضعف والانكسار والمغلوبيّة ، فهم يكفّون اليد عن الباكي ، لكون بكائه علامة لاندحاره أمام القوّة ، وعلامة الاستسلام للواقع ، نجد عامة الناس ، يبدون اهتماما بليغا لهذه الظاهرة ، تستتبع عطفهم ، وتستدرّ تجاوبهم الى حدّ ما ، وأقلّ ما يبدونه هو نشدانهم عن أسباب البكاء ؟
وتزداد كلّ هذه الأمور شدّة إذا كان الباكي رجلا شريفا معروفا ! وبالأخص إذا كان يفيض الدمعة بغزارة فائقة ، وباستمرار لا ينقطع ! كما كان من الإمام زين العابدين عليه السلام ، حتى عدّ في البكّائين ، وكان خامسهم بعد آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وجدّته فاطمة الزهراء (1).
إن البكاء على شهداء كربلاء ، وثورتها ، لم يكن في وقت من الأوقات أمر حزن ناتج من إحساس بالضعف والانكسار ، ولا عبرة يأس وقنوط ، لأن تلك الأحداث ، بظروفها ومآسيها قد مضت ، وتغيّرت ، وذهب أهلوها ، وعرف حقّها من باطلها ، وأصبحت للمقتولين كرامة وخلودا ، وللقاتلين لعنة ونقمة ، لكنّ البكاء عليهم وعلى قضيّتهم ، كان أمر عبرة وإثارة واستمداد من مفجّرها ، وصانع معجزتها ، وحزنا على عرقلة أهدافها المستلهمة من ثورة الإسلام التي قام بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والدليل على كل ذلك أن لكلّ حزن أمدا ، يبدأ من حين المصيبة الى فترة طالت أو قصرت ، وينتهي ولو بعد جيل من الناس.
أما قبل حدوث المصيبة ، فلم يؤثر في المعتاد ، أو المعقول للناس ، أن يبكوا لشيء.
لكن قضيّة الحسين أبي عبدالله عليه السلام ، قد أقيمت الأحزان عليها قبل وقوعها بأكثر من نصف قرن ، واستمرّ الحزن عليه الى الأبد ، فهي الى القيامة باقية.
والذين أثاروا هذا الحزن ، قبل كربلاء ، وأقاموا المآتم بعد كربلاء : هم الأئمة من أهل البيت عليهم السلام.
فمنذ ولد الحسين عليه السلام أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مآتم على سبطه الوليد ذلك اليوم ، الشهيد بعد غد.

(1) الخصال للصدوق ( ص 272 ) وأمالي الصدوق ( المجلس 29 ) ص (121).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 181

فكيف يقيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجلس الحزن على قرّة عينه ، يوم ولادته ، أهكذا يستقبل العظماء مواليدهم ؟ أولا يجب أن يستبشروا بالولادات الجديدة ، ويتهادوا التهاني والأفراح والمسرّات ؟!
وتتكرّر المجالس التي يعقدها الرسول العظيم ، ليبكي فيها على وليده ، ويبكي لأجله كلّ من حوله ، وفيهم فاطمة الزهراء عليه السلام أم الوليد ، وبعض أمّهات المؤمنين وأشراف الصحابة (1).
وحقا عدّ ذلك من دلائل النبوّة ومعجزاتها (2).
وهكذا أقام الإمام علي عليه السلام ، مجلس العزاء على ولده الحسين عليه السلام ، لمّا مرّ على أرض كربلاء ، وهو في طريقه الى صفّين ، فوقف بها ، فقيل : هذه كربلاء ، قال : ذات كرب وبلاء ، ثم أومأ بيده الى مكان ، فقال : هاهنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم ، وأومأ بعده الى موضع آخر ، فقال : هاهنا مهراق دمائهم (3).
ونزل الى شجرة ، فصلّى إليها ، فأخذ تربة من الأرض فشمّها ، ثم قال : واها لك من تربة ، ليقتلنّ بك قوم يدخلون الجنة بغير حساب (4).
ورثاه أخوه الحسن عليه السلام وقال له : لا يوم كيومك يا أبا عبدالله... ويبكي عليك كلّ شيء... (5).
وحتى الحسين عليه السلام نفسه ، نعى نفسه ودعا الى البكاء على مصيبته ، وحثّ المؤمنين عليه ، حيث قال : أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى (6).
وهكذا الأئمة عليهم السلام بعد الحسين ، أكّدوا على البكاء على الحسين بشتّى الأشكال.

(1) إقرأ عن المجالس التي أقامها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كتاب : سيرتنا وسنتنا للاميني ، ولاحظ تاريخ دمشق لابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ( ص 165 ـ 185 ).
(2) دلائل النبوة للبيهقي ( 6 : 468 ) ومسند أحمد ( 3 : 242 و 265 ) وأنظر أمالي الصدوق ( ص 126) ودلائل النبوة ، لابي نعيم ( ص 709 ) رقم (492).
(3) وقعة صفين ( ص 141 ) والمصنف لابن أبي شيبة ( 15 : 98 ) رقم ( 191214 ) وكنز العمال ( 7 : 105 و 110 ) وأمالي الصدوق المجلس (78) ( ص 478 و 479 ).
(4) تاريخ دمشق لابن عساكر ( ترجمة الامام الحسين عليه السلام ) ( ص 235 ) رقم 280 وانظر الارقام ( 236 ـ 239 ).
(5) أمالي الصدوق ( المجلس 24 ) ص (101).
(6) فضل زيارة الحسين للعلوي ( ص 41 ) الحديث (13).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 182

لكنّ الإمام زين العابدين عليه السلام :
قد تحمّل أكبر الإعباء ، في هذه المحنة ، إذ عايش اسبابها ، وعاصر أحداثها ، بل باشر جارحها وآلامها ، فكان عليه ان يؤدّي رسالتها ، لأنّه شاهد صدق من أهلها ، بل الوحيد الذي ملك أزمّة أسرارها ، ولابدّ أن يمثل أفضل الأدوار التي لم يبق لها ممثّل غيره ، ولم تبق لها صورة في أي منظار ، غير ما عنده !
وإذا عرفنا بأن الإمام زين العابدين عليه السلام هو أوثق من يروي حديث كربلاء ، فهو أصدق الناقلين له ، وخير المعبّرين عنه بصدق.
وأما أهداف شهداء كربلاء التي من أجلها صنعت ، فلا بدّ لها أن تستمرّ ، ولا تنقطع عن الحيوية ، في ضمير الناس ووجدانهم ، حتى تستنفد أغراضها.
وبينما الحكّام التائهون لا يعبأون ببكاء الناس ، فإن الإمام زين العابدين عليه السلام اتّخذ من البكاء عادة ، بل اعتمدها عبادة ، فقد كانت ـ وفي تلك الفترة بالذات ـ وسيلة هامّة لأداء المهمّة الإلهية التي حمل الإمام عليه السلام أعباءها.
والناس ، لمّا رأوا الإمام زين العابدين عليه السلام يذرف الدموع ليل نهار ، لا يفتأ يذكر الحسين الشهيد ومصائبه ، فهم :
بين من يدرك : لماذا ذلك البكاء والحزن ، والدمع الذارف المنهمر ، والحزن الدائب المستمر ؟ وعلى من يبكي الإمام عليه السلام ؟
فكان ذلك سببا لاستمرار الذكرى في الأذهان ، وحياتها على الخواطر ، وبقاء الأهداف حيّة نابضة ، في الضمائر ووجدان التاريخ ، وتكدّس النقمة والنفرة من القتلة الظلمة.
وبين من يعرف الإمام زين العابدين بأنه الرجل الفقيه ، الزاهد في الدنيا ، الصبور على مكارهها ، فإنه لم يبك بهذا الشكل ، من أجل أذى يلحقه ، أو قتل أحد ، أو موت آخر ، فإن هذه الامور هي مما تعوّد عليها البشر ـ على طول تاريخ البشرية ـ بل هي سنّة الحياة.
كما قال القائل :
لـه ملـك ينـادي كـلّ يوم لدُوا للمـوت وابنـوا للخراب

جهاد الامام السجاد عليه السلام 183

وخصوصا النبلاء والنابهين ، والأبطال الذين يقتحمون الأهوال ويستصغرونها من أجل أهداف عظام ومقاصد عالية رفيعة.
فبكاء مثله ، ليس إلاّ لأجل قضيّة أكبر وأعظم ، خاصة البكاء بهذا الشكل الذي لا مثيل له في عصره (1).
لقد ركزّ الإمام زين العابدين عليه السلام على قدسية بكائه لمّا سئل عن سببه ؟
فقال : لا تلوموني.
فإنّ يعقوب عليه السلام فقد سبطا من ولده ، فبكى ، حتى ابيضت عيناه من الحزن ، ولم يعلم أنه مات..
وقد نظرت الى أربعة عشر (2) رجلا من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة !

فترون حزنهم يذهب من قلبي أبدا ؟! (3).
إنه عليه السلام في الحين الذي يربط عمله بما في القرآن من قصة يعقوب وبكائه ، وهو نبي متّصل بالوحي والغيب ، إذ لا ينبع فعله عن العواطف الخالية من أهداف الرسالات الإلهية.
وفي الحين الذي يمثّل لفاجعة الطفّ في اشجى مناظرها الدامية ، وبأقصر عبارة وافية.
فهو يؤكّد على تبرير بكائه ، بحيث يعذره كل سامع.
وفي حديث آخر : جعل الإمام عليه السلام من قضيّة كربلاء مدعاة لكل الناس الى إحيائها ، وتزويدها بوقود الدموع ، وإروائها بمياه العيون ، ولا يعتبرونها قضية خاصة بعائلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحسب ، بل هي مصاب كل الناس ، وكل الرجالات الذين لهم

(1) أمالي الصدوق ( ص 121 ) ولاحظ بحار الأنوار ( 46 : 108 ) الباب (6) الحديث (1).
(2) يلاحظ أن المعروف في عدد المقتولين من أولاد علي وفاطمة عليهما السلام في كربلاء هم « ستة عشر » رجلا ، ـ الوسائل ـ المزار ـ الباب (65) تسلسل ( 19694 ) عن عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 1 : 299 ) ولاحظ نزهة الناظر (ص 45).
(3) كامل الزيارات ( ص 107 ) أمالي الصدوق ( المجلس 9 و 91 ) تيسير المطالب لابي طالب ( ص 118 ) وتاريخ دمشق الحديث (78) ومختصره لابن منظور ( 17 : 239 ) وحلية الأولياء ( 3 : 138 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 184

كرامة في الحياة ، أو يحسّون بشيء اسمه الكرامة ، أو شخص يحسّ بالعاطفة ، فهو يقول :
وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.
أيّها الناس ، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله ؟
أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ؟

أم أيّ عين منكم تحبس دمعها ؟ (1).
وكان عليه السلام يحثّ المؤمنين على البكاء ويقول :
أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين عليه السلام حتى تسيل على خدّه ، بوّأه الله تعالى بها في الجنّة غرفا يسكنها أحقابا.
وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خدّيه مما مسّنا من الأذى من عدوّنا في الدنيا ، بوّأه الله منزل صدق
(2).
وكان البكاء واحدا من الأساليب لتي جعلها وسلية لإحياء ذكرى كربلاء ، وقد استعمل أساليب أخرى.
منها : زيارة الحسين عليه السلام :
قال أبو حمزة الثمالي : سألت علي بن الحسين ، عن زيارة الحسين عليه السلام ؟
فقال : زرهُ كلّ يوم ، فإن لم تقدر فكلّ جمعة ، فإن لم تقدر فكلّ شهر ، فمن لم يزره فقد استخف بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3).
ومنها : الاحتفاظ بتراب قبر الحسين عليه السلام :
فكانت له خريطة ديباج صفراء ، فيها تربة قبر أبي عبدالله عليه السلام ، فإذا حضرت الصلاة سجد عليها (4).

(1) كامل الزيارات ( ص 100 ) مقتل الحسين عليه السلام للأمين ( ص 213 ) ولاحظ كتابنا هذا ( ص 66 ).
(2) ثواب الأعمال ( ص 83 ).
(3) فضل زيارة الحسين عليه السلام للعلويّ ( ص 43 ) ح 17.
(4) بحار الأنوار ( 46 : 79 ) باب 5 ، الحديث 75 وعوالم العلوم ( ص 129 ) وباختصار في مناقب أبن

=

جهاد الامام السجاد عليه السلام 185

ومنها : خاتم الحسين عليه السلام :
فقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يتختّم بخاتم أبيه الحسين عليه السلام (1).
كما كان ينقش على خاتمه : « خزيَ وشقي قاتل الحسين بن علي عليه السلام» (2).
ومن المؤكد أن الإمام عليه السلام لم يتبع هذه الأساليب لمجرد الانعطاف مع العواطف والسير وراءها ، ولا لضعف في نفسه ، أو لاستيلاء هول الفجيعة على روحه ، ولم يتّخذ مواقفه من بني أمية نتيجة للحقد أو الأنتقام الشخصي ، ممن له يد في مذبحة كربلاء.
وإنما كان عليه السلام يلتزم بتلك الخطط ويتبع تلك الأساليب لإحياء الفكرة التي من أجلها قتل الحسين عليه السلام واستشهد هو وأصحابه على أرض كربلاء فضرّجوا تربتها بدمائهم الزكية.
ولقد أثبت ذلك بصراحة في حياته العملية :
فقد كانت له علاقات طبيعية مع عوائل بعض الأمويين مثل مروان بن الحكم ، الذي التجأ بأهله وزوجته وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان الى بيت الإمام زين العابدين عليه السلام ، فأصبحوا تحت حمايته ، مع أربعمائة عائلة من بني عبد مناف ، مدّة وجود الجيش الأموي في المدينة ، فأمنوا من استباحتهم لها وهتكهم الأعراض فيها في واقعة الحرّة الرهيبة (3).
وبالإضافة الى أن الأئمة عليهم السلام بعيدون عن روح الانتقام الشخصي وإنما يغضبون لله لا لأنفسهم ، فإنهم يشملون باللطف والرحمة للنساء والأطفال في مثل تلك الظروف ، وبذلك يكسبون ودّ الجميع حتّى الأعداء ، ويثبتون جدارتهم ، ولياقتهم

=
شهر آشوب ( 4/162 ) عن مصباح المتهجد للشيخ الطوسي.
(1) نقش الخواتيم ، للسيد جعفر مرتضى ( ص 11 ).
(2) نقش الخواتيم ، للسيد جعفر مرتضى ( ص 25 ) عن الكافي ( 6 : 473 ) ومسند الرضا عليه السلام ( 2 : 365 ) وبحار الأنوار ( 46 : 5 ).
(3) أنساب الأشراف ( 4 : 323 ) تاريخ الطبري ( 5 : 493 ) ومروج الذهب ( 2 : 14 ) وكشف الغمة ( 2 : 107 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 186

لمنصب الإمامة والزعامة.
فكسب الإمام زين العابدين عليه السلام بمواقفه اعتقاد الجهاز الحاكم فيه أنه « خيرّ لا شرّ فيه » (1) وأنه « مشغول بنفسه » (2).
ذلك الاعتقاد الذي افاد الإمام عليه السلام نوعا من الحرّية في العمل في مستقبل تخطيطه ضدّ الحكم الأموي الغاشم ، وعزّز موقعه الأجتماعي حتى تمكّن من اتخاذ المواقف الحاسمة من الظالمين وأعوانهم.
كما رسمت في سيرته الشريفة صور من صبره على المصائب والبلايا ، ممّا يدل على صلابته تجاه حوادث الدنيا ومكارهها ، وهي أمثلة رائعة للمقاومة والجلد.
فعن إبراهيم بن سعد ، قال : سمع علي بن الحسين واعية في بيته ، وعنده جماعة ، فنهض الى منزله ، ثم رجع الى مجلسه ، فقيل له : أمن حدث كانت الواعية ؟
قال : نعم.
فعزّوه ، وتعجّبوا من صبره.
فقال : إنّا أهل بيت نطيع الله في ما نحبّ ، ونحمده في ما نكره (3).
ونتمكن من استخلاص الهدف الأساسي من كلّ هذه الإثارات لقضيّة كربلاء وشهدائها خصوصا ذكر أبيه الإمام الشهيد عليه السلام من خلال الحديث التالي :
قال عليه السلام لشيعته : عليكم بأداء الأمانة ، فوالذي بعث محمّدا بالحقّ نبيّا ، لو أن قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به ، لأديته إليه (4).
ففي الوقت الذي يشير فيه الى مأساة قتل الحسين عليه السلام ، ويذكّر بقتله ، ليحيي معالمها في الأذهان ، فهو يؤكّد بأغلظ الأيمان على أنّ أمرا « مثل أداء الأمانة » يوجبه الإسلام ، هو فوق العواطف والأحاسيس الشخصية.
وهو يُوحي بأنّ الإمام الحسين عليه السلام إنما قتل من أجل تطبيق كلّ المبادىء التي

(1) قاله مسرف بن عقبة لما استباح المدينة ، انظر في ما مضي من كتابنا هذا ( ص 71 ).
(2) قاله الزهري لعبد الملك ، انظر ( ص 212 ) في ما يأتي.
(3) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( 1 : 240 ).
(4) أمالي الصدوق ( ص 128 ) المجلس (43).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 187

جاء بها الإسلام ، والتي بعث بها جدّه النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الإمام زين العابدين يريد الاستمرار على تلك المبادىء والخطط التي أنار الحسين الشهيد عليه السلام معالمها بوقود من دمه الطاهر.
وهو في الوقت ذاته ، يرفع من قيمة البكاء أن يكون من أجل أمور مادّية ولو كانت الدنيا كلها :
ففي الخبر أنّه عليه السلام نظر الى سائل يبكي !
فقال عليه السلام : لو أنّ الدنيا كانت في كفّ هذا ثمّ سقطت منه ما كان ينبغي له أن يبكي (1).

(1) كشف الغمة ( 2 : 106 ) عن كتاب نثر الدرر للآبي.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 188

ثالثا : التزام الدعاء

ومن أبرز المظاهر الفذّة في سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام الادعية المأثورة عنه ، فقد تميّز ما نقل عنه بالكثرة ، والنفس الطويل ، والشهرة والتداول ، لما تحتويه من أساليب جذّابة ومستهوية للقلوب ، تتجاوب معها الأرواح والنفوس ، وما تضمنته من معان راقية تتفاعل مع العقول والأفكار.
وقد كان للأدعية التي أصدرها أبعاد فكرية واسعة المدى ، بالنصوص الحاسمة لقضايا عقائدية إسلامية ، كانت بحاجة الى البت فيها بنصّ قاطع ، بعد أن عصفت بالعقيدة ، تيّارات الإلحاد ، كالتشبيه والجبر والإرجاء ، وغيرها مما كان الأمويون وراء بعثها وإثارتها وترويجها ، بهدف تحريف مسيرة التوحيد والعدل ، تمهيدا للردّة عن الإسلام ، والرجوع الى الجاهلية الاولى.
وفي حالة القمع والإبادة ، ومطاردة كل المناضلين الأحرار ، وتتبّع آثارهم وخنق أصواتهم ، كان قرار الإمام زين العابدين عليه السلام باتّباع سياسة الدعاء ، أنجح وسيلة لبثّ الحقائق وتخليدها ، وأءمن طريقة ، وأبعدها من إثارة السلطة الغاشمة ، وأقوى أداة اتصال سريّة مكتومة ، هادئة ، موثوقة.
كما كانت لنصوص الأدعية أصداء قويّة في ميادين الأدب ، الذي له وقع كبير في نفوس الشعوب ، وخاصة الشعب العربي ، وله تركيز كثير في قرارات أذهان الناس وذاكرتهم.
ولقد استخدم الأئمة عليهم السلام تأثير الأدب في الناس ، فكانوا يهتمّون بذلك ، سواء في تطعيم ما يصدرونه ، بألوان زاهية من الأدب العربي الراقي ، نثرا وشعرا ، كما كانوا يبعثون الشعراء على نظم القضايا الفكرية ، والحقّة ، في أشعارهم ، ويروّجونها بين الناس.
ولقد استثار الأئمة عليهم السلام ـ على طول خط الإمامة ـ شعراء فطاحل من المتشيّعين ، للنظم في قضايا عقيدية تؤدي الى تثبيت الحق والدعوة الى الإسلام من خلال مذهب أهل البيت عليهم السلام ، حتى اشتهر عنهم الحديث « من قال فينا بيتا من

جهاد الامام السجاد عليه السلام 189

الشعر ، بنى الله له بيتا في الجنّة».
ولقد كان لهذا التوجيه أثر آخر ، وهو أنتشال الأدب ـ وخاصة الشعر ـ من مهاوي الرذيلة والمجون والاستهتار الذي سقط فيه الأدباء وخاصة الشعراء في تلك العصور المظلمة ، التي كادت تؤدّي الى ضياع جهود جباّرة من ذوق الشعراء وفنّهم في متاهات الأغراض الفاسدة ، وكذلك جهود الأمة في سماع ذلك الأدب الماجن ، ونقله وضبطه وتداوله !
وقد أثّرت جهود الأئمة عليهم السلام بتعديل ذلك المجرى ، للسير في السبل الآمنة ، والأغراض الشرعية ، والتزام الأدب الهادف المؤدّي الى رفع المستوى الخلقّي والفكريّ والثقافي.
ولقد أثرى الإمام زين العابدين عليه السلام الأدب العربي : بمادّة غزيرة من النصوص الموثوقة ، بشكل الأدعية التي تعدّ من أروع أمثلة الأدب العربي في النثر (1).
وامتازت بين مجموع ما روي عن الإمام زين العابدين من الأدعية ، تلك التي ضمّنها « الصحيفة السجادية » التي تتلألأ بين أدعيته ، لأنها من تأليف الإمام نفسه ، وإملائه ، فلذلك فتح العلماء لها مجالا خاصا في التراث الإسلامي ، وأغدق عليها المبدعون بأجمل من عندهم من مهارات في الخطّ والزخرفة ، وأولاها الداعون عناية فائقة في الالتزام والأداء ، والعلماء في الشرح والرواية ، فلنتحدث عنها في الصفحات الأخيرة من هذا الفصل.

(1) لاحظ مقال : من أدب الدعاء في الإسلام ، مجلة تراثنا ، العدد (14) السنة الرابعة (1409) (ص30).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 190

وأخيرا من الصحيفة السجّادية هدفا ومضمونا

أوّلا : مع الصحيفة هدفا


إنّ التشيّع ، وفي عصر الإمام زين العابدين عليه السلام خاصة ـ كان يواجه صعوبات بالغة الشدّة ، حيث كان الظلم مستوليا على كل المرافق والمقدّرات ، ولم يكن بالإمكان القيام بأية مقاومة إيجابية ، أو محاولة.
فآخر ثورة تلك التي أعلنها الإمام الحسين عليه السلام في صدّ التعدّي الغاشم ، كان قد قضي عليها ، وعلى جميع عناصرها بشكل دموي ، وبقي منهم « غلام » فقط. وهو « الإمام زين العابدين عليه السلام ».
وكانت الأوضاع الاجتماعية تسير باتجاه خطر ، خطورة الإجهاز على أساس النهضة ، وإخماد روح الوثبة الإسلامية ، بل القضاء على كل تفكير من هذا القبيل ، وتناسيه الى الابد.
وأبرز نموذج لهذه المشكلة ، أنّ الإمامة ـ وهي الجهاز الوحيد الباقي من كل مرافق الحكومة الإسلامية العادلة ـ أصبحت على شرف التناسي عن الأذهان ، لأن نظام الحكم الأموي استولى على كل أجهزة الإعلام من المنبر ، والمحراب ، والمسجد ، واشترى ذمم كل ذوي النفوذ في الرأي العام من قاض وحاكم ووالي ، وأصبحت كل الإمكانات في قبضة « الخلافة ! » وفي خدمة « الخليفة » !
أما الإمام زين العابدين ، فقد بقي وحيدا في مواجهة المشكلات ، مع أن الإرهاب والذعر كان يتحكم في الرقاب ، ويستولي على النفوس.
في مثل هذه الظروف أصبح « الدعاء » ملجأ للإمام وللإمامة ، لا ، بل موقعا اتّخذه الإمام زين العابدين عليه السلام للصمود والهجوم :
صمود ماذا ؟
ـ صمود ذلك الفكر ، وذلك الهتاف ، وذلك الإيمان ، الذي جنّدت الدولة الأموية كل الإمكانات في العالم الإسلامي ضدّه.
والهجوم على من ؟

السابق السابق الفهرس التالي التالي