جهاد الامام السجاد عليه السلام 191

ـ للهجوم على سلطة تمكنّت من كل قواعد القدرة ، وسلبت من الأمة كل إمكانات المقاومة !
فكان الدعاء هو سلاح النضال.
ومعنى ذلك : أنّه إذا طوّقت مقاومة ، أو فكرة ، أو نضال ، وأدّت بها الظروف الى مثل ما حصل في « كربلاء » إذ تعرض كلّ رجالها للإبادة الدامية ، ولم يبق سوى رجل « واحد » ووقع كلّ النساء والصغار في الأسر ، وتحت القيود ، وإذا لم تبق أيّة إمكانية للعمل المسلّح ، والدفاع عن الحق بالقوة ، فإنّ هذا الرجل الوحيد لا تسقط عنه المسؤولية.
إنه مسؤول أن يدرّب الأمة على القناعة بأن على عاتقه إحياء الفكرة ، وتحريك الأحاسيس ، والدفاع عن ذلك الحق ، ولو بلسان الدعاء ، وجعل الرسالة مستمرّة ولو بالأمل والرجاء ، و نقلها كذلك الى الاجيال.
إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام :
وإن كان قد فقد إمكانات التضحية والنضال المستميت الى حدّ الشهادة ، كما فعل أبوه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.
وفقد إمكانات العمل الاجتماعي الحرّ ، كما قام به ابنه الإمام الباقر وحفيده الإمام الصادق عليهما السلام.
لكنه لم يفقد فرصة المقاومة من طريق هذه الحربة النافذة في أعماق أشلاء النظام الحاكم ، والقابلة للتغلغل في أوساط المجتمع الفاسد ، والسارية مع كلّ نسيم ، والممكنة في كلّ الظروف ، والتي اسمها « الدعاء ».
وإن قيل : إن هذا هو من أضعف فروض النضال والجهاد ؟
قلنا : نعم ، لكن الدعاء أمر ضروري حتى لو كان الإنسان في غير هذه الحال ، فلو كان بإمكانه النضال والمقاومة ، بأشكال أخر ، أقوى وأقدر ، فإن من المستحيل استغناؤه عن الدعاء ، وليس بالإمكان أن يمنع من هذا النضال ، ولو كان أضعف ، فلابّد له أن يكون قادرا على عملية الدعاء ، وأن يضمر في نفسه الارتباط بربّه ، وأن يعلن عن أفكاره وعقائده بأسلوب المناجاة والدعاء ، ويعبّر عن آماله وآلامه ، ومكنون نفسه ، وأن يُبرز هتافاته ، وأن يطالب برغباته المهضومة ، والمغصوبة.

جهاد الامام السجاد عليه السلام 192

على أن من الضروري لكل مناضل أن يركّز معتقداته ، ويحدد مواقعه الفكرية ويحصّن أصول دينه ، حتى يكون على بصيرة من أمره ، فيوحي الى ذاته بالحق ، ويوصي نفسه بالصبر عليه ، بالدعاء.
وليس في المقدور لأية سلطة حاكمة أن تسلبه هذه القدرة ، أو أن تحاسبه على هذه الإرادة.
وفي مثل هذا التركيز والتحديد يكمن سرّ خلود الإنسان ، عندما يكون مهدّدا بالإبادة.
والنطق بالدعاء. وسيلة للإعلان عن المعتقدات وتبليغ الرسالات وتنمية الشعور بالمسؤليات ، في أحلك الظروف وأحرجها ، وبثّ روح النضال والمقاومة ، وتوثيق الرابطة الفكرية ، وتأكيد التعهّدات الاجتماعية ، وتثبيت العواطف الصالحة ، حبّا بالتولي والإعلان عنه ، وبغضا بالتبري وإبدائه ، وتعميق الوعي العقائدي بين الأمة ، وتهيئة الأجواء ـ روحيا وفكريا وجسميّا ـ للإعداد للمسؤوليات الكبرى ، كلّ ذلك في ظروف جنّدت فيه القوى المضادّة ، للقضاء على الأهداف كلّها.
إن الإمام في مثل ذلك عليه أن يخطط للعمل ، عندما لا يستطيع المؤمن من القيام بأي عمل ، حتى الموت الشريف ، بعزّة وكرامة ، حيث لا طرق الى أختيار الشهادة كسلاح أخير ، لأن الشهادة ـ أيضا ـ تحتاج الى أرضيّة وظروف مؤاتية ، ومعركة ، كي يتسنّى للشهيد أن يفجّر بدمه الوضع ، ويكسر الصمت ، وإلاّ فهو الموت الصامت غير المؤثر ، المهمل الذي لا يستفيد منه إلاّ العدوّ.
والإمام زين العابدين عليه السلام أصبح قدوت للنضال في مثل هذه الظروف بكل سيرته ، ووجوده ، ومصيره ، وسكوته ، ونطقه ، وخلقه ، ورسم بذلك منهاجا للعمل في مثل هذه الأزمات.
إنّه رسم الإجابة عن كلّ الاسئلة التي تطرح :
عن العمل ضدّ امبراطورية ضارية ، مستحوذة على كل المرافق والقدرات ؟!
وعن الصمت الثقيل القاتل ، المطبق ، الذي يستحيل فيه التفوّه بكلمة الحقّ ، كيف يمكن أن يُكْسَرَ ؟
وعن اسلوب شخصي لعرض جميع الطلبات والقيم والعواطف ؟

جهاد الامام السجاد عليه السلام 193

إن الصحيفة السجادية هي :
كتاب الجهاد عند الوحدة !
وكتاب التعبير عند الصمت !
وكتاب التعبئة عند النكسة !
وكتاب الهتاف عند الوجوم !
وكتاب التعليم بالشفاه المختومة !
وكتاب التسلّح عند نزع كلّ سلاح !
وهو قبل هذا وبعده ، كتاب « الدعاء ».
إن الدعاء ـ كما يقول الدكتور الفرنسي الكسيس كارل ـ : « تجلّ للعشق والفاقة » وقد أضاف الإسلام الى هذين : « التوعية ».
وفي مدرسة الإمام زين العابدين عليه السلام يأخذ الدعاء بعدا رائعا هو تأثيره الأجتماعي الخاص.
وبكلمة جامعة : إن الدعاء في مدرسة الإمام زين العابدين ـ في الوقت الذي يعدّ كنزا لأعمق التوجّهات ، وأحرّ الأشواق ، وأرفع الطلبات ـ منهاج يتعلمّ فيه المؤمن تخطيطا متكاملا للوجود والتفكير والعمل ، على منهج الإمامة وبقيادة حكيمة تستلهم التعاليم من مصادر الوحي.
ثانيا : مع الصحيفة السجّادية مضمونا :


إن الحديث عن هذا الكتاب العظيم وأثره العلميّ والديني عقيديا وحضاريا وأثره الاجتماعي يحتاج الى تفرّغ وتخصص ، والى وقت ومجال أوسع من هذا الفصل ، ولا ريب أن النظر فيه سيوقف القارىء على مقاطع رائعة تدلّ على مفردات ما نقول بوضوح وصراحة.
وأذا أخذ الإنسان بنظر الاعتبار ظروف الإمام زين العابدين عليه السلام وموقعه الاجتماعي وقرأ عن طغيان الحكام وعبثهم ، وقارن بين مدلول الصحيفة ومؤشرات التصرّفات التي قام بها أولئك الحكام ، اتضح له أن الإمام قد قام من خلالها بتحدّ صارخ للدولة ومخططاتها التي استهدفت كيان المجتمع الإسلامي لتزعزعه.

جهاد الامام السجاد عليه السلام 194

وإذ لا يسعنا الدخول في غمار هذا البحر الزخّار لاقتناص درره فإنا نقتصر على إيراد مقطعين من أدعية الصحيفة ، يمثّلان صورة عمّا جاء فيها ، ممّا تبرز فيه معالم التصدّي السياسي الذي التزمه الإمام عليه السلام بمنطق الدعاء.
المقطع الأول : دعاؤه لأهل الثغور :
إن الإمام ، لكونه الراعي الإلهي ، المسؤول عن رعيته وهي الأمة ، يكون الحفاظ على وجود الإسلام ، من أهمّ واجباته التي يلتزمها ، فلا بد من رعاية شعائره ، وأستمرار مظاهره ، ومتابعة مصالحه العامة ، وتقديمها على غيرها من المصالح الخاصّة بالأفراد ، أو الأعمال الجزئية الفرعية ، فالحفاظ على سمعة الإسلام وحدوده ، أهمّ من الالتزام بفروع الدين وواجباته ومحرّماته ، إذا دار الأمر بينه وبينها.
ففي سبيل ذلك الهدف العام السامي ، لابدّ من تجاوز الاهتمامات الصغيرة ، والمحدودة ، بالرغم من كونها في أنفسها ضرورات ، لابدّ من القيام بها في الظروف العاديّة ، لكنها لا تعرقل طريق الأهداف العامة الكبرى.
     فالاسلام : كدين ، ليس قائما بالأشخاص ، ولا يتأثر بتصرفاتهم الخاصّة ، في مقابل ما يهدّده من الأخطار الكبيرة ، فكرية أو اجتماعية أوعسكرية ، فإذا واجه الإسلام خطر يهدّد التوحيد الممثل بكلمة « لا إله إلا الله » أو الرسالة المتجليّة في « محمد رسول الله » فإن الإمام يتجاوز كل الاعتبارات ويهب للدفاع عن هذين الركنين الأهمّ ، وحتى كان على حساب وجود الإمام نفسه ، أو عنوان إمامته ، فضلا عن مصالحه الخاصة ، وشؤونه وصلاحياته.
ومن هذا المنطلق ، يمكن تحديد المواقف الهامّة للأئمة من أهل البيت عليهم السلام :
فسكوت الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام عن مطالبته بحقّه ، ولجوء الإمام الحسن المجتبى عليه السلام الى توقيع كتاب الصلح مع معاوية ، وتضحية الإمام الحسين الشهيد عليه السلام بنفسه في كربلاء.
كل ذلك نحدّده على أساس متّحد ، وهو رعاية المصلحة الاسلامية العامة ، والحفاظ على كيان الإسلام لئلا يمسّه سوء.
وبهذا ـ أيضا ـ نميز وقوف الإمام زين العابدين عليه السلام للدعاء لأهل الثغور.
ومن هم أهل الثغور في عصره ؟

جهاد الامام السجاد عليه السلام 195

ليس للدعاء تاريخ محدد ، حتى نعرف الفترة التي انشئ فيها الدعاء بعينها ، إلا أنها لا تخرج من مجمل الفترة التي عايشها الامام زين العابدين عليه السلام من سنة ( 61 ) إلى سنة ( 94 ) ولم تخرج عن حكم واحد من الخلفاء الأمويين.
وحتّى لو فرضنا إنشاءه في فتره حكم « معاوية بن يزيد بن معاوية » الذي عرف بولائه لأهل البيت عليهم السلام ، على قصرها ، فلا ريب أنّ نظام الحكم وأجهزة الدولة كافَّة ، وعناصر الإدارة ورموز السلطة لم تتغير , و خاصة أهل الثغور الذين هم حرس الحدود , لم يطرأ عليهم التغيير المبدئي , في تلك الفترة القصيرة بتبدّل الخليفة.
ومن المعلوم : أن الذين يتجهون إلى حدود الدولة الإسلامية ، وهي أبعد النقاط عن أماكن الرفاه والراحة ، ليسوا إلا من سواد الناس ، ويمكن أن يكون اختيارهم لتلك الجهات البعيدة دليلا على ابتعادهم عن التورطات التي انغمس فيها أهل المدن في داخل البلاد.
ومع ذلك ، يبقى التساؤل : عن دعاء الإمام عليه السلام بتلك القوة ، وذلك الشمول ، وبهذه اللهجة ، وهذا الحنان ، لحرس الحدود ، وهم جزء من جيش الحكومة الفاسدة ، ووحدة من وحدات كيان الدولة الظالمة ؟
إن الحقيقة التي عرضناها سابقا ، هي الجواب عن هذا التساؤل ، لأن مصلحة الإسلام ، ككل ، مقدمة على كل ما سواه من امور الاسلام سواء فروع الدين ، أو عناوين الأشخاص ، أو مصالح الآخرين حتى الجماعات المعينة.
ثم إن هذا الدعاء بنفسه دليل مقنع على ان الإمام زين العابدين عليه السلام لم يكن ـ كما شاء أن يصوره الكتّاب الجدد ـ متخليا عن مركزه القيادي والسياسي ، كإمام يرعى مصلحة الاسلام ، والأمة الإسلامية.
فمن خلال أوسع جبهاتها ، وهي الحدود الاسلامية ، المهددة دائما ، بلا شك ، من قبل الدول المجاورة الحاقدة على الإسلام الذي قهرها ، واستولى على مساحات من أراضيها ، فرض الإمام عليه السلام رعايته واهتمامه ، وبشكل الدعاء الذي لا يثير الحكام.
وحرس الحدود أنفسهم ، مهما كانت هوياتهم ، لايعدون أنصار للحكومة ، بقدر ما هم محافظون على الأرض الاسلامية ، وكرامة الإسلام ، فإنهم مدافعون عن ثغوره ، ومراقبون لحماية خطوط المواجهة الأمامية : وهو أمر واجب على كل مسلم ان يبذل

جهاد الامام السجاد عليه السلام 196

جهداً في إسناده ودعمه وتسديد القائمين به ، بكل شكل ممكن.
وهذا هو الذي استهدفه الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه لأهل الثغور ، فهو ينبه الناس إلى خطورة هذا الواجب ويهيج الأحاسيس تجاه الثغور وحمايتها.
ومهما كان الحكام في الداخل ، يعيثون فساداً ، فإنهم لا محالة زائلون ، ومهما جدوا في التقتيل والظلم والاجرام ، والتخريب فإنهم لن يتمكنوا من القضاء على كل معالم هذا الدين ، الذي يعد المسلمون الحفاظ عليه من واجباتهم.
والإمام عليه السلام وإن كان معارضاً للنظام الأموي ، ويجد في فضحه وتزييف عمله والكشف عن سوء إدارته ، ويحكم على القائمين به بالخروج عن الحق والعدل ، وهو لا يزال ينظر إلى مصارع شهداء كربلاء بعيون تملؤها العبرة ، لكنه يدعو بصوت تخنقه العبرة كذلك لأهل الثغور الإسلامية ، وباللهجة القوية القاطعة لكل عذر.
وبالنبرة الحادة ذاتها التي يدعو بها لزوال حكم الظالمين ، يدعو لأستتباب الأمن والعدل والصلاح على أرض الاسلام.
فلنقرأ معاً هذا الدعاء العظيم :
اللهمّ :
صلّ على محمّد وآله ، وحصّن ثغور المسلمين بعزّتك ، وأيد حماتها بقوّتك ، وأسبغ عطاياهم من جدتك.
اللهم :
صلّ على محمَد وآله ، وكثر عدتهم ، واشحذ أسلحتهم ، واحرس حوزتهم ، وامنع حومتهم ، وألف جمعهم ، ودبر أمرهم ، وواتر بين ميرهم ، وتوحد بكفاية مؤنهم ، واعضدهم بالنصر ، وأعنهم بالصبر ، والطف لهم في المكر.
اللهم :
صلّ على محمَد وآله ، وعرَفهم مايجهلون ، وعلمهم ما لايعلمون ، وبصَرهم ما لايبصرون.
اللهم :
صلّ على محمَد وآله ، وأنسهم عند لقائهم العدو ذكر دنياهم الخداعة الغرور ، وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون ، واجعل الجنَة نصب أعينهم ، ولوَح منها لأبصارهم ما أعددت


جهاد الامام السجاد عليه السلام 197

فيها من مساكن الخلد ، ومنازل الكرامة ، والحور الحسان ، والأنهار المطردة بأنواع الأشربة ، والأشجار المتدلية بصنوف الثمر ، حتَى لا يهمَ أحد منهم بالإدبار ، ولا يحدَث نفسه عن قرنه بفرار.
اللهمَ :
افلل بذلك عدوَهم ، واقلم عنهم أظفارهم ، وفرَق بينهم وبين أسلحتهم ، واخلع وثائق أفئدتهم ، وباعد بينهم وبين أزودتهم ، وحيرهم في سبلهم ، وضلَلهم عن وجههم ، واقطع عنهم المدد ، وانقص منهم العدد ، واملأ أفئدتهم الرعب ، واقبض أيديهم عن البسط ، واخزم ألسنتهم عن النطق ، وشرَد بهم من خلفهم ، ونكَل بهم من ورائهم ، واقطع بخزيهم أطماع من بعدهم.
اللهمَ :
عقَم أرحام نسائهم ، ويبس أصلاب رجالهم ، واقطع نسل دوابهم وأنعامهم ، لا تأذن لسمائهم في قطر ، ولا لأرضهم في نبات.
اللهمَ :
وفق بذلك محالَ أهل الإسلام ، وحصن به ديارهم ، وثمَر به أموالهم ، وفرغَهم عن محاربتهم لعبادتك ، وعن منابذتهم للخلوة بك ، حتَى لايعبد في بقاع الأرض غيرك ، ولا تعفَر لأحد منهم جبهة دونك.
اللهمَ :
اغز بكل ناحية من المسلمين على من بإزائهم من المشركين ، وأمددهم بملائكة من عندك مردفين ، حتى يكشفوهم إلى منقطع التراب قتلا في أرضك وأسرا ، أو يقرَوا بأنك أنت الله الذي لا إله إلاَ أنت ، وحدك لا شريك لك.
اللهمَ :
واعمم بذلك أعداءك في أقطار البلاد ، من الهند ، والروم ، والترك ، والخزر ، والحبش ، والنوبة ، والزنج ، والسقالبة ، والديالمة ، وسائر أمم الشرك الذين تخفى أسماؤهم وصفاتهم ، وقد أحصيتهم ، بمعرفتك ، وأشرفت عليهم بقدرتك.
اللهمَ :
أشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين ، وخذهم بالنقص عن


جهاد الامام السجاد عليه السلام 198

تنقيصهم ، وثبَطهم بالفرقة عن الاحتشاد عليهم.
اللهم :
أخل قلوبهم من الأمنة ، وأبدانهم من القوة ، وأذهل قلوبهم عن الاحتيال ، وأوهن أركانهم عن منازلة الرجال ، وجنبهم عن مقارعة الأبطال ، وابعث عليهم جندا من ملائكتك ببأس من بأسك ، كفعلك يوم بدر ، تقطع به دابرهم ، وتحصد به شوكتهم ، وتفرق به عددهم.
اللهمَ :
وامزج مياههم بالوباء ، وأطعمتهم بالأدواء ، وارم بلادهم بالخسوف ، وألحَ عليها بالقذف ، وأفرعها بالمحول ، واجعل ميرهم في أحصَ أرضك ، وأبعدها عنهم ، وامنع حصونها منهم ، أصبهم بالجوع المقيم والسقيم الأليم.
اللهمَ :
وأيما غاز غزاهم من أهل ملَتك ، أو مجاهد جاهدهم من أتباع سنتك ، ليكون دينك الأعلى ، وحزبك الأقوى ، وحظّك الأوفى ، فلقّه اليسر ، وهيئ له الأمر ، وتولّه بالنجح ، وتخيّر له الأصحاب ، واستقو له الظهر ، وأسبغ عليه في النفقة ، ومتعه بالنشاط ، وأطفئ عنه حرارة الشوق ، وأجره من غم الوحشة ، وأنسه ذكر الأهل والولد ، وأثر له حسن النية ، وتولّه بالعافية ، وأصحبه السلامة ، وأعفه من الجبن ، وألهمه الجرأة ، وارزقه الشدّة ، وأيده بالنصرة ، وعلمه السير والسنن ، وسدده في الحكم ، واعزل عنه الرياء ، وخلصه من السمعة ، واجعل فكره وذكره وظعنه وإقامته فيك ولك ، فإذا صافّ عدوك وعدوه فقللهم في عينه ، وصغر شأنهم في قلبه ، وأدل له منهم ، ولا تدلهم منه.
فإن ختمت له بالسعادة ، وقضيت له بالشهادة ، فبعد أن يجتاح عدوك بالقتل ، وبعد أن يجهد بهم الأسر ، وبعد أن تأمن أطراف المسلمين ، وبعد أن يولي عدوك مدبرين.
اللهمّ :
وأيما مسلم خلف غازيا ، أو مرابطا ، في داره ، أو تعهد خالفيه في غيبته ، أو أعانه بطائفة من ماله أو أمده بعتاد ، أو شحذه على جهاد ، أو أتبعه في وجهه دعوة ، أو رعى له من ورائه حرمة ، فأجر له مثل أجره ، وزنا بوزن ، ومثلا بمثل ، وعوّضه من فعله عوضا حاضراً يتعجل به نفع ما قدم ، وسرور ما أتى به ، إلى أن ينتهي به الوقت إلى ما أجريت له من


جهاد الامام السجاد عليه السلام 199

فضلك ، وأعددت له من كرامتك.
اللهمّ :
وأيما مسلم أهمه أمر الإسلام ، وأحزنه تحزّب أهل الشرك عليهم ، فنوى غزوة ، أو همّ بجهاد ، فقعد به ضعف ، أو أبطأت به فاقة ، أو أخّره عنه حادث ، أو عرض له دون إرادته مانع ، فاكتب اسمه في العابدين ، وأوجب له ثواب المجاهدين ، واجعله في نظام الشهداء والصالحين.
اللهمّ :
صل على محمّد عبدك ورسولك ، وآل محمّد ، صلاة عالية على الصلوات ، مشرفة فوق التحيات ، صلاة لا ينتهي أمدها ، ولا ينقطع عددها ، كأتم ما مضى من صلواتك على أحد من أوليائك.
إنك المنان ، الحميد ، المبديء ، المعيد ، الفعال لما تريد (1).

هذا على مستوى كيان عسكري مرتبط بالدولة ، وأمّا على مستوى الشعب فلنقرأ معا :
المقطع الثاني : دعاء الاستسقاء بعد الجدب :
حيث تتجلى فيه رعاية الإمام عليه السلام لحالة الأمة ، ومراقبته لأحوالها ، وبخصوص اقتصادها الذي هو عصب حياتها ، فإذا رآه يتعرّض للأنهيار على أثر الجفاف ، ينبري عليه السلام لإنجاده بطريقته الخاصّة ، التي لا تثير أحقاد الحكام ضدّه ، ولا تمكّنهم من أخذ نقاط سياسيّة عليه ، ومع ذلك فهو يجلب أنظار الشعب المسلم المقهور ، المغلوب على أمره ، الى أنّ هناك من يعطف عليه الى هذا الحد ، ومن يراقب أوضاعه ، ويهتّم بشؤونه ومشاكله.
والإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الشكل ، يفرض نفسه على الساحة السياسيّة ، وهو تدخل صريح في شؤون الأمة ، وظهور واضح على أرض العمل ، فإن الملجأ في مثل هذه المشاكل هم كبار القوم ، ومن لهم قدسيّة ، وفضل ، وتقدّم على الآخرين ، ولا

(1) الصحيفة السجادية ، الدعاء السابع والعشرون.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 200

تشخص الأبصار في مثل ذلك إلاّ الى الخليفة ! أن كانت له قابليّة ما يدّعي من مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتسنّم أريكة الحكم !
والإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الدعاء ، يثبت أنّه الأحقّ بالتصدي لذلك المقام ، وأنّه الملجأ الذي لابدّ أن يوسّط بين الأرض والسماء.
هذا كله ، مع أنّ الامة لم تقف الى جانب الإمام عليه السلام ، ولم تراع حرمته في النسب ، ولاحقّه في الإمامة ، بل خذلته ، حتى راح يقول : « ما بمكّة والمدينة عشرون رجلا يحبّنا».
وليس المراد بذلك الحبّ مجرّد العواطف والدموع والمجاملات ، فهؤلاء أهل الكوفة كانوا من أحذق الناس في ذرف دموع التماسيح على أهل البيت عليهم السلام بعنوان « الحب » حتى كان الإمام عليه السلام يستغيث من حبّهم له ، ذلك الحب المعلن ، المبطّن بالنفاق ، والذي انقلب على أبيه الإمام الحسين عليه السلام سيفا أودى به !
فليس الحبّ المطلوب لآل الرسول ، والذي دلّت على لزومه آية المودّة في القربى وأحاديث الرسول المصطفى ، هو الفارغ عن كلّ حق لهم في الحكم والإدارة ، أو الفقه والتشريع وعن كلّ معاني الولاء العمليّ ، والاقتداء والاتّباع وإن ادّعاه المحرّفون ، أو حرفوه الى مثل ذلك ، مكتفين لأهل البيت باسم « الحب » (1).
لكن قضيّة الأمة الإسلامية ، واقتصاد البلاد الإسلامية ، من القضايا المصيرية الكبرى ، التي لا توازيها الأضرار الصغيرة ولا الأخطاء الخاصّة ، بل لابدّ من تجاوز كل الاعتبارات في سبيل إحياء تلك القضايا الكبار.
وبعد ، فلنعش في رحاب دعاء الاستسقاء :
اللهم :
أسقنا الغيث ، وانشر علينا رحمتك بغيثك المغدق ، من السحاب المنساق لنبات أرضك ، المونق في جميع الآفاق ، وامنن على عبادك بإيناع الثمرة ، وأحيِ بلادك ببلوغ الزهرة ، وأشهد ملائكتك الكرام السفرة بسقي منك نافع ، دائم غزره ، واسع درره ، وابل ، سريع ، عاجل ،


(1) لقد تحدّثنا عن هذا التحريف لمؤدّى الحب لأهل البيت عليهم السلام والذي تعمّده الأعداء ظلما ، والتزمه العامة جهلا ، في كتابنا الحسين عليه السلام سماته وسيرته ، الفقرة (13).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 201

تحيي به ما قد مات ، وتردّ به ما قد فات ، وتخرج به ما هو آت ، وتوسع به في الأقوات ، سحابا متراكما ، هنيئا مريئا ، طبقا مجلجلا ، غير ملثّ ودقه ، ولا خلّب برقه.
اللهمّ :
اسقنا غيثا مغيثا ، مريعا ممرعا ، عريضا واسعا ، غزيرا ، تردّ به النهيض ، وتجبر به المهيض.
اللهمّ :
اسقنا سقيا تسيل منه الظراب ، وتملأ منه الجباب ، وتفجّر به الأنهار ، وتنبت به الأشجار ، وترخص به الأسعار في جميع الأمصار ، وتنعش به البهائم ، والخلق ، وتكمل لنا به طيّبات الرزق ، وتنبت لنا به الزرع ، وتدرّ به الضرع ، وتزيدنا به قوّة الى قوّتنا.
اللهمّ :
لا تجعل ظلّه علينا سموما ، ولا تجعل برده علينا حسوما ، ولا تجعل صوبه علينا رجوما ، ولا تجعل ماءه علينا أجاجا.
اللهمّ :
صلّ على محمد وآل محمد ، وارزقنا من بركات السماوات والأرض إنّك على كلّ شيء قدير (1).

وهكذا فإن الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء الاستسقاء ، لا يحصر اهتمامه بما حوله من الأفراد والشؤون الخاصة ، بل يعمّم اهتمامه على كل العباد وكل البلاد ، وينظر برقة ولطف الى كل قضاياها الطبيعيّة والنفسية والمعاشية ، وحتى الجويّة والزراعية وحتى طلب « القوّة ».
إن التأمل في مضامين هذا الدعاء يفتح آفاقا من سياسة الإمام السجاد عليه السلام.
وهكذا ننتهي من هذا الفصل ، وقد وقفنا فيه على أبرز ما امتاز به الإمام زين العابدين عليه السلام من التزام العبادة ، والبكاء ، والدعاء ، ووجدنا كيف أنّ الإمام عليه السلام قد استخدم كلّ ذلك في تمرير خطّته الحكيمة التي اتخذها لتثبيت قاعدة الإمامة الحقّة ، وما في عمله من تعرّض للحاكمين ، وتعريض بهم وبفساد تصرّفاتهم ومخالفتهم

(1) الصحيفة السجادية ( الدعاء التاسع عشر ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 202

للشريعة والدين.
ومع أنّ الامام كان يقوم بما يخصّه ، ويعدّ من حقّه الشخصي أن يتعبّد ، ويبكي ، ويدعو ، فإننا نرى في أعماله نضالا سياسيّا ، وتدبيرا حكيما ضدّ الحكومات.
وسنقرأ في الفصل الآتي ، مواقف في مواجهة الحكّام وأعوانهم الظلمة ، من دون غطاء أو تقيّة ، وهي المواقف الحاسمة التي وقفها الإمام زين العابدين عليه السلام منهم.

جهاد الامام السجاد عليه السلام 203


الفصل الخامس

مواقف حاسمة للإمام عليه السلام


أولا ـ موقفه من الظالمين
ثانيا ـ موقفه من أعوان الظلمة
ثالثا ـ موقفه من الحركات المسلحة


جهاد الامام السجاد عليه السلام 204




جهاد الامام السجاد عليه السلام 205

وبعد سنين من النضال المرير ، الذي قام به الإمام زين العابدين عليه السلام ، بالأساليب التي شرحنا صورا منها في الفصول السابقة ، والتي كان تطبيقها والاستفادة منها في تلك الظروف الحرجة لا يقل صعوبة عن إشهار السيف ، وفائدتها لا تقل عن دخول المعارك الضارية.
فلقد أنتجت نتائجها الهائلة :
فعزّزت موقع الإمام عليه السلام لكونه القائد الإلهي المسؤول عن هذا الدين ، وهذه الأمة ، والهادي لها.
وتمكّن ـ بالتزامه بالخطط الدقيقة المذكورة ـ من أداء وظائف الإمامة ، وتجميع القوى المتبدّدة حول مركز الحق ، وتأسيس القاعدة لانطلاق الأئّمة من بعده على أسس رصينة محكمة.
وعزّزت تلك المواقف الاجتماعية العظيمة ، مكانة الإمام عليه السلام في أنظار الأمة ، باعتباره سيّدا من أهل البيت عليهم السلام يتمتّع بمكارم الاخلاق وفضائلها ، وعالما بالإسلام من أصفى ينابيعه وروافده ، ومحاميا عن الأمة.
وكانت لهذه المواقع ، وهذه المكانة ، آثارها في تغيير أسلوب العمل السياسي ، عند الإمام زين العابدين عليه السلام في الفترة التالية ، حيث نجد أن تعامله مع الحكّام والأحداث يختلف عمّا سبق ، ويكاد الإمام عليه السلام يعلن عن المعارضة ، ويبدي التعرّض للحكام.
وكان من أبرز مظاهر هذا التعامل هو ما اتّخذه من مواقف حاسمة تجاه الحكام الظالمين ، وتجاه أعوانهم ، وتجاه الحركات السياسية التي عاصرته.

جهاد الامام السجاد عليه السلام 206

أولا : موقفه من الظالمين

موقفه من يزيد :


فقد اتّخذ الإمام عليه السلام موقفا حكيما من يزيد ـ وهو من أعتى طغاه بني أميّة وأخبثهم ، وأبعدهم عن كل معاني الدين والإنسانية والمروءة وحتّى السياسة ـ فكان موقف الإمام عليه السلام منه فذا ، فلم يدع له مبرّرا للقضاء عليه ، مع أنه واجهه بكل الحقيقة التي لا يتحمّلها الطغاة ، بل أجبره على إطلاق سراح الأسرى من آل محمد ، وذلك بما صنعه الإمام عليه السلام من أجواء لمثل هذا الإجراء.
فرجع الإمام عليه السلام الى المدينة ليبدأ عمله طبق التخطيط الرائع الذي شرحنا صورا منه في هذه البحوث.
وبعد أن قضى الإمام السجاد عليه السلام عمرا في تطبيق خططه القويمة في معارضة الدسائس التي كان يضعها الحكّام من بني أمية ضد الدين وأهله ، وفضحها ، وحاول أن يبني ما كانوا يهدمونه ، ويهدم ما كانوا يبنونه ، وصد ما يحاولونه.
وبعد تعزيز المواقع والمكانة لوجوده الشريف بين الأمة ، سواء من كان من أتباعه أو من عامة الناس ، لم يكن للحكام أن يتعرّضوا للإمام عليه السلام من دون أن يكشفوا عن وجوههم أغطية التزوير ، وأقنعة الدجل والكفر والنفاق.
فالإمام الذي ذاع صيته في الآفاق بالكرامة ، والإمامة ، والسيادة والشرف ، والتقى والعلم والحلم والعبادة والزهد ، أضف الى ذلك حنانه وعطفه على الأمة ورعايته لشؤونها ، قد دخل أعماق القلوب ، وأصبح له من الأحترام والتقدير ما لا يكون من مصلحة الحكّام التعرّض له بأذى.
كما يبدو أن الإمام عليه السلام بعد أن استنفذ أغراضه من خططه ، وعلم بأن الدولة الأموية وحكّامها الحاقدين على الإسلام ورجاله وخاصة من أهل البيت عليهم السلام ، سوف يقضون على حياته إن عاجلا أو آجلا ، إن خفية أو علنا ، بدأ العمل الهجومي عليهم.
فكان يفرغ ما بقي في كنانته من السهام على هيكل الحكم الأموي الفاسد ، والذي

جهاد الامام السجاد عليه السلام 207

بدأ التنازل من كثير من المواقع الاستراتيجية التي كان يحتلها ، فقام الإمام عليه السلام بالإشهار بهم ، من خلال أعمال أصدق ما يقال فيها أنها الأستفزاز والتحرّش السياسيّ.
ومواقفه من عبدالملك بن مروان :


قد رأينا أن الأمويين بكل مرافق أجهزتهم ، كانوا يرون من الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام خيرا لا شرّ فيه.
وقد كانت علاقة مروان بن الحكم الأموي ، بالخصوص ، طيّبة مع الإمام عليه السلام لما أبداه الإمام تجاهه من رعاية ، أيام وقعة الحرّة ، وكان مروان شاكرا للإمام عليه السلام هذه المكرمة.
وطبيعي أن يعرف عبدالملك بن مروان ، للإمام زين العابدين عليه السلام هذه اليد والمكرمة.
ولذلك نراه ، لمّا ولي الخلافة ، يكتب الى واليه على المدينة الحجّاج الثقفي السفاك يقول : أما بعد :
فانظر دماء بني عبدالمطلب فاحتقنها واجتنبها ، فإني رأيت آل أبي سفيان بن حرب ( لما قتلوا الحسين ) لمّا ولغوا فيها ( نزع الله ملكهم ) لم يلبثوا إلاّ قليلا.
والسلام (1).
لكن الإمام عليه السلام لم يمرّ بهذه الرسالة بشكل طبيعيّ ، بل بادر الى
إرسال كتاب الى عبدالملك، يقول فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم

... أما بعد :
فإنك كتبت يوم كذا وكذا ، من ساعة كذا وكذا ، من شهر كذا وكذا ، بكذا وكذا.
وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنبأني وأخبرني ، وأن الله قد شكر لك ذلك وثبّت ملكك ، وزاد فيه برهة ».


(1) المحاسن والمساوي للبيهقي ( ص 78 ) وفي طبعة (55) كشف الغمة للأربلي ( 2 : 112 ) مروج الذهب ( 3 : 179 ) والاختصاص ( ص 314 ) وبحار الأنوار ( 46 : 28 و 119 ).

السابق السابق الفهرس التالي التالي