جهاد الامام السجاد عليه السلام 208

وطوى الكتاب ، وختمه ، وأرسل به مع غلام له على بعيره ، وأمره أن يوصله الى عبدالملك ساعة يقدم عليه ! (1).
إن أسلوب هذا الكتاب ، ومحتواه ، كلاهما مثار للاستفزاز :
فأولا : يحاول الإمام عليه السلام أن يعرّف الحاكم باطّلاعه الكامل على تاريخ كتابته للرسالة ، بدقة ، حتى اليوم والساعة.
فهو يوحي إليه علم الإمام بما يجري داخل القصر الملكي.
وهذا أمر لا يمرّ به الطواغيت بسهولة.
وثانيا : يصرّح الإمام عليه السلام باتصاله المباشر بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وانّه الذي أخبره وأنبأه بالرسالة ومحتواها.
وهذا أيضا يوحي أن الإمام عليه السلام مع أنّه مرتبط بالرسول نسبيّا ، فهو مرتبط به روحيا ، ويأخذ علمه ومعارفه منه مباشرة !
ومثل هذا الإدّعاء لا يتحلمه الخليفة ، بل يثقل عليه ، لأن أدّعاء ذلك يعني كون الإمام عليه السلام أوثق صلة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، من هذا الذي يدّعي خلافته !
والمقطع الأخير من الكتاب ، حيث يخبر الإمام عليه السلام عن أن فعل عبدالملك وتوصيته بآل عبد المطلب « مشكور عند الله » وأنّه ثبّت بذلك ملكه ، وزيد فيه برهة ، ليس قطعا أسلوب دعاء وثناء وتملّق ، وإنّما هو تعبير عن قبول الصنيع ، وردّ الجميل ، والعطف عليه بزيادة برهة ـ فقط ـ في الملك ! لا الخلافة.
مع أن صدور مثل هذا الخبر من الإمام عليه السلام الى عبدالملك الخليفة ! فيه نوع من التعالي والفوقيّة الملموسة ، التي لا يصبر عليها من هو في موقع القدرة ، فضلا عن الطغاة أمثال عبدالملك.
والحاصل أن هذا الكتاب الصادر من الإمام عليه السلام لم يكن يصدر ، إذا أراد الإمام عليه السلام أن يجتنب التعرض بالحاكم ، وخاصة بهذا الأسلوب المثير ، ومع أن الرسالة التي كتبها عبدالملك لم تكن مرسلة الى الإمام عليه السلام.

(1) كشف الغمة ( 2 : 112 ) وبحار الأنوار ( 46 : 29 ) ورواه في عوالم العلوم ( ص 42 ) عن الخرائج للقطب الراوندي.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 209

وكان عبدالملك واقفا على بعض ما للإمام عليه السلام من موقعيّة ومكانة ، لوجوده فترة كبيرة في المدينة الى جوار الإمام عليه السلام وعلمه بأوضاعه.
مضافا الى أن الإمام عليه السلام قد تحدّث معه بلغة الأرقام مما لا يمكنه دفعه أو إنكاره ، فلذلك كلّه تظاهر عبدالملك بفرحه بهذا الكتاب.
فقد جاء في ذيل ذلك الحديث أن عبدالملك لما نظر في تاريخ الكتاب وجده موافقا لتلك الساعة التي كتب فيها الرسالة الى الحُجّاج ، فلم يشك في صدق على بن الحسين ، وفرح فرحا شديدا ! وبعث الى علي بن الحسين وفر راحلته دراهم وثيابا ، لما سرّه من الكتاب (1).
ثم الذي يشير إليه الحديث التالي أن الإمام عليه السلام قاطع النظام ، مقاطعة سلبيّة ، توحي بعدم الاعتراف والاعتناء برأس الحكومة ، وهو شخص الخليفة :
فقد روي أن عبدالملك بن مروان كان يطوف بالبيت ، وعلي بن الحسين عليه السلام يطوف أمامه ، ولا يلتفت إليه.
فقال عبدالملك : من الذي يطوف بين أيدينا ؟ ولا يلتفت إلينا ؟
فقيل له : هذا علي بن الحسين !
فجلس مكانه ، وقال : ردّوه إليّ ، فردّوه ، فقال له : يا علي بن الحسين إنّي لست قاتل أبيك ، فما يمنعك من المسير إليّ.
فقال عليه السلام : إن قاتل أبي أفسد ـ بما فعله ـ دنياه عليه ، وأفسد أبي عليه آخرته ، فإن أحببت أن تكون هو ، فكن (2).
إن تحدي الإمام عليه السلام الاستفزازي ، يتبلور في نقاط :
فأولا ، يمشي بين يدي الخليفة متنكرا لوجوده ، لا يأبه به ، وفي مرأىً ومسمع من الحجيج الطائفين ، ولابدّ أنه كان في الموسم ، بحيث أثار الخليفة ، وبعثه على السؤال عنه : من هذا الذي يجرؤ على تحدّي احترام الخليفة هكذا !

(1) كشف الغمة ( 2 : 112 ).
(2) بحار الأنوار ( 46 : 120 ) وإثبات الهداة ، للحر العاملي ( 3 : 15 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 210

ولمّا سمع أنّه الإمام « علي بن الحسين » أجلسه « الاسم » في مكانه ، وهذا يعني أنّه قطع طوافه ، لعظم وقع النبأ عليه ، وقطع الطواف على الإمام بردّه إليه.
وثانيا ، عتاب عبدالملك للإمام عليه السلام لعدم السير إليه ، يكشف عن أن مقاطعة الإمام للخليفة والمسير إليه ولقائه ، أتخذ شكلا أكبر من مجرّد العزلة ، بل دلّ على عدم الرغبة ، أو الإعراض ، حتى اصبح الخليفة يحاسب عليه !
وثالثا ، إن قول عبدالملك : « إني لست قاتل أبيك » كما يحتوي على التبرُؤ من الدماء المراقة على أرض المعركة المحتدمة بين أهل البيت عليهم السلام والأمويين ، فإنه في نفس الوقت تهديد ، بهزّ العصا في وجه الإمام زين العابدين عليه السلام ، وتلويح له بإمكانيّة كلّ شيء : حتى القتل !
ورابعا ، ولذلك كان جواب الإمام حاسما ، وقويا ، وشجاعا ، إذ حدّد النتيجة في تلك المعارك السابقة ، وأثبت فيها انتصار أهل البيت الذين ربحوا النتيجة ، وخسران قتلتهم الأمويين !
ومع ذلك أبدى استعداده ، لأن يقف نفس الموقف المشرّف الذي وقفه أبوه ، إذا كان عبدالملك بصدد الوقوف على نفس الموقع الظالم الذي وقف عليه قاتل أبيه.
إنّه استعداد ، وطلب المبارزة والقتال ، وتحدّ سافر لسلطة خليفة لايمنعه شيء من الإقدام على الفتك والقتل والظلم والإبادة.
وهذا الموقف ، وحده ، كاف للدلالة على أن الإمام عليه السلام لم يكن ـ طول عمره ـ ذلك المسالم ، الموادع ، المنعزل عن الدنيا وسلطانها ، والمشغول بالعبادة ، والصلاة والدعاء والبكاء ، فقط !
ويبدو أن عبدالملك رأى أن الإمام عليه السلام بمواقفه الاستفزازية تلك ، يبرز في مقام أبيه وجدّه ، ويتزعّم الحركة الشيعية ، وقد ركّز موقعيته كإمام ، بعد تلك الجهود المضنية ، واستعاد جمع القوى المؤمنة حوله ، فأصبح له من القوة والقدرة ، أن يقف في وجه الخليفة ، فلذلك تصدّى للأمام عليه السلام وحاول أن يفرّغ يد الإمام عليه السلام من بعض

جهاد الامام السجاد عليه السلام 211

إثباتات الإمامة ، كوجود مخلّفات النبوّة عند الإمام (1) ، ومنها سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
فلمّا بلغ عبدالملك أن ذلك السيف موجود عند الإمام زين العابدين عليه السلام بعث إليه يستوهبه منه.
فأبى الإمام عليه السلام :
فكتب إليه عبدالملك ، يهدّده أن يقطع رزقه من بيت المال.
فأجابه الإمام عليه السلام.
أما بعد :
فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون ، والرزق من حيث لا يحتسبون ، وقال جل ذكره :
« إنّ الله لا يحبّ كل خوّان كفور»[ سورة الحج «22» الآية «38» ].
فانظر أيّنا أولى بهذه الآية (2).
إن طلب عبدالملك ، للسيف من الإمام عليه السلام بهذه الشدّة الى حدّ التهديد ، ليس ناشئا من مجرّد الرغبة ، وإلاّ فعبدالملك هو ذا معرض عن الاحتفاء بأقدس الاشياء المنسوبة الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأعزّ من سيف الرسول ، وها هم أهله يعرّضون من قبله بالتهديد بقطع الرزق.
فإن موقف الإمام عليه السلام بإباء إعطائه السيف ، إذا كانت الأمور في حالتها الطبيعيّة ، لا يبرره شيء.
إلاّ أن الوضع ليس طبيعيا قطعا.
وتشير بعض الأحاديث الى بلوغ حدّة التوتّر بين الإمام وبين النظام إلى حدّ أن الحجّاج الثقفي ، وهو من أعتى ولاة الأمويين ، يكتب الى عبدالملك بما نصه : « إن

(1) إقرأ عن سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموجود عند الإمام عليه السلام حديث ابي خالد الكابلي في المناقب لابن شهر آشوب ( 4|148 ) ط الأضواء.
(2) عوالم العلوم ( ص 117 ) عن المحاسن للبرقي ، والمناقب لابن شهر آشوب ( 4 : 302 ) وانظر بحار الانوار ( 46 : 95 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 212

أردت أن يثبت ملكك فاقتل عليّ بن الحسين » (1).
فلو كان الإمام زين العابدين عليه السلام كما هو المعروف زاهدا في السياسة ، فما معنى ربط الحجّاج ـ الذي لا يرتاب في دهائه ـ بين الإمام وبين الملك.
فكلام الحجّاج واضح الدلالة على أن وجود الإمام عليه السلام أصبح يشكّل خطرا عظيما على الملك ، يزعزعه ويزيله ، فهو لا يثبت إلاّ بقتل الإمام.
وأما عبدالملك ، فقد حاول أن يحدّد الإمام عليه السلام ، كما يقوله الحديث التالي :
قال الزهري : شهدت علي بن الحسين ، يوم حمله عبدالملك بن مروان من المدينة الى الشام ، فأثقله حديدا ، ووكّل به حفاظا عدّة.
فاستأذنتهم في التسليم عليه ، والتوديع له ، فأذنوا لي ، فدخلت عليه ، وهو في قبّة ، والأقياد في رجليه ، والغلّ في يديه ، فبكيت ، وقلت : وددت أني مكانك ، وأنت سالم.
فقال : يا زهريّ ، أو تظنّ هذا ـ مما ترى عليّ وفي عنقي ـ يكرثني ، أما لو شئت ما كان ، فإنه ـ وإن بلغ فيك وفي أمثالك ـ ليذكرني عذاب الله.
ثم أخرج يديه من الغلّ ورجليه من القيد ، وقال : لأجزت معهم على ذا منزلتين من المدينة.
قال الزهري : فما لبثت إلاّ أربع ليالٍ ، حتى قدم الموكّلون به ، يظنّون أنّه بالمدينة ، فما وجدوه.
فكنت فيمن سألهم عنه ؟
فقال لي بعضهم : إنّا نراه متبوعا ، إنه لنازل ، ونحن حوله لا ننام ، نرصده ، إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلاّ حديده.
قال الزهري : فقدمت ـ بعد ذلك ـ على عبدالملك بن مروان ، فسالني عن علي بن الحسين ؟ فأخبرته ، فقال لي : إنه قد جاءني في يوم فقدوه الأعوان ، فدخل عليّ فقال : ما أنا وأنت ؟
فقلت : أقم عندي.
فقال : لا أحبّ.

(1) بحار الأنوار ( ج 46 ص 28 ح 19 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 213

ثم خرج ، فوالله ، لقد امتلأ ثوبي منه خيفة.
قال الزهري : فقلت : يا أمير المؤمنين ! ليس علي بن الحسين حيث تظنّ ، إنه مشغول بنفسه.
فقال : حبّذا شغل مثله ، فنعم ما شغل به (1).
إن هذا الحديث ـ على طوله ـ فيه من الدلالات على أن وضع الإمام عليه السلام السياسي أصبح بمستوى يلجىء الدولة الى اعتقال الإمام وتقييده وتكبيله الغلّ ، وتطويقه بالحرس.
فهل يعامل المنعزل عن السياسة والزاهد فيها ، بهذا الشكل حتى لو فرضنا أن الضرورة اقتضت جلبه الى العاصمة ؟!
إن أسلوب الجلب هذا فيه الدلالة القويّة على أن تحرّك الإمام عليه السلام كان على مستوى بالغ الخطورة على الدولة.
ثم ماذا كان يظنّ الخليفة في الإمام حتى التجأ الى فعل كلّ هذا ضدّه ، لو لم يتوجّس منه خيفة التحرّك السياسي.
ويبدو الإمام عليه السلام مصمّما على التزامه ، فقد أجاب الخليفة بما أحب هو ، لا ما أراد الخليفة.
وفي التجاء الإمام عليه السلام الى إعمال قدراته الملهمة من الله كإمام للأمة ، ووليّ من أولياء الله المخلصين ، فأظهر للملك وللزهري إعجازه الخارق ، تأكيد على ما نريد إثباته وهو أن الإمام زين العابدين عليه السلام صرّح بأنه يقوم بمهمّة الإمامة الإلهية ، ويثبت للملك وأعوانه ولكل من اطّلع على مجاري الأحداث ، أنّه الإمام الحق ، والأولى بمقام الحكم الذي يدّعيه عبدالملك.
وهذا هو أظهر أشكال النضال السياسي.

(1) حلية الاولياء ( 3 : 135 ) تاريخ دمشق ( الحديث 42 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 234 ) ورواه ابن شهر آشوب في المناقب ( 4|145 ) ط الأضواء.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 214

وموقفه من هشام بن عبدالملك.


وموقف الإمام زين العابدين عليه السلام من هشام ، من أشهر المواقف بين المسلمين ، وقد تناقله الأعلام في صحفهم وكتبهم ، وأرسلوه إرسال المسلمات ، وفيه من الدلالات الواضحة على قيام الإمام عليه السلام بالاستفزاز السياسي ، ما لا يخفى على أحد.
والحديث : أن هشام بن عبدالملك حجّ في خلافة أبيه ، فطاف بالبيت ، وأراد أن يستلم الحجر الأسود ، فلم يقدر عليه من الزحام ، فنصب له منبر فجلس عليه.
فبينا هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين عليه السلام ، عليه إزار ورداء ، أحسن الناس وجها ، وأطيبهم رائحة ، وبين عينيه سجّادة ، كأنّها ركبة بعير.
فجعل يطوف بالبيت ، فإذا هو بلغ الى موضع الحجر تنحّى الناس له عنه ، حتى يستلمه ، هيبة له وإجلالا.
فقال رجل من أهل الشام لهشام : من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة ، فأفرجوا له عن الحجر ؟!
فقال هشام : لا أعرفه ! ـ لئلا يرغب فيه أهل الشام ـ !
فقال الفرزدق ـ وكان حاضرا ـ : أنا أعرفه :
هذا الـذي تعـرف البطحاء وطأته والبيـت يعرفـه والحـل والحـرم
هذا ابن خيـر عبــاد الله كلّهـم هذا التقيّ النقيّ الطــاهر العـلـم
هذا ابن فاطمة ان كنت جاهـلـه بجدّه أنبيـاء الله قــد خـتمــوا
يكـاد يمسكه عرفـان راحتــه ركـن الحطيـم إذا مـا جاء يستلم
مـن معشر حبّهم ديـن وبغضهم كفر وقربهــم منجى ومعتصــم
إن عدّ أهــل التقى كانوا أئمّتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
هم الغيوث إذا ما أزمــة أزمت والاُسدُ اُسدُ الشرى واليأس محتدم(1)

(1) هذه الأبيات هي التي اختارها الاستاذ الفاضل المحقق الدكتور السيد جعفر الشهيدي ، من مجموع ما نسب الى الفرزدق في مدح الإمام السجاد عليه السلام بعنوان « الميميّة » بعد أن أشبعها بحثا وتحقيقا في كتابه القيّم « زندگاني علي بن الحسين عليه السلام » ( الصفحات 112 ـ 133 ) وقد فصّل فيه

=

جهاد الامام السجاد عليه السلام 215

إن الموقف لم يكن بحيث يخفى شيء من أبعاده على الإمام عليه السلام ، ولم يكن هو عليه السلام بحيث يقوم بما قام متجاهلا عواقبه وآثاره ، فلا بد لمن يحضر المطاف أن ينتبه لحضور مثل هشام ـ وليّ العهد ـ على المنبر ، وحوله الجلاوزة من أهل الشام.
لكنّ الإمام زين العابدين عليه السلام تجاهل وجود هشام ، قاصدا الى عواقب إقدامه الجرىء ذلك :
فهو يسير في إكمال أشواط الطواف ، متزيّيا بزيّ الأنبياء ، والناس يتنسّمون منه ريح النبّوة وعبق الرسالة ، وهذا واحد من آثار نضال السنوات الطويلة العجاف الشداد ، التي كابد فيها الإمام أنواع الصعاب ، ليفتح أمام الناس طريق معرفة الإمام والوصول الى الإمامة ، بينما كانت الخلافة في غفلة عن هذا كلّه ، ومنهمكة في عتوّها

=
الحديث عمّا وقع من الاختلاف في ما ورد من أبيات على وزن الميميّة في التراث العربي ، من حيث قائلها ، والممدوح الذي قيلت في حقه ، وفي عدد أبيات ما قيل في كلّ مناسبة ، وفي خصوص ما نسب الى الفرزدق في مدح الإمام عليه السلام في مقام الحجر الأسود ، من حيث عدد الأبيات ، ودقق في مضمون الأبيات المنسوبة ، فتوصّل الى أن الانسب بالمقام ـ زمانا ومكانا ووضعا ـ هو هذه الأبيات السبعة التي اختارها ، وأنّها الأنسب بالشاعر وبالمناسبة لفظا وبلاغة ، ومعنى ودلالة.
وأبان الوجوه التي استبعد بها الأبيات الاخر ، بتفصيل واف ، ومما يحسن ترجمته من كلامه ، بعد إيراده البحث المذكور ، قوله :
إن كان الفرزدق قد أنشأ هذه الأبيات في حق الإمام علي بن الحسين ، فقد أدى جزءا ضئيلا من دينه ، وخفف شيئا من أثقال جرائمه التي يحملها على عاتقه ، حيث يعجّ ديوان هذا الشاعر بمدائح معاوية ، وعبدالملك بن مروان ، وابنه الوليد ، ويزيد بن عبدالملك ، وعمّالهم مثل : الحجاج بن يوسف ، ويعثر في ديوانه على أكثر من عشرة قصائد في مديح هشام وابنه ، بالخصوص.
أن ما كتبه اليافعي ـ في حق الفرزدق ـ يبدو وافيا جدا ، حيث قال : « وينسب الى الفرزدق مكرمة يرتجى له بها الرحمة في دار الآخرة » وأورد حديث الميميّة ، في مرآة الجنان ( ج 1 ص 239 ) طبع موسسة الأعلمي بيروت ـ عن طبعة حيدرآباد الهند 1337.
وأليك بعض مصادر هذه القصيدة :
تاريخ دمشق ( الحديث 133 ) مختصره ( 17 : 6 ـ 247 ) ديوان الفرزدق ( 2 : 178 ) الأغاني ( 15 : 327 ) و ( 15 : 261 ثقافة ) وصفوة الصفوة ( 2 : 8 ـ 99 ) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ( 1 : 153 ) وأمالي المرتضى ( 1|62 ) وانظر الإمام زين العابدين عليه السلام.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 216

وظلمها ولهوها وبذخها وترفها وطغيانها ، بعيدا عن الناس.
والناس ، أولئك الذين تجاهلوا ابن الخليفة ، ولم يأبهوا به ، ولم يفتحوا له طريقا الى لمس الحجر الأسود ، هاهم يقفون سماطين ، هيبة للإمام زين العابدين عليه السلام ، يفرجون له عن الحجر ، ليستلمه !
ومثل هذا العمل يخدش غرور هشام الذي يمثل الخلافة ، ويغيض المنتمين الى الدولة ، ولذلك تجاهل هشام شخص الإمام عليه السلام.
ومما يدل على حدّة تأثير الموقف فيهم رواية المدائني عن كيسان عن الهيثم أن عبدالملك قال للفرزدق ، أوَ رافضيّ أنت يا فرزدق ؟
فقال : إن كان حبّ أهل البيت رفضا ، فنعم (1).
والشاعر الشعبيّ ـ الفرزدق ـ الذي يعيش بين العامة ، استصعب ذلك التجاهل ، وانبرى بإنشاد الميمية العصماء ، التي طار صيتها مع الحجّاج عندما عادوا الى مختلف البقاع.
إن أيّ حكم سياسي لا يتحمّل مثل هذه المواقف التي تحطّ من كرامة رجال الدولة ، وخاصّة رجال البلاط ، وبهذه الصورة.
ولذلك ، فإن الأمويين سجنوا الفرزدق على هذا الشعر الذي اعتبروه إهانة للنظام.
فكيف لا يكون عمل الإمام زين العابدين عليه السلام استفزازا سياسيا ؟!
وممّا يؤكّد على استهداف الإمام عليه السلام للنظام في هذا التصرّف هو أن الإمام زين العابدين عليه السلام سارع الى الاتصال بالفرزدق في السجن ، ووصله بشيء رمزي من المال ، مكافأة لموقفه السياسي ذلك.
ولا ريب أن في هذا ـ أيضا ـ إعلانا لدعم المعارضة المعلنة من قبل الفرزدق ، لا يمكن إغفاله عن سجلّ الأعمال السياسية التي قام بها الإمام عليه السلام.
وموقفه من عمر بن عبدالعزيز :


كان عمر بن عبدالعزيز ، قبل تولّيه الخلافة ، يسكن المدينة ، يرفل أثواب الترف ،

(1) المحاسن والمساوي للبيهقي ( ص 212 ـ 213 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 217

باعتباره من العائلة المالكة.
وكان من ترفه أنه يلبس الثوب بأربعمائة دينار ، ويقول : « ما أخشنه ! » (1).
وقال بعضهم : كنّا نعطي الغسّال الدراهم الكثيرة حتى يغسل ثيابنا في إثر ثياب عمر بن عبد العزيز ، من كثرة الطيب الذي فيها (2).
قال عبدالله بن عطاء التميمي : كنت مع علي بن الحسين في المسجد فمرّ عمر بن عبدالعزيز ، وعليه نعلان شراكهما فضّة ، وكان من أمجن الناس ، وهو شاب... (3).
ولما كان يتمتع به من ذكاء وتدبير ، كان يراقب أعمال الإمام زين العابدين عليه السلام عن كثب ، فيجد أنه عليه السلام قد هيّأ بجهاده وصبره الأرضيّة الصالحة لانقلاب اجتماعي جذري على الحكم الأموي المرواني.
وكان الإمام يتوسّم في عمر التطلّع الى الخلافة ، فقد قال عليه السلام لعبد الله بن عطاء ـ ذيل حديثه السابق ـ : أترى هذا المترف ـ مشيرا الى عمر ـ إنه لن يموت حتى يلي الناس ، فلا يلبث إلاّ يسيرا حتى يموت ، فإذا مات لعنه أهل السماء ، واستغفر له أهل الأرض (4).
ففي هذا الحديث :
1 ـ يشاهد توسّم الإمام عليه السلام في عمر أنه يتطلّع الى الحكم والولاية ، رغم بعده عنها ، واشتغاله في المدينة بما لا يمتّ الى ذلك.
وإعلانه عن هذا التوسّم يدل بوضوح على أن الإمام كان يفكّر في شؤون الحكومة لا حاضرها بل ومستقبلها ، وأنه كان مفتوحا أمامه بوضوح.
2 ـ إن الإمام عليه السلام كان يعرف من ذكاء عمر ودهائه أنه سوف ينافق في ولايته ،

(1) طبقات ابن سعد ( 5 : 246 ).
(2) الإغاني ( 9 ـ 262 ).
(3) مناقب ابن شهر آشوب ( 4/155 ) ط الأضواء.
(4) بصائر الدرجات ( ص 45 ) ودلائل الإمامة للطبري ( ص 88 ) وبحار الأنوار ( 46 : 23 و 327 ) وإثبات الهداة ( 3 : 12 ) وقد روى عاصم بن حميد الحنّاط في أصله ( ص 23 ) قريبا من هذا النص عن عبدالله بن عطاء قال : كنت آخذا بيد أبي جعفر عليه السلام وعمر بن عبدالعزيز عليه ثوبان معصفران ، قال : فقال أبو جعفر : أما أنه سيلي ثم يموت ، فيبكي عليه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء ، ودلالته على المعاني التي ذكرناها أوضح.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 218

بما ينطلي على الناس أنه صالح و « عادل » في الحكم ، بينما هو ، قد احتال في ضرب الحق وتثبيت الباطل مدّة أطول ، وقد كان من شأن الدولة الأموية أن تزول قبل ذلك ، لولا تصرّفاته المريبة !
حيث أن آثار جهود الإمام زين العابدين عليه السلام ونضاله ضدّ الطاغوت الأموي ، كانت قد بدت ظاهرة ، فكان الجوّ السياسي ـ على أثر أنتشار الوعي ـ مشرفا على الأنفتاح ، بحيث لم يطق التعنّت الأموي على الاستمرار في عتوّه ، وإعلان فساده ، وانتهاكه للحرمات كسب الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر ، على رؤوس الأشهاد ، وصدّ الإمة عن المعارف والثقافة الإسلامية الصحيحة بمنع الحديث والسنّة ، والأدهى من كلّ ذلك استمرار الضغط على كبار المسلمين وسادتهم كعلماء أهل البيت عليهم السلام بالتقتيل والتشريد والسجن ، وكعلماء الصحابة ومؤمنيهم بالإهانة والمطاردة والقتل.
فكان عمر بن عبدالعزيز ، وهو الذي راقب الأوضاع عن كثب يعرف كلّ هذه المفارقات في حكم آبائه وسلفه ، فلمّا استولى على كرسيّ الخلافة بدأ بتبديل تلك السياسة الخاطئة.
فعمد الى رفع ذلك السبّ عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، الذي كان وصمة عار على جبين الحكم الأموي ، ولطخة سوداء في صفحات تاريخ المسلمين لا تمحى مدى الدهر ، إذ يسبّ أحد الخلفاء ، ابن عم رسول الله وصهره ، وأحد كبار الصحابة ، على منابرهم مدّة مديدة ، بكلّ صلافة وجرأة !! (1).
وقد كان عمر نفسه ممن يلعن عليّا قبل تولّيه السلطة ، حينما كان يتعلّم في المدينة (2).
ثم أن سب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لم يؤد إلاّ الى النتائج المضادّة لأهداف بني أمية ، مهما تطاول ، وقد تنبّه العقلاء الى ذلك ، وجاء نموذج من هذا في ما روي عن عامر بن عبد الله بن الزبير ـ وكان من عقلاء قريش ـ سمع ابنا له ينتقص علي بن

(1) لاحظ الكشكول في ما جرى على آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ( ص 156 ).
(2) الكامل في التاريخ لابن الأثير ( 5/42 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 219

أبي طالب عليه السلام ، فقال له : لا تنتقص عليا ، فإن الدين لم يبن شيئا فاستطاعت الدنيا أن تهدمه ، وإن الدنيا لم تبن شيئا إلاّ هدمه الدين !
يابني ، إن بني أمية لهجوا بسبّ علي بن أبي طالب عليه السلام في مجالسهم ولعنوه على منابرهم ، فإنما يأخذون ـ والله ـ بضًبْعًيْه الى السماء مدّا ، وإنهم لهجوا بتقريظ ذويهم وأوائلهم من قومهم فكأنما يكشفون منهم عن أنتن من بطون الجيف ، فأنهاك عن سبّه (1).
ثم رفع عمر بن عبدالعزيز المنع عن نشر الحديث والسنّة ، فعمّم أمرا بكتابة الحديث وتدوين العلم ، وسجّل باسمه هذه المأثرة التي لا يزال كثير من المصنفين يمدحونه بها !
إن عمر بادر الى هذه الأعمال وأمثالها ، لتلافي أمر أنهدام الدولة الأموية ، وقبل أن ينسحب البساط من تحته وتحت قبيلته.
وأخطر ما في عمله أنه أخّر نتائج الجهود الجبّارة التي قام بها الإمام زين العابدين عليه السلام الى فترة أبعد ، لما فتحه أمام الناس من نوافذ للأمل بالإصلاح ، فتقاعسوا عن متابعة الأهداف التي خطّط لها الإمام عليه السلام ، لأنهم علّقوا آمالا طوالا عراضا على عمر ، وتظاهره بالصلاح ، بل عدّوه مجدّدا للإسلام ! في بداية القرن الثاني ، وكالوا له المدح والثناء ، وكسب ودّ كثير من الناس ، حتّى أتبعوه بالاستغفار بعد هلاكه.
بينما هو ، لو كان يريد الخير للأمّة لردّ الى أهله ، والحقّ الى نصابه ، ولأصلح أهمّ ما أفسده بنو أمية والخلفاء من قبله ، وهو إرجاع الأمر الى أهل البيت عليهم السلام الذين هم أولى بالأمر منه.
قال السيد المقرّم : ولو كان ابن عبدالعزيز صادقا... لردّ الخلافة الى اهلها ، وهل ظلامة أحد أكبر من ظلامة أهل البيت عليهم السلام في عدم إرجاع الحقّ إليهم ؟ وتعريف الأمة أنهم الأولى ممّن تسنّم منبر النبوّة بغير رضا من الله ولا من رسوله ؟ (2)

(1) الأمالي للطوسي ـ ط ـ البعثة ـ ص 588 رقم 1217 المجلس (25).
(2) الإمام زين العابدين عليه السلام ( ص 65 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 220

ولكنه لم يفعل أيّ شيء في هذا المجال.
ولو كان محبّا للعلم ، وحفظه من الدروس ، لما اكتفى برفع المنع من تدوينه ، بل لتصدّى لتلك المجموعة التي دأب الخلفاء ـ وخاصة معاوية ـ على اختلافها ووضعها ونشرها وتشويه الحق بها ، وكان من السهل وقوف عمر عليها ! فجمعها وأبادها ، أو كشفها وأعلن عن زيفها !
ولأمكنه ـ كذلك ـ السعي لفسح المجال أمام تلك المجموعة الممنوع نقلها وتداولها من الحديث والعلم ، والتي كانت تحتوي على فضائل علي وآله عليهم السلام ، فنشرها وأفصح عنها وأذاعها.
ولكن تلك الأحاديث لو نشرت لما بقي لدولة بني أمية ذكر.
فهو لم يفعل شيئا من هذا ، وإنما اكتفى بتصرّفات تغرّ الناس وتقنعهم بأنّه عادل ، يحبّ العلم ، ويحافظ على الإسلام ، كي لا تتعمّق نقمة الناس عليه وعلى الخلافة الأموية ، فتنقلب عليه الأمة.
ومهما يكن ، فإن تعرّض الإمام زين العابدين عليه السلام لعمر بن عبدالعزيز ، في ذلك الوقت ، وهو من العائلة المالكة ، ويتطلّع الى الخلافة ، وهو على ما كان عليه من الترف والبذخ اللذين يدلان على روح الطاغوت في وجوده.
إن تعرّض الإمام له يدل على نوع من الاقتحام السياسي ، وهو موقف خطر يقفه الإمام ، بلا ريب ، يستتبع المؤاخذة من الحكّام الظلمة.
ولكن الإمام عليه السلام كان يقتطف ثمال خطّته السياسيّة ، فلا يبالي بما سيقع عليه جراء هذا الإعلان.
ولقد أعلن ، فعلا تصدّيه لمثل ذلك في ما رواه حفيده جعفر الصادق عليه السلام في قوله تعالى : « هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً » [ سورة مريم : 98 ] قال : هم بنو أمية ، ويوشك أن لا يحس منهم أحد ولا يخشى... ما اسرعه ! سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول : إنه قد رأى أسبابه (1).
نعم ، رأى الإمام السجّاد عليه السلام تلك الأسباب التي كانت من صنع سياسته الحكيمة.

(1) مناقب شهر آشوب ( 3/276 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 221

ثانيا : موقفه من أعوان الظلمة

لقد شدّد الإسلام النكير على إعانة الظالمين ، واعتبره ظلما وتعديّا وتجاوزا للحدود ، حتى عدّ في بعض النصوص من الكبائر التي توعّد عليها بالنار.
ففي رواية معايش العباد التي ذكر فيها وجوه الاكتساب وأحكامها ، قال الصادق عليه السلام :
وأما وجه الحرام من الولاية : فولاية الوالي الجائر ، وولاية ولاته ، الرئيس منهم ، وأتباع الوالي ، فمن دونه من ولاة الولاة الى أدناهم ،....
لأن كل شيء من جهة المعونة لهم معصية ، كبيرة من الكبائر ، وذلك : أن في ولاية الوالي الجائر درس الحق كلّه ، وإحياء الباطل كلّه ، وإظهار الظلم والجور والفساد ، وإبطال الكتب ، وقتل الأنبياء والمؤمنين ، وهدم المساجد ، وتبديل سنّة الله وشرائعه.
فلذلك حرم العمل معهم ، ومعونتهم ، والكسب معهم (1).
ومما لا يخفى على أحد : أن الجائرين لم يصلوا الى مآربهم ، لو لم يجدوا أعوانا على ما يقومون به من مظالم ومآثم.
وقد عبّر الإمام عليه السلام عن ذلك لمن راح يذرف الدموع على ما يجري على أهل البيت من المصائب والظلم ، ما معناه : أن المسؤول عن ذلك ليسوا هم الظالمين فقط ، بل من توسّط في إيصال الظلم وتمكين الظلمة ، وتمهيد الأمر لهم ، كلهم مشاركون في الجريمة.
ولذلك ـ أيضا ـ ورد اللعن على « من لاق لهم دواة ، أو قطّ لهم قلما ، أو خاط لهم ثوبا ، أو ناولهم عصا ».
مع أن هذه الأدوات لا تباشر الظلم ، وإنما هي جوامد لا تعقل ، إلاّ بوسائط وبعد مراحل ، وقد يستفاد منها للخير والصلاح ، ولكن القيام بخدمة الظالم ، ولو بهذه الأمور ، يكون من المعونة له.

(1) تحف العقول ( ص 332 ).

السابق السابق الفهرس التالي التالي