جهاد الامام السجاد عليه السلام 236

الحق مقرّه في رجل من آل بيت نبيّهم صلوات الله عليه وسلامه (1).
وكحركة المختار الذي كتب الى الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام يريده على أن يبايع له ، ويقول بإمامته ، ويظهر دعوته ، وأنفذ إليه مالا كثيرا (2) وتتّبع قتلة الحسين عليه السلام فقتلهم (3).
ولكنّ الإمام عليه السلام كان حكيما في تعامله من المتحرّكين أولئك ، فلم يعلن عن ارتباطه المباشر بهم ، وكذلك لم يعلن عن رفض حركتهم كما واجه ابن الزبير ، بل أصدر بيانا عاما ، يصلح لتبرير الحركات الصالحة ، من دون أن يترك آثارا سيئة على الإمام عليه السلام : فقال لعمه محمد بن الحنفية : « يا عمّ ، لو أنّ عبدا تعصّب لنا أهل البيت ، لوجب على الناس مؤازرته ، وقد ولّيتك هذا الأمر ، فاصنع ما شئت » (4).
إن تولية الإمام عليه السلام لعمّه في القيام بأمور الحركات الثورية تلك كان هو الطريق الأصلح ، حيث أن محمد بن الحنفيّة لم يكن متّهما من قبل الدولة بالمعارضة ، ولم يعرف منه ما يشير الى التصدي للإمامة لنفسه ، بينما الإمام عليه السلام كانت الدولة تتوجسّ منه خيفة باعتباره صاحب الدم في كربلاء ، والمؤهل للإمامة ، لعلمه وتقواه وشرفه ، ولم يخف على عيون الدولة أن جمعا من الشيعة يعتقدون الإمامة له.
وبذلك كان الإمام عليه السلام قد حافظ على وجوده من أذى الأمويين واستمر على رسم خططه والتأكيد على منهجه لإحياء الدين وتهيئة الأرضية للحكم العادل.
وهو مع ذلك لم يقطع الدعم عن تلك الحركات التي انتهجت الثأر لأهل البيت عليهم السلام.
فلّما أرسل المختار برؤوس قتلة الإمام الحسين عليه السلام الى الإمام السجّاد عليه السلام ، خرّ الإمام ساجدا ، ودعا له ، وجزّاه خيرا (5).

(1) الفخري في الآداب السلطانية ( ص 104 ).
(2) مروج الذهب ( 3 : 83 ).
(3) مروج الذهب ( 3 : 84 ).
(4) بحار الانوار ( 45/365 ) وانظر اصدق الاخبار للسيد الأمين ص 39 والمختار الثقفي ، لأحمد الدجيلي ( ص 59 ).
(5) رجال الكشي ( ص 125 و 127 ) وشرح الأخبار ( 3 : 270 ) وتاريخ اليعقوبي ( 2 : 259 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 237

وقام أهل البيت كافة بإظهار الفرح ، وترك الحداد والحزن ، ممّا يدلّ على تعاطفهم ـ عمليا ، وعلنيّا ـ مع المختار وحركته.
ولو نظرنا الى هذا العمل ، نجده لا يثير من الأمويين كثيرا من الشكوك تجاه الإمام ، إذ من الطبيعي أن يفرح الموتور بقتل ظالمه ، ويدعو لمن قتله وانتقم منه وثأر لدماء الشهداء !
خصوصا ، أذا اقترن مع رفض الإمام عليه السلام لقبول هدايا المختار المادّية (1).
فإنّ ذلك يدلّ بوضوح على أن الإمام عليه السلام لا يريد التورّط سياسيّا مع حركة بعيدة عنه جغرافيا ، ولم تلتق مع أهدافه البعيدة المدى حضاريا وتاريخيا.
ولا تعدو أن تكون فوزا أو بروزا مقطعيّا فقط.
وأمّا ما ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام من أحاديث في ذمّ المختار أو لعنه :
فالذي يوجّهه أن الحكّام الظلمة ـ عامّة ـ وبني أمية ـ خاصّة ـ استعملوا أساليب التزوير والاتهامات الباطلة ضدّ معارضيهم بغرض إسقاط المعارضة في نظر العامة.
وقد استهدفوا شخص المختار وأصحابه باشكال من الاتهامات التي تعبر على أذهان العوام ، مثل السحر والشعوذة ، كما اتّهموه بدعوى النبوّة ، والالوهية ، وما اشبه ذلك من الخرافات ، سعيا في إبطال مفعول حركته ، وإبعاد الناس عنه ، والتشويش على نداءاته وشعاراته بالطلب بثارات الحسين عليه السلام وتأسفه على قتله ، وإعلانه عن هويّة القاتلين ، وحمايته لبني هاشم من الأذى.
ولقد تواترت أخبار البلاطيّين ، واتّهمامهم إيّاه على طريقة « إكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدّقك الناس » وقد ملئت الصحف والكتب والأخبار بتلك الأكاذيب ، حتى صدّقها الناس فعلا !!
وأذا كان المختار بتلك المنزلة التي أبداها الحكّام والنقلة والرواة والمؤرّخون ، وكان من أخبارهم الموحشة عنه ماملأ مسامع الناس وأفكارهم : أنّه ساحر ، كذّاب على الله ورسوله ، مدّع للنبوّة ، وما الى ذلك من الترّهات والأكاذيب.
إذا كان المختار عند العامة بهذه المنزلة ، فهل يجوز للإمام عليه السلام أن يدافع ـ علنا ـ عن

(1) مروج الذهب ( 3 : 83 ) ورجال الكشي ( ص 126 ) رقم ( 200 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 238

حركته ؟! أو أنْ يسكت إذا سئل عنه ؟!
إن إظهار التعاطف معه ، ولو بأدنى شكل ، كانت الدولة تستغله لضرب الإمام عليه السلام وتشويه سمعته عند العامة العمياء.
فلا نستبعد أن يكون الإمام عليه السلام قد أصدر ضدّ ما يعرفه الناس عن المختار ، ما يبرّىء ساحة الإمام عليه السلام من الموافقة عليه ، أو السكوت عنه ، ففي الخبر : قام الإمام عليه السلام على باب الكعبة ! يلعن المختار !
فقال له رجل : يا أبا الحسين ، لم تسبّه ؟ وإنّما ذُبح فيكم ؟!
قال الإمام عليه السلام : إنّه كان كذّابا ، يكذب على الله ورسوله (1)
فلو صح هذا الخبر ، فإن وقوف الإمام عليه السلام على باب الكعبة ، وإعلانه بهذا الشكل عن ذمّ المختار ولعنه ، لا يخلو من قصد ـ أكثر من مجرّد اللعن ـ حيث أنّ في ذلك دلالة واضحة على إرادة مجرّد الإعلان بذلك وتبيينه للناس.
وفي قول المعترض : « ذُبح فيكم » الهدف السياسيّ تلطيخ سمعة أهل البيت عليهم السلام وتوريطهم بما لطّخوا به سمعة المختار.
إذ لا يصدر مثل هذا الاعتراض ، وهذا الإعلان ، عن شخص غير مغرض في مثل ذلك الموقف.
ثم إن ما ورد من أمثال هذه الأحاديث ، المشتملة على ذمّ المختار من قبل أهل البيت عليهم السلام ورواتهم ، إنما رواها رجال الدولة وكتّابهم ومؤرّخو البلاط ، مما يدّل على أن المستفيد الوحيد من ترويجها هم أولئك الذين يرتزقون من الارتباط بالدولة.
هذا لو صحّت تلك الأحاديث والنقول.
وإلاّ ، فهل يشك أحد من دارسي التاريخ في أن المختار تحرّك بشعار الأخذ بثارات الحسين عليه السلام وقد وصفه زوجتاه ـ بعد قتله ـ بأنه « رجل يقول ربّي الله ، كان صائم نهاره ، قائم ليله ، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قتلة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهله وشيعته ، فأمكنه الله منهم حتى شفى النفوس » (2).

(1) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 17 : 243 ).
(2) مروج الذهب ( 3 : 107 ) وانظر تاريخ اليعقوبي ( 2 : 264 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 239

وقتل معه سبعة آلاف رجل كلهم طالبون بدم الحسين (1).
أليس ما قام به المختار من أخذ الثار ، مكرمة تدعو الى السكوت عنه ، على الأقلّ ؟!
ولقد ذكّر الإمام الباقر عليه السلام بمثل هذا في حديثه عن المختار لمّا دخل عليه أبو الحكم ابن المختار ، فتناول يد الإمام ليقبّلها فمنعه ، ثم قال له : اصلحك الله ، إن الناس قد أكثروا في أبي وقالوا ، والقول ـ والله ـ قولك !... ولا تأمرني بشيء إلاّ قبلته.
فقال الإمام : سبحان الله ! أخبرني أبي ـ والله ـ أن مهر أمي كان مما بعث به المختار.
أوَلم يبن دورنا ، وقتل قتلتنا ، وطلب بدمائنا ، فرحمه الله.
وأخبرني ـ والله ـ أبي : أنّه كان ليسمر عند فاطمة بنت عليّ يمهّدها الفراش ويثني لها الوسائد ، ومنها أصاب الحديث.
رحم الله أباك ، رحم الله أباك ، ما أصاب لنا حقّا عند أحد إلاّ طلبه... (2)
وعلى حدّ قول ابن عباس ـ لما طُلِبَ منه سبّ المختار ـ : ذاك رجل قَتَلَ قتلتنا ، وطلب ثأرنا وشفى غليل صدورنا ، وليس جزاؤه منّا الشتم والشماتة (3).
إن خروج الإمام زين العابدين عليه السلام من أزمة الحركات المعارضة للدولة ، على أختلاف مواقفها تجاه الإمام ، من موالية ، ومحايدة ، ومعادية ، وبالشكل الذي لا يترك أثرا سلبيّا عليه ، ولا يحمّله مسؤولية ، ولا تستفيد الأطراف المتنازعة من موقعه كإمام ، وككبير أهل البيت عليه السلام ، ولا تتضرّر أهدافه وخططه التي رسمها لإحياء الدين.
إن الخروج من مثل هذا المأزق ، وبهذه الصورة ، عمل جبّار لابدّ أن يعدّ من أخطر مواقف الإمام السياسيّة ، ويستحق دراسة معمّقة لمعرفة أسسه ، وأبعاده.
وبعد :
إنّ ما بذله الإمام السجّاد عليه السلام من جهود وجهاد في سبيل الله ، وما قام به من

(1) مروج الذهب ( 3 : 107 ).
(2) رجال الكشي ( اختيار معرفة الرجال ) ( ص 126 ) رقم ( 199 ).
(3) الكامل في التاريخ لابن الأثير ( 4 : 278 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 240

فرض الإمامة وواجب الولاية تجاه الدين والأمة ، مع اقتران المهمّة بظروف صعبة وحرجة للغاية ، حيث ملئت الأجواء بالرعب والردّة والانحراف عن القيم والموازين والأعراف ، سواء الدينيّة ، أم الأخلاقية ، بل حتى الإنسانية !
إن ما بذله الإمام عليه السلام في سبيل القيام بالمهمة تمّ بأفضل ما يتصوّر ، فقد رسم لمخططاته خطّة عمل ناجحة بحيث مهّد الأرضية لتجديد معالم التشيع ، ممثلا لكلّ ما للأسلام من مجد وعدل وعلم وحكمة ، لهو عمل عظيم ، يدعو الى الإعجاب والفخر والتمجيد ، ويجعل من الإمام عليه السلام في طليعة القوّاد السياسيّين الخالدين.
ولقد حقّ له عليه السلام أن يكلّل تلك الحياة العظيمة بالطمأنينة التي ملأت وجوده الشريف عندما حضر ، فأغمض عينيه حين الوفاة ، وفتحهما ليقول كلمته الأخيرة ، فيقرأ « الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الأرض ، نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين»[سورة الزمر (39) الآية 74 ] ثم قبض من ساعته (1).
فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّا.
وكما كانت نتائج الثورة الحسينية في كربلاء تتبلور في انتصار الإسلام باستمرار شعائره ، وعدم تمكّن الأعداء من القضاء عليها ، بالرغم من استشهاد الصفوة من خيرة المسلمين وعلى رأسهم الإمام أبو عبدالله الحسين السبط الشهيد عليه السلام وأهل بيته وشعيته ، فإن الظلمة لم يتمكنّوا من محو الإسلام ، بل بقي مستمرا ، ممثّلا في أذانه وصلاته وكعبته وسائر أصوله وضروريّاته.
وقد أعلن الإمام السجّاد عليه السلام عن هذه الحقيقة ، وأبرز هذه النتيجة في ما أجاب به إبراهيم بن طلحة بن عبيدالله ، حين قدم علي بن الحسين عليه السلام وقد قتل الحسين صلوات الله عليه استقبله إبراهيم وقال : يا علي بن الحسين ، من غَلَبَ ؟ وهو مغط رأسه وهو في المحمل ـ فقال له علي بن الحسين : إذا أردت ان تعلم من غَلَبَ ، ودخل وقت الصلاة ، فأذّن ثمّ أقم (2).
فإن الإمام عليه السلام جعل استمرار الشعائر التي تذكر فيها شهادة التوحيد والرسالة

(1) الكافي ( 1/468 ) و ( 3/165 ) وانظر عوالم العلوم ( ص 299 ).
(2) أمالي الطوسي ( ص 677 ) المجلس ( 37 ) الحديث 1432/11.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 241

عَلَنا وعلى رؤوس الأشهاد دليلا على انتصار الحسين عليه السلام وغلبته ، وهذا من أعظم العِبَر لمن اعتبر !
فكذلك تبلورت نتائج مخططات الإمام السجّاد عليه السلام في إحياء التشيع من جديد ، والتمهيد لقيام أولاده الأئمة عليهم السلام بالحركات التجديدية المتتالية.



جهاد الامام السجاد عليه السلام 242


الخاتمة

نتائج البحث


جهاد الامام السجاد عليه السلام 243




جهاد الامام السجاد عليه السلام 244




جهاد الامام السجاد عليه السلام 245

وبعد هذا التجوال الذي قمنا به خلال مصادر حياة الإمام زين العابدين عليه السلام ، وأعماله وأفكاره ، وأدعيته وأحاديثه ، تمكّنا من جمع شتات المؤشّرات الى الأبعاد السياسيّة في حياة الإمام عليه السلام.
وبعد فرزنا لها في فصول الكتاب علمنا :
أن الإمام زين العابدين عليه السلام قد قام بأعمال سياسية كبيرة في سبيل الأهداف الكبيرة التي من أجلها شرّع الدين.
وإذا لاحظنا صعوبة المهمة التي قام بها في الظروف الحرجة والخطيرة التي عايشها ، وعلى طول المدّة حتى وفاته عليه السلام ، عرفنا عظمة تلك الجهود التي بذلها في خصوص هذا المجال وحده.
وهو عليه السلام ـ وإن لم يمدّ يدا الى السلاح الحديدي ـ إلاّ أنّه التزم النضال بكل الأسلحة الأخرى التي لا تقلّ أهميّة وخطورة عن السلاح الحديدي.
فشهر سلاح اللسان بالخطب والمواعظ ، وسلاح العلم بالتثقيف والإرشاد ، وسلاح الأخلاق بالتربية والتوجيه ، وسلاح الاقتصاد بالإعانات والإنفاق ، وسلاح العدالة بالإعتناق ، وسلاح الحضارة بالعرفان.
حتى وقف سدّا منيعا في وجه أخطر عمليّة تحريف تهدف إبادة الإسلام من جذوره ، في الحكم الأموي الجاهليّ.
وبقيت الخطوط الاخرى لسياسة الإمام عليه السلام غير معلنة ولا واضحة ، أو غير مشروحة ، حتى عصرنا الحاضر ، فلذلك وقع كثير من كتّاب العصر في وهم فظيع ،

جهاد الامام السجاد عليه السلام 246

تجاه الموقف السياسي للإمام عليه السلام حتى نسبت إليه تهمة الانعزال عن السياسة ، بل ممالأة الظالمين ، مما لا يقبله أيّ شريف فضلا عمّن يعتقد في زين العابدين عليه السلام أنه إمام منصوب من قبل الله تعالى ، ليلي أمور المؤمنين !
إن الإمام عليه السلام كان مسؤولا ـ ومن خلال منصبه الإلهي ـ عن كل ما يجري في العالم الإسلامي ، وقد أنجز الإمام عليه السلام بتدابير دقيقة ما يلزم من دور قيادي ، وبكل سريّة وذكاء ، فشنّ على الطغاة الحاكمين ، وأمثالهم من الطامعين ، حربا شعواء ، لكنها باردة صامتة بيضاء في البداية ، أصبحت معلنة صبغتها دماء طاهرة من شيعته في النهاية.
ولم ينقض القرن الأوّل ، إلاّ أخذت آثار سياسية الإمام زين العابدين عليه السلام تبدو على الساحة ، بشكل أشعة تنتشر من أفق مظلم مائة عام من الانحراف والظلم والتعديّ على الإسلام بمصادره :
القرآن الذي منع تفسيره وتأويله من المصادر الموثوقة.
والحديث الذي منع تدوينه ونشره ، وأحرق كثير منه.
ورجاله الذين نفوا ، وأخرجوا من ديارهم ، أو قتّلوا تقتيلا.
ومكارمه وأخلاقه وفقهه وتراثه الذي طالته أيدي التزوير والدسّ والتحريف فشوّهت سمعته ، وسوّد وجه تاريخه.
لكن الإمام السجاد بمواقفه العظيمة ضمن خطط حكيمة ، تمكّن من الوقوف أمام كل هذه التحدّيات الرهيبة ، تلك المواقف التي قدم لها حياته الكريمة.
ولم تنقض فترة على وفاة الإمام عليه السلام حتى بدأ العدّ التنازلي للحكم الجاهلي ، وبدأ الحكّام الأمويون بالتراجع عن كثير من ملتزماتهم ، وتعنّتهم ، ولم تطل دولتهم بعيدا ، إلاّ انمحت آثارها حتى من عاصمتهم دمشق الشام.
وأما أهداف الإمام السجاد عليه السلام فقد تولاّها بعده ابنه الإمام الباقر محمّد بن عليّ ابن الحسين عليه السلام ، ثم من بعده الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام ، فاستفادا من وهن الأمويين في تلك الفترة ، وتمكّنا من تثبيت دعائم الإسلام والفكر الإمامي بأفضل ما بإمكانهما.

جهاد الامام السجاد عليه السلام 247

فكوّنا أكبر جامعة علمية إسلامية ، تربى فيها آلاف من العلماء المبلّغين للإسلام بعد استيعاب معارفه ، على أيدي الإمامين العظيمين.
وقد تمكّن الإمامان من رفع الغشاوة عن كثير من الحقائق المطموسة تحت أكداس من غبار التهم والتشويه والتحريف في شؤون الإسلام ، وفي ما يرتبط بحقّ أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإمامة والحكم ، خاصة.
وعندما نرى تصدّي الحكّام ـ من أمويين وعباسيين ـ للإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ومن كان على خطّهما ، نجد أن ما قاما به يعد فتحا عظيما في المعيار السياسي ، وإنجازا في قاموس الحركات الاجتماعية ، خاصة في تلك العصور المظلمة.
لقد قام الإمام الباقر والصادق عليهما السلام بتهيئة الكوادر الكفوءة ، وتعميق الثقافة الإسلامية في المجتمع الإسلامي ، وتسليح الأمة بالعلم ، وتثبيت قواعد العقيدة والإيمان ، لتكوين جيش عقائدي منيع ، لصدّ التيّارات الإلحادية المبثوثة بين الأمة ، والقضاء على الطلائع الملحدة المبعوثة من قبل الحكّام مثل علماء البلاط ووعّاظ السلاطين.
وبكل ذلك تميزت الآيديولوجية الإسلامية المتكاملة ، وعلى مذهب الشيعة ، المأخوذة من ينابيع الحقّ والصدق ، أئمة أهل البيت عليهم السلام ، والمعتمدة على أصفى المصادر الحقّة : القرآن الكريم ، والسنة الصحيحة الموثوقة ، والمتّخذة من العقل الراجح منارا لتمييز الحق ، على أساس من التقوى والورع والاجتهاد ، والإيمان.
فكان هذا العمل تحدّيا معلنا ضدّ الحكومات الفاسدة التي كانت تروّج للتيارات العقائدية الملحدة ، والخارجة عن إطار العقائد الإسلامية ، وتدعو الى حياة التفسّخ ، والترف ، واللهو ، والفساد (1)
كما استفاد ابنه العظيم زيد الشهيد عليه السلام من الأرضية التي مهّدها الإمام زين العابدين عليه السلام للثورة ، فكان عمله دعما لموقف الإمامين عليهما السلام في تنفيذ خطط الإمام

(1) إقرأ كتاب ( الأغاني ) للوقوف على جانب منقول من هذه الحياة العابثة التي عاشها الخلفاء ! ولاحظ : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندويّ.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 248

زين العابدين عليه السلام واستثمار جهوده ، والاستمرار بأهدافه (1). إن تلك التدابير ، التي اتّبعها الإمام السجاد وابناه الإمام الباقر وزيد الشهيد ، وحفيده الإمام الصادق عليهما السلام ، وشيعتهم المجاهدون على خطّهم ، وتلك المواقف الجريئة التي اتخذوها من الحكّام الظالمين والحكومات الفاسدة ، من أجل العقيدة ، لا ولن تصدر ممن يركن الى الدعة والراحة ، أو أذهلته المصائب والفجائع.
بل ، إن ما قاموا به يعدّ في العرف السياسي ، أهمّ من حمل السلاح في مثل تلك المرحلة بالذات.
وأما مجموع ما انتجته تلك الجهود والتدابير ، فهو أكبر مما تؤثره البسالة والبطولة في ميادين الحروب.
وهو عمل لا يقوم به إلاّ أصحاب الرسالات من العلماء بالله الذين يفوق مدادهم فضلا وأثرا من دماء الشهداء.
وإن مَنْ يعرف أوليات النضال السياسيّ ، وبديهيات التحرك الاجتماعي ، وخصوصا عند المعارضة ، ليدرك أن سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام السياسيّة التي عرضناها في فصول هذا الكتاب ، هي مشاعل تنير الدرب للسائرين على طريق الجهاد الشائك ، ممن يلتقي مع الإمام عليه السلام في تخليد الأهداف الإلهية السامية.
وأيّ مناضل يعرض عن كلّ هذه الجهود ، ولا يعدّها « جهادا سياسيا » ؟!
والغريب ، أن أصحاب دعوى النضال والحركة ، في هذا العصر ـ وفيهم من اتّهم الإمام بالانعزال السياسي ـ يتبجّحون باسم النضال والمعارضة السياسية ، لمجرد إصدار بيان ، أو إعلان رفض ، ولو من بعد أميال عن مواقع الخطر ، ومواقف المواجهة !
ثمّ هم لا يعتبرون تلك التصريحات الخطيرة ، وتلك المواجهات والمواقف الحاسمة ، التي قام بها الإمام عليه السلام ، نضالا سياسيا ؟!
وهم ، يقيمون الدنيا ، لو وقعت خدشة في إصبع لهم ، ويعتزّون بقطرة دم

(1) إقرأ عن زيد الشهيد عليه السلام بحار الأنوار ( 46 : 168 ـ 209 ) وعوالم العلوم الجزء ( 18 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 249

تراق منهم !
بينما لا يحسبون لذلك الجرح الذي اُثخن به الإمام عليه السلام في كربلاء ، وذلك النزيف من الدم والدمع الذي أريق منه على أثر وجوده في الساحة ، قيمة وأثرا ؟!
مع أن الآلام التي تحمّلها الإمام عليه السلام في جهاده ، ومن خلال جهوده العظيمة ، والأخطار التي اقتحمها في سبيل إنجاح مخططه ، أكثر ألما ، وأعمق أثرا ، من جرح ظاهر يلتئم ، وقرح يندمل !
لكن الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام ظهر على الساحة ببطولة وشجاعة تختصّ به كإمام للأمّة ، فتحمّل آلام الجهاد وجروحه ، وصبر على آلام الجهود المضنية التي بذلها.
وانفرد في الساحة في تلك الفترة الحالكة ، كألمع قائد إلهيّ في مواجهة أحلك الظروف وأصعبها ، وأكثر الهجمات ضراوة ، وأكثر الحكومات حقدا وبعدا عن الإسلام ، وباسم الخلافة الإسلامية.
وخرج من ساحة النضال بأعمق الخطط وأدقّها ، وبأبهر النتائج وأخلدها.
وأما نحن ـ الشيعة في الوقت الحاضر ـ :
فإنا نواجه ـ اليوم ـ حملة شرسة من أعداء المذهب ، مدعومة بحملة ضارية من أعداء الإسلام.
ويشبه وضع التشيّع في هذا العصر ـ في كثير من الجهات ـ ما كان عليه في القرن الأول ، إذ يعايش أجواء سياسية ونفسية متماثلة.
فاليأس والقنوط يعمّان الجميع ، حتى العاملين في حقل الحركات الإسلامية ، والمنضوين تحت ألوية الأحزاب والمنظمات والمجالس والمكاتب.
والارتداد ، المتمّثل بابتعاد عامة الناس عن خطّ الإمامة والولاية ، وفي ظروف غيبة الإمام عليه السلام ، التي معها تزداد الحيرة وتتأكّد الشبهة.
وتعدّد الاتجهات والآراء والأهواء ، التي اقتطعت أشلاء الأمّة ، وفرّقتها أيدي سبأ.

جهاد الامام السجاد عليه السلام 250

والحكومات الجائرة ، بما تمتلك من أجهزة القمع ، وأساليب الفتك والهتك ، والسجن والقتل ، وبأحدث أساليب التعذيب ، خصوصا تلك الحاملة لسيوف التكفير ومشانق الاتهام بالرّدة ، وبدعوى شعارات إسلامية مزيّفة.
والاختراق الثقافّي الهدّام ، لصفوف الأمة الإسلامية وعقولها ، وبوسائل الإعلام الحديثة ، المقروءة والمسموعة والمرئية ، وباستخدام الاثير والأشعة والأقمار الصناعية !
والغزو الفكري المخلخل للوجود الدينيّ من الداخل ، بالأفكار والشبهات المضلّلة ، والحملات الكاذبة ، الطائشة ضدّ المقدّسات الإسلامية ، التي تروّجها الدول الاستعمارية الحاقدة ، ويرمّز لها الحكّام العملاء في البلدان الإسلامية.
والتصرّفات العشوائية المشبوهة التي يقوم بها الضالّون من رجال الدين ، والبلاطيّون من وعّاظ السلاطين ، والمتزلّفون الى المناصب والأموال والفخفخة والعيش الرغيد في القصور ، والمتطفّلون على الموائد وفي السهرات ، والمتّكؤون على أرائك الحكم وأسرّة الإدارة ، والراكنون الى الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي ، وحكموا الناس بالجور.
وأصحاب الدعاوى الزائفة بالاجتهاد والمرجعيّة ، مع فقدان أوليات المعارف اللازمة ، والفراغ من الالتزام الصحيح باُصول العقيدة ، والانتماء المذهبي ، وإنما بالركون الى الحزبيّة الضيّقة ، وبدعوى الانطلاق لمسايرة الجيل المتطلّع وادّعاء مصادمة الواقع بالفتاوي التي لا أساس لها في الفقه ومصادره ، وبالأفكار المخالفة لضرورات الدين والمذهب ، باسم التجديد ، والتوعية ، والتوحيد ، والتأليف ! وغير ذلك من العناوين العصريّة الغارّة لأفكار الشباب ! وبالأموال التي توزّع بأرقام كبيرة ، من مصادر مجهولة ! أو معلومة !!
إنّ كلّ هذه الحقائق الجارية في عصرنا ، تمثّل ـ بالضبط ـ الفصول التي عاصرها الإمام زين العابدين عليه السلام لكن بشكلها العصري.
لكنّ الحق الناصع وهو « الإسلام » المتأصّل في قلوب المؤمنين ، يتجلّى أكثر ممّا مضى بفضل الثقافة الواسعة حول المعارف الإسلامية ، وظهور حقائق القرآن والسنّة ،

جهاد الامام السجاد عليه السلام 251

وفضل أهل البيت عليهم السلام ، ذلك الذي لم يعد اليوم مكتوما ولا ممنوعا.
وأساليب عمل الإمام السجّاد عليه السلام ، وجهاده وتعاليمه السياسيّة والاجتماعية ماثلة أمام من يطلب الحقّ !
فعلى كلّ من يريد النضال والحركة في سبيل الله ، أنّ يقتدي بإمامه ، ويجعل عمله مشعلا يهتدي بنور إرشاده ، ويسير على منهجه في النضال والتحرّك السياسيّ والاجتماعيّ ، فيكون على بصيرة من أمر دينه ، ويصل الى أفضل النتائج المتوخّاة في أمر دنياه.

والله المستعان
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على رسوله المصطفى الأمين وآله الطاهرين



جهاد الامام السجاد عليه السلام 252




السابق السابق الفهرس التالي التالي