المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة20

اللفظية حاكمان بمقتضاه ، بل يستفاد من بعضها استحباب هذه الاُمور إذا كان الميّت من أهل المزايا الفاضلة ، والآثار النافعة ، وفقاً لقواعد المدنية ، وعملاً باُصول العمران ، لأنّ تمييز المصلحين يكون سبباً في تنشيط أمثالهم ، وأداء حقوقهم يكون داعياً إلى كثرة الناسجين على منوالهم ، وتلاوة أخبارهم ترشد العاملين إلى اقتفاء آثارهم ، وهنا مطالب :

= متشرعة ، يجب أن يكونوا متلقين ذلك من المعصوم عليه السلام ، وقد وصفت هذه السيرة بالقطعية ، لأنّه بواسطتها سوف يحصل لنا القطع باذن الشارع في مورده .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة21

المطلب الأول
في البكاء

ولنا على ما اخترناه فيه (مضافاً إلى السيرة القطعية) فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وقوله وتقريره ؛ أمّا الأول متواتر عنه في موارد عديدة :
منها : يوم اُحد ، إذ علم الناس كافة بكائه يومئذ على عمّه أسد الله واسد رسوله حتى قال ابن عبد البر في ترجمة حمزة(1) من استيعابه لمّا رأى النبي صلى الله عليه وآله حمزة قتيلاً بكى ، فلمّا رأى ما مثّل به شهق .(2)
وذكر الواقدي (كما في أوائل الجزء الخامس عشر من نهج البلاغة(3) للعلامة المعتزلي) ، انّ النبي صلى الله عليه وآله كان يومئذ إذا بكت صفيّة يبكي ، وإذا نشجت ينشج(4) قال : وجعلت فاطمة تبكي ، فلمّا [بكت] بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .(5)

(1) حمزة بن عبد المطلب بن هاشم أبو عمارة ، سيد الشهداء ، استشهد سنة 3 هـ ، عم النبي صلى الله عليه وآله ، أحد صناديد قريش وسادتهم في الجاهلية والاسلام ، هاجر مع النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة ، حضر وقعة بدر وغيرها ، استشهد يوم اُحد ودفن في المدينة .
انظر : تاريخ الاسلام 1 : 99 ، صفوة الصفوة 1 : 144 ، الأعلام 2 : 278 .
(2) الاستيعاب 1 : 325 .
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 387 .
(4) نشج الباكي ينشج نشيجاً : غُص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب . القاموس المحيط 1 : 219 .
(5) قال رحمه الله : قد اشتمل هذا الحديث على فعل النبي صلى الله عليه وآله وتقريره ، فهو حجّة من
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة22

ومنها : يوم نعى زيداً وذا الجناحين وابن رواحة ، فيما أخرجه البخاري في الصفحة الثالثة من أبواب الجنائز من صحيحه(1) .
وذكر ابن عبد البر في ترجمة زيد من استيعابه(2) انّ النبي صلى الله عليه وآله بكى على جعفر(3) وزيد وقال : أخواي ومؤنّساي ومحدّثاي .
ومنها : يوم مات ولـده ابـراهيم ، إذ بكى عليه فقال له عبد الرحمن بن عوف (كما في صفحة 148 من الجزء الأول من صحيح البخاري) وأنـت يا رسـول الله !(4)

= جهتين ، على انّ بكاء سيدة النساء عليها السلام كاف كما لا يخفى .
أقول : لانّ فعل الزهراء عليها السلام يكفي للاستدلال باعتباره حجّة في مثل هذا المقام ، إذ انّها معصومة ، وهي من الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وانظر ما كتبه رحمه الله حول الزهراء في رسالته القيّمة (الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء عليها السلام) .
(1) صحيح البخاري 2 : 384 ، صحيح مسلم 5 : 317 ، وانظر : مسند أحمد 2 : 40 .
(2) الاستيعاب 2 : 65 .
(3) جعفر بن أبي طالب عليه السلام ، يكنّى أبا عبد الله ، صحابي هاشمي من شجعانهم ، أوّل قتيل من الطالبيين في الاسلام ، ويكنّى أبا المساكين أيضاً ، وجعفر هو الثالث من ولد أبيه بعد طالب وعقيل ، وبعد جعفر علي عليه السلام ، وامّهم فاطمة بنت اسد بن هاشم بن عبد مناف ، استشهد سنة 8 هـ ، حضر وقعة مؤتة ، فنزل عن فرسه وقاتل ، ثم حمل الراية وتقدّم صفوف المسلمين ، فقطعت يمناه ، فحمل الراية باليسرى ، فقطعت ايضا ، فاحتضن الراية إلى صدره وصبر حتى وقع شهيداً وفي جمسه نحو تسعين طعنة ورمية .
انظر : الإصابة 1 : 237 ، البداية والنهاية 4 : 255 ، تهذيب التهذيب 2 : 98 ، أسد الغابة 1 : 286 ، الطبقات الكبرى 4 : 22 ، حلية الأولياء 1 : 114 .
(4) قال القسطلاني : أي اتبع الدمعة الاولى بدمعه اخرى أو اتّبع الكلمة الاولى المجملة وهو قوله : «انّها رحمة» بكلمة اخرى مفصّلة ، فقال : انّ العين تدمع ... الخ . انظر : ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري 2 : 398 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة23

قال : يا ابن عوف ، انّها رحمة(1) ثم اتبعها ـ يعني عبرته ـ باخرى ، فقال : انّ العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول(2) الاما يرضي ربّنا ، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون .(3)
ومنها : يوم ماتت إحدى بناته صلى الله عليه وآله ، إذ جلس على قبرها (كما في صفحة 146 من الجزء الأول من صحيح البخاري) وعيناه تدمعان .(4)
ومنها : يوم مات صبي لإحدى بناته ، إذ فاضت عيناه يومئذ (كما في الصحيحين وغيرهما) فقال له سعد : ما هذا ، يا رسول الله ؟

(1) قال رحمه الله : لا يخفى ما في تسميتها رحمة من الدلالة على حسن البكاء في مثل المقام .
أقول : قوله صلى الله عليه وآله : انّها رحمة ؛ أي والرحمة نعم الفعل ، ونعمت الصفة ، وليس سخطاً لقضاء الله حتى تكون مذمومة ، وما كان ينبغي أن يقال لرسول الله صلى الله عليه وآله ذلك ، وهو القدوة في أقواله وأفعاله وسكوته ومقاله ، والله تعالى يقول : «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» [سورة الحشر : 7] .
(2) قال رحمه الله : أراد بهذا انّ الملامة والاثم في المقام انّما يكونان بالقول الذي يسخط الرب عزّ وعلا ، كالاعتراض عليه والسخط لقضائه لا بمجرّد دمع العين وحزن القلب .
(3) صحيح البخاري 2 : 105 .
وروي بأسانيد وألفاظ متفاوتة ، انظر : التعازي للمدائني : 14 ، سنن ابن ماجة 1 : 506 ح 1589 ، الكامل للمبرّد 3 : 263 ، العقد الفريد 3 : 234 ، دعائم الاسلام 1 : 228 ح 792 ، تحف العقول : 37 ، بحار الانوار 82 : 91 و100 و101 .
(4) قال القسطلاني (ارشاد الساري 2 : 425) : هي امّ كلثوم زوج عثمان .
وأخرج النسائي في سننه (1 : 262) عن ابن عباس قال : لمّا حضرت بنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صغيرة فأخذها فضمّها الى صدره ثم وضع يده عليها ، فقضت وهي بين يديه ، فبكت امّ أيمن فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله ، يا اُمّ أيمن ، أتبكين ورسول الله صلى الله عليه وآله عندك ؟
فقالت : ما لي لا أبكي ورسول الله صلى الله عليه وآله يبكي .
فقال : انّي لست أبكي ، ولكنّها رحمة .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة24

قال : هذه رحمة جعلها الله في قلوب [من يشاء من] عباده ،« وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء»(1) .(2)
ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين ، عن ابن عمر قال : اشتكى سعد فعاده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع جماعة من أصحابه فوجده في غشية فبكي .
[قال :] فلمّا رأى القوم بكاءه بكوا ... الحديث(3) .(4)
والأخبار في ذلك لا تحضى ولا تستقصى(5) .

(1) قال رحمه الله : دلالة قوله : «وانّما يرحم الله من عباده الرحماء» على استحباب البكاء في غاية الوضوح كما لا يخفى .
(2) صحيح البخاري 2 : 100 ، صحيح مسلم 2 : 635 ح 923 ، سنن أبي داود 3 : 193 ح 3125 ، سنن ابن ماجة 1 : 506 ح 1588 ، سنن النسائي 4 : 22 ، دعائم الاسلام 1 : 228 ح 794 ، مجمع الزوائد 3 : 18 ، بحار الأنوار 82 : 91 .
(3) قال رحمه الله : لا يخفى اشتماله على كل من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقريره ، فهو حجّة من جهتين .
أقول : ولكن عندما نقرأ بقية الحديث نجده حجّة من ثلاث جهات ؛ فعل النبي صلى الله عليه وآله وقوله وتقريره .
(4) أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال : اشتكى سعد بن عبادة شكوى له ، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص وعبد الله بن مسعود ، فلمّا دخل عليه فوجده في غاشية من أهله فقال : قد قضى ؟ فقالوا : لا يا رسول الله ، فبكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلمّا رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكوا ، فقال : ألا تسمعون انّ الله لا يعذّب بدمع العين ولا بحزن القلب ، ولكن يعذّب بهذا ـ وأشار إلى لسانه ـ أو يرحم . (منه رحمه الله) .
(5) انظر : سنن ابن ماجة 1 : 506 ح 1589 ، الكامل للمبرّد 3 : 263 ، العقد الفريد 3 : 234 ، التعازي للمدائني : 14 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة25

وأمّا قوله وتقريره فمستفيضان مواردهما كثيرة فمنها ما ذكره ابن عبد البر في ترجمة جعفر من استيعابه(1) قال :
لما جاء النبي صلى الله عليه وآله نعي جعفر(2) أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها .
[قال :] ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول : واعماه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : على مثل جعفر فلتبك(3) البواكي .
ومنها : ما ذكره ابن جرير(4) وابن الأثير(5) وصاحب العقد الفريد(6) وجميع أهل السير(7) ، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في صفحة

(1) الاستيعاب 1 : 312 .
(2) قال رحمه الله : هذا الحديث مشتمل على تقريره صلى الله عليه وآله على البكاء وأمره به على انّ مجرّد صدوره من سيّدة النساء عليها السلام حجّة كما لا يخفى .
(3) قال رحمه الله : هذا أمر منه صلى الله عليه وآله بالبكاء ندباً على أمثال جعفر من رجال الاُمّة وحسبك به حجّة على الاستحباب .
(4) تاريخ الطبري 3 : 27 .
(5) الكامل في التاريخ : 2 : 132 .
(6) العقد الفريد 2 : 86 .
(7) قال علي بن برهان الدين الحلبي في السيرة الحلبيّة 1 : 462 : وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله نساء الأنصار يبكين على أزواجهنّ وأبنائهنّ وإخوانهنّ فقال : حمزة لا بواكي له ، وبكى صلى الله عليه وآله ـ ولعلّه لم يكن له بالمدينة زوجة ولا بنت ـ فأمر سعد بن معاذ نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وآله يبكين حمزة بين المغرب والعشاء ، وكذلك اُسيد بن خضير أمر نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وآله يبكين حمزة ـ إلى أن قال ـ : فلمّا رجع صلى الله عليه وآله من المسجد من صلاة المغرب سمع البكاء فقال : ما هذا ؟ فقال : نساء الأنصار يبكين حمزة ، فقال : رضي الله عنكنّ وعن أولادكنّ ، وأمر أن ترد النساء إلى منازلهنّ ـ إلى أن قال ـ : وفي
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة26

(40) من الجزء الثاني من مسنده قال :
[لمّا] رجع رسول الله صلى الله عليه وآله [من اُحد فجعلت نساء الأنصار يبكين على مَن قُتِل من أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه وآله :] ولكن حمزة لا بواكي له .
[قال :] ثمّ نام فاستنبه وهن يبكين .
[قال :] فهنّ اليوم إذا بكين يبد أن(1) بحمزة .(2)

= رواية : فلمّا ذهب ثلث الليل نادى بلال : الصلاة يا رسول الله ، فقام من نومه ، وخرج وهنّ على باب المسجد يبكين حمزة فقال لهن : ارجعن رحمكنّ الله ، لقد واسيتن معي ، رحم الله الأنصار ، فإن المواساة فيهم كما عملت قديماً ـ إلى أن قال ـ : وصارت الواحدة من نساء الأنصار بعد لا تبكي على ميّتها الابدأت بالبكاء على حمزة ثمّ بكت على ميّتها .
وأخرج كذلك عن ابن مسعود : ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله باكياً أشدّ من بكائه على حمزة ، وضعه في القبلة ، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشق ـ أي شهق حتى بلغ الغشى ـ يقول : يا عمّ رسول الله ، وأسد الله ، وأسد رسول الله ، يا حمزة ، يا فاعل الخيرات ، يا حمزة ، يا كاشف الكربات ، يا ذابّ ، يا مانع عن وجه رسول الله .
(انظر : السيرة الحلبية 1 : 461 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 387) .
أقول : هذا حال رسول الله صلى الله عليه وآله عندما رأى حمزة شهيداً ، فكيف به صلوات الله عليه لو نظر إلى ما صنع بولده الحسين وأهل بيته عليهم السلام لكان ذلك المنظر أوجع لقلبه من منظر حمزة ويكون حاله كما قال القائل :
لو أنّ رسـول الله يبعـث نظـرة لردّت إلى انسان عين مؤرّق
وهان عليـه يـوم حمـزة عمّـه بيوم حسين وهو أعظم ما لقي
ونال شجـى من زينب لم ينله من صفيّة إذ جاءت بدمع مرقرق
فكم بين من للخدر عادت مصـونة ومن سيّروها في السبايا بحلّق
(1) كذا في الأصل ، والظاهر هو الصحيح ، وفي المصدر : يندبن .
(2) مسند أحمد بن حنبل 3 : 261 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة27

وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب ، نقلاً عن الواقدي قال : لم تبك امرأة من الأنصار على ميّت بعد قول رسول الله صلى الله عليه وآله : «لكن حمزة لا بواكي له» إلى اليوم الابدأت(1) بالبكاء على حمزة [ثمّ بكت ميّتها] .(2)
وحسبك تلك السيرة في رجحان البكاء على من هو كحمزة وان بعُد العهد بموته.
ولا تنس ما في قوله صلى الله عليه وآله : «لكن حمزة لا بواكي له» من البعث على البكاء والملامة لهن على تركه ، وحسبك به وبقوله : «على مثل جعفر فلتبك البواكي» دليلاً على الاستصحاب .
وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عبّاس في صفحة (335) من الجزء الأول من مسنده من جملة حديث ذكر فيه موت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وبكاء النساء عليها ، قال : فجعل عمر يضربهنّ بسوطه ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : دعهن يبكين .
ثم قال : مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة (ـ إلى أن قال ـ :] ، وقعد على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي ، فجعل النبي صلى الله عليه وآله يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها .(3)
وأخرج أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة جاء فيه : انّه مرّ على رسول الله صلى الله عليه وآله جنازة معها بواك ، فنهرهنّ عمر ، فقال له رسول الله صلى الله

(1) كذا في المصدر ، وفي الأصل : لا بدأن ، وهو تصحيف .
(2) الاستيعاب 1 : 275 .
(3) مسند أحمد 1 : 335 ، مشكاة المصابيح 1 : 548 ح 1748 ، مجمع الزوائد 3 : 17 ، كنز العمّال 15 : 621 ح 42476 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة28

عليه وآله : دعهنّ ، فإنّ النفس مصابة ، والعين دامعة ، [والعهد قريب] .(1)
إلى غير ذلك ممّا لا يسعنا استيفاؤه .
وقد بكى يعقوب ، إذ غيّب الله ولده : «وقال يا أسفا على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم»(2) ، حتى قيل ـ كما في تفسير هذه الآية من «الكشاف» ـ : ما جفّت عيناه من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً ، وما على وجه الأرض أكرم على الله منه .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله ـ كما في تفسير هذه الآية من «الكشاف» أيضاً ـ : أنّه سئل جبرئيل عليه السلام : ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف ؟
قال : وجد سبعين ثكلى .
قال : فما كان له من الأجر ؟
قال : أجر مائة شهيد(3) ، وما ساء ظنّه بالله ساعة قطّ(4) .

(1) مسند أحمد 2 : 333 ، وانظر : سنن ابن ماجة 1 : 247 ، سنن النسائي 1 : 263 .
أقول : قوله : «والعهد قريب» لا يدل ّعلى عدم الجواز مع بعد العهد ، فإنّه بمنزلة التعليل لصعوبة الصبر مع قرب العهد ؛ أي لو كان العهد بعيداً لهان عليهنّ ترك البكاء ، وان كان جائزاً أيضاً ، فلا يدل ّعلى اختصاص الجواز بقرب العهد ، مع انّ مثل مصيبة الحسين عليه السلام وما اشتملت عليه من الفظاعة التي لم يسبق لها مثيل كلّما بعُد عهدها فهو قريب ، وكما قال القائل :
وفجائع الأيّام تبقى مدّة وتزول وهي إلى القيامة باقية
(2) سورة يوسف : 84 .
(3) قال رحمه الله : هذا كالصريح في استحباب البكاء ، إذ ليس المستحب الا ما يترتب الثواب على فعله كما هو واضح .
(4) الكشاف 2 : 450 ، تفسير الطبري 13 : 32 ، غرائب القرآن ـ بهامش تفسير الطبري ـ 13 : 42 ، تفسير
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة29

قلت : أيّ عاقل يرغب عن مذهبنا في البكاء بعد ثبوته عن الأنبياء «ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه»(1) .
وأمّا ما جاء في الصحيحين(2) : من انّ الميّت يعذّب لبكاء أهله عليه .
وفي رواية : ببعض بكاء أهله عليه .
وفي رواية : ببكاء الحيّ .
وفي رواية : يعذب في قبره بما نيح عليه .
وفي رواية : من يبك عليه يعذّب . فانّه خطأ من الراوي بحكم العقل والنقل .
قال الفاضل النووي : هذه الروايات كلّها من رواية عمر بن الخطّاب وابنه عبد الله .(3)
قال : وأنكرت عائشة(4) عليهما ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه ، واحتجّت

= الرازي 5 : 238 .
(1) سورة البقرة : 130 .
(2) صحيح البخاري 1 : 155 ، صحيح مسلم 1 : 359 و4 : 257 ، سنن ابن ماجة 1 : 173 ، سنن النسائي 1 : 213 .
(3) صحيح مسلم 5 : 318 .
(4) هي زوج النبي صلى الله عليه وآله واُمّ المؤمنين ، تزوّجها النبي صلى الله عليه وآله في السنة الثانية أ, الثالثة للهجرة وتوفّي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة على أشهر الأقوال .
ولقب ام المؤمنين هذا لا يختصّ بعائشة ، فهو يطلق على كلّ امرأة تزوّجها الرسسول صلى الله عليه وآله ، فيُقال امّ المؤمنين خديجة ، وامّ المؤمنين حفصة ... الخ .
وقد لعبت عائشة دوراً كبيراً في التاريخ الاسلامي ، فهي أوّل امرأة تقود جيشاً كبيراً لمحاربة خليفة المسلمين ، انّها عصت أمر الله وأمر رسوله لها بالذات وخرجت فقادت حرب
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة 30

بقوله تعالى : «ولا تزر وازرة وزر اُخرى»(1) ... الخ .(2)
قلت : وأنكر هذه الروايات أيضا عبد الله بن عبّاس(3) واحتجّ على خطأ

= الجمل المشؤومة التي انتهكت فيها المحارم ، وقتلت الأبرياء وخانت العهد في الكتاب الذي كتبته مع عثمان بن حنيف وعندما جاؤوها بالرجال مكتّفين أمرت بضرب أعناقهم صبراً ، وكأنّها لم تسمع قول النبي صلى الله عليه وآله : «سباب المؤمن فوس وقتاله كفر» .
وقد سجّل لها التاريخ كُرهاً وبغضاً للإمام علي لم يعرف له مثيل وصل بها إلى حدّ أنّها لا تطيق ذكر اسمه ولا تطيق رؤيته ، وعندما تسمع بأنّ الناس قد بايعوه بالخلافة بعد قتل عثمان تقول : وددت لو أنّ السماء انطبقت على الأرض قبل أن يليها ابن أبي طالب ، وتعمل كلّ جهودها للإطاحة به ، وتقود ضدّه عسكراً جرّراراً لمحاربته ، وعندما ياتيها خبر موته تسجد شكراً لله ! (انظر : صحيح البخاري 1 : 162 وج 3 : 135 وج 5 : 140) .
(1) سورة الأنعام : 164 ، سورة الاسراء : 15 ، سورة فاطر : 18 ، سورة الزمر : 7 .
(2) أخرج النسائي ومسلم ومالك في الموطأ : انّ عائشة لمّا بلغها رواية ابن عمر : انّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله ونحوه ، قالت : مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبر فقال : إنّ صاحب القبر ليعذّب ، وانّ أهله يبكون عليه ، وقرأت : «ولا تزر» الآية . أو قالت : انّه لم يكذب ، ولكن نسي أو أخطأ ، انّما مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على يهودية يبكى عليها فقال : انّهم ليبكون عليها وانّها لتعذّب في قبرها . أو قالت : انّه سمع شيئاً فلم يحفظ ، انّما مرّت على رسول الله صلى الله عليه وآله جنازة يهودي وهم يبكون عليه فقال : أنتم تبكون عليه ، وانّه ليعذّب . أو قالت : وهل انّما قال صلى الله عليه وآله وسلم : انّه ليعذّب بخطيئته وبذنبه ، وانّ أهله ليبكون عليه الآن . أو قالت ـ لمّا ذكر لها حديث من يبكي عليه يعذّب ـ : انّما كان اولئك اليهود . أو لمّا بلغها قول عمر وابنه قالت : انكم لتحدّثون عن غير كاذبين ولا مكذّبين ، ولكن السمع يخطئ .
انظر : سنن النسائي 1 : 213 ، صحيح مسلم 4 : 257 ، الموطأ 1 : 107 ، والتردد في هذه الأقوال من الراوي .
(3) عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي ، أبو العباس ، حبر الاُمّة ، صحابي جليل ، ولد بمكة ونشأ في بدء عصر النبوّة ، لازم رسول الله صلى الله عليه وآله وروى عنه ، وشهد مع علي عليه السلام الجمل وصفّين ، كفّ بصره في آخر عمره ، فسكن الطائف وتوفي
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة31

راويها ، والتفصيل في الصحيحين وشروحهما ، وما زالت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض حتى أخرج الطبري(1) في حوادث سنة 13 من تاريخه بالإسناد إلى سعيد بن المسيب قال : لمّا توفّي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح ، فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها فنهاهن عن البكاء على أبي بكر ، فأبين أن ينتهين ، فقال عمر لهشام بن الوليد : ادخل فأخرج إليّ ابنة أبي قحافة . فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر : انّي أحرج عليك بيتي . فقال عمر لهشام : ادخل فقد أذنت لك ، فدخل هشام وأخرج امّ فروة اُخت أبي بكر إلى عمر فعلاها بالدرّة ، فضربها ضربات ، فتفرّق النوح حين سمعوا ذلك .
قلت : كأنّه لم يعلم تقرير النبي صلى الله عليه وآله نساء الأنصار على البكاء على موتاهنّ ، ولم يبلغه قوله صلى الله عليه وآله : «لكن حمزة لا بواكي له» ، وقوله صلى الله عليه وآله : «على مثل جعفر فلتبك البواكي» ، وقوله صلى الله عليه وآله : «إنّما يرحم الله من عباده الرحماء» .
ولعله نسي نهي النبي صلى الله عليه وآله اياه عن ضرب البواكي يوم ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، نسي نهيه إيّاه عن انتهارهن في مقام آخر مرّ عليك آنفاً .(2)
ثمّ إذا كان البكاء على الميّت حراماً ، فلماذا أباح لنساء بني مخزوم أن

= بها سنة 68 هـ .
انظر : الإصابة ترجمة رقم (4772) ، صفة الصفوة 1 : 314 ، حلية الأولياء 1 : 314 ، نسب قريش : 26 ، الأعلام 4 : 95 .
(1) تاريخ الاُمم والملوك 2 : 49 (وفاة أبو بكر) .
(2) انظر مسند أحمد بن حنبل 1 : 335 و2 : 333 ، سنن ابن ماجة 1 : 247 ، العقد الفريد 2 : 47 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي