الشهيد

مُسلم بنُ عقيل عليه السلام

العَلامَةُ المَرحُوم عَبْدُ الرَّزاق المُوسَوي المقُرَّم


قسم الدّراسات الاسلامية
مؤسّسة البعثة

الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 1

مقدمة الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا ونبينا
محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم
أجمعين إلى قيام يوم الدين

1 ـ المؤلف :

مؤلف هذا الكتاب هو : « العلوي النسيب ، الفاطمي الحسيب ، المخلص في ولائه لآل الرسول ، المتفاني في حبهم ، والمتهالك في مسيرهم ، العلامة المعاصر حجة الاسلام والمسلمين ، السيد عبد الرزاق المقرّم الموسوي النجفي » (1) الذي يصل نسبه الكريم بثلاثة وعشرين ظهرا إلى الامام موسى بن جعفر (عليه السلام).
ولـد المؤلف في سنة 1316 هـ في النجف الأشرف في بيت عـلم وتقـوى وسيادة (2).
جده لأمّه هو السيد حسين المتوفى سنة 1334 هـ ، وخاله هو السيد أحمد المتوفى سنة 1334 هـ ، وكانا من علماء زمانهما . وأبوه ، السيد محمد المتوفى 1351 هـ ، كان كثير الاعتكاف في مسجد الكوفة .
وكانت أمه من نساء زمانها الصالحات ، وقد توفيت سنة 1370 هـ.
درس المغفور له على جده السيد حسين وعلى علماء عظام مثل : الشيخ محمد رضا آل كاشف الغطاء ( ت : 1366 هـ ) ، والسيد محسن الحكيم ( ت : 1390 هـ ) ، وآقا ضياء الدين العراقي ( ت : 1361 هـ ) ، والسيد أبو الحسن الاصفهاني ( ت : 1365 هـ ) ، والشيخ محمد حسين النائيني ( ت : 1355 هـ ) ، والشيخ محمد جواد البلاغي ( ت : 1352 هـ ) ، والشيخ محمد حسين الاصفهاني ( ت : 1361 هـ ) ، والشيخ عبد الرسول الجواهري ( ت : 1389 ) ، والشيخ حسين الحلي والسيد أبو القاسم الخوئي ـ دام ظله ـ . ولقد كان لثلاثة من اساتذته ، وهم الشيخ محمد جواد

(1) كما وصفه بذلك سماحة العلامة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي ـ دام ظله ـ في تقديمه على كتاب « علي الاكبر عليه السلام » للمؤلف ـ قدس سره ـ طبعة قم 1401 هـ .
(2) أرّخ المرحوم شيخ آقا بزرگ الطهراني في كتابه « الذريعة » سنة ولادته بـ 1412 هـ كما جاء في كتاب « معجم مؤلفي الشيعة » تأليف الشيخ على الفاضل النجفي ، ص 400 ، غير أن التاريخ الذي ورد المتن منقول من المقدمة التي كتبها نجل المؤلف لكتاب « مقتل الحسين عليه السلام » طبع بيروت سنة 1399 هـ ، وهو أصح.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 2

البلاغي ، والشيخ محمد حسين الاصفهاني ، والشيخ عبدالرسول الجواهري ، تأثير بالغ في نفس مؤلفنا الجليل.
كان المرحوم العلامة السيد عبدالرزاق المقرم يكن حبا عميقا لآل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام ، ولقد انعكس هذا الحب الشديد في آثاره العلمية التي خلفها الفقيد . وإليكم بعض تلك الآثار :
1 ـ « زيد الشهيد عليه السلام ».
2 ـ « مقتل الحسين عليه السلام ». (3)
3 ـ « المختار بن أبي عبيد الثقفي ».
4 ـ « السيدة سكينة عليها السلام ».
5 ـ « الصديقة الزهراء عليه السلام ».
6 ـ « علي الاكبر عليه السلام ».
7 ـ « الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام ».(4)
8 ـ « الامام زين العابدين عليه السلام ».
9 ـ « الامام الرضا عليه السلام ».
10 ـ « الامام الجواد عليه السلام ».
11 ـ « قمر بني هاشم ، العباس عليه السلام ».
12 ـ « يوم الاربعين عند الحسين عليه السلام ».
13 ـ « سر الايمان في الشهادة الثالثة » ( وهو بحث في الشهادة بولاية أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ في الأذان ».
14 ـ « محاضرات في الفقه الجعفري ».
وجميع هذه الكتب قد طبعت . أما كتبه التي لم تطبع بعد فهي :
1 ـ « المنقذ الأكبر محمد صلى الله عليه وآله ».
2 ـ « الحسن بن علي عليه السلام ».
3 ـ « عاشوراء في الاسلام ».
4 ـ « الأعياد في الاسلام ».
5 ـ « زينب العقيلة عليها السلام ».
6 ـ « ميثم التمار ».
8 ـ « أبو ذر الغفاري ».

(3) ترجم هذين الكتابين إلى الفارسية الشيخ عزيز الله عطاردي وطبعتهما « انتشارات جهان ».
(4) الكتب الاربعة الأخيرة ترجمها إلى الفارسية حسن طارمي ونشرتها « انتشارات ميقات ».
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 3

8 ـ « عمار بن ياسر ».
9 ـ « نقل الأموات في الفقه الاسلامي ».
10 ـ « نقد التاريخ في المسائل الست ».
11 ـ « حلق اللحية ».
12 ـ « ربائب الرسول صلى الله عليه وآله ».
13 ـ « لكني والألقاب ».
14 ـ « حاشية على كفاية الاصول ».
15 ـ « حاشية على المكاسب للشيخ الانصاري ».
16 ـ « نوادر الآثار ».
17 ـ « يوم الغدير ».
وقد كان المرحوم المقرم ، علاوة على تأليفاته المذكورة ، يتعاون مع الكثيرين ممن كانوا يتصدون لطبع كتب الشيعة القديمة ، ويكتب لها المقدمات والتعليقات القيمة . من ذلك :
1 ـ « دلائل الامامة » للطبري الامامي.
2 ـ « الامالي » للشيخ المفيد.
3 ـ « الخصائص » للسيد الرضي.
4 ـ « الملاحم » لابن طاووس.
5 ـ « فرحة الغري » للسيد عبد الكريم بن طاووس.
6 ـ « إثبات الوصية » للمسعودي.
7 ـ « الكشكول » للسيد حيدر الآملي.
8 ـ « بشارة المصطفى » لعماد الدين الطبري.
9 ـ « الجمل » للشيخ المفيد.
10 ـ « طرف من الانباء والمناقب » لابن طاووس.
وكان العلامة السيد عبدالرزاق المقرم يقيم كل سنة عددا من المجالس في مواليد المعصومين ووفياتهم ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وقد ضم كتابه « نوادر الآثار » طائفة من القصائد التي ألقيت في تلك المجالس ، كما نشرت طائفة أخرى منها في عدد من كتبه المطبوعة . وله أبيات في التوسل بأهل بيت الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ والتمسك بأذيالهم ، منها هذان البيتان يخاطب بهما أبا الفضل العباس ـ عليه السلام ـ :

أبا الفضل يا نور عين الحسين ويا كافــل الظعن يوم المسير
أتعـرض عني وأنت الجـواد وكهــف لمن بالحمى يستجير

وفي 17 محرم الحرام من سنة 1391 هـ وافى الأجل العلامة السيد عبدالرزاق المقرم فانتقل

الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 4

إلى دار البقاء عن عمر قضاه في خدمة آل البيت ـ عليهم السلام ـ وإحياء ذكرهم الكريم.
وقد أرخ لوفاته الشيخ أحمد الوائلي في قصيدة رثاه بها فقال :

« رحت عبد الرزاق للرزاق » ( 1391 هـ ) (5)

2 ـ هذا الكتاب

هذا الكتاب واحد من آثار مؤلفنا الفقيد الخالدة عن أول شهيد من قافلة شهداء كربلاء العظام ، وسفير سيد الشهداء ـ عليه السلام ـ ونائبه ، مسلم بن عقيل عليه السلام .
مقدمة الكتاب تتناول حياة أبي طالب ( جد مسلم ) وحياة عقيل . ويتناول الكتاب نفسه سيرة حياة نائب الامام الحسين ـ عليه السلام ـ فيورد نقاطا لم تذكر من قبل عن حياة مسلم ـ عليه السلام ـ ويبحثها بكل دقة وتمحيص ويسير مع مسيرته خطوة خطوة . وفي غضون ذلك يحقق في مواضيع أخرى ، مثل « الطيرة في المنظور الاسلامي » ، وغير ذلك من الدروس الأخلاقية والإجتماعية ، يتطرق إليها ضمن كلامه على حركة مسلم بن عقيل (ع) التاريخية.
لقد طبع هذا الكتاب قبل سنوات عديدة في النجف الأشرف . واليوم أعيد طبعه بحلة قشيبة ، بعد تصحيح الأغلاط المطبعية السابقة بقدر الإمكان.
نسأل الله تعالى أن يحشر روح المؤلف الرفيعة مع مواليه المعصومين الأربعة عشر ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وأن يزيد من توفيقنا في نشر المعارف القرآنية العظيمة وسير العترة الطاهرة . إنه سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله والأئمة المعصومين ، ولا سيما مولانا وصاحبنا بقية الله في الأرضين .

قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة
محرم الحرام 1407 هـ


(5) لمعرفة المزيد عن حياة العلامة السيد عبدالرزاق المقرم وآثاره يمكن الرجوع إلى المصادر التالية :
1 ـ مقالة للشيخ محمد هادي الأميني نشرت في مجلة « العدل » طبع النجف ، العدد 17 بتاريخ 14 شعبان 1391.
2 ـ مقدمة آية الله المرعشي النجفي لكتاب « علي الأكبر » طبع قم 1401 هـ
3 ـ « معجم مؤلفي الشيعة » ص400.
4 ـ « الذريعة » 7/119 و121 و123 و17/167 و22/32 و24/430 و25/135.
5 ـ مقدمة السيد محمد حسين المقرم ، نجل الفقيد لكتاب « مقتل الحسين عليه السلام » ، طبع بيروت 1399 هـ.
وقد اعتمدنا هذه المقدمة كأهم مصدر استقينا منه ما جاء في هذا المختصر.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 5

بسم الله الرحمن الرحيم

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : « اني أحب عقيلا حبين حبا له وحبا لحب أبي طالب له وان ولده لمقتول في محبة ولدك تدمع عليه عيون المؤمنين وتصلي عليه الملائكة المقربون » ثم بكى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقال « إلى الله تعالى أشكو ما تلقى عترتي من بعدي ».
الأمالي للشيخ الصدوق

الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 6




الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 7

المقدمة

بيت أبي طالب : (1)


لقد كان بيت أبي طالب موطد الأساس بالنبوات ، مرفوعة معالمه بخلافة الكبرى ، وكانت آصرة النبوة ضاربة فيه من آدم إلى شيث إلى نوح إلى إبراهيم إلى إسماعيل الذبيح إلى ما تناسل منه ممن دان بالتوحيد وكانت له الوصاية في المحافظة على نواميس الأنبياء ، وإنك لا تجد أحدا من عمود النسب الوضاح الذي يقف عنده الحديث النبوي (2) إلا آخذا بأعضاد الشرف والسودد ، حاملا للحنيفيّة البيضاء دين السلام ، والوئام ، وشرعة الخليل إبراهيم ـ عليه السلام ـ.
وان الوقوف على بعض ما ذكره التأريخ في حق هؤلاء الرجال يشهد لهذه الدعوى المدعومة بالوجدان ، فكان « عدنان » يصارح في خطبته بأن فيمن يتناسل منه النبي الكريم خاتم الرسل أجمعين ، الداعي الى كلمة الحق ورسالة الصدق ثم أوصى باتباعه.
ولكن ولده « معد » على نهجه أمر الله تعالى « أرميا » أن يحمله على البراق كيلا تصيبه نقمة بختنصر ، وعرّفه بأنه سيخرج من صلبه نبيا يكون خاتم الأنبياء فحمله

(1) طبعت هذه المقدمة في كتاب العباس ـ عليه السلام ـ ولنفاد النسخ رغب جماعة في إعادتها حرصا على الفائدة.
(2) في مناقب ابن شهر آشوب ج1 ص106 وكشف الغمة للاربلي ص6 : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : إذا بلغ نسبي الى عدنان فأمسكوا . وكأن السر فيه أن ما فوق عدنان من الأسماء مما يتعاصى نطق العامة بها نظرا الى غرابتها فلا يؤمن معه من التصحيف فيسبب الوهن في ساحة جلالتهم والخفة في مقدارهم وقد ولد الرسول الأعظم ووصيه أمير المؤمنين المقدم ـ صلى الله عليهما وعلى آلهما أجمعين ـ.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 8

إلى أرض الشام إلى أن هدأت الفتنة (3).
وكان نور النبوة يشع في جبهة « نزار » (4) ، وورد النهي عن سب ربيعة ومضر والياس لكونهم مؤمنين ، والياس أول من أهدى البدن الى البيت الحرام ، وأول من ظفر بمقام إبراهيم ، وقد أدرك « مدركة بن الياس » كل عز لآبائه وفي جبهته نور النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ساطع ، وكان « كنانة » بن خزيمة بن مدركة يجاهر بالدعوة الى دين « الخليل » ورفض عبادة الاصنام ، وأنّ من صلبه نبيا يدعو إلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق.
و« فهر بن مضر » كانت العرب تهابه لجمعه خصال الخير والنور اللائح على أسارير جبهته ، ولانتصاره على حسان بن عبد كلال حين جاء من اليمن لأخذ أحجار الكعبة ليبني بها بيتا باليمن يزوره الناس فأسر حسان وانهزمت حمير وبقي حسان في الأسر ثلاث سنين ، ثم فدى نفسه بمال كثير وخرج فمات بين مكة والمدينة . (5)
ولم يزل كعب بن لؤي يذكر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ويعلم قريشا بأنه من ولده ، ويأمر باتباعه ، وفي المأثور من كلامه : زينوا حرمكم وعظموه وتمسكوا به ولا تفارقوه فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم ، ثم قال :

نهار وليل واختلاف حـوادث سـواء علينا حلوها ومريرها
يؤبان بالأحداث حتى تأوبـا وبالنعم الضافي علينا ستورها
على غفلة يأتي النبـي محمد فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها

ثم قال :
يا ليتني شاهــد فحـواء دعوته حين العشيرة تبغي الحق خذلانا (6)

إن هذه السلسلة هي التي أنتجت قصيا فعبد مناف (7) فهاشما فعبد المطلب ثم

(3) السيرة الحلبيّة ج1 ـ ص 20.
(4) الروض الأنف للسهبلي ج1 ـ ص8.
(5) السّيرة الحلبية ج1 ـ ص9 وص19.
(6) صبح الأعشى ج1 ـ ص211.
(7) كان اسمه عبدا ثم أضيف إليه مناف لأنه أناف على الناس وعلا أمره حتى ضربت إليه الركبان من أطراف الأرض فقيل عبد مناف ، وهو الصحيح كما في اثبات الوصية للمسعودي ص75 ، فما في السيرة النبوية لإبن دحلان من أن أمه أخدمته صنما اسمه مناف لا يعبأ به لأنه لم يكن من الأصنام اسمه مناف وإنما الموجود « مناة » بالتاء المثناة من فوق ، ومن هنا كان ابن الكلبي يقول في كتاب الاصنام ص 32 : لا أدري أين =
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 9

عبد الله وأبا طالب ومنهما أشرق الكون بخاتم الأنبياء وسيد الأوصياء ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ.
والذي يجب الهتاف به أن كل واحد من عمود النسب غير مدنس بشيء من رجس الجاهلية ، ولا موصوم بعبادة وثن ، وهو الذي يرتضيه علماء الحق لكونهم صديقين بين أنبياء وأوصيـاء ، وقد نزههم الله سبحانه في خطابه لنبيـه الأقدس : « وتقلبك في الساجدين » فانه أثبت لهم بلفظ الجمع المحلى باللام السجود الحق الذي يرتضيه لهم .
وأن ما يؤثر عنهم من الأشياء المستغربة عندنا لابد وأن تكون من الشريعة المشروعة لهم أو يكون له معنى تظهره الدراية والتنقيب.
وليس آزر الذي كان ينحت الأصنام ، وكاهنة نمرود أبا ابراهيم ـ عليه السلام ـ الذي نزل من ظهره لأن أباه اسمه تارخ ، وآزر إما أن يكون عمه كما يرتئيه جماعة المؤرخين ، واطلاق الأب على العم شائع على المجاز وبه جاء الكتاب المجيد : « إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق » فأطلق على إسماعيل لفظ الأب ولم يكن أبا يعقوب وإنما هو عمه كما أطلق على إبراهيم لفظ الأب وهو جده.
وإما أن يكون آزر جد إبراهيم لامه كما يرتئيه المنقبون والجد للأم أب في الحقيقة ومما يؤيد أنه غير أبيه قوله تعالى : « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » فميّزه باسمه ولو أراد أباه الذي نزل من ظهره لاستغنى باضافة الابوة عن التسمية بآزر.
كل ذلك مضافا الى مصارحة الرسول الكريم بطهارة آبائه عن رجس الجاهلية وسفاح الكفر فإنه ـ صلى الله عليه وآله ـ قال :
« لما أراد الله تعالى أن يخلقنا ، صورنا عمود نور في صلب آدم فكان ذلك النور في جبينه ثم انتقل الى وصيه شيث ، وفيما أوصاه ألا يضع هذا النور الإلهي إلاّ في أرحام المطهرات من النساء ولم تزل هذه الوصية معمولا بها يتناقلها كابر عن كابر فولدنا الأخيار من الرجال والخيّرات المطهرات المهذبات من النساء حتى انتهينا إلى صُلب

كان هذا الصنم ولمن كان ومن نصبه ، ومنه نعرف الغلط في قول البرقي والزبير كما في الروض الأنف ج1 ـ ص6 : أن أمه أخدمته « مناة » بالتاء المثناة فسمي عبد مناة ولكن رآه قصي يوافق عبد مناة بن كنانة فحوله عبد مناف فإنه لا شاهد عليه ، والصحيح ما عليه المسعودي.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 10

عبد المطلب فجعله نصفين نصف في عبدالله فصار الى آمنة ونصف أبي طالب فصار إلى فاطمة بنت أسد ». (8)
ولم يزل هذا الحال كما وصفناه حتى أقبل دور شيخ الأبطح أبي طالب وورده أمير المؤمنين والإمامين السطبين سيدي شباب أهل الجنة والأئمة من ولد سيد الشهداء حتى يقف العدد على ناموس الدهر وولي الأمر في كل عصر عجل الله فرجه.
ههنا يقف اليراع عن تصوير عظمة هذا البيت المنيع ، ويرتج على الكاتب ويعي الشاعر ، فإن حقيقة القداسة بين طرفي النبوة والإمامة التي جمعها هذا البيت لم تدع مسرحا لقائل أو متسعا لواصف لتقاعس القدرة البشرية عن نعت ما هو فوق مستواها ، ولا يمكنها الخبرة بحقائق أنوار عالم الملكوت .
نعم لها الاضافة في مقدار ما يمكنها من التوصل اليه ولو في الجملة من أنه بيت نبوة وإمامة ، بيت علم ودين ، بيت عز وسؤدد.

بيت علا سمك الضراح رفعة فكــان أعـلا شرفا وأمنعا
أعزّه الله فمـا تهبــط فـي كعبتــه الأملاك إلا خضعا
بيت من القــدس وناهيك به محط أسرار الهدى وموضعا
فكان مأوى المرتجي والملتجي فمــا أعز شأنه وأمنعا (9)

وهذه الصفات الكريمة هي التي أهلت أبا طالب ـ عليه السلام ـ لحمل أعباء الوصاية عن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ بعد أن تلقاها عن أبيه عبد المطلب الذي كان وصيا من الأوصياء ، وقارئا للكتب السماوية ، كما أخبر أبو طالب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بذلك إذ قال له : كان أبي يقرأ الكتب جميعا ، وقال : إن من صلبي نبيا لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به فمن أدركه من ولدي فليؤمن به (10).
وكان أبو طالب كأبيه « شيبة الحمد » عالما بما جاء به الأنبياء وأخبروا به أممهم من حوادث وملاحم لأنه وصي من الأوصياء ، وأمين على وصايا الأنبياء حتى سلمها إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ (11)

(8) هذا حاصل أحاديث ذكرها المجلسي في البحار ج6 ـ ص6 وج9 ـ ص8.
(9) من قصيدة للعلامة الحجة السيد محمد حسين الكيشوان رحمه الله .
(10) البحار ج9 ـ ص31.
(11) مرآة العقول ج1 ـ ص362.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 11

وفي ذلك يقول درست بن منصور لأبي الحسن موسى ـ عليه السلام ـ :
أكان رسول الله محجوجا بأبي طالب ؟ قال ـ عليه السلام ـ : « لا ولكن كان مستودع الوصايا فدفعها إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : قلت : دفعها على أنه محجوج به ؟ قال ـ عليه السلام ـ : « لو كان محجوجا به ما دفعها اليه » قلت : فما كان حال أبي طالب ؟ قال : ـ عليه السلام ـ : « أقر بالنبي وبما جاء به حتى مات ». (12)
وقال شيخنا المجلسي ـ أعلا الله مقامه ـ :
أجمعت الشيعة على أن أبا طالب لم يعبد صنما قط ، وأنه كان من أوصياء ابراهيم ـ عليه السلام ـ ، وحكى الطبرسي إجماع أهل العلم على ذلك ، ووافقه ابن بطريق في كتاب الاستدراك (13)
وقال الصدوق :
كان عبد المطلب ، وأبوطالب من أعرف العلماء ، وأعلمهم بشأن النبي ، وكانا يكتمان ذلك عن الجهال والكفرة (14).
ومما يشهد على ذلك ، الحديث الصحيح عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ :
« والله ما عبد أبي ، ولا جدي عبد المطلب ، ولا عبد مناف ، ولا هاشم صنما ، وإنما كانوا يعبدون الله ، ويصلون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به ». (15)
ويقول أبو الحسن الرضا ـ عليه السلام ـ :
« كان نقش خاتم أبي طالب : رضيت بالله ربا وبابن أخي محمد نبيا وبابني علي وصيا له » (16).
مضافا إلى أن قريشا لما أبصرت العجائب ليلة ولادة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ خصوصا لما أتوا بالآلهة إلى جبل أبي قبيس ليسكن ما حل بهم ارتج الجبل ، وتساقطت

(12) البحار ج9 ـ ص29.
(13) المصدر.
(14) إكمال الدين ص102.
(15) المصدر ص104.
(16) الدرجات الرفيعة للسيد علي خان بترجمة أبي طالب.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 12

الأصنام ، ففزعوا إلى أبي طالب لأنه مفزع اللاجي وعصمة المستجير ، وسألوه عن ذلك فرفع يديه مبتهلا الى المولى ـ جل شأنه ـ قائلا : إلهي أسـألك بالمحمدية المحمودة ، والعلوية العـالية ، والفاطمية البيضـاء إلا تفضلت على تهامة بالـرأفة والـرحمة فسكن ما حل بهـم . وعرفت قريش فـضل هذه الأسمـاء قبل ظهورها ، فكانت العرب تكتب هـذه الأسماء وتدعو بها عند المهمـات وهي لا تعرف حقيقتها (17).
ومن هنا اعتمد عليه عبد المطلب في كفالة الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ فخصه به دون سائر بنيه وقال :
وصيت من كنّيتــه بطالـب عبد مناف (18) وهو ذو تجارب
بابـن الحبيب أكرم الأقـارب بابن الذي قد غـاب غيـر آب

فقال أبو طالب :
لا توصني بـلازم وواجب إني سمعت أعجب العجائب
من كل حبر عالم وكـاتب بأن بحمد الله قـول الراهب

فقال عبد المطلب : أنظر يا أبا طالب أن تكون حافظا لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ، ولم يذق شفقة أمه ، أنظر أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك فإني قد تركت بني كلهم ، وخصصتك به ، فانصره بلسانك ويدك ومالك ، فإنه والله سيسودكم ويملك ما لا يملك أحد من آبائي ، هل قبلت وصيتي ؟ قال : نعم قد قبلت ، والله على ذلك شاهد.
فقال عبد المطلب : مد يدك ، فمد يده وضرب عبد المطلب بيده على يد أبي ـ

(17) روضة الواعظين للقتال ص69.
(18) إختلف في إسم أبي طالب على أقوال أربعة : الأول : اسمه شيبة حكاه السيوطي في شرح شواهد المغني ص 135 مصر ، الثاني : اسمه عمران حكاه ابن حجر في الإصابة ج4 ص115 بترجمته ، الثالث : كنيته حكاه الحكام النيسابوري في المستدرك ج3 ص108 ، عن محمد بن إسحاق ، الرابع اسمه عبد مناف نص عليه ابن حبيب في المحبر ص16 والطبري في التاريخ ج6 ص89 ، وابن الاثير في الكامل ج3 ص158 ، وأبو الفدا في المختصر ج1 ص170 ، وحكاه الحاكم في معرفة علوم الحديث ص84 عن ابن معين ، والنويري في نهاية الأرب ج2 ص341 ، والسيوطي في شرح الشواهد المغني ج1 ص135 ، وابن قتيبة في المعارف ص88 ، وعند ابن حجر في الإصابة : أنه المشهور ، وفي عمدة الطالب ص5 نجف هو الصحيح وبذلك نطقت وصية أبيه عبد المطلب فإنه قال :
أوصيك يا عبد مناف بعدي بواحد بعد أبيـــه فــرد

وقال أيضا :
وصيت من كنيته بطالـب عبد مناف وهو ذو تجارب
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 13

طالب ثم قال عبد المطلب : الآن خفف عليّ الموت ، ولم يزل يقبله ويقول : أشهد أني لم أر أحدا أطيب ريحا منك ولا أحسن وجها (19).
لم ينص عبدالمطلب عليه بالوصية لمحض أنه شقيق أبيه عبدالله فلقد كان الزبير يشارك أبا طالب في ذلك وإنما هو لكفايته لتلك المرتبة القدسية فقد صاغه المهيمن سبحانه متأهلا لحمل النواميس الإلهية « شديد بأعباء الخلافة كاهله ».
فاجتمعت فيه القابلية الذاتية والمعدات المفاضة عليه من سلفه الطاهر ومن الأوصياء الماضين وتأكدت بمصاحبة النبي الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ آناء الليل وأطراف النهار فلا يكاد يفارقه آنا ما وبمشهد منه الإرهاصات النبوية والإفاضات الإلهية المكهربة للمواد اللائقة.
فرح أبو طالب بهذه الخطوة من أبيه العطوف ، وراح يدخر لنفسه السعادة الخالدة بكفالة نبي الرحمة ، فقام بأمره ، وحماه في صغره بماله وجاهه من اليهود ، والعرب ، وقريش ، وكان يؤثره على أهله ونفسه وكيف لا يفعل هذا وهو يشاهد من ابن أخيه ولما يبلغ التاسعة من عمره هيكل القدس يملأ الدست هيبة ، ورجاحة أكثر ضحكه الابتسام ، ويأنس بالوحدة أكثر من الاجتماع ، وإذا وضع له الطعام والشراب لم يتناول منه شيئا إلا قال : باسم الله الأحد ، وإذا فرغ من الطعام حمد الله وأثنى عليه ، وإن رصده في نومه شاهد النور يسطع من رأسه إلى عنان السماء (20).
وكان يوما معه بذي المجاز فعطش أبوطالب ، ولم يجد الماء فجاء النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى صخرة هناك ، فركله برجله فنبع من تحتها الماء العذب (21) ، وزاد على ذلك توفر الطعام في بيته حتى أنه يكفي الجمع الكثير إذا تناول النبي منه شيئا (22).
وهذا وحده كاف في الإذعان بأن أبا طالب كان على يقين من نبوة ابن أخيه ـ صلى الله عليه وآله ـ أضف الى ذلك قوله في خطبته لما أراد أن يزوجه من خديجة :
« وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل » (23) .
وكان يقول في وصيته لقريش عند الوفاة :

(19) مرآة العقول ج1 ص368.
(20) مناقب ابن شهر آشوب.
(21) السيرة الحلبية ج1 ص139.
(22) المصدر.
(23) المصدر.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 14

« يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب ، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ، ولا شرفا إلا أدركتموه ، فلكم به على الناس الفضيلة ، ولهم به إليكم الوسيلة ، والناس لكم حرب وإلى حربكم إلب ، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البينة فإن فيها مرضاة للرب ، وقواما للجأش ، وثباتا للوطأة ، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها ؛ فان صلة الرحم منسأة للأجل وزيادة في العدد ، واتركوا البغي والعقوق ففيهما شرف الحياة والممات ، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة ؛ فإن فيهما محبة للخاص ومكرمة للعام .
واني اوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريش والصديق في العرب كأني أنظر الى صعاليك العرب وأهل الوبر الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته ، وصدّقوا كلمته ، وعظموه ، فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ، ودورها خرابا ، وأعظمهم عليه أحوجهم اليه ، وأبعدهم أقربهم عنده ، قد محضته العرب ودادها ، وأصغت له فؤادها وأعطته قيادها.
دونكم يا معشر قريش المحافظة على ابن أخيكم وكونوا له ولاة ولحزبه حماة ؛ والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا سعد ، ولا يأخذ بهديه إلا رشد ، ولو كان للنفس مدة ، وللأجل تأخير لكفيت عنه الهزاهز ولدفعت عنه الدواهي.
وأنشد :
أوصي بنصر النبي الخيـر مشهـده عليــا ابنـي وشيــخ القوم عباسا
وحمـزة الأسد الحامــي حقيقتـه وجعفـرا أن يذودا دونــه الناســا
كونوا فداء لكم أمي وما ولـــدت في نصر أحمد دون الناس أتراسا (24)

ولما جاء العباس إلى أبي طالب يخبره بتألب قريش على معاداته قال له :

(24) الدرجات الرفيعة للسيد علي خان بترجمة أبي طالب ، واختصر هذه الوصية في تاريخ الخميس ج1 ص339 ، وطراز المجالس للخفاجي ص217 ، وثمرات الأوراق للحموي بهامش المستطرف ج2 ص10 ، وبلوغ الأرب ج1 ص327 ط أول ، وأسنى المطالب لزيني دحلان ص5.

الفهرس التالي التالي