الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 15

« إن أبي أخبرني أن الرسول على حق ولا يضره ما عليه قريش من المعادات له ، وإن أبي طان يقرأ الكتب جميعا وقال : إن من صلبي نبيا لوددت أني أدركته فآمنت به فمن أدركه فليؤمن به (25) ».
واستشهاده بكلمة أبيه القارئ للكتب الإلهية مع أنه كان يقرؤها مثله ، يدلنا على تفننه في تنسيق القياس ، وإقامة البرهان على صحة النبوة وأن الواجب اعتناق شريعته الحقة.
أما هو نفسه فعلى يقين من أن رسالة ابن أخيه خاتمة الرسالات ،وهو افضل من تقدمه قبل أن يشرق نور النبوة على وجه البسيطة ، ولم تجهل لديه صفات النبي المبعوث ، وعلى هذا الأساس أخبر بعض أهل العلم من الأحبار حينما أسر إليه بأن ابن أخيه الروح الطيبة والنبي المطهر على لسان التوراة والإنجيل فاستكتمه أبو طالب الحديث كي لا يفشو الخبر ، ثم قال له : إن أبي أخبرني أنه النبي المبعوث وأمر أن أستر ذلك لئلا يغرى به الأعادي ولو لم يكن معتقدا صدق الدعوة لما قال لأخيه حمة لما أظهر الإسلام (26) :
فصبرا أبا يعلى على دين أحمـد وكـن مظهرا للدين وفقت صابرا
وحط من أتى بالدين من عند ربه بصـدق وحق لا تكن حمز كافرا
فقد سريــي إذ قلت أنك مؤمـن فكـن لرسول الله في الله ناصرا
وناد قريشا بالــذي قد أتيتــه جهارا وقل : ما كان أحمد ساحرا

وقال رادا على قريش (27) :
ألم تعلموا أنا وجدنا مـحـمـدا نبيا كموسى خط في أول الكتب

وقال (28) :
وأمسى ابن عبدالله فيـنا مصدّقـا على سخط من قومنا غير معتب

وقال (29) :

(25) الحجة على الذاهب ص65.
(26) المصدر ص71.
(27) خزانة الأدب للبغدادي ج1 ص261.
(28) الحجة على الذاهب ص45.
(29) شرح النهج الحديدي ج3 ص313.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 16

أمين محب في العبـاد مســوم بخاتــم رب قاهـر للخواتــم
يرى الناس برهانـا عليه وهيبة وما جاهل في فعلـه مثل عالـم
نبي أتاه الوحــي من ربــه فمن قال لا ، يقـرع بها سن نادم

ومما خاطب بها النجاشي :
تعلم خيـار النــاس أن محمدا وزير لموسى والمسيح ابن مريم
أتى بالهدى مثل الذي أتيا بــه فكــل بأمر الله يهدي ويعصم
وإنكــم تتلونـه في كتابكــم بصدق حديث لا حديث المترجم
فلا تجعلـوا لله نـدا وأسلمــوا فإن طريـق الحـق ليس بمطلم

وقال (30) :
اذهب بني فما عليك غضاضة اذهب وقر بذاك منك عيونــا
والله لن يصلوا اليك بجمعهـم حتى أوسد في التـراب دفينــا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي وصدقت ثم وكنت قبل أمينــا
وذكرت دينا لا محالــة أنـه من خير أديــان البرية دينـا

وبعد هذه المصارحة هل يخالج أحدا الريب في إيمان أبي طالب ؟ وهل يجوز على من يقول إنا وجدنا محمدا كموسى نبيا إلا الإعتراف بنبوته والإقرار برسالته كالأنبياء المتقدمين ؟ وهل يكون إقرار بالنبوة أبلغ من قوله « فأمسى ابن عبدالله فينا مصدقا » ؟ ، وهل فرق بين أن يقول المسلم : أشهد أن محمدا رسول الله وبين أن يقول (3) :
وإن كان أحمد قد جاءهم بصـدق ولم يتهم بالكذب

أو يعترف الرجل بأن محمدا كموسى وعيسى جاء بالهدى ، والرشاد مثل ما أتيا به ، ثم يحكم عليه بالكفر ؟ ، وهل هناك جملة يعبر بها عن الاسلام اصرح من قول المسلم :
وذكرت دينا لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا

(30) أورد الأبيات الزمخشري في الكشاف ج1 ص448 طبع سنة 1308 ، وابن دحلان في السيرة النبوية بهامش السيرة الحلبية ج1 ص97 طبع سنة 1329 ، وأوردها ابن أبي الحديد في شرح النهج ج3 ص306 باختلاف يسير ، وفي خزانة الأدب للبغدادي ج1 ص261 ، والإصابة ج4 ص116 ، وبلوغ الأرب ج2 ص325 طب سنة 1342 ذكر البيت الثالث والرابع ، وفي السيرة الحلبية ج1 ص313 البيت الثاني ، وفي تاريخ أبي الفدا ج1 ص120 ثلاثة ابيات باختلاف يسير.
(31) شرح النهج لابن أبي الحديد ج3 ص309.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 17

كلا ، ولو لم يعرف أبوطالب من ابن أخيه الصدق فيما أخبر به لما قال له بمحضر قريش ليريهم من فضله ، وهو به خبير ، وجنانه طامن : يا ابن أخي الله أرسلك ؟ قال ؟ « نعم » ، قال أبو طالب : إن للأنبياء معجزة وخرق عادة فأرنا آية ، قال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : « يا عم ادع تلك الشجرة وقل لها : يقول لك محمد بن عبدالله : اقبلي بإذن الله » فدعاها أبو طالب فأقبلت حتى سجدت بين يديه ثم أمرها بالإنصراف فانصرفت .
فقال أبوطالب : أشهد أنك صادق ، ثم قال لابنه : « يا علي الزمه . » (32) وفي بعض الأيام رأى عليا يصلي مع النبي فقال له : يا بني ما هذا الذي أنت عليه ؟ ، قال : يا آبة آمنت بالله وبرسوله وصدّقت بما جاء به ودخلت معه واتبعته ، فقال أبوطالب :
أما أنه لا يدعوك إلا إلى خير فالزمه (33).
وهل يجد الباحث بعد هذا ملتحدا عن الجزم بأن شيخ الأبطح كان معتنقا للدين الحنيف ، ويكافح طواغيت قريش حتى بالصلاة مع النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وان أهمله فريق من المؤرخين رعاية لما هم عليه من حب الوقيعة في أبي طالب ورميه بالقذائف حنقا على ولده أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، الذي لم يتسن لهم أي غميزة فيه ، فتحاملوا على أمه وأبيه إيذاء له وإكثارا لنظائر من يرمون إكباره ، وإجلاله ممن سبق منهم الكفر ، وحيث لم يسعهم الحط من كرامة النبي والوصي ، عمدوا إلى أبويهما الكريمين فعزوا إليهما الطامات ، وستروا ما يؤثر عنهما من الفضائل إيثارا لما يروقهم إثباته.
يشهد لذلك ما ذكره بعض الكتاب عند ذكره أسرى بدر فانه قال : وكان من الأسرى عم النبي وعقيل ابن عمه ( أخو علي ) (34).
فلو كان غرضه تعريف المأسور لكان في تعريف عقيل بأنه ابن عم النبي كفاية كما اكتفى في تعريف العباس به ، ولم يحتج أن يكتب بين قوسين ( أخو علي ) وأنت تعرف المراد من ذكر هذه الكلمة بين القوسين ، والى أي شيء يرمز بها الكاتب ، ولكن فاته الغرض ، وهيهات الذي أراد ففشل.
ثم جاء فريق آخر من المؤرخين يحسبون حصر المصادر في ذوي الأغراض

(32) الحجة على الذاهب ص25.
(33) تاريخ الطبري ج2 ص214.
(34) تاريخ الأمة العربية للمقدادي ص84 مطبعة الحكومة بغداد سنة 1939م.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 18

المستهدفة ، وأن ما جاؤا به حقائق راهنة فاقتصروا على مروياتهم مما دب ودرج ، وفيها الخرافات وما أوحته إليهم الأهواء والنوايا السيئة ومن هنا أهملت حقائق ورويت أباطيل.
فعزوا إلى أبي طالب قوله : إني لا أحب أن تعلوني أستي (35) ، ثم رووا عنه أنه قال لرسول الله : ما هذا الدين ؟ قال رسول الله :
« دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم بعثني الله به الى العباد ، وأنت أحق من دعوته الى الهدى وأحق من أجابني »
فقال أبو طالب : إني لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي ، والله لا يخلص اليك من قريش شيء تكرهه ما حييت (36).
فحسبوا من هذا الكلام أن أبا طالب ممن يعبد الأوثان ، كيف وهو على التوحيد أدل ، وجوابه هذا من أنفس التورية ، وأبلغ المحاورة ، فإن مراده من قوله لرسول الله عقيب قوله أنت أحق من دعوته : « إني لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي » . الاعتراف بايمانه وأنه باق على حنيفية إبراهيم الخليل التي هي دين الحق ودينه ودين آبائه . ثم زاد أبوطالب في تطمين النبي بالمدافعة عنه مهما كان باقيا في الدنيا.
نعم من لا خبرة له بأساليب الكلام وخواص التورية يحسب أن أبا طالب أراد بقوله : إني لا افارق ديني ـ الخ ، الخضوع للأصنام فصفق طربا واختال مرحا.
وجاء آخر يعتذر عنه بأن شيخ الأبطح كان يراعي بقوله هذا الموافقة لقريش ليتمكن من كلائة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وتمشية دعوته.
نحن لاننكر أن أبا طالب كان يلاحظ شيئا من ذلك ويروقه مداراة القوم للحصول على غايته الثمينة كي لا يمس كرامة الرسول سوء لكنا لا نصافقهم في كل ما يقولونه من انسلاله عن الدين الحنيف انسلالا باتا ، فإنه خلاف الثابت من سيرته حتى عند رواة تلكم المخزيات ومهملي الحقائق الناصعة حذرا عما لا يلائم خطتهم فلقد كان يراغم الطواغيت بما هو أعظم من التظاهر بالإيمان والإئتمام بالصلاة مع النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ .

(35) السيرة الحلبية ج1 ص306.
(36) الطبري ج1 ص213 وابن الأثير ج2 ص21.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 19

وان شعره الطافح بذكر النبوة والتصديق بها سرت به الركبان وكذلك أعماله الناجعة حول دعوى الرسالة .
ولولا أبو طالب وابنــه لما مثل الدين شخصا فقاما
فذاك بمكـة آوى وحامـا وهذا بيثرب جس الحماما
تكفل عبد منــاف بأمر وأودى فكـان علي تماما
فلله ذا فاتــح للهــدى ولله ذا للمعـالـي ختامـا
وما ضر مجـد أبي طالب عـدو لغى وجهول تعامى

وخلاصة البحث أن أبا طالب حلقة الوصل بين سلسلة الوصاية عن الرسل الماضين حتى أوصلها إلى النبي الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ وكما تنتهي به الحلقات الغابرة فإن بولده أمير المؤمنين تبتدى سلسلة الخلافة المحمدية ثم تتواصل في بينه الأطهرين حتى تنتهي الى حجة العصر وناموس الدهر الحجة المهدي المنتظر عجل الله فرجه.
فبيت أبي طالب بيت ضرب على النبوة سرادقه ، وبني على الوصاية أطرافه ، ونيطت بالدين أطنابه ، وأسدل على العلم سجافه ووطدت على التقوى أوتاده.
إذا فما ظنك بمن ضمه هذا البيت وتربى فيه فهل يعدوه أن يكون إما داعية إلى الهدى أو مهذبا للبشر أو معلما للنواميس الإلهية أو هاديا إلى سبل السلام أو قائدا إلى الصالح العام.
نعم لا يجوز أن يكون من حواه هذا البيت إلا كما وصفناه بعد أن كان نصب عينه الأعلام الالهية وملء اذنه الوحي والإلهام ، وحشو فؤاده نكت من عالم الغيوب ومعه التمارين المسعدة والتعاليم المصلحة .
وقد لبى هتاف الدعوة الالهية زوج شيخ الأبطح التي شهد لها الرسول الأمين بأنها من الطاهرات الطيبات المؤمنات في جميع أدوار حياتها ، والعجب ممن اغترّ بتمويه المبطلين فدوّن تلك الفرية زعما منه أنها من فضائل سيد الأوصياء وهي : أن فاطمة بنت أسد (37) دخلت بيت الحرام حاملة بعلي بن أبي طالب فأرادت أن تسجد لهبل

(37) في نهاية الارب للنويري ج2 ص341 هي بنت اسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي وهي أول هاشمية تزوجت هاشميا ، وعند ابن جرير الطبري في التاريخ ج6 ص89 ، وابن الأثير في الكامل ج3 ص158 ، وأبو الفداء في المختصر ج1 ص170 ، وابن كثير في البداية ج7 ص332 كما في النهاية.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 20

فمنعها علي ـ عليه السلام ـ وهو في بطنها.
وقد فات المسكين أن في هذه الكرامة التي حسبها طعنا بتلك الذات المبرأة من رجس الجاهلية ودنس الشرك ، وكيف يكون أشرف المخلوقات بعد خاتم الأنبياء المتكون من النور الآلهي مودعا في وعاء الكفر والجحود.
كما أنهم أبعدوها كثيرا عن مستوى التعاليم الآلهية ودروس خاتم الأنبياء الملقاة عليها كل صباح ومساء وفيها ما فرضه المهيمن سبحانه على الأمة جمعاء من الايمان بما حبا ولدها الوصي بالولاية على المؤمنين حتى اختص بها دون الأئمة من أبناءه وإن كانوا نورا واحدة ولقد غضب الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ على من سماه أمير المؤمنين وقال : « مه لا يصلح هذا الإسم إلا لجدي أمير المؤمنين ».
فرووا أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وقف على قبرها وصاح : « ابنك علي لا جعفر ولا عقيل » ولما سئل عنه أجاب : « ان الملك سألها عمن تدين بولايته بعد الرسول فخجلت أن تقول ولدي » (38).
أمن المعقول أن تكون تلك الذات الطاهرة الحاملة لأشرف الخلق بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بعيدة عن تلك التعاليم المقدسة ؟ ، وهل في الدين حياء ، نعم أرادوا أن يزحزحوها عن الصراط السّويّ ولكن فاتهم الغرض وأخطأوا الرمية.
فإن الصحيح من الآثار ينص على أن النبي لما أنزلها في لحدها ناداها برفيع صوت :
« يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا فخر فإذا أتاك منكر ونكير فسألاك من ربك ، فقولي : الله ربي ، ومحمد نبيي ، والإسلام ديني ، والقرآن كتابي ، وإبني إمامي ووليي ، ثم خرج من القبر وأهال عليها التراب ». (39)
ولعل هذا خاص بها ومن جرى مجراها من الزاكين الطيبين كفاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ فإن الحديث ينص على أنها لما سألها الملكان عن ربها قالت : الله ربي ، قالا : ومن نبيك ؟ قال : أبي ، قالا : ومن وليك ؟ قالت : هذا القائم على شفير قبري

(38) خصائص أمير المؤمنين للسيد الرضي وفي طريق الحديث محمد بن جمهور العمى الضعيف بنص النجاشي والكشي وابن الغضائري والعلامة الحلي.
(39) مجالس الصدوق ص189 مجلس51.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 21

علي أبي طالب (40).
وإلا فلم يعهد في زمان الرسالة تلقين الأموات بمعرفة الولي بعد النبي فإن غاية ما جاء عنه ـ صلى الله عليه وآله ـ : « لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فإنها تهدم الخطايا ».
والخدشة في هذا الحديث واضحة فإن الاعتراف بالرسالة كالإعتراف بالتوحيد متلازمان ، وتلقين الأموات إنما هو لأجل أن يكون العبد الراحل عن هذه الدنيا باقيا على ما هو عليه فيها حتى في آخر المنازل ، فالإقرار بأحدى الشهادتين لا ينفك عن الأخرى ، فهذا الحديث الناص على الإقرار بكلمة التوحيد مع السكوت عن الشهادة بالرسالة لنبي الإسلام لا نعرف سنده ليكون شاهدا ودليلا.
وعلى كل فتخصيص زوج أبي طالب بذلك التلقين كالتكبير عليها أربعين خصائصها لأن التكبير على الأموات خمس.
وبالرغم من هاتيك السفاسف التي أرادوا بها الحط من مقام والدة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أظهر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أمام الأمة ما أعرب عن مكانتها من الدين وأنها بعين فاطر السماء سبحانه حين كفنها بقميصه الذي لا يبلى لتكون مستورة يوم يعرى الخلق ، وكان الاضطجاع في قبرها إجابة لرغبتها فيه عندما حدثها عن أحوال القبر وما يكون فيه من ضغط ابن آدم.
ولولا التنازل لرغبتها لما كان لاضطجاعه ـ صلى الله عليه وآله ـ معنى فإن المؤمن المعترف بولاية أمير المؤمنين لا تصيبه الضغطة كما في صحيح الأثر فكيف بالوعاء الحامل لمن تكون من النور الأقدس.
فتحصل أن هذا البيت الطاهر بيت أبي طالب بيت توحيد وايمان وهدى ورشاد ، وأن من حواه البيت رجالا ونساء كلهم على دين واحد منذ هتف داعية الهدى ، وصدع بأمر الرسالة غير أنهم بين من جاهر باتباع الدعوة وبين من كتم الإيمان لضرب من المصلحة.
وقد لبت هذا الهتاف أم هاني بنت أبي طالب فكانت من السابقات إلى الايمان كما عليه صحيح الأثر وفي بيتها نزل النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من المعراج وهو في السنة الثالثة من البعثة وحدّثها بأمره قبل أن يخرج الى الناس ، وكانت مصدقة له غير أنها خشيت تكذيب قريش إياه ، وعليه فلا يعبؤ بما زعم من تأخر إسلامها الى عام

40) الإصابة لابن حجر ج2 ص478 بترجمة عروة بن مسعود.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 22

الفتح سنة ثمان من الهجرة .
وكانت وفاتها أما في أيام النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كما في مناقب شهر آشوب ج1 ص110 ، وأما في خلافة معاوية كما في تقريب التهذيب لابن حجر ص620 ، وحينئذ فليست هي المعينة بما في كامل الزيارة لابن قولويه ص96 : وأقبلت إليه بعض عماته تقول : إشهد يا حسين لقد سمعت قائلا يقول :
وإن قتيل الطف من آل هاشم أذل رقابا من قريــش فذلت

الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 23

عقيل

لقد كان عقيل بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيبة وممن رضي عنهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ فإن النظرة الصحيحة في التاريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أول الدعوة وكان هذا مجلبة للحب النبوي حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء ، من رسوخ الإيمان في جوانحه ، وعمل الخيرات بجوارحه ، ولزوم الطاعة في أعماله ، واقتفاء الصدق في أقواله ، فقول النبي : « إني أحب عقيلا حبين ، حبا له وحبا لحب أبي طالب له (1) » إنما هو لأجل هاتيك المآثر وليس من المعقول كون حبه لغاية شهوية أو لشيء من عرض الدنيا.
إذا فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة وقد حدته قوة الإيمان إلى أن يسلق أعداء أخيه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ بلسان حديد خلده عارا عليهم مدى الحقب والأعوام.
على أن حب أبي طالب له لم يكن لمحض النبوة فإنه لم يكن ولده البكر ولا كان أشجع ولده ولا أوفاهم ذمة ولا ولده الوحيد ، وقد كان في ولده مثل أمير المؤمنين وأبي المساكين جعفر الطيار وطالب وهو أكبرهم سنا ، وإنما كان شيخ الأبطح يظهر مرتبة من الحب له مع وجود ولده « الامام » وأخيه الطيار لجمعه الفضائل والفواضل موروثة ومكتسبة.

(1) نص على هذه الجملة فقط في مستدرك الحاكم ج3 ص576 ، وتذكرة الخواص ص7 ، والسير الحلبية ج1 ص304 ، ونكت الهميان ص200 ، ولها زيادة في حق ولده مسلم نص عليها الصدوق في الأمالي ص78 مجلس 27 سنذكرها في فضل البكاء عليه .
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 24

وبعد أن فرضنا أبا طالب حجة وقته ، وأنه وصي من الاوصياء لم يكن يحابي أحدا بالمحبة وان كان أعز ولده ، إلا أن يجده ذلك الانسان الكامل الذي يجب في شريعة الحق ولاءه.
ولا شك أن عقيلا لم يكن حائدا عن الطريقة التي عليها أهل بيته أجمع من الايمان والوحدانية لله تعالى وكيف يشذ عن خاصته وأهله وهو وإياهم في بيت واحد وأبو طالب هو المتكفل تربيته وإعاشته ، فلا هو بطارده عن حوزته ولا بمبيده عن حومته ولا بمتضجر منه على الاقل وكيف يتظاهر بحبه ويدينه منه كما يعلمنا النص النبوي السابق لو لم يتوثق من إيمانه وتيقن من إسلامه غير أنه كان مبطنا له كما كان أبوه وأخوه طالب وإن كنا لا نشك في تفاوت الإيمان فيه وفي أخويه الطيار وأمير المؤمنين ، وحينئذ لم يكن عقيل بدعا من هذا البيت الطاهر الذي بني الاسلام على علاليه فهو مؤمن بما صدع به الرسول منذ هتف داعية الهدى ـ صلوات الله عليه وعلى آله ـ .

إلى الشام :

لقد كانت الروايا في سفر عقيل الى الشام في أنه على عهد أخيه الإمام أو بعده متضاربة واستظهر ابن أبي الحديد في شرح النهج ج3 ص82 أنه بعد شهادة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وجزم به العلامة الجليل السيد علي خان في الدرجات الرفيعة ، وهو الذي يقوى في النظر بعد ملاحظة مجموع ما يؤثر عنه في هذا الباب ، وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيين عند أهل البيت الى معاوية في تلك الظروف القاسية بعد أن اضطرتهم إليه الحاجة وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النفس والكف من بوادر الرجل فلاهم بملومين بشيء من ذلك ولا يحط من كرامتهم عند الملأ الديني ؛ فإن للتقية أحكاما لا تنقض ولا يلام المضطر على أمر اضطر إليه .
على أن عقيلا لم يؤثر عنه يوم وفادته على معاوية إقرار له بإمامة ولا خضوع له عند كرامة ، وإنما المأثور منه الوقيعة فيه والطعن في حسبه ونسبه والحط من كرامته والإحصار بمطاعنه مشفوعة بالإشارة بفضل أخيه سيد الوصيين.
فمن ذلك أن معاوية قال له : يا أبا يزيد أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك ، فقال عقيل :
« لقد مررت بعسكر أخي فاذا ليل كليل رسول الله ونهار كنهاره إلا أن رسول الله ليس فيهم ، وما رأيت فيهم إلا مصليا ولا سمعت إلا

الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 25

قارئا ، ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله ليلة العقبة » (2).
وقال له معاوية : إن عليا قطع قرابتك ولم يصلك ، فقال عقيل :
« والله لقد أجزل أخي العطية وأعظمها ، ووصل القرابة وحفظها ، وحسن ظنه بالله إذ ساء به مثلك وحفظ أمانته وأصلح رعيته إذ خنتم وأفسدتم فاكفف لا أبالك فإنه عما تقول بمعزل » .(3)
ثم صاح :
يا أهل الشام لقد وجدت أخي قد جعل دينه دون دنياه ، وخشي الله على نفسه ، ولم تأخذه في الله لومة لائم ، ووجدت معاوية قد جعل دنياه دون دينه ، وركب الضلالة واتبع الهوى ، فأعطاني ما لم يعرق فيه جبينه ، ولم تكدح فيه يمينه ، رزقا أجراه الله على يديه ، وهو المحاسب عليه دوني لا محمودا ولا مشكورا.
ثم التفت الى معاوية وقال :
أما والله يا ابن هند ما تزال منك سوالف يمرها منك قول وفعل فكأني بك وقد أحاط بك ما الذي منه تحاذر.
فأطرق معاوية ثم قال : ما الذي يعذرني من بني هاشم ، وأنشأ :

أزيدهم الإكرام كي يشعبوا العصا فيأبــوا لدى الإكرام أن يكرموا
وذا عطفتني رقتــان عليهــم نأوا حســدا عني فكانوا هُم همُ
وأعطيتهم صفو الأخــا فكأنني معـا وعطاياي المباحــة علقم
واُغضي عن الذنب الذي يقيلـه من القــوم إلا الهز بريّ المعمَم
حبا واصطبارا وانعطافا ورقـة وأكظم غيض القلب إذ ليس يكظم

أما والله يا ابن أبي طالب لولا أن يقال عجل معاوية لخرق ونكل عن جوابك لتركت هامتك أخف على أيدي الرجال من حويّ الحنظل.
فأجابه عقيل :

(2) الدرجات الرفيعة بترجمته.
(3) العقد الفريد ج2 ص134 في باب الأجوبة المسكتة.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 26

غديرك منهـم من يلـوم عليهم ومن هـو منهـم في المقالة أظلم
لعمرك ما أعطيتهم منـك رأفـة ولكـن لأسبـاب وحولك علقـم
أبى لهم أن ينزل الـذل عنـوة إذا ما طغـا الجبار كانوا هُم هم
فدونك ما أسديت فاشدد يدا بـه وخيركم المبسوط والشر فالزموا

ثم رمى عقيل عليه بالمائة ألف درهم وقام من مجلسه فكتب اليه معاوية : أما بعد يا بني عبدالمطلب أنتم والله فرع قصي ولباب عبد مناف وصفوة هاشم ، ولكم الصفح الجميل فإن أحلامكم لراسخة ، وعقولكم لكاسية ، وحفظكم الأوامر ، وحبكم العشائر ، ولكم الصفح الجميل والعفو الجزيل مقرونان بشرف النبوة وعز الرسالة وقد والله ساءني ما كان جرى ولن أعود لمثله إلى أن اغيّب الثرى ، فكتب اليه عقيل :

صدقت وقلت حقا غير أنـي أرى ألا أراك ولا تـرانــي
ولست أقول سوء في صديقي ولكنــي أصد إذا جفـانـي

فكتب اليه معاوية يستعطفه ويناشده الصفح وألح عليه في ذلك فرجع اليه (4). فقال معاوية : لِمَ جفوتنا يا أبا يزيد ؟ فأنشأ يقول :

وإني امرؤ مني التكرم شيمة إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا

ثم قال :
يا معاوية لئن كانت الدنيا أفرشتك مهادها ، وأظلتك بسرادقاتها ، مدت عليك أطناب سلطانها ماذاك بالذي يزيدك مني رغبة وتخشعا لرهبته.
فقال معاوية : لقد نعتها أبو يزيد نعتا هش له قلبي ، ثم قال له : لقد أصبحت يا أبا يزيد علينا كريما وإلينا حبيبا وما أصبحت أضمر لك إساءة (5).
هذا حال عقيل مع معاوية وحينئذ فأي نقص يلمّ به والحالة هذه وعلى الوصف الذي أتينا به تعرف أنه لاصحة لما رواه المتساهلون في النقل من كونه مع معاوية بصفين فإنه مما لم يتأكد اسناده ولا عرف متنه ويضاده جميع ما ذكرناه.
كما يبعده كتابه من مكة إلى أمير المؤمنين حين أغار الضحاك على الحيرة وما

(4) ربيع الأبرار للزمخشري في باب المعاتبات.
(5) العقد الفريد ج1 ص135.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 27

والاها وذلك بعد حادثة صفين.

كتاب عقيل

فإنه كتب :
بسم الله الرحمن الرحيم

لعبد الله أمير المؤمنين من عقيل بن أبي طالب : سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن الله حارسك من كل سوء وعاصمك من كل مكروه وعلى كل حال فإني خرجت من مكة معتمرا فلقيت عبد الله بن أبي سرح مقبلا من « قديد »في نحومن أربعين شابا من أبناء الطلقاء فعرفت في وجوههم المنكر فقلت : إلى أين يا أبناء الشائنين ، أبمعاوية لاحقون عداوة لله منكم غير مستنكرة تريدون إطفاء نور الله وتبديل أمره ؟ فأسمعني القوم واسمعتهم.
فلما قدمت مكة سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء ثم انكفأ راجعا سالما ، وان الحياة في دهر جرّأ عليك الضحاك لذميمة وما الضحاك الأفقع بقرقر وقد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك وأنصارك خذلوك فاكتب إلي يا ابن أبي برأيك ، فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت ، ومتنا معك إذا مت فوالله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواق ناقة وأقسم بالأعز الأجل أن عيشا نعيشه بعدك لاهنيء ولامريء ولا نجيع ، والسلام.

كتاب أمير المؤمنين

وكتب اليه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ :
بسم الله الرحمن الرحيم

من عبدالله أمير المؤمنين الى عقيل بن أبي طالب : سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد كلأنا الله وإياك كلاءة من يغشاه ، وقد وصل إلي كتابك مع عبدالرحمن بن عبيد الأزدي ، تذكر فيه أنك لقيت عبدالله بن أبي سرح مقبلا من « قديد » في نحو أربعين فارسا من أبناء الطلقاء متوجهين الى جهة المغرب ، وأن ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه ، وصد عن سبيله وبغاها عوجا ، فدع عنك ابن أبي ـ

الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 28

سرح ودع عنك قريشا وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق.
ألا وإن العرب أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب النبي قبل اليوم ، فأصبحوا قد جهلوا حقه ، وجحدوا فضله ، وبادروه بالعداوة ، ونصبوا له الحرب ، وجهدوا عليه الجهد ، وجروا اليه جيش الأحزاب ، اللهم فأجز قريشا عني الجوازي ؛ فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت علي ، ودفعتني عن حقي ، وسلبتني سلطان ابن أمي وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابة من الرسول ، وسابقتني في الإسلام ، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه ، والحمدلله على كل حال.
وأما ما ذكرت من غارة الضحاك على أهل الحيرة فهو أقل وأقل أن يسلب بها وأن يدنو منها ، ولكنه قد أقبل في جردة خيل فأخذ على السماوة حتى قربوا من واقصة وشراف ، والقطقطانة وما والى ذلك الصقع ، فوجّهت إليه جندا كثيفا من المسلمين ، فلما بلغه ذلك فرّها ربا ، فاتبعوه ولحقوه ببعض الطريق وقد أمعن ، وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب فتناوشوا القتال قليلا فلم يبصر غلا بوقع المشرفية وولى هاربا ، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا ، ونجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق فلأيا بلأي ما نجا.
وأما ما سألتني أن أكتب اليك برأي فيما أنا فيه ، فان رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله ، لا يزيدني كثرة الناس عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة لأني محق ، والله مع المحق ، ووالله ما أكره الموت على الحق ، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا.
وأما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك ، فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشدا محمودا فوالله ما أحب أن تهلكوا معي أن هلكت ، ولا تحسبن ابن أبيك لو أسلمه الناس متخشعا متضرعا « ولا مقرا للضيم واهنا ، ولا سلس الزمام للقائد ، ولا وطىء الظهر للراكب المقتعد » (6) ولكنه كما قال أخو بني سليم :
فان تسألينـي كيف أنت فإنني صبور علي ريب الزمان صليب
يعز عليّ أن ترى بـي كئابـة فيشمت بــاغ أو يسـاه حبيب

وهذا الكتاب من عقيل المروي بطرق متعددة (7) يدلنا على أنه كان مع أخيه

(6) الجملة بين قوسين في النهج ج2 ص64.
(7) روى الكتابين أبو الفرج في الأغاني ج15 ص44 ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ج1 ص155 ، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ج1 ص45 ، والسيد علي خان في الدرجات الرفيعة بترجمة عقيل ، وفي جمهرة رسائل العرب ج1 ص596.

السابق السابق الفهرس التالي التالي