الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 43

والباطل وحاشا « إمام الحق » أن يرتكب ما فيه إغراء للناس وهو مقيض لإنقاذ البشر من ورطة الجهل المردي.
وأني لا أظن بعد هذا البيان الضافي يبقى الواقف على كلمة المدائني « أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما » مرتابا في افتعال نسبتها إلى سيد الحفاظ والحمية والشهامة سيد الغيارى على المبادئ الصحيحة سيد شباب أهل الجنة ـ عليه السلام ـ.

نشأته عليه السلام

لقد عرفت فيما قدمناه من صفة بيت أبي طالب ومبلغ رجالاته من العلم والمعارف الإلهية وأنهم على الأوضاع والغرر اللائحة في أنسابهم واحسابهم لا تعدوهم الفضائل العصامية من علم وحكمة وأخلاق وبلاغة وأدب وشجاعة وفروسية إلى مآثر جمة ازدانت بسروات المجد من بني هشام ، وأن كلام منهم أمة واحدة في المكارم جمعاء.
وإن من قضاء الطبيعة وناموس البيئة أنهم يمرنون وليدهم ويربون الناشئ منهم على ما تدفقت به أوعيتهم ، فلا يدرج الطفل إلا والحنكة ملء إهابه ، ولا يشب الصغير إلا وهو محتو لفضيلة المشايخ ، واذا التقيت بالرجل هكذا بين فواضل وفضائل ، ومآثر ومفاخر ، ولا سيما ان من جبلة رجالات البيت تغذية ناشئهم بما عندهم من آلاء وتحنيكه بنمير مكارمهم وإروائه بزلال من حكمهم البالغة ، وعظاتهم الشافية ، وتعاليمهم الراقية ، فقضية قانون التربية الصحيحة أن يكون الولد إنسانا كاملا.
نعم ، هكذا أرباب الفضائل من آل أبي طالب لا يروقهم في صغيرهم إلا ما يروقهم في الأكابر ، ولا يرضيهم ممن يمت بهم إلا أن يزدان به منتدى العلم ودست الإمارة ، ويبتلج به صهوة الخيل ومنبر الخطابة ، وأن يسير مع الركب ذكره ومع الريح نشره لكي يقتدى به في المآثر ، ويقتص أثره في الأخلاق.
وهذا الذي ذكرناه إنما هو مرحلة الإقتضاء التربوي ، ويختص بما اذا صادق قابلية المحلّ ، وعدم المزاحمة بموانع خارجية تسلب الأثر من كل هاتيك الموجبات من بيئة وبيئة أو مجالس سوء أو شره ثابت ، فإن هذه الأمور تستوجب التخلف عن ذلك الإقتضاء كما نسب إلى شذاذ من العلويين ، فإنه على فرض صحة النقل لا يصار إليها إلا في الموارد المفيدة للعلم بخروج الناشئ عن ذلك الناموس.

الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 44

وأما داعية الحسين ـ عليه السلام ـ وسفيره الى العراق فكانت لياقته الذاتية ، وتأهله للفضائل ، وتأثره بتلك التربية الصحيحة ، ونشوؤه في ذلك البيت الممنع ، وتخرجه من كلية الخلافة الإلهية قاضية بسيره مع ضوء التعاليم المقدسة ، فأينما يتوجه إلى ناحية من نواحي هذا البيت لا يقع نظره إلا إلى أستاذ في العلم أو مقتدى في الأخلاق أو زعيم في الدين أو بطل في الشجاعة أو إمام في البلاغة أو مقنن في السياسة الآلهية.
فكانت نفس مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ تهش الى نيل مداهم منذ نعومة الأظفار كما هو طبع المتربى بهذا البيت ، ففي كل حين له نزوع الى مشاكلة كبرائهم ، وهذه قاعدة مطردة ، فإنك تجد ابن العالم يأنف عن أن يعد في أبناء العامة ، وابن الملك يكبر نفسه إلا عن خلائق والده ، وولد الزعيم يترفّع عن مشاكلة رعاياه ، فكل منهم يرمي الى ما يرفعه عن غرائز الطبقات الواطئة.
إذا فما ظنك بمسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ الذي هو أول من وقع بصره عليه عمه أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ وابناه الإمامان إن قاما وإن قعدا (31) ـ صلوات الله عليهما ـ ، ورجالات السؤدد والخطر من آل عبدالمطلب وسمع أخبار الغابرين من أهل بيته في المفاخر والمآثر ، فهل يمكن أن يكون له هوى إلا مع الفضيلة أو نزوعا إلا الى المحامد ؟ نعم نشأ مسلم مع العلم ، والتقوى والبطولة ، والهدى ، والحزم ، والحجى ، والرشد كما شاء الله سبحانه حتى أحب لقاءه يوم سعادته بشهادته.
ولقد كان من أهم ما يتلقاه مسلم ـ عليه السلام ـ من أكابر قومه مناوأة البيت الأموي أضداد الفضيلة ، وأعداء الدين ، وحضنة الجاهلية الأولي ، وناشري ألوية الوثنية ، والدعاة الى كل رذيلة بأعمالهم ، وأقوالهم ، ولهذه كانت تعد تلك المباينة من الهاشميين لهم من أسمى مناقبهم الحال كان « داعية السبط الشهيد ـ عليه السلام ـ » وارثا لهذه الظاهرة بأتم ما لها من المعنى.
ومما لا يستسهل العقل قبوله أن يكون ابن عقيل ـ عليه السلام ـ متزلفا الى واحد ممن ناوأ آباءه الأطائب أو مجاملا له فيجر الرذيلة الى قومه وتفوته الشهامة

(31) هذا حديث عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ رواه علي بن عيسى الأربلي من أعيان القرن السابع في كشف الغمة ، ومراد الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ من هذه الكلمة الثمينة أن الإمامة منصب الهي لا نزول عنهما مع القعود عن الحرب أو النهوض للجهاد والقاعد هو الإمام المجتبى ، والقائم سيد الشهداء ، والتثنية في الفعلين للتغليب.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 45

الهاشمية والإباء الموروث له والشمم المتأصل كيف وانه :
درة تـاج الفضـل والكرامـة قـرة عيـن المجـد والشهامة
أول رافع لرايــة الهــدى خص بفضل السبق بين الشهداء
كفاه فضلا شـرف الرسالــة عن معدن العـزة والجلالة (32)


(32) لشيخنا الحجة آية الله الشيخ محمد حسين الإصفهاني قدس الله تربته.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 46




الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 47

المؤامرات في الكوفة

ان سياسة معاوية القاسية من جراء نقض عهده للإمام الحسن ـ عليه السلام ـ تركت الشيعة ترزح تحت نير الإضطهاد ، فأوصال تقطع ، وأعين تسمل ، وبمشهد منهم أرجل مفصولة ، وعلى المشانق أنفس مزهقة ، وفي أعماق السجون أعناق مغلولة ، وبأرجاء الفلوات أناس مشردون ، وعلى أطراف الرماح أرؤس مشالة يوم كان ابن سمية عارفا بهم منذ العهد العلوي فتتبعهم تحت كل حجر ومدر ، وتحراهم في كل مغارة ، فنكل بهم ، ونال منهم ، وأوقع فيهم ، وهو القائل على منبر البصرة :
« إني أقسم بالله لآخذن المقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح منكم بالسقيم » (1)
وقد وصف هذا الحال أبو جعفر الباقر ـ عليه السلام ـ فقال :
« إنا أهل البيت لم نزل نستذل ونستضام ونقصى ونمتهن ونحرم ونقتل ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون موضعا يتقربون به الى أوليائهم وقضاة السوء وعمالهم في كل بلدة بالأحاديث المكذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله ، ولم نفعله ليبغضونا الى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره في زمن معاوية بعد موت الحسن ـ عليه السلام ـ فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الايدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكّر بحبنا والانقطاع إلينا يسجن ، وينهب ماله

(1) تاريخ الطبري ج6 ص125.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 48

وتهدم داره ، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد الى زمن عبيدالله بن زياد قاتل الحسين ـ عليه السلام ـ ثم جاء بعده الحجاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعة علي ـ عليه السلام ـ وحتى صار الرجل الذي يعمل بالخير ولعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من سلف من الولاة ولم يخلق الله شيئا منها ولا كانت ولا وقع وهو يحسب انها حق لكثرة من رواها ممن لم يعرف بكذب ولا قلة ورع » (2).
وفي هذا الحديث الشريف دلالة واضحة على ما نال الشيعة في تلك الأيام المظلمة من الإضطهاد والجور ، ومع أي إمام ينهضون مع الزكي المجتبى ـ عليه السلام ـ وقد قيّده الأمر الربوي بالتسليم لمجاري المحتوم كما قيّد أباه أمير المؤمنين خمساً وعشرين سنة.
على أن من أخلص له بالمفادات فئة قليلة لا تقاوم من حف بهم من أهل النفاق الذين أضمروا الغدر وضمنوا لمعاوية تسليم الحسن ـ عليه السلام ـ إن شمر للحرب ، أو مع الحسين ـ عليه السلام ـ وهو لا يرى من تكليفه إلا الخضوع لما سلم له إمام الوقت وحجة الزمن بالنص من جده وأبيه ـ صلوات الله عليهم ـ .
حتى أن حجر بن عدي دخل على الحسين ـ عليه السلام ـ مثيرا لنخوته ومحفزا له على القيام في وجه عدوهماللدود وفيما قال له : لقد اشتريتم العز بالذل ، وقبلتم القليل ، وتركتم الكثير أطعنا اليوم وعصينا الدهر ، دع الحسن وما رأى من الصلح ، وأجمع إليك شيعتك من أهل الكوفة وولّني وصاحبي عبيدة ابن عمر والمقدمة فلا يشعر ابن هند إلا ونحن نقارعه بالسيوف.
فأفاض عليه « ريحانة الرسول » من معارفه القدسية ما فيه حياة القلوب واجتماع نظام الأمة ، وذلك أن البيعة والعهد اذا صدرا من « إمام الحق » الذي لا يعمل عملا إلا على حسب ما يراه من المصلحة الواقعية التي أدركها بفضل منصبه الإلهي ، فلا يجوز له نقض ما أبرمه من العهد لما فيه من الغدر والخيانة الممقوتة فقال أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ :

(2) شرح النهج ج3 ص15.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 49

« إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل إلى نقض بيعتنا » (3).
وهذه المسألة التي أشار اليها سيد الشهداء ، وإن لم تلزم المصافق بها واقعا لأن الذي أعطوه الميثاق غاشم لا تحل مصافقته ، وقد قال الرسول الأقدس ـ صلى الله عليه وآله ـ :
« إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه » (4)
ومن المقطوع به أنه لايريد من المنبر تلك الأعواد المصنوعة من خشب وكان يجلس عليها للإرشاد والهداية وإنما يريد منبر الدعوة الآلهية ، فيكون غرض النبي الإيعاز إلى الملأ الديني الواعي لكلمته الثمينة بأن معاوية الداعي باسم الخلافة كافر بما أنزل من الوحي على الصادق الأمين ـ صلى الله عليه وآله ـ بتعيين من أقامهم المولى سبحانه أمناء على شرعه القويم ، وكافر بقول النبي الذي لم يزل يجاهر مرة بعد أخرى بأسماء من يلي الخلافة من بعده وهم الإثنا عشر من ذريته المعصومين ، والراد لما أنزل على الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ قولا أو فعلا من الجاحدين.
ولم تخف هذه الأحوال على معاوية ولا ممن شاهد النبي وسمع حديثه أو كان قريب العهد بزمن تلك النصوص ولو صدقت الأوهام بأنه كاتب النبي اتسع الخرق عليه.
وحيث أن سيد الشهداء لم تسعه المصارحة بما وجب عليهم في الصحيفة الخاصة بالإمام الزكي ، وكان فيها أن يسالم خاضعا للقضاء المحتوم ، وقد أشار النبي إلى هذه المسألة بقوله :
« إبناي هذان إمامان إن قاما وإن قعدا »
وأكثر العقول لا تتحمل هذه الأسرار الدقيقة كما قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ :
« حديثنا صعب مستصعب لا يتحمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو مؤمن امتحن الله قلبه بالايمان. »
تلطف أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ ببيان أقرب الى الأذهان وتتحمله العقول

(3) الدينوري في الأخبار الطوال ص222.
(4) صفين لنصر بن مزاحم ص248 مصر ، وذكر السيد محمد بن عقيل في « النصائح الكافية » ص35 بمبئي أن ابن عدي أخرجه عن أبي سعيد والعقيلي عن الحسن ، وروي عن الصادق عن أبيه عن جابر.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 50

فقال : « إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل إلى نقض بيعتنا. »
وهناك دقيقة أخرى كانت ملحوظة للإمام الشهيد أفرغها بهذه الكلمة الموجزة وهي أن الانسان اذا عاهد آخر لا يجوز له نقض عهده ولو كان مشركا ولذا وردت الأخبار وفقا للآية الكريمة : « وان أحد المشركين استجارك فأجره » فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ : « المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم ولو كان عبدا أو إمرأة » وفسره الصادق ـ عليه السلام ـ بأن جيش المسلمين اذا حاصر المشركين فأشرف رجل منهم وقال اعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به.
وحينئذ يقول أبو عبدالله : ان هذه المسألة التي أعطيناها معاوية على ما فيها من ظلم وغشم بعد أن صدرت منا لا يصح نقضها ، إذا فكيف بالبيعة الصادرة لامام الحق المنصوب من قبل الله سبحانه فانها أولى وأجدر بالإلزام وعدم النقض ، وان لا تتباطأ الأمة عن القيام بها ، وهذا من سيد الشهداء درس راقي وفقه شامل لو كانت هناك آذان صاغية ، وقلوب واعية ونفوس زاكية.
ومن هذا الباب ما جرى للحسين مع علي بن بشير الهمداني وسفيان بن أبي ليلى الهمداني النهدي ، والمسيب بن نجبة ، وعبد الله بن الوراك وسراح بن مالك الخثعمي ، فإنهم دخلوا عليه ، وخبروه بما رد به عليهم أبو محمد ـ عليه السلام ـ واستنهضوا الحسين لمقارعة ابن هند.
فقال لهم الحسين :
« صدق أبو محمد ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته مادام هذا الإنسان حيا ». (5)
فأبو عبدالله أرجأ هذه النهضة لسد باب المنكر إلى الوقت المعلوم لديهم من جدهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وقد قام بها سيد شباب أهل الجنة يوم جاء ذلك الوقت فدوّى العالم بصرخته الأحمدية ، وعرّفت الأجيال المتعاقبة مخازي ابن هند ، ويزيد ، ومن لاث بهم من جراثيم الفتن ، فتوقدت العزائم واحتدمت النفوس من أناس حتى أجهزت على حياتهم ، ودمرت ملكهم وعرفت الأمة مبلغ أولئك المتسنّمين منبر النبوة من الشقاء ، ومبلغ من ناوأهم من أهل البيت من الحق والسعادة.
وغير خاف أن هذا التذمر من رجالات الشيعة ، ومجابهتهم الإمام الزكي بتلك

(5) الأخبار الطوال ص222.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 51

الكلمات المقذعة لايحط من مقدار اعتقادهم بإمامته ، وإنما صدر منهم ذلك لأن علائقهم الدينية ، والودية كانت مقصورة على جمال الحق القائم بمجالي الكتاب ، والسنة الوضيئة ، ومحيا حجة الزمن الأبهج ، وحيت أحسوا بما يرام بالدين من الصدع ، وبإمام الوقت من الإضطهاد ، وبالمؤمنين من استئصال الشأفة ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وأظلمت الدنيا في أعينهم ، ولم يكن يحوون من سعة العلم بالحقائق والعواقب ما يخفف تلك الوطأة ، ويخمد فورة أنفسهم الملتهبة من تحكم الضلال بالأمة ، واسترداد الجاهلية الأولى ، فهنالك انتأت المشاعر عن النفوس ، فواجهوا الامام بما عرفت ولهجوا بما لهجوا به وهم غير خارجين عن طاعة ،ولا متضعضعين في عقيدة.
ولا ريب أن مقادير الرجال متباينة وقابليتهم لتحمل الأسرار متفوتة ولم تكن أسرار الأئمة يتحملها كل أحد ، ولذا كان سيد الشهداء يفيض من علمه المخزون على كل من طلب منه التريّث عن السفر الى العراق بما يسعه ظرفه وتتحمله قابليته ، ولم تسعه المصارحة بما عنده من العلم بمصير أمره.
وهذا الذي ذكرناه هو الأساس في اجتماع رجالات الشيعة ، وعقد أندية المؤامرة لحل أغلال الإستعباد عن أعناقهم باستدعاء أبي الضيم ـ عليه السلام ـ لعاصمة الخلافة العلوية لقمع أشواك الظلم المتكدسة في طريق الشريعة ، وقمع جراثيم الفساد الوبيئة ليتم الفتح المبين ، ويستضيء العالم بألق المبادئ الصحيحة والأنظمة الربوبية التي لاقى المشرع الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ المتاعب في نشرها.
وان الوقت الذي أرجأ أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ النهضة فيه حيث كان يقول لأولئك الخلّص من الشيعة : « ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته مادام هذا الانسان حيا » يعني معاوية ، هو يوم نهضته بمشهد الطف.
فكان اجتماع الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي لأنه وجه وجوههم جليل في قومه لا يفتات رأيه ومساعيه في أيام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ الثلاثة مشكورة ، فذكروا هلاك معاوية وما لاقته الشيعة في أيامه وأشد منها عهده « ليزيد » الذي وصفه زياد بن أبيه لعبيد بن كعب النمري : بأنه صاحب رسله وتهاون بالدين ، وقد أولع بالصيد ، وأن أمر الإسلام وضمانه عظيم ، فلا يصلح يزيد للخلافة ثم قال له : ألق معاوية وأد هذا عني وخبره بفعلات يزيد وتهاونه بالدين (6).

(6) تاريخ الطبري ج6 ص169 وكان ذلك على اثر كتاب معاوية لزياد يطلب منه أخذ البيعة لولده =
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 52

وقد اعترف بذلك ابن مرجانة حين كتب إليه يزيد أن يسير لحرب ابن الزبير فقال لمن حضر عنده : لا والله لا أجمعها للفساق الفاجر أقتل ابن بنت رسول الله وأهدم الكعبة (7).
ووصف السبط الشهيد حال زيد في كتابه لمعاوية وفيما قال له :
« لقد دل يزيد من نفسه علىموقع رايه فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب ، والحمام السبق ، والقيان ذوات المعازف ، وضرب الملاهي تجده ناصرا ، ودع ما تحاول فما أغناك أن تلقى الله تعالى بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدم باطلا في جور وحنقا في ظلم حتى ملأت الأسقية وما بينك وبين الموت إلا غمضة فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص (8) ».
وبهذا البيان تلطف سيد الشهداء بالنصح الشافي لدحض الضلال لكنه لم يجد أذنا صاغية ، ولا قلبا واعيا، فأخذت بوارق الإرهاب وبواعث الطمع من معاوية يسدّان طريق الحق.
فلما هلك معاوية استنشق الكوفيون روح الأمن وأبصروا بصيصا من نور الإمامة فعزموا على أن يكتبوا الى الحسين ـ عليه السلام ـ بالمصير الى عاصمة أبيه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ليفتح لهم باب السجن المظلم.
فقام سليمان بن صُرد الخُزاعي خطيبا حمد الله وأثنى عليه ثم قال :
« أن معاوية قد هلك ، وإن حسينا قد تقبض علىالقوم ببيعته وقد خرج الىمكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه ، وان خفتم الوهن والفشل فلا تغروا الرجل في نفسه ».
فقالوا بأجمعهم : إنا نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه.
=
يزيد من الكوفيين.
(7) تاريخ الطبري ج7 ص6.
(8) الإمامة والسياسة ج1 ص154.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 53

كتبهم للحسين عليه السلام :

ثم كتبوا إلى الحسين ـ عليه السلام ـ :

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن علي ـ عليه السلام ـ من سليمان بن صُرَد ، والمسيب بن نَجَبة ورَفاعة بن شداد البجلي ، وحبيب بن مظاهر ، وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة : سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فالحمد لله الذي قصم ظهر عدوك الجبار العنيد الذي انتز على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها ، وتأمر عليها بغير رضي منها ، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود إنا ليس لنا إمام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق.
والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولانخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت أخرجناه حتى نلحقه بالشام إنشاء الله.
ثم سرحوا الكتاب مع عبدالله بن مِسمَع الهمداني وعبدالله بن وأل وأمروهما بالنجاء فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين بمكة لعشر مضين من شهر رمضان .
وبعد يومين كتبوا له مائة وخمسين كتابا من الرجل والإثنين والثلاثة والأربعة وسرحوا ذلك مع قيس بن مسهر الصيداوي وعبدالرحمن بن عبد الله بن شداد الأزدي وعمارة بن عبدالله السلولي.
وبعد يومين آخرين كتبوا اليه مع هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبدالله

الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 54

الحنفي ، ونصه :

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن عليّ من شيعته من المؤمنين والمسلمين : أما بعد فحيّهلا فإن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل ثم العجل العجل ، والسلام.
ثم كتب شَبَث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رُوَيم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي : أما بعد فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار فاذا شئت فاقدم على جند لك مجندة ، والسلام (1).
وأخذت الرسل من أهل الكوفة تتوارد عليه بكتبهم حتى اجتمع عنده في يوم واحد ستمائة كتاب واجتمع من نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب (2) والحسين ـ عليه السلام ـ متريّث عن الجواب حتى اذا تابع هتافهم بكتبهم التي ملأت خرجين (3) لم يسعه السكوت فكتب إليهم أجمع صورة واحدة :

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي الى الملأ من المؤمنين والمسلمين : أما بعد فإن هانيا وسعيدا قدما علي بكتبكم وكانا آخر من قدم علي من رسلكم وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم ، وكانت مقالة جلّكم أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والهدى.
وأنا باعث اليكم بأخي ، وابن عمي ، وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فإن كتب إليّ إنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم عليكم وشيكا إنشاء الله ، فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات الله تعالى ، والسلام (4).
لم يخف على الإمام الشهيد نيات القوم ، ولا ما يقع منهم من التخاذل والتباعد

(1) هذه الكتب ذكرها الشيخ المفيد في الإرشاد.
(2) اللهوف للسيد ابن طاووس ص19 صيدا.
(3) الأخبار الطوال ص231.
(4) نص على هذا الكتاب الشيخ المفيد في الإرشاد ، والفتال في روضة الواعظين ص149 ، والطبري في التاريخ ج6 ص197 ، وابن الأثير في الكامل ج4 ص8.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 55

عن نصرة الحق حينما تستعر الحرب ، ويتجمع الدهر للوثوب على فئة المجد ، وعصبة الخطر من الهاشميين ، والصفوة من أصحابهم ، وكيف يخفى عليه غدرهم وعدم وفائهم بالوعد وهو يشاهد كل ذلك بواسع علم الإمامة ، والتجارب الصحيحة مما جرى منهم مع الوصي ، وأخيه المجتبى ـ صلوات الله عليهم ـ والأخبار النبوية والعلوية بما يقع من الملحمة الكبرى التي أتت على النفوس الطاهرة وأعقبت الفتح المبين بنهضة رجالات الدين في وجه المنكر والضلال حتى دمّرت مُلك الأمويين واستأصلت شأفتهم من جديد الأرض فأصبحوا عبرة لمن يتجبّر في هذه الدنيا الزائلة.
فكان أبي الضيم ـ عليه السلام ـ على علم ويقين ممايجري منهم معه لكنه أراد إتمام الحجة على أولئك الغدرة فأجاب سؤلهم ولبّى طلبتهم بعد التوكيد عليهم بكثرة الكتب والرسل منهم كي لا تكون الحجة لضعفاء العباد على إمام منصوب من قبل الله سبحانه لارشاد الخلق وايقاظهم من رقدة الجهل المردي.

الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 56




الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 57

ولاية مسلم عليه السلام

غير خاف أن تمثيل نفسية الإنسان الكامل بأوضح مجاليها إنما هو ببث أفكاره الناضجة والإشادة بنواياه الحسنة ، وهي الغاية الفذة من ارسال الرسول سواء في ذلك أن يكون القصد به نشر أخلاق مرضية تتهذب بها النفوس ، أو تعليم علوم ناجعة تتكهرب بها العقول ، أو إقامة عدل ترتاح به الأمم أو الدعوة إلى دين تعتنقه الأقوام ، أو توطيد سياسة تهش غليها الأمة فلا ندحة للمرسل إلا أن يبعث لأي من هذه الغايات الكريمة من هو المثل الأعلى فيها من بين لفيفه وحاشيته فيكون نبوع الرسول مجلبة لرغبات الأمة الموصلة الى مرضات ذلك المصلح ووقوفه على غايته من الإرسال.
ويجب حينئذ أن يكون ذلك الرسول حكيما في عمله بليغا في منطقه ليضع الأشياء في مواضعها ، ويكون قوله على وفق رأيه السديد ولا تفوته مقتضيات الأحوال فيكون أدعى لنشور الدعوة وأنم عن عبقرية المرسل.

إذا كنت في حاجة مرسلا فأرسل حكيما ولا توصه

وإنا لنكتفي عن استعراض الشروط الواجبة في السفير والكلمات التي تنم عما يراد منه بذكر ما اتفق عليه أرباب الحديث والتفسير فيمن أرسل مبلغا لأوائل « برائة » فإن التأمل في هذه الحادثة توقف النبيل على ما يراد من السفير وتلم بالشرائط كلها.
والقصة في ذلك أن جبرئيل هبط على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في أول ذي الحجة سنة تسع من الهجرة (1) بالآيات من أول برائة ليقرأها على قريش في الموسم فأرسل

(1) مصباح الكفعمي ص272 بمبئي ، والإقبال لابن طاووس ص533 إيران.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 58

رسول الله أبابكر بها ليقرأها في منى على قريش ، فلما كان على مراحل من المدينة هبط جبرئيل يأمر النبي أن لا يؤديها إلا هو أو رجل منه (2) ولما رجع أبوبكر يبكي قال له ـ صلى الله عليه وآله ـ : « لا عليك وكيف تؤديها وأنت صاحبي في الغار » (3)».
ما أبلغ هذا التركيب وما أبدع هذا الحوار ، وأن لهذه الكناية قيمة راقية في سوق البلاغة فلقد أشار رسول الله بكلمته الذهبية الى معرفته بضعفه يوم كان معه في الغار ، وأنه لا طاقة له على ملاقاة المشركين من طواغيت قريش فكيف يكون حينئذ مبلغا عنه ومحذرا أولئك الطعاة وقد يجره الخوف والضعف الى الوهن في قدس الرسول الأمين.
واعتذار الخطيب الشربيني في « السراج المنير » في تفسير الآية بحمل فعل النبي على مقتضى قواعد العرب من أن الرئيس اذا أراد أن يحكم عهدا بينه وبين أحد فأما أن يحضر بنفسه ، وأما أن يبعث أحد أقاربه ، متفكك البرهان باطل القياس فإن تلك القاعدة التي تخيلها لو كانت معروفة لما تخطاها النبي الأعظم في أول الأمر ، ولما خاف أبو بكر من نزول شيء في حقه حتى بكى لذلك بل كان يعتقد أن الأمر جرى على أساس معروف بين العرب وأجدر بنبي العظمة أن لا يعدوه.
ولكن المتأمل في الحديث الحامل لهذه الحادثة يعرف منه بجبلاء منزلة كبرى لعلي أمير المؤمنين وامتيازه على غيره من المهاجرين والأنصار حتى أقرباء النبي وخاصته الذين هم بحضرته وليست تلكالمنزلة إلا النيابة العامة والمرجعية لما تحتاج إليه الأمة ، وقد أشار إلى هذا التنزيل بقول جبرئيل للنبي « أو رجل منك » فإن تلك الذات المكونة من جوهر القداسة والممتزجة بالعلم الإلهي أليق في تمثيل مقام النبوة فيما يرد عليها من المسائل التي لا يعرفها إلا من استمد من اللوح المحفوظ ، وأما غيره فحيث لم ينتهل قطرة من ذلك البحر المتموج بالحكم والأسرار فالخطأ والزلة اليه أقرب من حبل

(2) حديث عزل أبي بكر وإرسال أمير المؤمنين مكانه في تفسير الطبري ، والدر المنثور للسيوطي ج3 ص209 ، والكشاف ج2 ص138 ، ومسند أحمد ج1 ص3 وص151 وج3 ص283 ، ومستدرك الحاكم ج2 ص331 ولم يتعقبه الذهبي في التلخيص ، وكنز العمال ج1 ص247 ، وخصائص النسائي ص20 ، والرياض النظرة ج2 ص173 ، وتاريخ الطبري ج3 ص154 ، وكامل ابن الأثير ج2 ص111 ، وتاريخ الخميس ج2 ص156 ، والروض الآنف ج2 ص328.
(3) الإقبال لابن طاووس ص534 وص536.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 59

الوريد حينما تعرض عليه الأسئلة وتلقى أمامه الشبهات فعندها يعود الفشل على ذلك النبي المعصوم من كل عيب ونقصان لكون الرسول دليل عقل المرسل.
نعم للخطيب أن يقول : إن كان الحال على ما وصف فلماذا لم يبعث النبي عليا من أول الأمر ؟ فيقال له : إن النبي لاحظ في ذلك نكتة مهمة وهي تعريف الناس بأن الباعث له على إرسال أمير المؤمنين الوحي الإلهي الذي لابد من إنفاذه ولو تقدم إلى علي ـ عليه السلام ـ في أول الأمر وأمره بالمسير بالآيات لكثرت القالة ممن خالطهم الريب والشك بأن القرب والرحم حرّكاه على تقديمه وتمييزه على غيره والنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أجل من أن يعمل عملا يكون لضعفاء قومه الحجة عليه.
إذا وضح هذا فهلم معي إلى من كان مرسلا الى حاضرة كبرى « الكوفة » ليهتف بالغايات جمعاء المطلوبة من الإمام المعصومين ، وكان مبعوثا من إمام عدل وهدى وموئل حكمة وحجى ، معصوم من الخطأ مفطوم من الزلل « كمسلم بن عقيل » الذي حظي بالنيابة الخاصة من إمام وقته سبط نبي الهدى لينشر في الملأ العراقي مبادئ الدين القويم ويوقفهم على أمره الحكيم ، ويقيم الحلال والحرام ويزيح الشبه والأوهام ، ويدعو الى سبيل ربه بالحكمة والموعظمة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن ، كل ذلك بعد أن يدير فيهم الشؤون الإدارية والعسكرية لتوطيد السلام وكلاءة الأمن العام.
واذا كان اللازم على الإمام أن يلحظ هذه المهمات كان الواجب أن ينتخب لها كفؤا يرتصيه من وجهة العلم والدين ومن وجهة التقوى والورع ومن وجهة الفكرة والنظر ومن وجهة السياسة والكياسة.
واذا كان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يرفق من يرسله الى جهة من الجهات بكتاب يلم بتفاصيل الأحكام الدينية والمدنية فيقول في كتابه لعمرو بن حزم الأنصاري لما ولاه اليمن :

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا بيان من الله ورسوله «يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود » عقد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يأمره بتقوى الله في أمره كله « ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » وآمره أن يأخذ بالحق كما أمر به الله وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به ، ويعلم الناس القرآن ويفقّههم في الدين ، وينهى الناس فلا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر ، ويخبر الناس بالذي لهم وبالذي عليهم ، ويلين للناس

السابق السابق الفهرس التالي التالي