الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 127

خديه وجبينه على لحيته ، وتناول هاني سيف شرطيّ ، ومانعه الرجل فأمر به ابن زياد إلى الحبس ، فأدخل بعض بيوت القصر وجعل عليه حرسيّ.
فقال أسماء بن خارجة : أرسل غدر سائر اليوم أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى اذا أدخلناه عليك هشمت وجهه وأسلت دمه ؟ فأمر به ابن زياد أن يخرج من المجلس فأخرجه الشرطة ، ولما رأى ابن الأشعث ذلك قال : ان الأمير مؤدب رضينا برأيه لنا أم علينا.
وبلغ عمرو بن الحجّاج قتل هاني الذي هو صهره على أخته « روعة » وهي أم « يحيى بن هاني » فأقبل في مذحج وأحاط بالقصر فأمر ابن زياد شريح القاضي أن يدخل على هاني ويخبرهم بحياته (7).
ولما سمع هاني لغط الرجال حول القصر وعرف أنهم مذحج صاح : يا للرجال ، أين عشيرتي ، أين أهل الدين ، أين أهل المصر ، ألا عشرة من قومي ينقذوني من عدوهم وابن عدوهم ؟
ومن يسمع صوته وأين من يبلغهم نداءه ، والخوف على رؤوسهم والطمع مخيّم على نفوسهم ؟
نعم دخل قاضي المسلمين « شريح » على هاني ممتثلا أمر ابن زياد وخرج الى القوم يخبرهم بأنه حي ، فهلا مسائل لهذا القاضي المائل عن الحق كيف ساغ له إخفاء استغاثة هاني بقومه وعشيرته ؟ وطمن القوم بحياته وسكن فورتهم حتى أزالهم عن القصر ، تهاونه ؟ أبالخوف من بادرة ابن مرجانة ؟ فهلا ضحى نفسه على تقديره دون مناصرة الحق وأهله وانقاذ المؤمن الاسير من أنياب الطاغية ؟ ولماذا كان يدّخر الحياة الذميمة وقد بلغ من الكبر عتيا ؟ ومن ذا الذي أخبره أنه لو أصدق القوم في المقال ، وزحفوا على القصر ، وأخرجوا زعيمهم وانتكث الأمر على ابن زياد كان يتمكن الدعيّ من التنكيل به ؟ لكنه يتحرّى الحياة مع الظالمين !
ثم ألا مُسائل مذحجا لماذا تجمهروا على القصر ، ولماذا تفرقوا لمحض القول بأنه حي ، فتكون تلك الجلبة واللغط للوقوف على حياته أو مماته بحيث اذا وجدوه ميّتا شيّعوا جنازته ، وان كان حيا تركوه عرضة للذئاب وليست لهم حاجة في انقاذه. إذا فعلى

(7) الطبري ج6 ص206 ، ولكن في مثير الأحزان واللهوف لابن طاووس اسمها رويحة ، وأنها ابنة عمرو بن الحجاج.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 128

الحفاظ والشهامة السلام.

راية الأمان :

لما رجع ابن الحجاج بمن معه من مذحج ، خرج ابن زياد الى الجامع الأعظم وخطب الناس وقال : اعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ولا تختلفوا ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا ، ان أخاك من صدّقك وقد أعذر من أنذر. (8)
وأمر محمد بن الأشعث ، وشبث بن ربعي ، والقعقاع بن شَور الذهلي ، وحجار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وعمرو بن جريث ، أن يرفعوا راية الأمان ويخذلوا الناس (9) فأجاب جماعة ممن خيّم الفرق عليهم ، وآخرين جرّهم الطمع الموهوم ، واختفى غيرهم ممن طهرت ضمائرهم وكانوا يترقّبون فتح الأبواب للحملة على صولة الباطل.

(8) الطبري ج6 ص207.
(9) ابن الأثير ج4 ص12.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 129

نهضة مسلم عليه السلام

كان لنهضة مسلم موعد مضروب بينه وبين الناس ، ولم يزل هو ومن بايعه يتأهبون لذلك الأجل من تعبئة الرجال ، وتهيئة العتاد ، ورسم خطط الحرب الأخذ بالتدابير اللازمة ، غير أن الأمر باغته بالقبض على هاني وهو آخذ بعضده ، وموئل رأيه ، وفي داره قاعدة ولايته ، ومركز سلطته ، فاضطرّت الحالة « مسلما » أن يتعجّل الخروج قبل الأجل مخافة أن يؤخذ غيلة ولعله ينقذ صاحبه من مخلب الظالم وقد أسلمته عشيرته.
وكان رسوله الى القصر عبدالله بن حازم الكبريّ من الأزد من بني كبير (1) ليأتيه بخبرهاني ، فعرّفه حبسه وأن نسوة مراد مجتمعات ينادين واثكلاه واعثرتاه فعندها أمره أن ينادي في أصحابه : « يا منصور أمت » (2) وقد ملأبهم الدور حوله ، وتنادى أهل الكوفة بذلك الشعار فاجتمع اليه أربعة آلاف فعقد راية لعبيدالله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة وأمّره على الخيل ، وراية لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج واسد وأمّره على الرّجالة ، وراية لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان ، وراية للعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة.
ثم أقبل مسلم ـ عليه السلام ـ بهؤلاء الجمع الى القصر وكان ابن زياد في الجامع الأعظم يخطب الناس فدخلت النظارة المسجد من باب التمارين يهتفون بمجيء ابن عقيل فراع ذلك ابن زياد ، وأسرع الى القصر وأغلق أبوابه .

(1) الطبري ج6 ص208.
(2) منصور رئيس الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي يوم بدر وكان شعار المسلمين يا منصور أمت.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 130

واجتمع الناس حتى امتلأ المسجد والسوق منهم وأحاطوا بالقصر وضاق بابن زياد ذرعه إذ لم يكن معه إلا ثلاثون رجلا من الشرطة وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه (3).
فكان أسهل شيء على اولئك الدارعين الا جهاز على ابن مرجانة ومن معه لأول وهلة في طليعة الزحف وفي القوم مساعير للحرب ، ولعل منهم من لا يروعه التقحّم على أولئك النفر المعدودين بالأنامل ولم يكن لابن زياد في ذلك الوقت غير قعقعة الارهاب ، وما أدري كيف انطلت هذه البهرجة على ذوي البصائر بشؤون المصر الواقفين على ما في أرجائه من قلاقل وفي أجوائه من محن وإحن ؟
ولكن لا عجب من أذناب الكوفيين إذا مالوا مع عصبة الشيطان بمجرد أن سمعوا ابن لأشعث وحجار بن أبجر وشمر بن ذى الجوشن يمنّونهم العطاء مع الطاعة ويهدّدونهم بجند الشام الموهوم ، وأشرف عليهم كثير بن شهاب حين كادت الشمس أن تغرب وقال : أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر ، ولاتعرضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود أميرالمؤمنين يزيد قد أقبلت وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن أتممتم على حربكم ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيّتكم العطاء ويفوّق مقاتلتكم في مغازي الشام على غير طمع ، وأن يأخذ البري بالسقيم والغائب بالشاهد حتى لا يبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلا ذاق وبال ما جرّت يده (4).
فتفرق أولئك الجمع عن مسلم ـ عليه السلام ـ حتى لم يبق معه إلا ثلثمائة رجل وصلى العشاء بالمسجد ومعه ثلاثون رجلا وانصرف نجو كندة (5) ومعه ثلاثة ولم يمض إلا قليلا وإذا لم يشاخد أحدا يدلّه على الطريق فنزل عن فرسه ومشى متلدّدا في أزقة الكوفة (6) لا يدري إلى أين يتوجّه (7).

(3) ابن الاثير ج4 ص12.
(4) الطبري ج6 ص208.
(5) الأخبار الطوال ص240.
(6) الشريشيّ في شرح مقامات الحريريّ ج1 ص192.
(7) اللّهوف لابن طاووس.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 131

إن من العجيب الغريب أمير مصر يتفرق عنه جنده ، ووالي قارّة أسلمته أنصاره ، لماذا كان ذلك ؟ للاوهام والتهافهات ، أو للمطامع الشهوات ؟ أين النخوة والحفاط ؟ أين الاباء والحمية ؟ أيظنون أنهم لو انضووا الى راية الهدى يحرمهم صاحبه الاعطاء ؟ أو يضن عليهم بالوظائف ؟ أو يقيم الحق بغيرهم ؟ لا ها الله ما كان يدّخر الاعطيات إلا لهم ، ولا ينضد الكراسي بمن عداهم ، ولا قيادة الجيوش إلا بهم ، ولو عدلوا لما استلم الحكم سواهم.
لكن خسّة الطباع ولؤم العنصر حالا دون أن يحضوا بالشرف وضاح والسعادة في الدنيا والآخرة فاستمرأوا أجاج الأمويين تحت راية ابن مرجانة ، وتركوا التاريخ يذكرهم منافيات المروءة والحفاظ ولوازم قول الزور وخفر الذمم « ولعذاب الله أكبر لو كانوا يعلمون » .

خطبة ابن زياد :

لما تفرق الناس عن مسلم ـ عليه السلام ـ وسكن لغطهم ولم يسمع ابن زياد أصوات الرجال أمر من معه في القصر أن يشرفوا على ظلال المسجد لينظروا هل كمنوا فيها . فكانوا يدلون القناديل ويشعلون النار في القصب ويدلونها بالحبال الى أن تصل الى صحن الجامع ، وفعلوا ذلك بالظلة التي فيها المنبر فلم يروا لأصحاب ابن عقيل أثرا ، فأعلموا ابن مرجانة فأمر مناديه أن ينادي في الناس ليجتمعوا في المسجد ، ولما امتلأ المسجد بهم رقي المنبر وقال : ان ابن عقيل قد أتى ما قد علمتم من الخلاف والشقاق فبرئت الذمة من رجل وجدناه في داره ، ومن جاء به فله ديته ، اتقو االله عباد الله والزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.

الى السجن :

ثم أمر ابن زياد صاحب شرطته الحصين بن تميم أن يفتّش الدور والسكك ، وحذّره بالفتك الذريع اذا أفلت مسلم وخرج من الكوفة (8).
فقام الحصين بهذه المهمة فبثّ العيون ووضع الحرس على أفواه السكك ، وتتبّع الأشراف الناهظين مع مسلم فقبض على عبد الأعلى بن يزيد الكلبي وعمارة بن

(8) الطبري ج6 ص209.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 132

صلخب الأزدي فحبسهما ثم قتلهما.
وحبس جماعة من الوجوه استيحاشا منهم وكان فيهم المختار الثقفي وعبدالله بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب (9) وقد خرجا لنصرة ابن عقيل ، وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تدعى « لقفا » فجاء بمواليه يحمل راية خضراء ، ويحمل عبدالله بن الحارث راية حمراء وانتهيا الى باب الفيل (10) ووضح لهما قتل مسلم وهاني ، واشير عليهما بالدخول تحت راية عمرو بن حريث ففعلا وشعد لهما ابن حريث باجتنابهما مسلما ـ عليه السلام ـ . فأمر ابن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه وبقيا في السجن الى أن قتل الحسين ـ عليه السلام ـ.
ولما أحضر سبي آل محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ في مجلسه أخرج المختار من الحبس شامتا منه ، وفرحا بما يحبسه من الظفر ، وإذ رأى المختار هيئة منكرة زفر زفرة كادت روحه أن تخرج فيها ، ولم يثن هذا من عزمه ولا أوهن من عقيدته ، فأغلظ لابن زياد في كلام جرى بينهما (11) وعرّفه بالعقيدة التي يحملها من مصدر وثيق بأن ايامه عدد ومُلكه بدد وسيلقى خزيا وبوارا يكون ذلك على يده.
فاضحك ابن زياد هذا النبأ من أسير تحت قبضته ، وليس له مساعد له يحذر سطوته خصوصا يرى أعناق الأشراف ذللا نحوه وقد ملأ السجن بمن يتحفّز لنخوته ، فأرجعه الى السجن ولم يطلق سراحه إلا بشفاعة عبدالله بن عمر بن الخطاب عند يزيد لاقترانه من « صفية » ابنة أبي عبيد الثقفي أخت المختار.
ولما خطب ابن زياد بعد قتل ابن عفيف الأزدي ونال من أمير المؤمنين بحضرة اولئك الأجلاف من الكوفيين ، ولم يلق منهم رادا عليه غير المختار ، فقد ثار في وجهه شاتما ومعرّفا بأن اللصيق لم يستحق من الإمارة موطأ قدم وان أهلها العاملون بالحق السالكون بالأمة طريق الجد المهذّبون المرشدون كابن عقيل ومن حذا حذوه من أهل هذا البيت الطاهر.
فأمر ابن مرجانة بقتله غير أن عمر بن سعد تشفّع فيه لأنه كان صهره على أخته ، أولدت له حفصا ، فأرجعه الى السجن ثم تشفع فيه ثانيا عبدالله بن عمر عند

(9) المصدر ، ص208 وص214 وص215.
(10) أنساب الأشراف للبلاذري ج5 ص215.
(11) رياض الأحزان ص52 عن روضة الشهداء.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 133

يزيد فكتب الى ابن زياد يأمره باطلاقه فأخرجه من السجن على أن لا يساكنه في البلد (12).

(12) المصدر ص58 عن روضة الصفا.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 134




الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 135

في بيت طوعة

لقد كان في الكوفة ممن تحلى بسمات الرجال المهذبين الذين لم تلم بساحتهم أي لائمة ولا توجهت اليهم مغبّة ، وأنه ذلك الانسان الواحد الحاوي للشرف المعلى والذكر الخالد والثناء الجميل ، وحضى بالرضوان مع حبيب الله وخاتم رسله ، ألا وهي « طوعة ».
ولو كنا النساء كمـن ذكرنـا لفضّلت النساء علـى الرجال
فلا التأنيث باسم الشمس عيب ولا التذكيــر فخـر للهلال

أصحيح أن امرأة تفوق الرجال في الفضائل والفواضل ؟ نعم أن ذلك لما أجنته في أضالعها من طهارة النفس ، وشرف المنبت والولاء الصحيح لأهل هذا البيت ، فقامت بما يرضى الله ، ورسوله ويحبذه الشرف والإنسانية ، ويدعو إليه الخطر ، والناس يتمايزون بالنفسيات الكريمة والغرائز الطيبة والعمل الصالح.
وماذا على « طوعة » وقد طاوعتها نفسها على متابعة العقل واقتصاص أثر الدين وأداء أجر الرسالة بايواء ابن عم سيد الشهداء وممثله الفذ ، فتحلّت بما فتحلّت بما تخلّى عنه ذووالهمم القاصرة والنفوس الضعيفة والحلوم الضئيلة ، فشع نورها بين هاتيك الظلم المدلهم كما شاع ذكرها في الجوامع والزبر ، وفي ثنايا الحقب والأجيال المتتالية فهي حية بعمرها الثاني حتى يسكنها الله تعالى الخلد محبورة في جوار المصطفى ووصيه المرتضى.
قال المؤرخون : لما بقى مسلم وحده يتلذذ في أزقة الكوفة لا يدري إلى أين يتوجه انتهى به السير الى باب امرأة يقال لها طوعة ، أم ولد كان للأشعث بن قيس أعتقها

الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 136

وتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا كان مع الناس ، وكان هذه المرأة على الباب تنتظره فلما رآه مسلم ـ عليه السلام ـ استقاها فسقته فجلس على الباب لا تطاوعه نفسه أن يبتدئها بطلب الإذن في الدخول للدار ، ولا يعرف موضعا يؤيه من عادية الطاغي ، ولا من يأخذ الى الخلص من صحبه والشوارع فيها الحرص ، وقد فرّق الخوف جل الناهضين معه.
فالتفتت اليه قائلة : ألم تشرب ؟ فأجابها بصوت منكسر وزفرات متصاعدة : نعم قد شربت ، قالت : إذا لماذا تذهب إلى أهلك ؟ فسكت عنها إذ لم يكن له أهل ولا يعرف من يؤيه ، ولكنها لم تقتنع بذلك لأنها امرأة مصونة متأنف من وقوف الأجنبي على بيتها فقالت له : إني لا أحل لك الجلوس هنا ولا يصلح لك.
فعندها رق وتلاين وقال : يا أمة الله مالي في هذا المصر منزل ، ولا عشيرة فهل لك الى أجر ومعروف ولعلي مكافئك به بعد هذا اليوم.
فاستفزّنها هذه الكلمة الغالية لأن الأجر من أعمال الصالحين والمعروف لا يكافي عليه إلا أهله فقالت مستفهمة : وما ذاك ؟ قال : أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم وغرّوني . فلما سمعت باسمه شعرت بزلفى الأبد ، وسعادة لا يتوفّق لها إلا من أودع الله تعالى فيه نور الايمان ، فأعادت عليه السؤال عن اسمه متأكدة في الحصول على الغاية الثمينة وقالت له : أنت مسلم ؟ قال : نعم ، فرحبت به وامتلأ قلبها سرورا بالحضوة بضيافة مثل داعية ابن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وأدخلته بيتاً غير الذي يأوي اليه ابنها وعرضت عليه الطعام فأبى.
ولما وافى ابنها المنزل ورآها تكثر الدخول لذلك البيت استراب منه فاستفهمها عنه فأعرضت وألح عليها ، فلم تخبره إلا بعد أن أخذت عليه العهود أن لا يعلم أحدا بما في البيت ، فبات الغلام فرحا بجائزة ابن زياد (1).

مسلم في اليوم الثاني :

كانت هذه الليلة أطول ليلة مرت على مسلم ـ عليه السلام ـ يرقب آناءها ويعدد دقائقها وثوانيها ، ينظر بعين البصيرة الى زوايا البيت وهو يعلم أنه مأتي لا محالة ولكن كيف يؤتى ومن أين يتوقع الهجوم عليه ، وكيف يدافع ولا يبصر إلا ناحية واحدة

(1) مقاتل الطابيين ص41 إيران.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 137

شد إليها الرحال منذ خرج من المدينة بأمر السبط الشهيد ، ألا وهي إظهار الدعوة إلى حُكم الكتاب المجيد وسنة الرسول وانقاذ الأمة من مخالب الضلال وتعريفها سبيل الرشد من الغي ، ومما رؤياه عمه أميرالمؤمنين في المنام يقول له :
« أنت معي غدا فالعجل العجل (2) » .
فعرفت نفسه المطمئنة الملهمة أن في صباح هذه الليلة اللقاء والفناء الذي فيه البقاء الأبدي ، فلم تبعثه الحالة إلا إلى النشاط والبسالة والوثوق بازوف الموعد .
فلما انفلق عمود الفجر وانفتل من صلاته ودعائه ونوافله تأهب لمجاهدة من مرق عن الدين وأعرض عن وصايا النبي في أهله وذويه وقال لطوعة : « قد اديت ما عليك من البر والإحسان ، وأخذت نصيبك من شفاعة رسول الله » وقص عليها الرؤيا (3).
أما ابن العجوز فذهب الى القصر وأعلم عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث بمكان مسلم ـ عليه السلام ـ في بيتهم ، فأخبر عبدالرحمن أباه ، ووضح الأمر لابن زياد ، فدعا الغلام وطوقه بطوق من ذهب (4) وأمر ابن الأشعث أن يذهب اليه في سبعين من قيس ليأتيه به.
فلما سمع مسلم ـ عليه السلام ـ وقع حوافر الخيل ولغط الرجال علم أن هذا طليعة الشر (5) ، فخرج اليهم بجأش طامن ، وجنان راسخ بهضب يهزأ الرواسي وحشو الردى منه فروسية وشجاعة ، وملء اهابه بشر ومسرة فاستقبلهم كمي آل أبي طالب في جحفل مجر من عزمه ، أو حشد لهام من بأسه والقوم سبعون دارعا وهو واحد في ذلك المأزق الحرج من نواحي البيت فلم يفتأوا يرجفوا عليه الدار وهو يكردهم غير مكترث بعددهم ولا بعدّتهم.
الا تعجب من مكثور أطلعت عليه أعداؤه حيث لا متسع فيه لكر أو فر في مضائق الشوارع ومرتبك الأزقة والجراح يؤلمه والعطش يرمضه ، وهناك جلبة الصاخبين وتشجيع المنشطين ، وهلهلة النساء كما يقتضيه طبع الحال عند العرب ، وهم على يقين

(2) نفس المهموم ص56 عن كامل البهائي.
(3) نفس المهموم ص56.
(4) رياض المصائب ص265.
(5) مقاتل الطالبيين ص41.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 138

بالمدد أن أعزوتهم القوة .
وصريحة الهاشميين خالي من ذلك كله ، ولكن سل القوم والموقف كما وصفناه ، هل ألم بابن عقيل خور ، أو داخله فرق ، أو فترت منه عزيمة ، أو تثبّط من إقدام ؟ لا ومن ترك « الجديدين » يرتّلان صحيفته البيضاء على رؤوس الأجيال حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولم يشعروا أهو مسلم ينساب عليهم بصارمه الذكر ، أو عمه أمير المؤمنين يشق الصفوف ويطرد الألوف ، أو أن زورعة الحمام أخذتهم من نواحيهم فقتل من السبعين أربعين وهو يرتجز (6) :

هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع فأنت بكـأس الموت لاشك جــارع
فصبـرا لأمر الله جــل جلالــه فحكم قضــاء الله في الخلـق ذايع

وكان من قوته يأخذ الرجل من محزمه ويرمي به فوق البيت ، (7) والمرأة الطاهرة « طوعة » تحرّضه على القتال (8) فاضطرهم البؤس واليأس من الظفر الى الاستمداد ، فأنفذ ابن الأشعث الى ابن مرجانة يستمدّه الرجال فبعث اليه : إنا أرسلناك الى رجل واحد لتأتينا به فثلم في أصحباك هذه الثلمة فكيف لو أرسلناك الى غيره ؟ (9)
فأرسل إليه ابن الأشعث : « أيها الأمير أتظن أنك أرسلتني الى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو جرمقان من جرامقة الحيرة ؟ وإنما وجّهتني الى سيف من أسياف محمد بن عبدالله » فأمده بخمسمائة فارس (10).
إن ابن مرجانة يعجب من هذه البسالة الطالبية وما لهم من القسط الأوفر منها ، ولا تزال أنباء مواقفهم في الحروب ترنّ في مسامعه كما أن صداها لم ينقطع عن اذن الدهر ومسامع الأجيال والاندية تلهج بحديث النبي :
« لو ولد الناس كلهم أبوطالب لكانا (*) شجعانا » (11)
لكن طيش الملك وغرور الحاكمية أخذا به الى الاستخفاف بسرّي مضر من أنه

(6) مناقب ابن شهر آشوب ج2 ص212.
(7) نفس المهموم ص57.
(8) رياض المصائب ص265.
(9) مقتل محمد بن أبي طالب.
(10) رياض المصائب ص266.
(*) كذا في المتن ولكن الصحيح لكانوا بدل لكانا.
(11) غرر الخصائص للوطواط ص17 في باب حفظ الجوار.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 139

واحد فكيف يثلم ذلك الجمع.
نعم هو واحد بالذات كثير في العزم والبأس.
فتجمهروا عليه من كل الجهات وصرخة آل أبي طالب لا يكترث بجمعهم ولم ترعه كثرتهم ، فأوقع فيهم الموت الزوام ، واختلف هو وبكير بن حمران الأحمري بضربتين ، ضرب بكير فم مسلم ـ عليه السلام فقطع شفته العليا وأسرع السيف الى السفلى ونصلت لها ثنيّتان ، وضربه مسلم على رأسه ضربة منكرة ، واخرى على حبل العاتق كادت أن تطلع الى جوفه (12) فمات منها (13).
وأخذ يقاتلهم وحده في ذلك المجال الضيّق حتى أكثر القتلى والناس من أعلى السطوح يرمونه بالحجارة ، ويقلبون عليه القصب المضرم بالنار (14) وهو يرتجز في حملاته (15) :

أقسمت لا أقتـل إلا حـرا وإن رأيت الموت شيئا نكرا
كل امرئ يوما ملاق شـرا ويخلط البـارد سخنا مـرا
رد شعاع النفس فاستقـرا أخـاف أن أكـذب أو أغرا

ولما أثخنته الجراح وأعياه نزف الدم استند الى جنب تلك الدار فتحاملوا عليه يرمونه بالسهام والحجارة فقال :
« ما لكم ترموني بالحجارة كما ترمى الكفار وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار ألا ترعون حق رسول الله في عترته (16) ».
وحيث أعوزتهم الحيل والدابير الحربية لالقاء القبض عليه أو التوصل الى قتله ، أو تحرّي منجاة من سيفه الرهيف قابلوه بالأمان عساه يكف عن القتال فيتسنى لهم

(12) الطبري ج6 ص210.
(13) مقتل الخوارزمي.
(14) ابن الأثير ج4 ص13.
(15) في اللهوف ص30 صيدا ، الأبيات لحمران بن مالك النخعي قالها يوم القرم ، وعند ابن نما « القرن » ويشهد له ما في المعجم مما استعجم ج3 ص1068 قرن اسم جبل كانت فيه وقعة لغطفان على بني كنانة فهو يوم قرن ، وفي تاج العروس ج9 ص310 يوم أقرن كاملس يوم لغطفان على بني عامر وفي معجم البلدان ج7 ص64 قرن اسم جبل كانت به وقعة لبني قرن على بني عامر بن صعصعة ، وفي نهاية الارب للقلقشنديّ ص321 بنو فرن بطن من مراد وهم بنو قرن ابن رومان بن ناجية بن مراد منهم أو يس القرني الشهور.
(16) مناقب ابن شهر آشوب ج2 ص212.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 140

بعض ما يرومونه ، فقال له ابن الأشعث : أنت آمن ، إلا عبيد الله بن العباس السلمي فغنه تنحى وقال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل (17).
أما ابن عقيل ـ عليه السلام ـ فلم تفته خيانتهم ونقضهم العهود وأنهم لايرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة فلم يعبء بأمانهم فقال : « لا والله لا أؤسر وبي طاقة ، لايكون ذلك أبداء » وحمل على ابن الأشعث فهرب منه ، ثم تكاثروا عليه وقد اشتد به العطش فطعنه رجل من خلفه فسقط الى الأرض وأسر (18).
وقيل : أنهم عملوا حفيرة وستروها بالتراب وانكشفوا بين يديه حتى إذا وقع فيها أسروه (19).
ولما أركبوه البغلة وانتزعوه سيفه دمعت عينه ، فقال له عمرو بن عبيدالله بن العباس السلمي : ان الذي يطلب مثل الذي تطلب اذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ ، فقال ـ عليه السلام ـ :
« ما على نفسي أبكي ولكن أبكي لأهلي المقبلين اليكم ، أبكي للحسين وآل الحسين (20). »
تفيدنا هذه الجملة درسا آخر من نفسية مسلم وقوة ايمانه وثبات جأشه وقداسة نفسه ؛ فان هذا البكاء لم يكن لجروحه الدامية أو عطشه المبرح لما ألم به من الضرب والطعن وهو في الحالة نفسها مكثورة وأنه سوف يؤدّي به الظلوم الغاشم في منتأى عن أهله وولده.
لكن الذي أبكاه أمام ذلك الجمع المحارب أمر ديني وطاعة للمولى نظير الغاية التي أوقفته هذا الموقف وهو ما سيجري على حجة الوقت الواجب على العباد الإنقياد له والخضوع لأمره ، وان سيد شباب أهل الجنة سيرد هذا المورد متى حلّ بين ظهراني أهل الكوفة الطغاة وهو لايريد أن تشوك سيدة شوكة ولا يستهين أن يصيبه أي أذى ، وإنما وقف هذا الموقف للحصول على مرضاة إمامه والدعوة إليه والذّب عنه ، ولم يبرح هذه نواياه حتى نسي نفسه ولم ينس أبي الضيم ـ عليه السلام ـ فطفق يبكي لما يصيبه وهو

(17) ابن الأثير ج4 ص13.
(18) ابن شهر آشوب في المناقب ج2 ص212.
(19) المنتخب للطريحي .
(20) تاريخ الطبري ج6 ص211.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 141

مرتثّ بالجراح وفي آخر رمق من الحياه الله من شهم سيط الإيمان بلحمه ودمه ، وعاد مزيج نفسه الكريمة .
وفي نص سبط ابن الجوزي : أن ابن الأشعث سلب مسلم بن عقيل درعه وسيفه فقال بعض الشعراء يؤنّبه على فعلته هذه وتركه نصرة هاني (21) :

وتركت عمك لم تقاتل دونه فشلا ولـوا أنت كان منيعا
وقتلت وافد آل حزب محمد وسلبت أسيافـا له ودروعا

ولما جيء به الى القصر تساند الى الحائط وقد أخذ الضعف لنزف الدم وشدة الظماء فرأى قلة مبردة فطلب منها ما يبلّ غلّته ، فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم !
فكبرت هذه الكملة على ابن عقيل أن تصدر من رجل يدّعي الإسلام ويتشهّد الشهادتين ثم لا تسمح نفسه يبذل الماء الذي هو مباح لعامة الحيوانات ولا يمنع منه حتى الكافر ، والشريعة تنادي بأعلا صوتها :
« الناس شرع سواء في الماء والنار والكلاء »
ثم أي رجل يحمل أقل شيء من العاطفة يشاهد إنسانا بتلك الحالة المشجية ثم يضن عليه بشربة من ماء ، أنه لخارج عن الحدود البشرية ومستوى الانسانية .
ومن هنا تعجب مسلم ـ عليه السلام ـ واستفهم عن حسبه فقال له : من أنت ؟ قال : أنا ابن من عرف الحق إذ أنكرته ، ونصح لإمامه إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي !
فقال ابن عقيل :
« لامك الثكل ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك وأغلظه أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم. »
وعلى هذا الحوار بعث عمرو بن حريث غلاما له يدعي سليما فأتاه بالماء (22) وفي نص آخر أرسل عمارة بن عقبة بن أبي معيط غلامه قيسا وأتاه بالماء (23) وهل شرب ابن عقيل من الماء فيخفف من الغلوب ويطفئ أوار الظمأ ؟ لا ! فإنه كلما أدنا القدح منه

(21) تذكرة الخواص ص139.
(22) الإرشاد للشيخ المفيد.
(23) الطبري ج6 ص211.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 142

امتلأ دما للضربة التي على شفتيه ، وفي الثالثة امتلأ دما وسقطت في القدح ثناياه فتركه وقال :
« لو كان من الرزق المقسوم لشربته (24) »
وهذ من أشد تمكن القداسة في ذاته الملكوتية التي هي قطعة ذلك الجامع المنبسط على رجالات بيت الوحي ، وهو روح الطهارة والعصمة عن الرذائل . فتلك ذات لم تمازجها دنيّة ولا ألمّت بها ضعة ولا وصمت برذيلة فراق داعية السبط الشهيد ـ عليه السلام ـ أن لا يعلق به شيء لا يتفق مع عنصره الزاكي وذاته المطهرة ولم يقاربه طيلة عمره ، ألا وهو شرب الماء المشوب بالدم وان كان يجوز له ذلك.
لأن الله تعالى اختار لهذه النفوس القدسية المتفانية في نيل مرضاته الداعية الى كلمته وبرهانه حتى قاست ما لا يدركه العقل من كوارث ومحن في سبيل طاعته أشر الموت وهو القتل ممنوعين من الورود لتكون الحجة ألزم على اولئك المتمرّدين على قدس المولى سبحانه الخارجين على حدود سننه وتعاليمه.

(24) المصدر ص212.

السابق السابق الفهرس التالي التالي