السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام150

الإمام تخرج إلى فرق من أهل الشام فيقتتل الفريقان نهاراً كاملاً أو طرفاً منه ، ولم يرغب الإمام أن تقع حرب عامة بين الفريقين رجاء أن يجيب معاوية إلى الصلح .
وخرج الزعيم الكبير مالك الأشتر يتأمّل في رايات أهل الشام فإذا هي رايات المشركين التي خرجت لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله فراح يقول لأصحابه :
أكثر ما معكم رايات كانت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومع معاوية رايات كانت مع المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فما يشكّ في قتال هؤلاء إلاّ ميّت القلب .
وخطب الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فجعل يبيّن للمسلمين واقع معاوية وأنّه جاهلي لا إيمان له ، وأنّه معاد لله ورسوله .
وعلى أي حال فلم تقع حرب عامة بين الفريقين ، وقد سئم الجيش العراقي هذه الحرب وآثر العافية ، كما سئم ذلك جيش أهل الشام .

الحرب العامة :

ولمّا رأى الإمام أنّه لا أمل في الإصلاح وجمع الكلمة عبّأ أصحابه وتهيّأ للحرب العامة ، وفعل معاوية مثل ذلك ، وبدأ الهجوم العام ، وبذلك فقد استعرت نار الحرب واشتدّ أوارها ، وقد خيّم الذعر والفزع على كلا الجيشين ، وقد انكشفت ميمنة الإمام وتضعضع قلب جيشه إلاّ أنصار ربيعة قد ثبتت في الميدان ، وأخذت على عاتقها أن تقوم بحماية الإمام ونصرة الحق .
وقد استشهد في المعركة بطل الإسلام المجاهد العظيم عمّار بن ياسر ، وقد حزن عليه الإمام كأشد ما يكون الحزن ، وكذلك استشهد غيره من أعلام الإسلام وكان لفقدهم أثر كبير في انهيار الجيش العراقي .

هزيمة معاوية :

وبدا الانكسار في جيش ابن هند وكاد أصحابه يبلغون فسطاطه ، وهمّ بالفرار إلاّ أنّه

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام151

تذكر قول ابن الإطنابة :
أبـت لي عفتي وحياء نفسي وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلّما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي

فردّه هذا الشعر إلى الثبات وعدم الهزيمة كما كان يتحدّث بذلك أيام العافية .

مكيدة رفع المصاحف :

ولم تكن مكيدة رفع المصاحف وليدة الساعة ولم تأت عفواً ، وإنّما كانت نتيجة مؤامرة سرّية بين عمرو بن العاص وبعض قادة الجيش العراقي وعلى رأسهم الخائن العميل الأشعث بن قيس .
لقد رفع أهل الشام المصاحف على أطراف الرماح وهم يدعون الجيش العراقي إلى تحكيم كتاب الله ، فاندفعت كتائب من عسكر الإمام وهم يهتفون :
لقد أعطاق معاوية الحق ، دعاك إلى كتاب الله فاقبل منه .
لقد استجاب لهذه الدعوة الكاذبة السذّج والسائمون من الحرب والطامعون في الحكم وعملاء الحكم الاُموي ، وجعل الأشعث بن قيس يشتدّ كالكلب رافعاً صوته ليسمع الجيش :
ما أرى الناس إلاّ قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد .
وأخذ الأشعث يلحّ على الإمام وهو يمتنع من إجابته وكثرة إلحاحه ، وقد استجابت له فرق من الجيش فلم يجد الإمام بُدّاً من إجابته ، فمضى مسرعاً نحو معاوية فقال له :
«لأي شيء رفعتم هذه المصاحف ؟ ..» .

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام152

والأشعث يعلم لِمَ رفعوا المصاحف ولاذوا بها فأجابه معاوية :
لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عز وجل في كتابه ، تبعثون منكم رجلاً ترضون به ونبعث منّا رجلاً ، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثم نتّبع ما اتّفقنا عليه .
وهل ابن هند يؤمن بكتاب الله ويتّبع ما حكم به ؟! أو ليس خروجه على السلطة الشرعية مجافية لتعاليم القرآن .
وعلى أي حال فقد انبرى الخائن الأشعث يصدّق مقالة معاوية قائلاً :
هذا هو الحق .
وانبرى الإمام فزيّف دعوة التحكيم ، وعرّف الجماهير أنّها خدعة ومكيدة ، وأنّ معاوية وحزبه لا يؤمنون بالقرآن ، وأنّهم على ضلالهم القديم ، وأصرّ جيش الإمام علي الاستجابة لدعوة معاوية وهدّدوه بالقتل إن رفض ما أرادوه ، فاستجاب عليه السلام مرغماً مكرهاً على ذلك ، وقد أشرفت بعض قطعات جيشه بقيادة الزعيم الكبير مالك الأشتر على الفتح ، ولم يبق بينها وبين القبض على معاوية إلاّ مقدار حلبة شاة ، فطلب منه الإمام في تلك الساعة الحرجة أن يسحب الجيش ويوقف القتال ، فلم يستجب أوّلاً إلى ذلك ، فأمره الإمام ثانياً بالانسحاب ؛ لأنّ جيشه قد أحاط به وأعلنوا العصيان وهدّدوه بالقتل ، فاستجاب الأشتر وانسحب عن ميدان القتال .
وعلى أي حال فقد أوقف القتال ، وكان ذلك فوزاً ساحقاً لمعاوية ، فقد سلم من الخطر المحدق به ، ومُني جيش الإمام بالتمرّد والعصيان ، وشاعت في جميع قطعاته التفرقة والخلاف .

انتخاب الأشعري :

وأصرّ المتمرّدون على انتخاب الأشعري ليكون ممثلاً للجيش العراقي ، فرفض

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام153

الإمام ذلك ورشّح عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر ، فلم يستجيبوا له وأرغموه ثانياً على انتخابه ، فخلّى بينهم وبين رغباتهم ، وقد ذابت نفسه أسى وحسرات على ذلك ، فقد أيقن بانتهاء حكومته وفوز معاوية بالحكم .
وانتخب الشاميون عمرو بن العاص ممثّلاً لهم ، وهو أدهى سياسي في ذلك العصر ، وبذلك فقد عقدت هدنة مؤقتة راح فيها معاوية يبني جيشه ويصلح شؤونه ، وأمّا جيش الإمام فقد مُني بالتفكّك والانحلال والتخاذل ، وانتشرت في جميع قطعاته الفكرة الهدامة وهي فكرة الخوارج كما سنتحدّث عن ذلك .

اجتماع الحكمين :

وأوفد معاوية إلى الإمام رسله يستنجزه الوفاء بالتحكيم ، وإنّما طلب منه ذلك لعلمه بما اُصيب به جيش الإمام من التخاذل والفتن والانحلال ، وأجابه الإمام إلى ذلك فأوفد أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي وهو من أجلّ أصحاب الإمام ، كما كان معهم عبد الله بن عباس حبر الاُمّة ، ومعهم قاضي التحكيم الخامل الغبي أبو موسى الأشعري ، فأرشاه ابن العاص بالولائم وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم ليجعله طوع إرادته ، وقد اتّفق معه على أن يعزل كلاّ صاحبه ، ويرشّحا عبد الله بن عمر ، وقدّم ابن العاص الأشعري فاعتلى المنبر ، فخلع عليّاً عن منصبه وكذلك خلع معاوية ورشّح ابن عمر ، وقام بعده ابن العاص فأقرّ صاحبه وخلع عليّاً .
ولمّا أعلن ابن العاص خلعه لعليّ وإقامته لمعاوية انطلق صوبه الأشعري فقال له :
ما لك عليك لعنة الله ما أنت إلاّ كمثل الكلب تلهث .
فصاح ابن العاص :
لكنّك مثل الحمار يحمل أسفاراً .
نعم هما كلب وحمار ، وهرب الأشعري إلى مكة يصحب معه الخزي والعار

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام154

بعدما أحدث الفتنة والانشقاق بين جيش الإمام ، وقد أكثر شعراء ذلك العصر في ذمّه يقول فيه أيمن بن خزيم الأسدي :
لو كان للقوم رأي يعصمون بـه من الضلال رموكـم بابـن عباس
لله درّ أبـيـه أيـمـا رجــل ما مثله لفصال الخطـب في الناس
لكن رموكم بشيخ مـن ذوي يمن لم يـدر ما ضرب أخماس بأسداس
إن يخل عمرو به يقذفه في لجج يهـوي بـه النجم تيساً بين أتياس
أبلغ لديك علـياً غيـر عـاتبـه قول امرئ لا يرى بالحق من باس
مـا الأشعري بمأمـون أبا حسن فاعلم هديت وليس العجز كالـراس
فاصدم بصاحبك الأدنى زعيمهم إن ابن عمـك عباس هـو الآسى

لقد امتحن الإمام كأشدّ وأقسى ما يكون الامتحان بهؤلاء الأوغاد الذين وقفوا أمام الإصلاح الاجتماعي ، ومكّنوا الظالمين والمنحرفين من الاستبداد باُمور المسلمين .

فتنة الخوارج :

وتمرّد الخوارج على الإمام وألزموا بأمر التحكيم ، وهم الذين أرغموه على ذلك وهدّدوه بالقتل إن لم يوقف القتال مع معاوية ، وأخذوا يعيثون في الأرض فساداً ، فقد رحلوا عن الكوفة وعسكروا في النهروان ، فاجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن خبّاب بن الأرت فأحاطوا به قائلين :
من أنت ؟
رجل مؤمن .
ما تقول في عليّ بن أبي طالب .
إنّه أمير المؤمنين ، وأوّل المسلمين إيماناً بالله ورسوله .
ما اسمك ؟

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام155

عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله .
أفزعناك ؟
نعم .
لا روع عليك .
حدّثنا عن أبيك بحديث سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله لعلّ الله أن ينفعنا به ؟
نعم ، حدّثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال : «ستكون فتنة بعدي يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه ، يمسي مؤمناً ، ويصبح كافراً» .
فهتفوا جميعاً :
لهذا الحديث سألناك والله لنقتلنّك قتلة ما قتلنا بمثلها أحداً .
وعمدوا مصرّين على الغيّ والعدوان فأوثقوه كتافاً وأقبلوا به وبامرأته ، وكانت حبلى قد أشرفت على الولادة ، فأنزلوهما تحت نخل فسقطت رطبة منها فبادر بعضهم إليها فوضعها في فيه ، فأقبل إليه بعضهم منكراً عليه قائلاً :
بغير حلّ أكلتها .
فألقاها بالوقت من فيه ، واخترط بعضهم سيفه فضرب به خنزيراً لأهل الذمّة فقتله ، فصاح به بعضهم :
إنّ هذا من الفساد في الأرض .
فبادر الرجل إلى الذمّي فأرضاه ، ولمّا نظر عبد الله بن خباب احتياط هؤلاء في هذه الاُمور سكن روعه وقال لهم :
لئن كنتم صادقين فيما أرى ، ما عليَّ منكم بأس ، ووالله ما أحدثت حدثاً في الإسلام ، وإنّي لمؤمن وقد آمنتموني وقلتم لا روع عليك .
فلم يعن هؤلاء الأخباث الذين هم صفحة خزي وعار على البشرية ، فجاءوا به وبامرأته فأضجعوه على شفير النهر ووضعوه على ذلك الخنزير الذي قتلوه ، ثمّ ذبحوه ، وأقبلوا على امرأته ، وهي ترتعد من الخوف فقالت لهم مسترحمة :

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام156

إنّما أنا امرأة ، أما تتّقون الله .
فلم يعنوا باسترحامها وأقبلوا عليها كالكلاب فقتلوها ، وبقروا بطنها ، وانعطفوا على ثلاث نسوة فقتلوهنّ ، وفيهنّ امّ سنان الصيداوية ، وكانت قد صحبت النبي صلى الله عليه وآله ، ولم يقف شرّ هؤلاء الأرجاس عند هذا الحدّ ، وإنّما أخذوا يذيعون الذعر وينشرون القتل والفساد في الأرض .

واقعة النهروان :

وبعدما أعلن الخوارج تمرّدهم على حكومة الإمام ، ورفعوا شعارهم «لا حكم إلاّ لله» ولكنّه لم يَعد في جميع تصرفاتهم وشؤونهم ظلاً وواقعاً لهذا الشعار ، فقد كان شعارهم الحقيقي لا حكم إلاّ للسيف والفساد .
ولمّا أراد الإمام الخروج إلى محاربة معاوية ، وعبّأ أصحابه وجنوده لذلك ، أشار عليه بعض أصحابه بمناجزة الخوارج ، فإنّ خطرهم أعظم من خطر معاوية ، وإنّهم إذا نزحوا من الكوفة يُحدثون القتل والدمار فيها ، فاستصوب الإمام رأيهم ، وتحرّكت قوات الإمام لقتالهم ، وقبل أن تندلع نار الحرب ، وجّه الإمام إليهم الحارث بن مرّة يطلب منهم قتلة عبد الله بن خباب ليقتصّ منهم فأجابوا جميعاً :
إنّا كلّنا قتلناهم ، وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم .
وأقبل الإمام عليه السلام بنفسه ، فوجّه لهم خطابا رائعاً يدعوهم فيه إلى الطاعة ورفض التمرّد ، فلم يفهموا خطاب الإمام ونصيحته وطلبوا منه أن يشهد على نفسه بالكفر ويتوب إلى الله تعالى على قبوله للتحكيم ، فامتنع الإمام من إجابتهم ، فإنّه لم يقترف أي ذنب في أمر التحكيم وإنّما هم أرغموه على ذلك .
ولمّا يئس الإمام من إرجاعهم إلى الحق عبّأ جنوده لحربهم ، وفعل الخوارج مثل ذلك ، وهتف بعضهم :

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام157

«هل من رائح إلى الجنة ..» .
فأجابوه جميعاً الرواح إلى الجنة ، وهم يهتفون بشعارهم «لا حكم إلاّ لله» ، وحملوا حملة منكرة على جيش الإمام ، وما هي إلاّ ساعة حتى قتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم إلاّ تسعة ، وبذلك فقد انتهت حرب النهروان ، وقد أعقبت هي وحرب صفين تمرّد الجيش العراقي ، فقد مُني بالتمرّد والانحلال والسئم من الحرب ، وأصبح الإمام يدعوهم فلا يستجيبون له ، كما فقد الإمام في هذين الحربين أعلام أصحابه وخيارهم الذين يعتمد على إخلاصهم وتفانيهم في الولاء له .
وعلى أي حال فقد رجع الجيش من النهروان إلى الكوفة ، وجبن عن ملقاة معاوية ، وأخذ الإمام يدعوهم إلى حربه فامتنعوا من إجابته .

اُفول دولة الحق :

وأفلت دولة الحقّ التي تبنّت حقوق الإنسان وقضاياه المصيرية ، وواكبت العدل الاجتماعي والعدل السياسي ، وأقامت صروح الحق ومعاقل الشرف والفضيلة لكل إنسان .
ولم يعهد الشرق في جميع مراحل تأريخه حكماً نزيهاً وعادلاً كحكم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي لم يخضع في جميع فتراته لأية عاطفة لا تتّصل بالحقّ ، فقد تجرّد حكمه عن كل نزعة يؤول أمرها إلى التراب .. وقد نقمت عليه كأشدّ ما يكون الانتقام الرأسمالية القرشية ، فقد خافت على مصالحها وخافت على أموالها التي استولت عليها بغير حقّ ، فوضعت الحواجز والسدود أمام مخططاته السياسية الهادفة إلى الإصلاح الشامل ، واتّهمته بالتآمر على قتل عثمان عميد الاُسرة الاُموية ، واتّخذت من قتله ورقة رابحة لفتح أبواب الحرب عليه ، فكانت حرب الجمل وصفين والنهروان ، وقد انهارت حكومة الإمام ، وبقي عليه السلام في أرض الكوفة يصعّد زفراته وآهاته ، وقد استفحل شرّ معاوية وقوي سلطانه واتّسع نفوذه ،

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام158

وزادت قواته العسكرية وتسلّحت بجميع المعدّات الحربية في ذلك العصر ، وأخذ معاوية يشنّ الغارات على معظم الأقاليم الإسلامية الخاضعة لحكم الإمام ، فكانت جيوشه تقتل وتنهب الأموال ، وذلك لإسقاط هيبة حكومة الإمام وأنّها لا قتدر على حماية الأمن العام للمواطنين ، وقد انتهت الغارات إلى الكوفة ، والإمام يدعو جيشه لحماية البلاد وصدّ العدوان الغادر على الناس فلم يستجيبوا له ، فقد خلدوا إلى الراحة وسئموا الحرب وشاعت في أوساطهم أوبئة الخوف من معاوية ، وأخذ الإمام الممتحن يناجي ربّه ويدعوه أن ينقذه من ذلك المجتمع الذي لم يعِ مبادئه وسياسته الهادفة إلى نشر العدل وإشاعة المساواة بين الناس .
وتوالت المحن الشاقة يتبع بعضها بعضاً على الإمام ، وكان من أشقّها عليه الغارات المتّصلة التي تشنّها قوات معاوية على أطراف البلاد الإسلامية ، وترويعها للنساء والأطفال والعُجّز ، والإمام مسؤول عن توفير الأمن لهم وحمايتهم من كلّ أذى أو مكروه ، ولكنّه لم يجد سبيلاً لذلك لأنّ جيشه قد تمرّد عليه ، وسرت فيه أوبئة الخوف وأفكار الخوارج ممّا جعلته أعصاباً رخوة لا حراك فيها ولا حياة ، وكان من بين الذين اعتنقوا مبادئ الخوارج الأثيم المجرم عبد الرحمن بن ملجم ، فنزح مع عصابة من الخواج إلى مكة وعقدوا فيها مؤتمراً عرضوا فيه ما لاقاه حزبهم من القتل والتنكيل ، وما مُني به العالم الإسلامي من الفتن والخطوب ، وعزوا ذلك إلى الإمام ومعاوية وابن العاص فصمّموا على اغتيالهم فقال ابن ملجم : أنا أكفيكم عليّ ابن أبي طالب ، وقال عمرو بن بكير التميمي : أنا أكفيكم عمرو بن العاص ، وضمن الحجاج بن عبد الله الصريمي اغتيال معاوية ، واتّفقوا على يوم معيّن وهو يوم الثامن عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة ، كما عيّنوا ساعة الاغتيال وهي ساعة خروجهم إلى صلاة الصبح ، وقفل ابن ملجم إلى الكوفة ، وهو يحمل معه الشرّ والشقاء لجميع سكان الأرض ، والتقى بقطام وكان هائماً في حبّها ، وكانت تعتنق فكرة الخوارج فقد قُتل أبوها وأخوها في واقعة النهروان ، وعرض عليها الزواج ،

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام159

فشرطت عليه مهراً وهو ثلاثة آلاف درهم ، وعبد وقينة ، وقتل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، واتّفقا على هذا المهر المشؤوم وفيه يقول الفرزدق :
ولم أر مهـرا سـاقه ذو سماحة كمهر قطام من فصيـح وأعجم
ثـلاثـة آلاف وعـبـد وقيـنة وضرب عليّ بالحسـام المسمّم
فلا مهـر أغلى من عليّ وإن غلى ولا فتك إلاّ دون فتك ابن ملجم (1)

ولمّا أطلّت ليلة الثامن عشر من شهر رمضان المبارك اضطرب الإمام ، وجعل يمشي في صحن الدار وهو محزون النفس خائر القوى ، وهو ينظر إلى الكواكب ويتأمّل فيها يزداد قلقه وهو يقول :
«ما كذبتُ ولا كُذّبت ، إنّها الليلة التي وعدت فيها» .
وصادفت تلك الليلة ليلة الجمعة ، وقد أحياها بالصلاة وتلاوة كتاب الله ، ولمّا عزم على الخروج إلى الجامع ليؤدي الصلاة صاحت في وجهه وزّ اُهديت إلى الإمام الحسن ، فتنبّأ عن وقوع الحادث العظيم قائلاً : «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، صوائح تتبعها نوائح» (2) .
وأقبل الإمام على الباب ليفتحه فعسر عليه ، لأنّها كانت من جذوع النخل لا من الساج فاقتلعها فانحلّ إزاره فشدّه وهو يقول :
اشـدد حيـازمك للموت فـإن المـوت لاقيكـا
ولا تجـزع من الموت إذا حـلّ بنـاديـكـا (3)

وخرج الإمام فلمّا انتهى إلى بيت الله جعل على عادته يوقظ الناس لصلاة الصبح ، وشرع الإمام في أداء الصلاة ، فلمّا استوى من السجدة الاولى هوى عليه

(1) مستدرك الحاكم 3 : 143 .
(2) مروج الذهب 3 : 291 .
(3) حياة الإمام الحسن عليه السلام 1 : 557 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام160

الوغد الأثيم ابن ملجم بسيفه وهو يهتف بشعار الخوارج : «الحكم لله لا لك» .
وضرب الإمام على رأسه فقدّ جبهته الشريفة ، وانتهت الضربة القاسية إلى دماغه المقدّس الذي ما فكّر إلاّ في إقامة العدل وتدمير الظلم وإسعاد البؤساء والفقراء .
ولمّا أحسّ الإمام بلذع السيف رفع صوته قائلاً :
«فزت وربّ الكعبة ..» .
لقد فزت يا إمام المتّقين ويعسوب الدين ، فأيّ فوز أعظم من فوزك ، لقد أقمت الإسلام بسيفك ، وجاهدت في سبيل الله كأعظم ما يكون الجهاد ، وحطّمت الشرك وأفكار الجاهلية وتقاليدها ، ورفعت كلمة الله مع ابن عمّك رسول الله صلى الله عليه وآله عالية في الأرض .
لقد فزت أيها الإمام العظيم ، فأنت أوّل حاكم في دينا الإسلام طلّقت الدنيا ثلاثاً فلم تغرّك مباهجها ، ولم تخدعك السلطة ، فلم تبن لك بيتاً ، ولم تدّخر لعيالك وأبنائك شيئاً من حطام الدنيا .
لقد فزت فقد كانت نهايتك المشرّفة في أقدس بيت من بيوت الله ، وفي أعظم شهر من شهور الله ، فبداية حياتك في الكعبة ونهايتها في هذا الجامع العظيم ، ولسانك يلهج بذكر الله .
ولمّا رفع الإمام صريعاً في محرابه هتف معرّفاً بقاتله قائلاً :
«قتلني ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم فلا يفوتنّكم ..» .
وهرع الناس من كل جانب قد أذهلهم الخطب وأضناهم المصاب ، وبلغ بهم الحزن إلى قرار سحيق ، فوجدوا الإمام صريعاً في محرابه فأخذوا يندبونه بذوب أرواحهم ولم يستطع الإمام الصلاة بالناس ، فصلّى وهو جالس والدم ينزف منه ، وأمر ولده الإمام الحسن فصلّى بالناس ، وحُمل الإمام إلى منزله ، واُلقي القبض على الوغد ابن ملجم فجيء به مخفوراً إلى الإمام عليه السلام فقال له بصوت خافت :

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام161

«لقد جئت شيئاّ إدّاً ، وأمراً عظيماً ، ألم أشفق عليك واُقدّمك على غيرك في العطاء فلماذا تجازيني بهذا الجزاء ؟» .
والتفت الإمام إلى ولده الحسن فأوصاه بالبرّ والإحسان بابن ملجم قائلاً :
«يا بني ، ارفق بأسيرك وارحمه ، واشفق عليه ..» .
فبهر الحسن وقال :
«يا أبتاه ، قتلك هذا اللعين ، وفجعنا بك ، وأنت تأمرنا بالرفق به !» .
فأجابه الإمام بما انطوت عليه نفسه من المُثل العليا قائلاً :
«يا بني ، نحن أهل بيت الرحمة والمغفرة ، أطعمه ممّا تأكل ، واسقه ممّا تشرب ، فإن أنا مت فاقتصّ منه بأن تقتله ، ولا تمثّل بالرجل فإنّي سمعت جدّك رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إيّاكم والمُثلة ، ولو بالكلب العقور ، وإن أنا عشت فأعلم ما أفعله به ، وأنا أولى بالعفو ، فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً ..» .
أيّ نفس ملائكية هذه النفس التي توصي بالبرّ والإحسان لقاتلها .

السيّدة اُمّ كلثوم مع ابن ملجم :

وبكت السيدة اُمّ كلثوم وأخذت تندب أباها بأشجى ما تكون الندبة ، وأكبر الظنّ أنّها العقيلة الزينب فقالت للباغي الأثيم ابن ملجم :
«يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين ..» .
فردّ عليها الباغي الزنيم :
لم أقتل أمير المؤمنين ولكن قتلت أباك .
فردّت عليه :
«والله إنّي لأرجو أن لا يكون عليه بأس ..» .
فأجابها ابن ملجم بصلف وشماتة :

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام162

فلِمَ تبكين إذاً عليَّ تبكين ، والله لقد أرهقت السيف ، ونفيت الخوف ، وخسئت الأجل ، وقطعت الأمل ، وضربته ضربة لو كانت بأهل عكاظ ـ وقيل : بربيعة أو مضر ـ لأتت عليهم ، والله لقد سممته شهراً فإن أخلفني فأبعده سيفاً وأسحقه (1) .
لك الويل أيّها الأثيم فقد عمدت لاغتيال أقدس إنسان بعد الرسول صلى الله عليه وآله ، أراد أن يقيم الحقّ ويوزّع خيرات الله في الأرض على المحرومين والمضطهدين ، لقد خسرت صفقتك وبئت بغضب الله وعذابه الدائم .

العقيلة مع أبيها :

وهرعت عقيلة بني هاشم السيدة زينب عليها السلام إلى أبيها وهي تبكيه وتندبه ، وقد ذابت نفسها حزناً وألماً ، وطلبت منه أن يحدّثها بالحديث الذي سمعته من المرأة الصالحة امّ أيمن عن رسول الله صلى الله عليه وآله عمّا يجري عليها من الكوارث والخطوب ، ولم يكن عند الإمام عليه السلام قوّة على الكلام فقال لها :
«الحديث كما حدّثتك اُمّ أيمن ، وكأنّي بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد ، أذلاّء خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس ، فصبراً صبراً ، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، ما لله على ظهر الأرض يومئذ وليّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم ، ولقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله حين أخبرنا بهذا الخبر : إن إبليس لعنه الله في ذلك اليوم ـ أي يوم قتل الحسين ـ يطير فرحاً فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته ، فيقول : يا معاشر الشياطين ، قد أدركنا من ذرية آدم الطلبة ، وبلغنا في هلاكهم الغاية ، وأورثناهم النار ، ألا من اعتصم بهذه العصابة فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم وحملهم على عداوتهم ، وإغرائهم بهم وأوليائهم ، حتى تستحكم ضلالة الخلق

(1) أنساب الأشراف 1 : 216 ، القسم الأوّل .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام163

وكفرهم ، ولا ينجو منهم ناج ، ولقد صدق عليهم إبليس وهو كذوب ، أنّه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح ، ولا يضرّ مع محبتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر»(1).

وصاياه :

وجعل الإمام عليه السلام وهو في الساعات الأخيرة من حياته يوصي أبناءه وفي طليعتهم سيّدا شباب أهل الجنة الإمام الحسن والحسين عليهما السلام بمكارم الأخلاق والزهد في الدنيا ، ومن بنود وصيّته هذه الوصايا الخالدة ، قال عليه السلام :
«اوصيكما بتقوى الله ، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شيء زوي عنكما ، وقولا للحقّ ، واعملا للأجر ، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً .
اوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم ، وصلاح ذات بينكم ، فإنّي سمعت جدّكما صلى الله عليه وآله يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام ، الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم (2) ، ولا يضيعوا بحضرتكم ، الله الله في جيرانكم فإنّهم وصيّة نبيّكم ، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنّه سيورثهم ، والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم ، الله الله في الصلاة فإنّها عمود دينكم ، الله الله في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تناظروا ـ أي لم ينظر إليكم بالكرامة ـ ، الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله ، وعليكم بالتواصل والتباذل (3) ، وإيّاكم والتدابر والتقاطع ، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولّى عليكم شراركم ، ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم» .
ثم وجّه وصيته إلى آله وذويه قائلاً :

(1) كامل الزيارات : 266 .
(2) لا تغبوا أفواههم : أي لا تقطعوا صلتكم عنهن ، وصلوا أفواههم بالطعام دوماً .
(3) التباذل : العطاء والصلة .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام164

يا بني عبد المطلب ، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون : قتل أمير المؤمنين ، قتل أمير المؤمنين (1) .
ألا لا تقتلن بي إلاّ قاتلي ، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ، ولا يُمثل بالرجل ، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور ..» (2) .
وحفلت هذه الوصية بالقيم الخالدة التي هي من أروع ما خلفه الأنبياء والمصلحون لاُممهم وشعوبهم .

إقامة الحسن من بعده :

وأقام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خليفة على المسلمين من بعده ولده الأكبر سبط رسول الله صلى الله عليه وآله الإمام الحسن عليه السلام ، وأجمعت الشيعة على ذلك ، وذهب بعض أهل السنة إلى أن الإمام عليه السلام لم يستخلف أحداً من بعده ، مستدلين على ذلك بما رواه شعيب بن ميمون الواسطي أنّه قيل لعليّ : ألا تستخلف ؟ فقال : «إن يرد الله بالاُمّة خيراً يجمعهم على خيرهم» ، وهذه الرواية من موضوعات شعيب ومن مناكيره ، كما نصّ على ذلك ابن حجر (3) .
إنّ الإمام الحسن عليه السلام هو أفضل إنسان في المجتمع الإسلامي ، فهو سيّد شباب أهل الجنّة ، وإمام إن قام أو قعد ـ على حد تعبير رسول الله صلى الله عليه وآله ـ ، وقد توفرت فيه جميع الصفات الكريمة والنزعات الرفيعة فكيف لا يرشّحه الإمام لهذا المنصب الخطير ومن هو أحق به منه .

(1) يشير بذلك إلى مصرع عثمان الذي اتّخذ الاُمويّون دمّه ورقة رابحة في سبيل أطماعهم السياسية .
(2) نهج البلاغة 3 : 85 .
(3) تهذيب التهذيب 4 : 357 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام165

الوصية الأخيرة للإمام :

أمّا الوصية الأخيرة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام فقد روتها عقيلة بني هاشم السيدة زينب عليها السلام قالت : «كان آخر عهد أبي إلى أخوي ـ الحسن والحسين عليهما السلام ـ أنّه قال لهما : يا بني ، إذا أنا مت فغسّلاني ، ثم نشّفاني بالبردة التي نُشّف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وفاطمة عليها السلام ، وحنّطاني وسجّياني على سريري ، ثمّ انظروا حتى إذا ارتفع لكما مقدم السرير فاحملا مؤخره» (1) .

إلى جنة المأوى :

ولمّا أدلى الإمام عليه السلام بوصاياه أخذ يعاني آلام الموت وهو يتلو آيات الذكر الحكيم ويكثر من الدعاء والاستغفار ، ولمّا دنا منه الأجل المحتوم كان آخر ما نطق به : «لمثل هذا فليعمل العاملون» (2) ، ثم فاضت روحه الزكية إلى جنة المأوى ، لقد ارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي أضاء الدنيا بعدله وعمله وكماله ، فما أظلت سماء الدنيا قطّ أفضل ولا أسمى منه ما عدا أخاه وابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وآله .
لقد مادت أركان العدل ، وانطمست معالم الحق ، ومات أبو الغرباء والبؤساء .
سيّدي أبا الحسن :
لقد مضيت إلى عالم الخلود ، وأنت مكدود مجهود ، قد جُهل حقك ، واُبعدت عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد تظافرت الاُسر القرشية على حربك ، ووضعت الحواجز والسدود أمام مخططاتك الإصلاحية ، كما فعلت مثل ذلك مع ابن عمّك رسول الله صلـى الله عليه وآلـه ، فإنّـا لله وإنّـا إليه راجعـون .

(1) زينب الكبرى : 38 .
(2) الصافّات : 61 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي