السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام166

تجهيزه ودفنه :

وقام الإمام الحسن مع بقية إخوانه بتجهيز أبيه ، فغسّلوا الجسد الطاهر وأدرجوه في اكفانه ، وصلّوا عليه ، وفي الهزيع الأخير من الليل حملوا الجثمان المقدّس إلى مقرّه الأخير ، وكانت معهم العقيلة زينب (1) وهي تذرف الدموع ، وقد نخب الحزن فؤادها ، ودفنوا الجثمان المعظّم في النجف الأشرف حيث مقرّه الآن كعبة للوافدين وجامعة من أهم الجامعات في الإسلام .
لقد شاهدت السيدة زينب الكوارث والخطوب التي أحاطت بأبيها فملئت قلبها الزاكي أسى وحزناً ، وعرفتها بما تكنّه قريش من الحقد والحسد لأبيها ، وسائر أبناء الاُسرة النبوية .

عهد الإمام الحسن :

وفي صبيحة اليوم الذي وارى فيه الإمام الحسن عليه السلام جثمان أبيه انبرى إلى جامع الكوفة يحفّ به اخوته وسائر بني هاشم ، وقد اكتظّ الجامع بمعظم قطعات الجيش وقادة الفرق والوجوه والأشراف ، فاعتلى المنبر فابتدأ خطابه بتأبين أبيه عملاق الفكر الإسلامي ، وكان تأبينه منسجماً تمام الانسجام مع سموّ شخصية أبيه ، فقد وصفه بأبلغ وأروع ما يكون الوصف وصفه بهذه الكلمات الذهبية :
«لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل ولم يدركه الآخرون بعمل ..» .
ومعنى ذلك أنّ أباه نسخة فريدة لا مثيل لها في تأريخ الإنسانية في جميع الأزمان والآباد ، فإنّ من المحقّق أنّه ليس في ميدان الاصلاح الاجتماعي والسياسي زعيم كالإمـام أمير المؤمنين عليـه السلام في نزاهتـه وتجـرّده من جميـع النزعـات المادية ، فقـد

(1) زينب الكبرى : 38 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام167

تقلّد زمام الحكم وكان معظم الشق خاضعاً لحكمه ، وكانت الأموال تجبى له كالسيل ، فلم يؤثر نفسه وأهله بشيء منها ، ولم يخلّف صفراء ولا بيضاء سوى سبعمائة درهم كان قد ادّخرها من راتبه ليشتري بها عبداً يستعين به أهله في حاجاتهم إلاّ أنّه عدل عن ذلك ، وأمر ولده الحسن بإرجاعها إلى بيت المال ، كما أعلن ذلك الإمام الحسن في خطابه استمعوا له ، قال عليه السلام :
«وما خلّف صفراء ولا بيضاءً إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله ، وقد أمرني أن أردّها إلى بيت المال ..» .
وكان ذلك حقّاً هو منتهى السموّ والعظمة ، ومنتهى التجرّد عن الدنيا والزهد في جميع مظاهرها وملاذها .
ولمّا أنهى الإمام الحسن عليه السلام خطابه الرائع بايعه الجمهور وكانوا أصنافاً وهم :
1 ـ قادة الفرق والزعماء ، وهؤلاء كان معظمهم مع معاوية فقد استمالهم بأمواله وذهبه ، ووعدهم بالمناصب العالية إن انضموا إليه .
2 ـ الخوارج ، وهم من ألد أعدائه وأعداء أبيه ، وكانوا يكيدون له في وضح النهار وغلس الليل .
3 ـ المؤمنون من شيعته ممّن عرفوا حقّه ، ودانوا له بالولاء والطاعة ، وهم قلّة قليلة .
وعلى أي حال فقد علم معاوية ما مُني به جيش الإمام الحسن من الضعف والانحلال والتمرّد على قيادته ، فكتب إلى الإمام يستنجزه الحرب ، وزحف بجيوشه الذين تسودهم الطاعة والإخلاص له ، فانتهى إلى المدائن فعسكر فيها ، ولمّا اُذيع ذلك سرت أوبئة الرعب والخوف في نفوس جيش الإمام ، وقد دعاهم إلى مناجزة معاوية ، فلم يستجب له سوى بعض المؤمنين من أصحابه ، وجعل يستحثّ الناس على الخروج لحرب معاوية ، وبعد جهد شاق خرج معه أخلاط من الناس ـ على حدّ تعبير الشيخ المفيد ـ متباينون في أفكارهم وميولهم ، وأخذوا

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام168

يجدّون في السير لا يلون على شيء حتى انتهوا إلى المدائن فعسكروا فيها .

حوادث رهيبة :

ومُني الإمام الحسن عليه السلام بحوادث مروّعة حينما كان في مسكن كان من أقساها وأفجعها ما يلي :
1 ـ خيانة القائد العام :


وكان عبيد الله بن العباس قائداً لجميع القوات المسلّحة في جيش الإمام ، ولمّا تيقّن أنّ الدنيا قد تنكّرت للإمام انحرف عنه ومال إلى معسكر معاوية بعد أن تسلّم الرشوة منه ، وقد اضطرب جيش الإمام وماج بالفتن ، وكانت خيانته من أفجع النكبات التي مُني بها الإمام .
2 ـ تسلل الوجوه إلى معاوية :


وتسلّل الوجوه والأشراف في جيش الإمام إلى معاوية بعد أن تسلّموا منه الأموال .
3 ـ خيانة ثمانية آلاف :


والتحق بمعسكر معاوية ثمانية آلاف جندي مع قادتهم ، وأكبر الظنّ أنّهم من أتباع الخائن العميل الأشعث بن قيس ، وقد بان الانكسار والضعف بجيش الإمام بعد خيانة هذا العدد الكبير منهم .
4 ـ خيانة ربيعة :


وتعتبر قبائل ربيعة العمود الفقري في جيش الإمام ، فقد أقبل زعيمها خالد ابن معمر إلى معاوية فقال له : اُبايعك عن ربيعة كلّها ، فبايعه على ذلك ، وفيه يقول الشاعر مخاطباً معاوية :
معاوي أكرم خالد بن معمر فإنك لولا خالد لم تؤمر

ولمّا انتهى الخبر إلى الإمام الحسـن عليه السلام انهـارت قـواه واتّجه صـوب الجيش

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام169

فقال لهم :
«يا أهل العراق ، أنتم الذين أكرهتم أبي على القتال والحكومة ثمّ اختلفتم عليه ، وقد أتاني أنّ أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية فبايعوه ، فحسبي منكم لا تغروني في نفسي وديني» (1) .
وكذلك بايع معاوية سرّاً عثمان بن شرحبيل زعيم بني تميم (2) .
5 ـ نهب أمتعة الإمام :


وعمدت تلك العصابة التي انمحت عن نفوسها لجميع أفانين الشرف والكرامة إلى نهب أمتعة الإمام وأجهزته ، واكبر الظنّ أنّ للخوارج ضلعاً كبيراً في هذه الجريمة .
6 ـ محاولة اغتيال الإمام :


ولم تقف محنة الإمام الحسن عليه السلام في جيشه عند حدّ ، فقد عظم بلاؤه إلى أكثر من ذلك ، فقد قدّم المرتشون والخوارج على اغتياله وذلك في عدّة محاولات وهي :
1 ـ إنه كان يصلّي فرماه شخص بسهم .
2 ـ طعنه الجرّاح بن سنان في فخذه .
3 ـ طعنه بخنجر في أثناء الصلاة .




واتّضحت للإمام عليه السلام بعد هذه الاعتداءات الصارخة على حياته أنّه ليس عنده جيش يركن إليه لمناجزة معاوية .
7 ـ الحكم عليه بالكفر :


ومن بين المحن الشاقة التي امتحن بها الإمام الحسن عليه السلام أنّ بعض العناصر في جيشه حكموا عليه بالشرك والإلحاد ، وأكبر الظنّ أنّهم الخوارج الذين لا نصيب لهم

(1) أنساب الأشراف 1 : 223 ، القسم الأوّل .
(2) حياة الإمام الحسن عليه السلام 2 : 127 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام170

من الإيمان والإسلام .
وعلى أي حال فقد انبرى الجرّاح بن سنان نحو الإمام وهو رافع صوته قائلاً :
أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل .
إنّ مجتمعاً يضمّ أمثال هؤلاء الأوغاد لهو مجتمع غير سليم .

ضرورة الصلح :

ودرس الإمام الحسن عليه السلام الموقف من جميع جوانبه ووجوهه ورأى أنّه بين محذورين وهما :
الأول : أن يناجز معاوية ويفتح معه باب الحرب ، وهذا ما يطلبه ويبغيه لإنقاذ العالم الإسلامي من هذا العدو الظالم الذي يكيد له في الليل إذا يغشى وفي النهار إذا تجلّى ، فحربه أمر لازم وضروري ، ولكن ذلك لا سبيل له ، ولا تساعده الحكمة وعمق النظر وذلك لما يلي :
1 ـ إنّه ليس عند الإمام قوة عسكرية يستطيع أن يخوض بها الحرب ، فإنّ الأكثرية الساحقة من جيشه قد استجابت لمعاوية ، وآثرت السلم والعافية .
2 ـ إنّ معاوية قد أرشى معظم قادة الفرق في جيش الإمام ، فصاروا طوع إرادته ، وضمنوا إنجاز ما يريد من اغتيال الإمام أو تسليمه له أسيراً .
3 ـ : إنّ من المؤكد أنّ معاوية هو الذي ينجح في الحرب ـ حسب الفنون العسكرية ـ فإذا استشهد الإمام فإنّه لا يستشهد وحده ، وإنّما يستشهد معه جميع أفراد اُسرته وخلّص شيعته ، ولا تستفيد القضية الإسلامية من تضحيتهم شيئاً ، فإنّ دهاء معاوية وما يتمتّع به من وسائل المكر والخداع يجعل تبعة ذلك على الإمام ، وبذلك يخسر العالم الإسلامي أهم رصيد روحي وفكري .
4 ـ إنّ الإمام إذا لم يستشهد واُخذ أسيراً لمعاوية ، فإنّ من المحقّق أنّه يمنّ عليه ، ويوصمه مع بقية أهل البيت بالطلقاء ، ويسجّل له بذلك يداً على العلويّين

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام171

ويمحو عنه وعن الاُمويّين وصمة الطلقاء التي أسداها عليهم النبي صلى الله عليه وآله حينما فتح مكة .
الثاني : أن يصالح معاوية على ما في الصلح من قذى العين وشجى الحلق ، وهذا هو المتعيّن في عرف السياسة وقوانين الحكمة ، وله مرجّحاته الواقعية والظاهرية التي أشرنا إليها .
وكان من أعظم فوائد الصلح ومن أهم ثمراته إبراز الواقع الاُموي الذي خفي على المسلمين فقد تظاهر الاُمويين بالإسلام ، وأشاعوا أنّهم حماة الدين ، وأقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وأمسّهم رحماً به ، وبعد الصلح انكشف زيفهم ، وظهر واقعهم الجاهلي ، فقد تفجّرت سياسة معاوية بكل ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه ، فقد أعلن بعد الصلح مباشرة أمام الحشود فخاطب أهل العراق قائلاً :
إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكّوا ولا لتحجّوا وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك ، وإنّي قد أعطيت الحسن بن عليّ شروطاً لا أفي بواحد منها وها هي تحت قدمي .
ولو لم يكن للصلح من فائدة إلاّ إبراز حقيقة معاوية وتجريده من كل إطار ديني لكفى ، فقد أبرز معاوية واقعة بهذا الخطاب ، فهو لم يقاتل أهل العراق من أجل الطلب بدم عثمان ، ولا من أجل ظاهرة إسلامية ، وإنّما قاتلهم من أجل الإمرة والسلطان ، ولو كان يملك ذرّة من الشرف والكرامة لما فاه بذلك ، ولما أعلن نقضه للعهود والمواثيق التي أعطاها للإمام الحسن عليه السلام .
وعلى أي حال فإنّا قد بسطنا القول بصورة موضوعية وشاملة في بيان ضرورة الصلح ، وإنّه هو المتعيّن على الإمام شرعاً وسياسة في كتابنا (حياة الإمام الحسن عليه السلام) ، كما استوفينا البحث من الشروط التي شرطها الإمام على معاوية والتي لم يفِ بشيء منها ، فمن أراد الإلمام بهذه البحوث عليه بمراجعة هذا الكتاب .

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام172

السفر إلى يثرب :

وأخذ الإمام الحسن عليه السلام يتهيّأ للسفر إلى يثرب ، ويترك البلد الذي خذله وخذل أباه من قبل ، ولمّا تمّت وسائل النقل خرج أهل الكوفة إلى توديعه وهم ما بين باك وآسف ، يندبون حظّهم التعيس ، فقد أصبحت بلدهم مصراً من الأمصار بعد أن كانت عاصمة الدولة الإسلامية ، وأصبحت القطع السورية من الجيش تدخل مصرهم وتسيطر عليهم ، ويقام في بلدهم حكم إرهابي لا يعرف الرحمة ولا الرأفة .
وعلى أي حال فقد انتهى الإمام إلى يثرب فخفّ أهلها إلى استقباله ، فقد أقبل إليهم الخير ، وحلّت في ديارهم السعادة .
وعلى أي حال فقد أفلت دولة الحق وقامت على أنقاضها دولة الباطل ، وكان ذلك من أعظم النكبات التي عانتها حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله وعقيلة بني هاشم السيّدة زينب ، فكانت عالمة بمجريات الأحداث ونتائجها التي كان منها ما عانته من الرزايا والخطوب في كربلاء .

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام173

حكومة معاوية

واستقبل المسلمون حكومة معاوية بكثير من الوجوم والقلق والاضطراب و اعتبروها نكسة للإسلام ، ونصرا حاسماً للقوى المعادية له والحاقدة عليه ، وفي طليعتها الاُسرة الاُموية ومن شايعها من القبائل القرشية ، فقد انتعشت الأفكار الجاهلية وعادت لها الحياة من جديد ، وانطوت الديمقراطية الإسلامية ، وما تنشده من التقدّم والتطوّر للإنسان في مجالاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، يقول السيد مير علي الهندي :
ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم التوليغارشية الوثنية السابقة ، فاحتلّ موقع ديمقراطية الإسلام ، وانتعشت الوثنية بكل ما يرافقها من خلاعات ، وكأنها بعثت من جديد ، كما وجدت الرذيلة والتبذّل الخُلقي لنفسها متّسعاً في كل مكان ارتادته رايات حكم الاُمويّين من جند الشام ..» (1) .
لقد وقعت الاُمّة فريسة تحت أنياب معاوية فساسها سياسة سوداء تفجّرت بكلّ ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه ، فأشاع فيها البؤس والحرمان والقتل والدمار ، ونعرض ـ بإيجاز ـ لبعض نزعاته وصورة عن سياسته .

عداؤه للنبيّ :

وورث معاوية عداءه للرسول صلى الله عليه وآله من أبيه أبي سفيان الذي هو من ألدّ أعدائه

(1) روح الإسلام : 296 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام174

وخصومه ، وقد ناجزه الحرب في بدر واُحد وغيرهما ، وقد حاول جاهداً أن يلفّ لواء الإسلام ويطفئ نور الله ، ولكن الله تعالى ردّ كيده ونصر رسوله وأعزّ جنده .
وأمّا اُمّ معاوية فهي الباغية هند ، وهي التي عُرفت بالعداء العارم للاُسرة العلوية ، وهي التي حرّضت وحشياً على قتل سيّد الشهداء حمزة فقتله ، وبعد قتله مثّلت به شرّ تمثيل .
ولا يقلّ معاوية في عدائه للنبيّ عن أبويه ، فقد اُترع بالكراهية والبغض له ، وكان من حقده له أنّه سمع المؤذن يؤذن : أشهد أنّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلم يملك إهابه ، واندفع قائلاً :
لله أبوك يابن عبد الله ، لقد كنت عالي الهمّة ، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يقرن اسمك باسم ربّ العالمين (1) .
وكان من حقده على النبي صلى الله عليه وآله ما حدّث به مطرف بن المغيرة قال : وفدت مع أبي على معاوية فكان يتحدّث عنده ، ثم ينصرف إليّ ، وهو يذكر معاوية وعقله ، ويعجب بما يرى منه ، وأقبل ذات ليلة وهو غضبان ، فأمسك عن العشاء فانتظرته ساعة ، وقد ظننت أنّه شيء حدث فينا أو في عملنا فقلت له :
ما لي أراك مغتماً هذه الليلة .
يا بني ، جئتك من أخبث الناس .
ما ذاك ؟
خلوت بمعاوية فقلت له : إنّك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلاً ، وبسطت خيراً فإنّك قد كبرت ، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم ، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه .
فثار معاوية وقال :

(1) شرح النهج 10 : 101 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام175

هيهات ، هيهات ، ملك أخو تيم فعدل ، وفعل ما فعل فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل أبو بكر ثم ملك أخو عدي فاجتهد وعمره عشر سنين ، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر ، ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه ، فعمل به ما عمل ، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره ، وأن أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، فأيّ عمل يبقى بعد هذا لا اّمّ لك إلاّ دفناً دفناً (1) .
وتحكي هذه البادرة مدى حقده وبغضه للنبي صلى الله عليه وآله ، وأنّه يسعى جاهداً لمحو ذكره وإطفاء نوره .

بغضه لآل النبيّ :

وكان معاوية من أبغض الناس وأحقدهم على آل النبي صلى الله عليه وآله ، وقد قام بما يلي :
1 ـ ستر فضائلهم :


وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله وولاته بستر فضائل آل النبي صلى الله عليه وآله وحجبها عن الناس ، وقد حجّ بيت الله الحرام بعد عام الصلح فقام إليه جماعة من الناس سوى ابن عباس فبادره معاوية قائلاً :
يابن عباس ، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلاّ لموجدة عليّ بقتالي إيّاكم يوم صفين ، يابن عباس ، إنّ ابن عمّي عثمان قتل مظلوماً ...
فردّ عليه ابن عباس :
فعمر بن الخطاب قتل مظلوماً ، فسلّم الأمر إلى ولده ، وهذا ابنه ـ وأشار إلى عبد الله بن عمر ـ .
فأجابه معاوية :

(1) شرح النهج 2 : 297 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام176

إنّ عمر قتله مشرك ...
فانبرى ابن عباس قائلاً :
فمن قتل عثمان ؟
قتله المسلمون .
وامسك ابن عباس بزمامه قائلاً :
فذلك أدحض لحجّتك إن كان المسلون قتلوه وخذلوه ، فليس إلاّ بحق .
ووجم معاوية ثمّ قال :
إنّا كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته فكفّ لسانك يابن عباس .
فأجابه ابن عباس ببليغ منطقه :
أفتنهانا عن قراءة القرآن ؟
لا .
أفتنهانا عن تأويله ؟
نعم .
فنقرأه ولا نسأل عمّا عنى الله به ؟
نعم .
فأيّهنّ أوجب علينا قراءته أو العمل به ؟
العمل به .
فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا ؟
سل عن ذلك فمن يتأوّله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك .
إنّما نزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط .
فاقرأوا القرآن ، ولا ترووا شيئاً ممّا أنزل الله فيكم وممّا قاله رسول الله صلى الله عليه وآله فيكم ، وارووا ما سوى ذلك .

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام177

وسخر منه ابن عباس وتلا قوله تعالى : «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون» (1) .
وصاح به معاوية :
اكفف نفسك ، وكفّ عنّي لسانك ، وإن كنت فاعلاً فليكن سرّاً ، ولا تسمعه أحداً علانية .
لقد جهد معاوية في ستر فضائل أهل البيت عليهم السلام ومحو ذكرهم حتى لا يبقى لهم أي رصيد شعبي في الأوساط الإسلامية .
2 ـ اضطهاد الشيعة :


واضطهدت الشيعة اضطهاداً مريراً وقاسياً في أيام معاوية ، فقد انتقم منهم كأقسى وأشدّ ما يكون الانتقام ، وكان ما عانوه منه لا يوصف لشدّة قسوته ومرارته ، وهذه صورة موجزة لما عانوه .
أ ـ القتل الجماعي :


وعهد معاوية إلى الجلاّدين من شرطته بقتل الشيعة وإبادتهم ، فقتل المجرم بسر بن أرطأة بعد التحكيم ثلاثين الفاً عدا من أحرقهم بالنار (2) ، وقتل سمرة بن جندب ثمانية آلاف من أهل البصرة (3) ، وأمّا زياد ابن أبيه فقد اقترف أفظع الجرائم فقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وأنزل بالشيعة جميع صنوف العذاب ، كما صفّى معاوية جميع العناصر الواعية من الشيعة وكان منهم :

(1) التوبة : 32 .
(2) حياة الإمام الحسن عليه السلام 2 : 343 .
(3) شرح النهج 2 : 6 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام178

1 ـ حجر بن عدي وجماعته .
2 ـ عمرو بن الحمق الخزاعي .
3 ـ رشيد الهجري .
4 ـ أوفى بن حصن .
5 ـ عبد الله الحضرمي وجماعته .
6 ـ جويرية العبدي .
7 ـ عبد الرحمن العنزي .
8 ـ صيفي بن فسيل .
وقد ذكرنا بصورة مفصّلة كيفية شهادتهم وما لاقوه من التنكيل من معاوية لمحبّتهم لأهل البيت .
ب ـ ترويع النساء :


وروّع معاوية جمهرة من سيدات نساء الشيعة كان من بينهنّ :
1 ـ الزرقاء بنت عدي .
2 ـ اُمّ الخير البارقية .
3 ـ سودة بنت عمارة .
4 ـ اُمّ البراء بنت صفوان .
5 ـ بكارة الهلالية .
6 ـ أروى بنت الحارث .
7 ـ عكرشة بنت الأطرش .
8 ـ الدرامية الحجونية .
لقد لاقين هذه السيّدات التوهين والتقريع والترويع من معاوية لولائهنّ لأهل البيت .

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام179

جـ ـ هدم دور الشيعة :


وأوعز معاوية إلى عماله بهدم دور الشيعة فقاموا بهدمها (1) ، وتركوهم بلا مأوى يأوون إليه .
د ـ حرمان الشيعة من العطاء :


وكتب معاوية إلى عمّاله نسخة واحدة بحرمان الشيعة من العطاء وهذا نصها :
وانظر إلى من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه (2) .
وقام عملاؤه بالفحص في سجلاتهم فمن وجدوه يتعاطف مع أهل البيت عليهم السلام محوا اسمه ، وأسقطوا عطاءه .
هـ ـ رفض شهادة الشيعة :


وعمد معاوية إلى إذلال الشيعة وتجريحهم فأوعز إلى ولاته بعدم قبول شهادة الشيعة في دور القضاء وغيره (3) مبالغة في التوهين بهم .
و ـ إبعاد الشيعة إلى خراسان :


ومن الإجراءات القاسية التي اتّخذها زياد ابن أبيه عمدة ولاة معاوية وأخوه اللاّشرعي ضدّ شيعة أهل البيت وكسر شوكتهم أنّه أجلى خمسين ألفاً منهم من الكوفة إلى خراسان المقاطعة الشرقية في فارس (4) ، وقد عمل المبعدون على نشر التشيّع

(1) شرح النهج 11 : 44 .
(2) شرح النهج 11 : 44 .
(3) حياة الإمام الحسن عليه السلام 2 : 178 .
(4) تاريخ الشعوب الإسلامية 1 : 147 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام180

في تلك البلاد حتى تحوّلت إلى جبهة قوية للمعارضة ضدّ الحكم الاُموي ، وقد استغلّها أبو مسلم الخراساني فجنّدها وحارب بها الاُمويين حتى أطاح بدولتهم .
هذه بعض الإجراءات الرهيبة التي اتّخذها معاوية ضد الشيعة ، وهي تمثّل مدى حقده وعدائه لأهل البيت عليهم السلام .
أما البحث عن نزعاته الشريرة وسائر أعماله المجافية لروح الإسلام والقانون فقد ذكرناها بصورة مفصّلة في الجزء الثاني من كتابنا (حياة الإمام الحسن عليه السلام) فلا حاجة لذكرها .

اغتيال الإمام الحسن :

وأكبر موبقة اقترفها معاوية ضد الإسلام والمسلون اغتياله لسبط رسول الله صلى الله عليه وآله الإمام الحسن عليه السلام الذي أعطاه عهداً بأن تكون الخلافة له من بعده إلاّ أنّه خان بعهده ، وراح ينشئ دولة اُموية تنتقل بالوراثة إلى أبنائه وأعقابه ، وقد وصفه (الميجر أوزبورن) بأنّه مخادع وذو قلب خال من كل شفقة ، وأنّه كان لا يتهيّب من الإقدام على أيّة جريمة من أجل أن يضمن مركزه ، فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه ، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول صلى الله عليه وآله ، كما تخلّص من مالك الأشتر قائد عليّ بنفس الطريقة (1) .
واستعرض الطاغية السفاك المجرمين ليعهد إلى أخسّهم باغتيال ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلم يجد أحداً خليقاً باقتراف هذه الجريمة سوى جعدة بنت الأشعث ، فهي من بيت جُبل على الجريمة وطُبع على الغدر والخيانة ، فأرسل إلى مروان بن الحكم سمّاً فاتكاً كان قد جلبه من ملك الروم ، وأمره بإغراء جعدة بألأموال وزواج ولده يزيد إن استجابت لـه ، وعـرض عليهـا مروان ذلـك فاستجابت لـه

(1) روح الإسلام : 295 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام181

فأخذت السمّ ودسّته للإمام ، وكان صائماً في وقت شديد الحرّ ، وما إن وصل السمّ إلى جوف الإمام حتى تقطّعت أمعاؤه ، فالتفت عليه السلام إلى الخبيثة الماكرة وقال لها :
«قتلتيني قتلك الله ، والله لا تصيبن منّي خلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر منك يخزيك الله ويخزيه ..» (1) .
وأخذ ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله يعاني من شدّة السم وقسوته وكان يتقيّأ قطعاً من الدم في طشت ، فدخلت عليه شقيقته سيّدة النساء العقيلة ، فأمر برفع الطشت لئلا ترى ما فيه فيذوب قلبها ، فنظرت العقيلة إلى أخيها وهو مصفرّ الوجه قد فتك السمّ به ، فانهارت قواها ، وطافت بها موجات مذهلة من الألم والحزن ، فقد علمت أن أخاها سيفارقها عمّا قريب .
وأخذ الإمام يقبّل أخوته وخلّص أصحابه وهو يوصيهم بمكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، وتقوى الله ، والاجتناب عن معاصيه ، واشتدّت حالته ، وأخذ يتلو آيات من كتاب الله العزيز ويطلب من الله تعالى أن يجعله في أعلى مراتب المتّقين والصالحين ، ووافاه الأجل المحتوم ولسانه لهج بذكر الله ، وقد سمت روحه العظيمة إلى بارئها وهي مليئة بالآلام التي عانتها من معاوية العدوّ الماكر للإسلام ، وقام الإمام الحسين عليه السلام بتجهيز جثمان أخيه ، وبعد الانتهاء من مراسيم الغسل والتكفين رأى الإمام أن يدفن أخاه بجوار جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله ، فمنعته بنو اُميّة وقد استعانوا بعائشة ، فقد خرجت على بغل وهي تقول : لا يدفن الحسن بجوار جدّه أو بيتي هذه ، وأومأت إلى شعر رأسها وصاحت بالهاشميّين : لا تُدخلوا بيتي من لا اُحبّ ، وكادت الفتنة أن تقع وتراق الدماء ، فعدل الإمام عن دفن أخيه بجوار جدّه ودفنه في البقيع ، وقد ذكرنا الأحداث التي رافقت دفن الإمام الحسن عليه السلام في كتابنا (حياة الإمام الحسن) فلا نرى حاجة لذكرها .

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 : 317 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي