السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام182

البيعة ليزيد :

وختم معاوية حياته الملوّثة بالجرائم والموبقات بفرض ولده يزيد خليفة على المسلمين ، وقد استخدم جميع الوسائل المنحطّة في جعل الخلافة في أبنائه وتحويلها إلى ملك عضوض لا محل فيه لأي قيمة من القيم الدينية .
وقد ورث يزيد صفات جدّه أبي سفيان وأبيه معاوية من النفاق والغدر والطيش والعداء للإسلام ، يقول السيد مير علي الهندي :
وكان يزيد غدّاراً كأبيه ولكن ليس داهية مثله ، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة ، وكانت طبيعته المنحلّة ، وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب إليهما شفقة ولا عدل ، كان يقتل ويعذّب نشداناً للمتعة واللذّة التي يشعر بهما وهو ينظر إلى آلام الآخرين ، وكان بؤرة لأبشع الرذائل ، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك لقد كانوا من حثالة المجتمع (1) .
لقد كان يزيد مستهتراً بعيداً عن جميع القيم الإنسانية لا يحفل بما يقترفه من الموبقات والرذائل ، وحسبه أنّه حفيد أبي سفيان وابن معاوية الذئب الجاهلي ، ووصفه المؤرخون بأنّه كان معرّى من كل صفة إنسانية ، وأنّه جاهلي بما تحويه هذه الكلمة من معنى .
ومن مظاهر استهتاره ولعه بشرب الخمر ، ويعزو بعض المؤرخين سبب وفاته إلى أنّه شرب خمراً كثيراً حتى أولد فيه انفجاراً في دماغه ، ومن أنّه كان ولعاً بالقرود ، فكان له فهد يجعله بين يديه ويكنيه بأبي قيس ، ويسقيه فضل كأسه ، ويقول هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق ، فحمله يوماً فسبق الخيل فسرّ بذلك

(1) روح الإسلام : 296 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام183

وجعل يقول :
تمسك أبا قيس بفضل زمامها فليس عليها إن سقطت ضمان
فقد سبقت خيل الجماعة كلها وخيـل أمـير المـؤمنين أتان

وأرسله مرة في حلبة السباق فطرحته الريح فمات فحزن عليه حزناً شديداً وأمر بتكفينه ودفنه ، وأوعز إلى أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم بهذا الفقيد العزيز ورثاه بهذه الأبيات :
كم من كرام وقوم ذوو محافظة جاءوا لنـا ليعـزوا في أبي قيس
شيخ العشيرة أمضاها و أجملها على الرؤوس وفي الأعناق والريس
لا يبعـد الله قبراً أنـت ساكنه فيه جمال وفـيه لحيـة التيـس (1)

وشاع بين الناس ولعه بالقرود ، وقد هجاه شاعر من تنوخ بقوله :
يزيد صديق القرد ملّ جوارنا فحنّ إلى أرض القرود يزيد
فتبّاً لمـن أمسى علينا خليفة صحابته الأدنون منه قرود (2)

وكان كلفاً بالصيد لاهياً به ، وكان يُلبس كلاب الصيد الأساور من الذهب والجلال المنسوجة منه ويهب لكل كلب عبداً يخدمه (3) .
لقد كان يزيد عنواناً لكل رذيلة وموبقة وهو أخبث إنسان على وجه الأرض ، وأصبح علماً للانحطاط الخُلقي والظلم الاجتماعي ، وحيث ما ذكر اسمه فإنّه مثال للفساد والاستبداد والتهتك والخلاعة ، وقد ذكرنا المزيد من صفاته ونزعاته في كتابنا (حياة الإمام الحسين) .

(1) جواهر المطالب لمناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : 143 .
(2) أنساب الأشراف 2 : 2 .
(3) الفخري : 45 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام184




السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام185

الحكم الأسود

وخيّم على العالم الإسلامي حكم إرهابي عنيف لا يخضع لعرف ولا لقانون ، ، ولا يستجيب لأية عاطفة إنسانية ، شعاره الظلم والاستبداد واللامبالاة ، هذا هو السمت الظاهر والواقع لحكم يزيد بن معاوية الذي بُلي به المسلمون ، وامتحنوا امتحاناً عسيراً .
لقد عانت عقيلة بني هاشم السيدة زينب في عهد هذا الطاغية أشقّ وأقسى ألوان المصائب والكوارث ، كما تعرّضت الاُسرة النبوية إلى الإبادة الشاملة ، فقد جزّروا كالأضاحي ، ومثّلت الجيوش الاُموية أشرّ تمثيل بأجسامهم الطاهرة كل ذلك كان بمرأى من حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله ، فذابت نفسها أسى وحسرات ، ولم تقتصر محنتها على ذلك وإنّما تعدّت إلى ما هو أقسى وأشجّ ، فقد سبيت مع عقائل الوحي ومخدرات الرسالة يطاف بهنّ من بلد إلى بلد ، فتارة يمثلن أمام ابن مرجانة ، واُخرى في مجلس يزيد ، فلم تبق محنة من محن الدنيا ، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلاّ جرت على حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله في عهد هذا الطاغية الأثيم .
وعلى أي حال فقد تسلّم يزيد ـ بعد هلاك أبيه ـ قيادة الدولة الإسلامية ، وهو في غضارة العمر ، وريعان الشباب لم تصقله التجارب ، ولم تهذّبه الأيام ، قد استسلم لشهواته وملذّاته التي كان البارز منها سفك الدماء وإشاعة الفزع والخوف بين الناس .
ولم يكن الطاغية حينما وافت المنية أباه في دمشق ، وإنّما كان في رحلات

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام186

الصيف في حوارين الثنية ، فأرسل إليه الضحاك بن قيس رسالة يعزّيه فيها بوفاة أبيه ويهنّئه بالخلافة ، ويطلب منه الإسراع إلى عاصمته يتولّى شؤون الحكم ، وحينما انتهت إليه الرسالة أسرع نحو عاصمته ، ومعه أخواله وبنو اُميّة والمغنّون والعابثون من أصحابه ، وقد شعث في الطريق ، فأقبل الناس يسلّمون عليه ويعزّونه ، وقد عابوا عليه ما هو فيه فانتقدوه وقالوا :
هذا الأعرابي الذي ولاّه معاوية أمر الناس والله سائل عنه (1) .
ومضى صوب قبر أبيه فجلس عنده وهو باكي العين وأنشأ يقول :
جاء البريد بقرطاس يخب به فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا لك الويل ماذا في كتابكم قال الخليفة أمسى مدنفاً وجعا (2)

ثم سار نحو القبة الخضراء في موكب رسمي تحفّ به بنو اُميّة وأخواله وشرطته .

خطابه في أهل الشام :

وخطب يزيد في أهل الشام خطاباً أعلن فيه عن عزمه على خوض حرب مدمّرة مع أهل العراق جاء فيه :
يا أهل الشام ، فإنّ الخير لكم يزل فيكم ، وسيكون بيني وبين أهل العراق حرب شديدة ، وقد رأيت في منامي كأنّ نهراً يجري بيني وبينهم دماً عبيطاً ، وجعلت أجهد في منامي أن أجوز ذلك النهر فلم أقدر على ذلك ، حتى جاءني عبيد الله بن زياد فجازه بين يدي وأنا أنظر إليه ...
وانبرى أهل الشام فأعلنوا دعمهم الكامل له قائلين :

(1) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 1 : 267 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 : 266 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام187

يا أمير المؤمنين امض بنا حيث شئت ، واقدم بنا على من أحببت ، فنحن بين يديك ، وسيوفنا تعرفها أهل العراق في يوم صفين .
وشكرهم يزيد على ولائهم ، وأثنى على إخلاصهم (1) . وقد كشف خطابه عن تصميمه على حرب أهل العراق ، وذلك لعلمه بكراهيتهم له ، وتجاوبهم الكامل مع الإمام الحسين .

مع المعارضة في يثرب :

وكان يزيد يتحرّق غيظاً وغضباً على الجبهة المعارضة له في يثرب والتي كانت لا تراه أهلاً لولاية أمير المسلمين ، أمّا أعلام المعارضة فهم :

1 ـ الإمام الحسين :


وهو ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وريحانته ، وكان يتمتّع بنفوذ واسع النطاق في معظم الأقاليم الإسلامية .
2 ـ عبد الله بن الزبير :


وهو من أعلام المعارضة ، إلاّ أنّه لم تكن له شعبية ولم يتمتّع بصفة فاضلة ، وكان يرى أنّه أفضل من يزيد وأحقّ بالبيعة والخلافة منه .

أوامره المشدّدة إلى الوليد :

وأصدر الطاغية أوامره المشدّدة إلى الوليد بن عتبة عامله على يثرب بإرغام المعارضين له على أخذ البيعة منهم فإن امتنعوا نفّذ فيهم حكم الإعدام ، وقد جاء في رسالته :
إذا أتاك كتابي فاحضر الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير فخذهما بالبيعة ،

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 : 244 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام188

فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برؤوسهما ، وخذ الناس بالبيعة فمن امتنع فانفذ فيه الحكم ، وفي الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير والسلام (1) .

فزع الوليد :

ولمّا انتهت رسالة يزيد إلى الوليد فزع فزعاً شديداً فإن التنكيل بالمعارضين وإنزال العقاب الصارم بهم ليس بالأمر السهل ، فإنّ معاوية مع ما يتمتّع به من القابليات الدبلوماسية لم يستطع إرغام الإمام الحسين على أخذ البيعة منه ليزيد فكيف يستطيع الوليد تنفيذ ذلك .
ورأى الوليد أن يعرض الأمر على مروان عميد الاُسرة الاُموية ويستشيره في الأمر ، فبعث خلفه وأطلعه على رسالة يزيد فقال له مروان :
ابعث إليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد ، فإن فعلوا قبلت منهم ذلك ، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية ، فإنّهم إن علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه ، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قِبَل لك به ، إلاّ عبد الله بن عمر فإنّه لا ينازع في هذا الأمر أحداّ ، مع أنّي أعلم أن الحسين بن عليّ لا يجيبك إلى بيعة يزيد ولا يرى له عليه طاعة ، والله لو كنت في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أضرب رقبته كائناً في ذلك ما كان .
وعظم ذلك على الوليد فقد اختار له مروان هلاك دينه ودنياه ، فقال له : يا ليت الوليد لم يولد ، ولم يك شيئاً مذكوراً .
وسخر منه مروان ، وراح يندّد به قائلاً :
لا تجزع ممّا قلت لك ، فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر ولم

(1) تاريخ اليعقوبي 2 : 215 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام189

يزالوا ، وهم الذين قتلوا الخليفة عثمان بن عفان ، ثم ساروا إلى أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ فحاربوه .
ونهره الوليد ونصحه قائلاً :
ويحك يا مروان عن كلامك هذا ، وأحسن القـول في ابـن فاطمة فإنّه بقـية النبـوة (1) .
واتّفق رأي الوليد ومروان على استدعاء الإمام الحسين وابن الزبير وعرض الأمر عليهما ، والنظر في رأيهما .

استدعاء الحسين :

وأرسل الوليد في منتصف الليل (2) عبد الله بن عمرو بن عفان خلف الإمام الحسين وابن الزبير ، ومضى الفتى يدعوهما فوجدهما في الجامع النبوي ، فعرض عليهما الأمر فأجاباه إلى ذلك وأمراه بالانصراف ، والتفت ابن الزبير إلى الإمام فقال له :
ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها ؟
فأجابه الإمام :
«أظنّ أن طاغيتهم ـ يعني معاوية ـ قد هلك فبعث إلينا بالبيعة قبل أن يفشو بالناس الخبر ..» .
واستصوب ابن الزبير رأي الإمام قائلاً :
وأنا ما أظنّ غيره ، فما تريد أن تصنع ؟
«أجمع فتياني في الساعة ثم أسير إليه ، وأجلسهم على الباب» .
وانبرى ابن الزبير يبدي مخاوفه على الإمام قائلاً :

(1) الفتوح 5 : 12 ـ 13 ، ذكرنا عرضاً مفصّلاً للأسباب التي دعت مروان إلى هذا الموقف مع المعارضة في كتابنا (حياة الإمام الحسين عليه السلام) .
(2) البداية والنهاية 8 : 160 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام190

إنّي أخاف عليك إذا دخلت .
«لا آتيه إلاّ وأنا قادر على الامتناع ..» (1) .
واتّجه الإمام الحسين عليه السلام صوب الوليد ، فلمّا التقى به نعى إليه معاوية فاسترجع الإمام ، وقال له :
«لماذا دعوتني ؟» .
دعوتك للبيعة .
فطلب منه الإمام تأجيل البيعة قائلاً :
«إن مثلي لا يبايع سرّاً ، ولا يجتزئ بها منّي سرّاً ، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم كان الأمر واحداً ..» .
لقد أراد الإمام أن يعلن رأيه أمام الجماهير في رفضه البيعة ليزيد ، وعرف مروان قصده فصاح بالوليد :
ولئن فارقك ـ يعني الحسين ـ الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبسه فإن بايع وإلاّ ضربت عنقه .
ووثب أبي الضيم كالأسد . فقال للوزغ ابن الوزغ :
«يابن الزرقاء ، أأنت تقتلني أم هو ؟ كذبت والله ولؤمت» (2) .
وأقبل على الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه على رفضه الكامل للبيعة ليزيد قائلاً :
«أيها الأمير إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحل الرحمة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة والبيعة ..» (3) .

(1) (2) تاريخ ابن الأثير 3 : 264 .
(3) حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 : 255 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام191

وكان هذا أوّل إعلان من الإمام الحسين عليه السلام بعد هلاك معاوية في رفضه البيعة ليزيد ، لقد أعلن ذلك في بيت الإمارة من دون مبالاة ولا خوف من السلطة ، كيف يبايع حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله يزيد الفاسق شارب الخمر وقاتل النفس المحرمة ، ولو بايعه فأقرّه إماماً على المسلمين ، وعرّض العقيدة الإسلامية إلى الانهيار والدمار وعصف بها في متاهات سحيقة من محامل هذه الحياة .
واستاء مروان من موقف الإمام ووجّه لوماً وعتاباً إلى الوليد قائلاً :
عصيتني ، لا والله لا يمكنك مثلها من نفسه أبداً .
وردّ عليه الوليد ببالغ الحجّة قائلاً :
ويحك يا مروان أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي والله ما أحبّ أن أملك الدنيا بأسرها ، وإنّي قتلت حسيناً سبحان الله !! أأقتل حسيناً إن قال لا أبايع ، والله ما أظن أحداً يلقى الله بدم الحسين إلاّ وهو خفيف الميزان لا ينظر الله إليه يوم القيامة ، ولا يزكّيه وله عذاب أليم .
وسخر منه مروان وراح يقول :
إذا كان هذا رأيك فقد أصبت .. (1) .

مغادرة الإمام يثرب :

وعزم الإمام عليه السلام على مغادرة يثرب ليلوذ بالبيت الحرام ، وينشر دعوته فيه .

وداعه لقبر جدّه :

وخفّ الإمام الحسين عليه السلام إلى قبر جدّه ، وهو حزين كئيب يشكو إلى الله ما ألمّ به من الخطوب قائلاً :

(1) تاريخ الطبري 5 : 340 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام192

«اللهم إنّ هذا قبر نبيّك محمد صلى الله عليه وآله ، وأنا ابن بنت محمّد ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، اللهم إنّي أحبّ المعروف وأنكر المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق هذا القبر ومن فيه إلاّ ما اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى ..» (1) .
ويلمس في هذا الدعاء مدى انقطاعه الكامل إلى الله تعالى ، وحبّه العارم إلى إقامة المعروف وتدمير الباطل ، وهو يسأل الله ـ بلهفة ـ أن يختار له الصالح في دينه ودنياه .
وتوجّه الإمام في غلس الليل البهيم إلى قبر اُمّه سيّدة نساء العالمين فودّعها الوداع الأخير ، ووقف قبال قبرها الشريف ، وتمثّلت أمامه ذكريات عواطفها الفيّاضة ، وشدّة حنوها عليه فانفجر بالبكاء ، وذابت نفسه أسى وحسرات ، ثم ودّع القبر وداعاً حارّاً ، وانصرف إلى مرقد أخيه الزكي الإمام أبي محمد عليه السلام فأخذ يروي ثراه بدموع عينيه وقد طافت به الآلام ، ثم قفل راجعاً إلى منزله .

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 : 259 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام193

إلى مكة

وبعدما أعلن الإمام رفضه الكامل لبيعة الطاغية يزيد عزم على مغادرة يثرب والتوجّه إلى مكة المشرّفة ليبثّ دعوته فيها ، وقد دعا العقيلة اُخته السيدة زينب عليها السلام وعرّفها بعزمه وما سيجري عليه من الأحداث ، وطلب منها أن تشاركه في محنته ، فاستجابت له ، وصمّمت على مساعدته في نهضته وثورته التي يقيم فيها لحقّ ويدحر الباطل ، كما دعا أولاده وزوجاته وأخوته وبني عمومته إلى مصاحبته فلبّوا جميعاً ولم يتخلّف منهم أحد إلاّ لعذر قاهر .
ولمّا أصبحوا جاء الموالي بالإبل فحملوا عليها الخيام وأدوات المياه والأرزاق وغيرها وأعدّوها للسفر ، وخرجت حفيدة الرسول السيدة زينب تجرّ أذيالها ونفسها مترعة بالهموم والآلام ، وقد أحاطت بها جواريها ، وكان إلى جانبها أخوها أبو الفضل العباس قمر بني هاشم ، فكان هو الذي يتولّى رعايتها وخدماتها ، وقد ملئت نفسه إجلالاً وإكباراً وولاءً لها ، واستقلّت الإبل بعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وحدا بهم الحادي إلى مكّة المكرمة ، وقد خيّم الحزن والأسى على المدنيّين حينما رأوا آل النبي صلى الله عليه وآله صلى الله عليه وآله قد نزحوا عنهم إلى غير مئاب .
وكان سيد الشهداء عليه السلام يتلو في طريقه قوله تعالى : «ربّ نجّني من القوم الظالمين» (1) .

(1) القصص : 21 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام194

لقد شبّه خروجه بخروج نبي الله موسى بن عمران على فرعون زمانه ، وكذلك هو خرج على طاغية عصره حفيد أبي سفيان ليقيم الحقّ وينشر العدل بين الناس ، وسلك عليه السلام في سفره الطريق العام من دون أن يتجنّب عنه كما فعل ابن الزبير مخافة أن يدركه الطلب من قبل السلطة في يثرب ، فامتنع وأجاب :
«لا والله لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكة ، أو يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى» .
لقد رضي بما كتب الله وقدّر له ، لم تضعف همّته ، ولم توهن عزيمته ، ولم يبال بالأحداث المروعة التي سيواجهها ، وكان يتمثّل في أثناء مسيرته بشعر يزيد ابن المفرغ :
لا ذعرت السوام في فلق الصبح مغـيراً ولا دعـيـت يـزيـدا
يوم أعطى مخافة الموت ضيما والمنـايا تـرصدنني أن أحـيدا (1)

لقد كان على ثقة أنّ المنايا ترصده لا تحيد عنه ما دام مصمّماً على عزمه الجبار في أن يعيش عزيزاً ولا يخضع لحكم يزيد .

احتفاف الحجاج والمعتمرين بالإمام :

وانتهى الإمام عليه السلام إلى مكة المكرمة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان (2) . وقدحطّ رحله في دار العباس بن عبد المطلب (3) ، وقد استقبله المكّيون استقبالاً حافلاً ، وجعلوا يختلفون إليه بكرةً وعشيةً وهم يسألونه عن أحكام دينهم ، كما يسألونه عن موقفه تجاه الحكم القائم .

(1) خطط المقريزي 2 : 285 .
(2) تاريخ الطبري 6 : 190 .
(3) تاريخ ابن عساكر 13 : 68 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام195

وأخذ القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجاج والمعتمرين يختلفون إليه ويطوفون حوله ، ويتبرّكون بتقبيل يده ، ويلتمسون منه العلم والحديث ، ولم يترك الإمام لحظة واحدة من الوقت تمرّ دون أن يبثّ الوعي الاجتماعي والسياسي في نفوس القادمين إلى بيت الله الحرام ويدعوهم إلى اليقظة والحذر من الحكم الاُموي الهادف إلى استعباد المسلمين وإذلالهم .

فزع السلطة المحلية :

وفزعت السلطة المحلية في مكة من قدوم الإمام ، وخافت أن يتّخذها مقرّاً سياسياً لدعوته ومنطلقاً لإعلان الثورة على حكومة يزيد ، وقد خفّ حاكم مكة عمرو بن سعيد الأشدق إلى الإمام ، وقال له :
ما أقدمك ؟ .
«عائذاً بالله وبهذا البيت ..» (1) .
لقد جاء الإمام إلى مكة عائذاً ببيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً من كل ظلم واعتداء .
ولم يحفل الأشدق بكلام الإمام ، وإنّما رفع رسالة إلى يزيد أحاطه بها علماً بمجيء الإمام إلى مكة ، واختلاف الناس إليه ، وازدحامهم على مجلسه ، وإجماعهم على تعظيمه ، وأنّ ذلك يشكّل خطراً على الدولة الاُموية ، واضطرب يزيد حينما وافته رسالة عامله الأشدق ، فرفع إلى ابن عباس رسالة يمنّي فيها الإمام الحسين بالسلامة إن استجاب لبيعته ، ويتهدّده إن لم يستجب لذلك ، وقد أجابه ابن عباس : أنّ الحسين إنّما نزح عن يثرب لمضايقة السلطة المحلية له ، كما وعده أن يلقى الإمام ويعرض عليه ما طلبه منه ، وقد ذكرنا ذلك في (حياة الإمام

(1) انظر تذكرة الخواص : 248 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام196

الحسين ـ نصّ رسالة يزيد وجواب ابن عباس) .

إعلان التمرّد في العراق :

وبعدما هلك معاوية أعلن العراقيون رفضهم لبيعة يزيد وخلعهم لطاعته ، فكانت أندية الكوفة تعجّ بمساوئ معاوية وابنه الخليع يزيد ، وذهب المستشرق (كريمر) إلى أنّ الأخيار والصلحاء من الشيعة ينظرون إلى يزيد نظرتهم إلى ورثة أعداء الإسلام (1) .
وعلى أي حال فإن أهل الكوفة لم يرضوا بحكم يزيد وأجمعوا على خلع بيعته ، وقد عقدت الشيعة مؤتمراً عاماً في بيت سليمان بن صرد الخزاعي ، وهو من أكابر زعمائهم ، وألقوا الخطب الحماسية التي أظهرت مساوئ الاُمويّين وما اقترفوه من الظلم والجور ضدّ شيعة أهل البيت ، ودعوا إلى البيعة للإمام الحسين عليه السلام ، وكان من جمة الخطباء سليمان بن صرد ، وقد جاء في خطابه :
إنّ معاوية قد هلك ، وأنّ حيسناً قد قبض على القوم بيعته ، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبو إليه ، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه .
وتعالت أصواتهم من كل جانب ، وهم يقولون بحماس بالغ :
نقتل أنفسنا دونه .. نقاتل عدوّه .
وأظهروا بالإجماع دعمهم الكامل للحسين ، ورغبتهم الملحّة في نصرته والدفاع عنه ، وأجمعوا على إرسال وفد إليه يدعونه للقدوم إليهم .

وفود أهل الكوفة للإمام :

وأرسلت الكوفة وفوداً متعدّدة إلى الإمام يدعونه إلى القدوم إلى مصرهم لينقذهم

(1) العقيدة والشريعة في الإسلام : 69 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام197

من ظلم الاُمويين وجورهم ، ويعلنون دعمهم الكامل له ، وكان من بين الوافدين عبد الله الجدلي (1) .

رسائل أهل الكوفة :

وعمد أهل الكوفة إلى كتابة جمهرة من الرسائل إلى الإمام يحثّونه على القدوم إليهم لينقذ الاُمّة من شرّ الاُمويّين ، وكان من بين تلك الرسائل رسالة بعثها جماعة من شيعة الإمام وجاء فيها بعد البسملة :
من سليمان بن صرد ، والمسيب بن نجية ، ورفاعة بن شداد ، وحبيب بن مظاهر وشيعته والمسلمين من أهل الكوفة :
أمّا بعد ، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد ـ يعني معاوية ـ الذي انتزا على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها وغصبها فيئها وتآمر عليها بغير رضىً منها ، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبُعداً له كما بعدت ثمود .
إنّه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ ، واعلم أنّ النعمان ابن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (2) .
كما وردت إليه رسائل من الانتهازيين وشيوخ الكوفة ، كان منها ما أرسله شبث بن ربعي اليربوعي ، ومحمد بن عمر التميمي ، وحجار بن أبجر العجلي ، ويزيد بن الحارث الشيباني ، وعزرة بن قيس الأحمسي ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، وهذا نصّها :

(1) مقاتل الطالبيّين : 95 .
(2) أنساب الأشراف : 157 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي