السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام198

أمّا بعد ، فقد إخضرّ الجناب ، وأينعت الثمار ، وطمت الجمام (1) ، فاقدم على جند لك مجنّدة والسلام عليك (2) .
وأعربت هذه الرسالة عن شيوع الأمل وازدهار الحياة ، وتهيئة البلاد عسكرياً للأخذ بحقّ الإمام ومناجزة خصومه ، وقد وقّعها اولئك الأشخاص الذين لا يؤمنون بالله ، وكانوا في طليعة القوى العسكرية التي زجّها ابن مرجانة لحرب الإمام .
وعلى أي حال فقد توافدت الرسائل يتبع بعضها بعضاً على الإمام ، حتى اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب ، ووردت عليه قائمة فيها مائة وأربعة ألف اسم ، يعربون فيها عن نصرتهم واستعدادهم الكامل لطاعته حال ما يصل إلى مقرهم .
ولكن بمزيد الأسف لقد انطوت تلك الصحيفة ، وتبدّلت الأوضاع إلى ضدّها ، وإذا بالكوفة تنتظر الحسين لتثب عليه فتريق دمه ودماء أهل بيته وأصحابه وتسبي عياله ، وهكذا شاءت المقادير ، ولا رادّ لأمر الله تعالى وقضائه .

إيفاد مسلم إلى العراق :

وعزم الإمام على أن يلبّي طلب أهل الكوفة ويستجيب لدعوتهم ، فأوفد إليهم ممثّله العظيم ابن عمّه مسلم بن عقيل ليعرّفه باتجاهاتهم وصدق نيّاتهم ، فإن رأى منهم عزيمة مصمّمة فيأخذ منهم البيعة ، وزوده بهذه الرسالة .
«من الحسين بن علي إلى من بلغه كتاب هذا من أوليائه وشيعته بالكوفة سلام عليكم
أمّا بعد ، فقد أتتني كتبكم ، وفهمت ما ذكرتم من محبّتكم لقدومي عليكم ، وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ليعلم لي كُنه

(1) الجمام : الآبار .
(2) أنساب الأشراف : 158 ـ 159 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام199

أمركم ، ويكتب إلى بما يتبيّن له من اجتماعكم فإن كان أمركم على ما أتتني به كتبكم وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم إليكم إن شاء الله ، والسلام» (1) .

مسلم في بيت المختار :

وسار مسلم يطوي البيداء حتى انتهى إلى الكوفة فنزل في بيت المختار الثقفي (2) ، وهو من أشهر أعلام الشيعة ، ومن أحبّ الناس وأنصحهم وأخلصهم للإمام الحسين عليه السلام .
وفتح المختار أبواب داره لمسلم ، وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم ودعا الشيعة لمقابلته ، فهرعوا إليه من كل حدب وصوب ، وهم يظهرون له الولاء والطاعة ، وكان مسلم يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين عليه السلام وهم يبكون ، ويبدون تعطّشهم لقدومه والتفاني في نصرتهم له ليعيد في مصرهم حكم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وينقذهم من جور الاُمويّين وظلمهم.

البيعة للحسين :

وانهالت الشيعة على مسلم تبايع للإمام الحسين عليه السلام ، وكان حبيب بن مظاهر هو الذي يأخذ منهم البيعة للحسين (3) ، وكان عدد المبايعين أربعين ألفاً ، وقيل : أقل من ذلك (4) .

رسالة مسلم للحسين :

وازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة ، وبهر من العدد الهائل الذين بايعوا

(1) الأخبار الطوال : 210 .
(2) الحدائق الوردية 1 : 125 ، (مخطوط) .
(3) حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 : 347 .
(4) وفي رواية البلاذري أنّ جميع أهل الكوفة معه .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام200

الحسين فكتب له :
«أمّا بعد ، فإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً (1) ، فعجّل حين يأتيك كتابي هذا فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى ..» .
لقد حكت مسلم هذه الرسالة إنّ هناك إجماعاً عاماً على بيعة الإمام وتلهفاً حارّاً لقدومه ، وقد حمل الرسالة جماعة من أهل الكوفة وعليهم البطل عابس الشاكري ، وعند ذلك تهيّأ الإمام الحسين للخروج من مكة إلى العراق .

فزع يزيد :

وفزع يزيد حينما وافته الأنباء من عملائه بمجيء مسلم بن عقيل إلى الكوفة وأخذه البيعة للإمام الحسين عليه السلام ، واستجابة الجماهير لبيعة الإمام ، وشعر يزيد بالخطر الذي يهدّد ملكه ، فاستدعى سرجون الرومي ، وكان مستودع أسرار أبيه ومن أدهى الناس ، وعرض عليه الأمر قائلاً :
ما رأيك أنّ حسيناً قد توجّه إلى الكوفة ، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين ، وقد بلغني عن النعمان ـ وهو والي الكوفة ـ ضعف وقول سيء ، فما ترى من استعمل على الكوفة ؟ .
وأخذ سرجون يطيل التأمّل ، حتى توصّل الى نتيجة حاسمة فقال له :
أرأيت أنّ معاوية لو نُشر أكنت آخذ رأيه .
نعم .
فأخرج سرجون عنهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة وقال له : هذا رأي معاوية ، وقد مات ، وقد أمر بهذا الكتاب (2) .

(1) تاريخ الطبري 6 : 224 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 : 268 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام201

واستجاب يزيد لرأي مستشار أبيه ، فعهد بولاية الكوفة إلى ابن زياد .

ولاية ابن زياد على الكوفة :

وكان يزيد ناقماً على ابن زياد وأراد عزله عن ولاية البصرة (1) وذلك الموقف أبيه زياد من يزيد ، فقد عذل أباه معاوية عن ترشيحه للخلافة من بعده .
وعلى أي حال فقد عهد يزيد بولاية البصرة والكوفة إلى ابن زياد ، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه ، وكتب إليه ما يلي :
أمّا بعد : فقد كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة ، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة ، حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام (2) .
وبعث إليه برسالة اُخرى يطلب فيها الإسراع منه إلى الكوفة ، وقد جاء فيها : إن كان لك جناحان فطر إلى الكوفة .. (3) .
وحمل رسالة يزيد مسلم بن عمرو الباهلي إلى ابن زياد ، وأخذ يجدّ في السير حتى انتهى إلى البصرة فسلّم الرسالة إلى ابن زياد ، وقد طار فرحاً فقد تمّ له الحكم على جميع العراق بعدما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة .

ابن زياد في الكوفة :

وسار ابن زياد إلى الكوفة وقد قطع الطريق بسرعة خاطفة فكان يسير ليلاً ونهاراً مخافة أن يسبقه الحسين إليها ، وقد صحب معه خمسمائة رجل من أهل البصرة كان

(1) البداية والنهاية 8 : 152 .
(2) حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 : 354 .
(3) سير أعلام النبلاء 3 : 201 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام202

فيهم شريك بن الأعور الحارثي وهو من خلص أصحاب الإمام الحسين (1) . وقد لبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم من رآه أنّه الحسين ، ودخل الكوفة ممّا يلي النجف ، وأسرع نحو قصر الإمارة وهو فزع مذعور مخافة أن يعرفه الناس ، وساءه كأشدّ ما يكون الاستياء من تباشير الناس بقدومه ظانّين أنّه الحسين .
وانتهى ابن مرجانة إلى باب القصر فوجده مغلقاً ، والنعمان بن بشير حاكم الكوفة قد أشرف من أعلى القصر ، وقد توهّم أنّ القادم هو الحسين لأنّ أصوات الجماهير قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته فانبرى مخاطباً له :
ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يابن رسول الله ، وما لي في قتالك من إرب .
ولمس ابن مرجانة الضعف والانهيار في كلام النعمان فصاح به :
افتح لا فتحت فقد طال ليلك .
ولمّا تكلّم عرفه الناس فصاحوا إنّه ابن مرجانة وربّ الكعبة ، وجفل الناس وخافوا وهربوا مسرعين إلى دورهم . وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسلاح ، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي وهم يحدّثونه عن الثورة ، ويعرّفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون أمامه المخططات الرهيبة للقضاء عليها .
وقام ابن زياد في الصباح الباكر فأمر عملاءه بجمع الناس في المسجد الأعظم ، فاجتمعت الجماهير الحاشدة وقد خيّم عليها الذعر والخوف ، وخرج ابن زياد متقلّداً سيفه ومعتمّماً بعمامة ، فاعتلى المنبر وخطب الناس ، وكان من جملة خطابه :
أمّا بعد : فإنّ أمير المؤمنين يزيد ـ أصلحه الله ـ ولاني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، والإحسان إلى سامعكم

(1) تاريخ الطبري 6 : 199 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام203

ومطيعكم ، وبالشدّة على مريبكم ، فأنا لمطيعكم كالوالد البارّ الشفيق ، وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي ، فليتّق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ عنك لا الوعيد .. (1) .
وقام بنشر الإرهاب وإشاعة الخوف بين الناس ، ويقول بعض المؤرخين : إنّه لمّا أصبح ابن زياد ـ بعد قدومه إلى الكوفة ـ صال وجال وأرعد وأبرق ، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة .. (2) .
وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس ، وخرج إليهم بزيّ غير ما كان يخرج به ، فخطب خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعد ، وقال :
أمّا بعد : فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة من غير عنف ولين من غير ضعف ، وأن آخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، والولي بالولي ...
فردّ عليه رجل من أهل الكوفة يقال له أسد بن عبد الله المري قائلاً :
أيها الأمير ، إن الله تبارك وتعالى يقول : «ولا تزر وازرة وزر أُخرى» إنّما المرء بجده ، والفرس بشده ، وعليك أن تقول علينا أن نسمع ، فلا تقدم فينا السيّئة قبل الحسنة .
وأفحم ابن زياد فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة (3) .

مسلم في بيت هانئ :

وبعدما كان مسلم في بيت المختار اضطر إلى تغيير مقرّه ، فقد شعر بالخطر الذي داهمه بقدوم الطاغية ابن مرجانة ، فهو يعلم أنّ هذا الوغد لا يتحرّج من اقتراف أي جريمة في سبيل الوصول إلى أهدافه .

(1) مقاتل الطالبيّين : 97 .
(2) الفصول المهمّة : 197 .
(3) حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 : 160 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام204

والتجأ مسلم إلى دار الزعيم الكبير زعيم الكوفة هانئ بن عروة فهو سيّد مراد ، وعنده من القوة ما يضمن حماية مسلم ، فاتّخذ داره معقلاً للثورة ومركزاً للدعوة ، وقد قابله هانئ بمزيد زائد من الحفاوة والتكريم ، وأخذ الكوفيون يتوافدون على مسلم زرافات ووحداناً ، وهم يلحّون عليه أن يكتب إلى الإمام الحسين عليه السلام بالمجيء إليهم .

التجسّس على مسلم :

وأوّل بادرة وأخطرها قام بها ابن زياد هي التجسّس على مسلم ، ومعرفة نشاطاته السياسية والوقوف على نقاط القوة والضعف عنده ، وقد اختار للقيام بهذه المهمة معقلاً مولاه ، وكان فطناً ذكياً ، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يتّصل بالشيعة ، ويعرّفهم أنّه من أهل الشام وأنّه من موالي ذي الكلاع الحميري ، وإنّما أمره بالانتساب للموالي لأنّ الصبغة السائدة لهم هي الولاء لأهل البيت عليهم السلام ، وقال له : إذا التقيت بأحد من الشيعة فقل له : إنّه ممّن أنعم الله عليه بحبّ أهل البيت ، وقد سمع أنّه قدم رجل منهم إلى الكوفة يدعو للإمام الحسين ، وعنده مال يريد أن يلقاه ليوصله إليه حتى يستعين به على حرب عدوّه ، ومضى معقل في مهمّته ، فدخل الجامع الأعظم ، وجعل يسأل عمّن له معرفة بمسلم فأرشدوه إلى مسلم بن عوسجة ، وهو من ألمع شخصيات الشيعة في الكوفة ، فانبرى إليه يظهر الإخلاص والولاء لأهل البيت عليهم السلام قائلاً :
إنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال ، وتدلّني على صاحبك لاُبايعه ، وإن شئت أخذت بيعتي قبل لقائي إيّاه .
وخدع مسلم بقوله ، فقال له : لقد سرّني لقاؤك إيّاي لتنال الذي تنال والذي تحبّ ، وينصر الله بك أهل نبيّه ، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي من قبل أن يتمّ مخافة هذا الطاغية وسطوته ، ثمّ أخذ منه البيعة والمواثيق المغلظة على النصيحة

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام205

وكتمان الأمر (1) .
وفي اليوم الثاني أدخله على مسلم فبايعه وأخذ منه المال وأعطاه إلى أبي ثمامة الصائدي ، وكان موكّلاً بقبض المال ليشتري به السلاح والكلاع ، وكان هذا الجاسوس الخطير معقل أوّل داخل على مسلم وآخر خارج منه ، وقد أحاط بجميع أسرار الثورة ونقلها إلى ابن زياد ، حتى وقف على جميع مخططات الثورة وأعضائها .

اعتقال هانئ :

وعرف ابن زياد أنّ أهم أعضاء الثورة هانئ بن عروة الزعيم الكبير ، وفي بيته مسلم ابن عقيل ، فأرسل وفداً خلفه كان منهم حسان بن أسماء بن خارجة زعيم فزارة ، ومحمّد بن الأشعث زعيم كندة ، وعمرو بن الحجاج وهو من زعماء مذحج ، ولمّا التقوا به قالوا له :
ما يمنعك من لقاء الأمير فإنّه قد ذكرك وقال : لو علم أنّه شاك لعدته ...
فاعتذر لهم ، وقال : الشكوى تمنعني ، فلم يقنعوا بذلك ، وأخذوا يلحّون عليه في زيارته ، فاستجاب لهم على كره وسار معهم ، فلمّا كان قريباً من القصر أحسّت نفسه بالشرّ ، فقال لحسان بن أسماء : يابن الأخ ، إنّي والله لخائف من هذا الرجل فما ترى ؟ فقال له حسان : يا عمّ ، والله ما أتخوّف عليك شيئاً ، ولم تجعل على نفسك سبيلاً ، وأخذ القوم يلحّون عليه بمقابلة ابن مرجانة ، فاستجاب لهم ، ولمّا مثل أمامه استقبله ابن مرجانة بعنف ، وقال له :
أتتك بخائن رجلاه .
وذعر هانئ فقال له :

(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 269 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام206

ما ذاك أيها الأمير ؟
فصاح به الطاغية :
إيه يا هانئ ما هذه الامور التي تتربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ .
فانكر هانئ وقال :
ما فعلت ذلك ، وما مسلم عندي .
بلى ، قد فعلت .
وطال النزاع واحتدم الجدال بينهما ، فرأى ابن زياد أن يحسم النزاع فدعا الجاسوس معقلاً ، فلمّا مثل أمامه قال لهانئ :
أتعرف هذا ؟
نعم .
وأسقط ما في يدي هانئ ، وأطرق برأسه إلى الأرض ، ولكن سرعان ما سيطر على الموقف ، فقال لابن مرجانة :
قد كان الذي بلغك ، ولن أضيع يدك عندي (1) تشخص لأهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم فإنّه جاء حقّ من هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك (2) .
وثار ابن زياد فرفع صوته :
والله لا تفارقني حتى تأتيني به ـ أي بمسلم ـ .
وسخر منه هانئ ، وردّ عليه :
لا آتيك بضيفي أبداً .

(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 271 .
(2) مروج الذهب 3 : 7 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام207

وطال الجال بين هانئ وبين ابن مرجانة ، فانبرى مسلم بن عمر الباهلي وهو من خدام السلطة إلى ابن زياد طالباً منه أن يتخلي بهانئ ليقنعه ، فسمح له بذلك فاختلى به ، وقال له : يا هانئ ، اُنشدك الله أن لا تقتل نفسك ، وتدخل البلاء على قومك ، إنّ هذا الرجل ـ يعني مسلماً ـ ابن عمّ القوم ، وليسوا بقاتليه ، ولا ضائريه ، فادفعه إليه ، فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة ، إنّما تدفعه إلى السلطان .
ولم يحفل هانئ بهذا المنطق الرخيص فهو على علم لا يخامره شكّ أنّ ابن زياد لو ظفر بمسلم لقطّعه إرباً ، ومن الطبيعي أنّ ذلك يعود بالعار والخزي على هانئ ، فكيف يسلّم وافد آل محمد إلى هذا الإنسان الممسوخ ، وقال هانئ :
بلى والله عليَّ في ذلك اعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي وهو رسول ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وأن حيّ صحيح الساعدين ، كثير الأعوان ، والله لو لم أكن إلاّ وحدي لمّا سلّمته أبداً .
وحفل كلام هانئ بمنطق الأحرار الذين وهبوا حياتهم للمُثل العليا والقيم الكريمة .. ولمّا يئس الباهلي من هانئ قال لابن زياد :
أيها الأمير ، قد أبى أن يسلّم مسلماً أو يقتل (1) .
والتفت الطاغية إلى هانئ فصاح به :
أتأتيني به أو لأضربنّ عنقك .
فلم يعبأ به هانئ ، وقال :
إذن تكثر البارقة حولك (2) .
فثار ابن مرجانة وقال :

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 : 375 .
(2) البارقة : السيوف .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام208

والهفا عليك أبالبارقة تخوفني .
وصاح بغلامه مهران وقال له : خذه ، فأخذ بضفيرتي هانئ ، وأخذ ابن زياد القضيب فاستعرض به وجهه ، وضربه ضرباً قاسياً حتى كسر أنفه ، ونثر لحم خديه ، وجبينه على لحيته حتى تحطّم القضيب ، وسالت الدماء على ثيابه ، وعمد هانئ إلى قائم سيف شرطي محاولاً اختطافه ليدافع به عن نفسه فمنعه منه ، فصاح به ابن زياد :
احروري أحللت بنفسك ، وحلّ لنا قتلك .
ثمّ أمر ابن زياد باعتقاله في أحد بيوت القصر (1) ، وانتهى خبره إلى اُسرته من مذحج ، وهي من أكثر قبائل الكوفة عدداً ، إلاّ أنّها لم تكن متماسكة ، وقد شاعت الانتهازية في جميع أفرادها .
وعلى أي حال ، فقد سارعت مذحج بقيادة العميل الخائن عمرو بن الحجاج وقد رفع عقيرته لتسمعه السلطة قائلاً :
أنا عمرو بن الحجاج وهذه فرسان مذحج ووجوهها ، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة .
ولم يعن به ابن زياد ولا بقومه ، فالتفت إلى شريح القاضي فقال له :
ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثم اخرج إليهم فاعلمهم أنّه حيّ .
وخرج شريح فدخل على هانئ فلمّا نظر إليه صاح مستجيراً :
يا للمسلمين ، أهلكت عشيرتي ، أين أهل الدين ؟ أين أهل المصر ؟
والتفت هانئ إلى شريح فقال له :
يا شريح ، إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، إنّه إن دخل عليّ عشرة أنفر أنقذوني .

(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 271 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام209

ولم يحفل شريح بكلام هانئ ، وإنّما مضى منفذاً لأمر سيّده ابن مرجانة فخاطب مذحج قائلاً :
قد نظرت إلى صاحبكم وإنّه حيّ لم يُقتل .
وبادر عمرو بن الحجّاج قائلاً :
إذاً لم يُقتل فالحمد لله (1) .
وولّوا منهزمين كأنّما اُتيح لهم الخلاص من سجن ، وقد صحبوا معهم الخزي والعار ، وانطلقت الألسنة بذمّهم ، وقد ذمّهم شاعر أخفى اسمه حذراً من بطش الاُمويّين ونقمتهم قال :
إلى بطل قـد هشّـم السيـف وجهه وآخـر يُهوى من طمار قتيل (2)
أصـابهمـا فـرخ البغـيّ فأصبحا أحاديـث من يسيـري بكلّ سبيل
ترى جسداً قـد غيّر المـوت لـونه و نضح دم قد سـال كلّ مسيـل
فتىً كـان أحيـى من فتـاة حييَّـةٍ وأقطع مـن ذي شفرتيـن صقيل
أيـركب أسمـاء الهمـاليـج آمنـاً وقد طلبته مذحـج بذحـول (3)
تطـوف حواليـه مـراد و كـلّهـم على رقبة من سـائل و مسـول
فـإن أنتـم لـم تثـأروا بـأخيكـم فكونوا بغايا أُرضيت بقليـل (4)
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري إلى هاني فـي السوق وابن عقيل

لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير فلم تفِ له حقوقه ومعروفه الذي أسداه عليها ، وتركته أسيراً بيد ابن مرجانة يمعن في إرهاقه والتنكيل به حتى أعدمه في

(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 271 .
(2) الطمار : اسم لغرفة شيّدت فوق قصر الامارة وفي أعلاها قتل مسلم .
(3) الهماليج : جمع هملاج ، نوع من البرذون .
(4) مروج الذهب 2 : 70 ، والشاعر مجهول .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام210

وضح النهار بمرأى ومسمع منهم .

ثورة مسلم :

ولمّا علم مسلم بما جرى على هانئ بادر لإعلان الثورة على ابن زياد ، فأوعز إلى عبد الله بن حازم أن ينادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور ، فاجتمع إليه أربعة آلاف (1) ، وقيل : أربعون ألفاً (2) ، وكانوا ينادون بشعار المسلمين يوم بدر : (يا منصور أمت) ، وأسند القيادات العامة في جيشه إلى أحبّ الناس لأهل البيت عليهم السلام وهم :
1 ـ عبد الله بن عزيز الكندي : جعله على ربع كندة .
2 ـ مسلم بن عوسجة : جعله على ربع مذحج .
3 ـ أبو ثمامة الصائدي : جعله على ربع قبائل بني تميم وهمدان .
4 ـ العباس بن جعدة الجدلي : جعله على ربع المدينة .
واتّجه مسلم بجيشه نحو قصر الإمارة فأحاطوا به (3) .
وكان ابن مرجانة قد خرج من القصر ليخطب في الناس على أثر اعتقاله لهانئ ، ولمّا دخل الجامع الأعظم قام خطيباً فقال :
أمّا بعد يا أهل الكوفة ، فاعتصموا بطاعة الله ورسوله ، وطاعة أئمّتكم ولاتختلفوا ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتندموا وتقهروا ، فلا يجعلن أحد على نفسه سبيلاً وقد أعذر من أنذر .
وما أتمّ الطاغية خطابه حتى سمع الصيحة وأصوات الناس قد علت فسأل عن ذلك فقيل له : الحذر الحذر ، هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع من بايعه ،

(1) (3) تاريخ ابن الأثير 3 : 271 .
(2) تهذيب التهذيب 2 : 351 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام211

واختطف الرعب لونه فأسرع الجبان يلهث كالكلب من شدّة الخوف فدخل القصر وأغلق عليه أبوابه (1) .
وامتلأ المسجد والسوق من أصحاب مسلم ، وضاقت الدنيا على ابن زياد ، وأيقن بالهلاك ؛ إذ لم تكن عنده قوة تحميه سوى ثلاثين رجلاً من الشرطة وعشرين رجلاً من الأشراف والوجوه الذين هم عملاء السلطة (2) .

حرب الأعصاب :

ولم يجد الطاغية وسيلة يلجأ إليها لإنقاذه سوى حرب الأعصاب ، فأوعز إلى عملائه بإشاعة الخوف والرعب بين أصحاب مسلم ، وانبرى للقيام بهذه المهمة من يلي من عملائه وهم :
1 ـ كثير بن شهاب الحارثي .
2 ـ القعقاع بن شور الذهلي .
3 ـ شبث بن ربعي التميمي .
4 ـ حجار بن أبجر .
5 ـ شمر بن ذي الجوشن الضبابي (3) .
وأسرع هؤلاء العملاء إلى صفوف جيش مسلم فأخذوا ينشرون الخوف والأراجيف ، ويظهرون لهم الحرص والولاء لهم ، وكان ممّا قاله كثير بن شهاب :
أيّها الناس ، إلحقوا بأهاليكم ، ولا تعجّلوا بالشر ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل ، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين ـ يعني يزيد ـ قد اقبلت ، وقد أعطى الله الأمير

(1) البداية والنهاية 8 : 154 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 : 271 .
(3) المصدر السابق 3 : 272 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام212

ـ يعني ابن زياد ـ العهد لئن اقمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم ، أن يحرم ذرّيتكم العطاء ، ويفرّق مقاتلكم في مغازي أهل الشام من غير طمع ، وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب ، حتى لا تبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها .. (1) .
وكان هذا الكلام كالصاعقة على رؤوس أهل الكوفة ، فقد سرت فيهم أوبئة الخوف وانهارت معنوياتهم ، وجعل بعضهم يقول لبعض : ما نصنع بتعجيل الفتنة وغداً تأتينا جموع أهل الشام ينبغي لنا أن نقيم في منازلنا ، وندع هؤلاء القوم حتى يصلح الله ذات بينهم (2) .
وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها أو زوجها وهي مصفرّة الوجه من الخوف فتخذّله وتقول له : الناس يكفونك (3) .
وقد نجح ابن زياد في هذه الخطّة إلى حدّ بعيد .

هزيمة جيش مسلم :

ومُني جيش مسلم بهزيمة ساحقة بعد حرب الأعصاب والدعايات المضلّلة ، لقد انهزم جيشه من دون أن يكون قباله أيّة قوّة عسكرية ، ويقول المؤرخون : إنّ مسلماً كلّما انتهى إلى زقاق انهزم جماعة من أصحابه ، وهم يقولون :
«ما لنا والدخول بين السلاطين ..» (4) .
ولم يمض قليل من الوقت حتى انهزم معظمهم يصحبون الخزي والعار ، وصلّى ابن عقيل صلاة العشاء في الجامع الأعظم ، فكان من بقي من جيشه يفرّون

(1) تاريخ الطبري 6 : 208 .
(2) حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 : 384 .
(3) تاريخ أبي الفداء 1 : 300 .
(4) حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 : 385 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي