السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام213

في أثناء الصلاة ، وما أنهى مسلم صلاة العشاء حتى انهزموا جميعاً قادةً وجنوداً ، ولم يبق منهم أحد يدلّه على الطريق ، وبقي حيراناً لا يدري إلى أين مسراه ومولجه ، فقد أمسى طريداً مشرّداً لا مأوى يأوي إليه ، ولا قلب يعطف عليه .

في ضيافة طوعة :

وسار مسلم في أزقة الكوفة وشوارعها ، ومضى هائماً على وجهه في جهة كندة يلتمس داراً ليبقى فيها بقية الليل ، وقد خلت المدينة من المارة ، فقد أسرع جنده إلى دورهم ، وأغلقوا عليهم الأبواب مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن وعيون ابن زياد فتخبر السلطة بأنّه كان مع ابن عقيل فتلقي عليه القبض .
وسار مسلم وهو خائر القوى قد أحاطت به تيارات مذهلة من الهموم والأفكار ، وقد انتهى في مسيرته إلى باب سيّدة يقال لها (طوعة) وهي سيدة مَن في المصر رجالاً ونساءً وذلك بما تملكه من شرف ونبل ، وكان اُم ولد للأشعث بن قيس أعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له ولداً يقال له بلال ، وكانت طوعة تنتظره خوفاً عليه من الأحداث الرهيبة ، ولمّا رآها مسلم بادر إليها فسلّم عليها فردّت عليه السلام ، وقالت له :
ما حاجتك ؟
«اسقني ماءً ..» .
فبادرت المرأة إلى دارها وجاءته بالماء فشرب منه ، ثمّ جلس ، فارتابت منه ، وقالت له :
ألم تشرب الماء ؟
«بلى» .
اذهب إلى أهلك إنّ مجلسك مجلس ريبة .. (1) .

(1) تهذيب التهذيب 1 : 151 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام214

وسكت مسلم فاعادت عليه القول وهو ساكت فلم يجبها ، فذعرت منه وقالت له:
سبحان الله .. إنّي لا اُحلّ لك الجلوس على باب داري .
ولمّا حرّمت عليه الجلوس لم يجد بُدّاً من الانصراف عنها ، فقال بصوت خافت حزين النبرات :
«ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلّي مكافئك بعد هذا اليوم ..» .
وشعرت المرأة بأنّ الرجل غريب وأنّه على شأن كبير يستطيع أن يجازيها على معروفها وإحسانها فقالت له :
وما ذاك ؟
«أنا مسلم بن عقيل كذّبني القوم وغرّوني ..» .
فدهشت المرأة وقالت له :
أنت مسلم !!
«نعم ..» (1) .
وانبرت السيّدة بكل خضوع وتقدير فسمحت لضيفها الكبير بالدخول إلى دارها وقد حازت الشرف والفخر ، وعرضت عليه الطعام فأبى أن يأكل ، فقد مزّق الأسى قلبه ، وتمثّلت أمامه الأحداث الرهيبة التي سيواجهها ، وكان أهمّ ما شغل فكره كتابه إلى الإمام الحسين بالقدوم إلى الكوفة .
ولم يمض قليل من الوقت حتى جاء بلال ابن السيّدة طوعة فرأى اُمّه تكثر الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم فاستراب من ذلك ، فسألها عنه فلم تجبه ، فألحّ عليها فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق بكتمان

(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 272 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام215

الأمر ، وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً ، وقد أنفق ليله ساهراً يترقّب طلوع الشمس ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ، وقد تنكر هذا الوغد الخبيث للأخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف وحمايته من كل سوء ، ولكن هذا القزم على غرار أهل الكوفة الذين طلّقوا المعروف ثلاثاً ، راح مسرعاً وقد ئ ملك الفرح فؤاده نحو قصر الإمارة ، وكان بحالة من الارتباك تلفت النظر ، فلمّا دخل القصر بادر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، وهو من أخبث اُسرة عرفها التأريخ ، فأعلمه بمكان مسلم ، فأمره بالسكوت لئلا يفشى بالخبر فينقله غيره إلى ابن مرجانة فتفوت جائزته ، وأسرع عبد الرحمن إلى أبيه محمد بن الأشعث فأخبره بالأمر ، وفطن ابن زياد إلى خطورة الأمر فالتفت إلى ابن الأشعث فقال له :
ما قال لك عبد الرحمن ؟
أصلح الله الأمير البشارة العظمى .
ما ذاك مثلك من بشّر بخير .
إن ابني هذا يخبرني أنّ مسلم بن عقيل في دار طوعة .
وفرح ابن مرجانة وتمّت بوارق آماله وأحلامه ، فراح يمدّ الأشعث بالمال والجاه قائلاً :
قم فآتني به ، ولك ما أردت من الجائزة والحظ الأوفى .
لقد تمكّن ابن مرجانة سليل البغايا والأدعياء من الظفر بفخر هاشم ومجد عدنان ليجعله قرباناً إلى اُمويّته اللصيقة .

الهجوم على مسلم :

وندب ابن مرجانة لحرب مسلم ، عمرو بن الحرث المخزومي صاحب شرطته ومحمّد بن الأشعث ، وضمّ إليهما ثلثمائة رجل من صناديد الكوفة وفرسانها ، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة مسرعة لحرب القائد العظيم الذي أراد أن يحرّرهم

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام216

من الذل والعبودية ويقيم فيهم عدالة الإسلام وحكم القرآن .
ولمّا سمع مسلم حوافر الخيل وزعقات الرجال علم أنّه قد اُتي إليه ، فبادر إلى فرسه فأسرجه وألجمه وصبّ عليه درعه وتقلّد سيفه ، وشكر السيّدة طوعة على حسن ضيافتها ورعايتها له .
واقتحم الجيش عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين ، ثمّ عادوا عليه فأخرجهم منها ، وانطلق نحوهم في السكة شاهراً سيفه لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ ، وقد قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً (1) ، وكان من قوّته النادرة أن يأخذ الرجل بيده ويرمي به من فوق البيت (2) وليس في تاريخ الإنسانية مثل هذه البطولة ، ولا مثل هذه القوة الخارقة .
وجعل أنذال أهل الكوفة يصعـدون فوق بيوتهم ويرمونـه بالحجارة وقذائـف النار (3) .
وفشلت جيوش ابن مرجانة من مقاومة البطل العظيم ، فقد أشاع فيهم القتل ، وطلب محمد بن الأشعث من سيّده ابن مرجانة أن يمدّه بالخيل والرجال فلامه الطاغية وقال :
سبحان الله !! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به ، فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة (4) .
وثقل ذلك على ابن الأشعث ، وقال لابن مرجانة :
أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو إلى جرمقاني من جرامقة

(1) الدرّ النضيد : 164 .
(2) المحاسن والمساوئ ـ البيهقي 1 : 43 .
(3) حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 : 394 .
(4) الفتوح 5 : 63 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام217

الحيرة (1) وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الأنام ..» (2) .
وأمده ابن مرجانة بقوى مكثّفة فجعل البطل العظيم يحصد رؤوسهم بسيفه ، وهو يرتجز :
أقسمت أن لا أُقتل إلاّ حرّاً وإن رأيت الموت شيئاً نكرا
أو يخلط البـارد سخناً مرّاً ردّ شعـاع الشمس فاستقرا
كل امرئ يوماً يلاقي شرّاً أخاف أن أكذب أو أغرا (3)

ولمّا سمع الخائن العميل محمد بن الأشعث هذا الشعر من مسلم رفع صوته قائلاً :
إنّك لا تكذب ولا تخدع ، إنّ القوم بنو عمّك ، وليسوا بقاتليك ولا ضاريك .
فلم يحفل به مسلم ، ومضى يقاتلهم أعنف القتال وأشده ، ففروا منهزمين لا يلوون على شيء ، واعتلوا فوق منازلهم يرمونه بالحجارة ، فأنكر عليهم مسلم قائلاً :
«ويلكم ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفار ، وأنا من أهل بيت الأبرار ، ويلكم أما ترعون حق رسول الله صلى الله عليه وآله وذريّته ..» .
وضاق بابن الأشعث أمر مسلم فصاح بالجيش ذروه حتى اُكلّمه فدنا منه ، وقال له :
يابن عقيل ، لا تقتل نفسك أنت آمن ، ودمك في عنقي .
ولم يعن به مسلم ، فقد عرفه وعرف قومه أنّهم لا وفاء ولا دين لهم ،

(1) الجرامقة : قوم من العجم صاروا إلى الموصل .
(2) الفتوح 5 : 93 .
(3) حياة الإمام الحسين عليه السلام 2 : 395 ، نقلاً عن الطبري : 63 ، الفتوح 5 : 94 ـ 95 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام218

وأجابه :
«يابن الأشعث لا اُعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال ، والله لا كان ذلك أبداً» .
وحمل مسلم على ابن الأشعث فولّى منهزماً يطارده الرعب والخوف ، واشتدّ العطش بمسلم فجعل يقول :
«اللهم إنّ العطش قد بلغ منّي ..» .
وتكاثرت عليه الجموح فصاح بهم ابن الأشعث : إنّ هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع ، احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة ، فحملوا عليه ضرباً بأسيافهم وطعناً برماحهم وضربه الوغد الأثيم بكر بن حمران ضربة منكرة على شفته العليا واسرع السيف إلى الأسفل ، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض .

أسره :

وبعدما أثخن مسلم بالجراح وأعياه نزف الدم ، انهارت قواه وضعف عن المقاومة ، فوقع أسيراً بأيدي اولئك الفجرة الكفار ، وانتزعوا منه سيفه ، وحملوه أسيراً إلى ابن مرجانة ، وكان من أعظم ما رزئ به مسلم أن يدخل أسيراً على أقذر إرهابي عرفه التأريخ ، ولمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة ، وإنّما سلّم على الجميع ، فأنكر عليه بعض خدّام السلطة ذلك ، فأجابه أنّه ليس لي بأمير ، فتميّز ابن مرجانة غيظاً وغضباً ، وقال له : سلّمت أو لم تسلّم فإنّك مقتول ، فردّ عليه مسلم بجواب أخرجه من إهابه ، وجرت مناورات كلامية بينهما ، وكانت أجوبة مسلم كالسهام على ابن مرجانة ، فلجأ إلى سبّه وسبّ العترة الطاهرة والافتراء عليهم ، ثم أمر أن يُصعد به من أعلى القصر وينفّذ فيه حكم الإعدام ، وقد استقبل مسلم الموت بثغر باسم ، وكان يسبّح الله ويستغفره وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائيّين فضرب عنقه ،

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام219

ورمى برأسه وجسده إلى الأرض ، وانتهت بذلك حياة هذا المجاهد العظيم الذي وهب حياته لله ، واستشهد دفاعاً عن الحق ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين .
ثم أمر الطاغية السفاك بإعدام الزعيم الكبير هانئ بن عروة ، فأخرج من السجن في وضح النهار ، وجعل يستنجد باُسرته وكانوا بمرأى ومسمع منه فلم يستجب له أحد منهم ، وضربه الجلاّد بالسيف فلم يصنع به شيئاً ، فرفع هانئ صوته قائلاً :
اللهم إلى رحمتك ورضوانك ، اللهم اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي ، فإنّي إنّما تعصّبت لابن بنت نبيّك محمد صلى الله عليه وآله ، وضربه الجلاّد ضربة اُخرى فهوى إلى الأرض ، وجعل يتخبّط بدمه الزاكي ، ولم يلبث قليلاً حتى فارق الحياة وقد مضى شهيداً دون مبادئه وعقيدته .
وعهد الطاغية الجلاّد إلى زبانيته بسحل جثة مسلم وهانئ في الشوارع والأسواق ، فعمدوا إلى شدّ أرجلهما بالحبال وأخذوا يسحلونهما في الطرق (1) وذلك لنشر الخوف والإرهاب ، وليكونا عبرةً لكل من تحدّثه نفسه بالخروج على حكم يزيد .
ثم قام ابن مرجانة باعتقالات واسعة لجميع العناصر الموالية لأهل البيت ، كما أعدم جاعة منهم ، وذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الإمام الحسين عليه السلام) .
لقد سمعت حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله السيدة زينب عليها السلام هذه المآسي المروّعة التي جرت على ابن عمّها مسلم ، فكوت قلبها وأضافتها إلى همومها ومصائبها ، وأيقنت أنّ شقيقها وبقية أهلها سيواجهون المصير الذي واجهه ابن عمّها .

(1) أنساب الأشراف 1 : 155 ، القسم الأوّل .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام220




السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام221

إلى العراق

ورافقت عقيلة بني هاشم أخاها أبا الأحرار في مسيرته الخالدة لتكون معه في خندق واحد ، وتشاركه في جهوده وجهاده لحماية الإسلام ، وإنقاذ المسلمين من جور الاُمويين وظلمهم .
وقبل أن تغادر العقيلة الحجاز استأذنت من زوجها عبد الله بن جعفر أن يسمح لها بالسفر مع شقيقها سيّد الشهداء فأذن لها في ذلك ، وقبل أن يسافر الإمام دخل عليه عبد الله بن عباس ليعدله عن السفر إلى العراق ، فقال له الإمام :
«يابن عباس ، ما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت نبيّهم من وطنه وداره وقراره وحرم جدّه ، وتركوه خائفاً مرعوباً ، لا يستقر في قرار ولا يأوى إلى جوار ، يريدون بذلك قتله وسفك دمه ، ولم يشرك بالله شيئاً ، ولم يرتكب منكراً ولا إثماً ..» . فأجابه ابن عباس بصوت حزين النبرات قائلاً :
جعلت فداك يا حسين إن كان لا بدّ لك من المسير إلى الكوفة فلا تسري بأهلك ونسائك .
فقال له الإمام الحسين :
«يابن العمّ ، إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في منامي ، وقد أمرني بأمر لا أقدر على خلافه .. إنّه أمرني بأخذهن معي . يابن العمّ ، إنّهن ودائع رسول الله ، ولا آمن عليهن أحداً ..» .
ويقول بعض الرواة : إنّ حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله السيدة زينب قالت لابن عباس

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام222

وهي باكية العين :
«يابن عباس ، تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلفنا هاهنا ويمضي وحده ، لا والله بل نحيا معه ونموت معه ، وهل أبقى الزمان لنا غيره ..» .
وأجهش ابن عباس في البكاء وجعل يقول :
يعزّ والله عليَّ فراقك يابن العمّ (1) .
لقد كان من أروع ما خطّطه الإمام في ثورته الكبرى حمله عقيلة بني هاشم وسائر مخدرات الرسالة معه إلى العراق ، فقد كان على علم بما يجري عليهن من النكبات والخطوب ، وما يقمن به من دور مشرف في إكمال نهضته ، وإيضاح تضحيته ، وإشاعة مبادئه وأهدافه ، وقد قمن حرائر النبوة بإيقاظ المجتمع من سباته ، وأسقطن هيبة الحكم الاُموي ، وفتحن باب الثورة عليه ، فقد ألقين من الخطب الحماسية ما زعزع كيان الدولة الاُموية .
لقد كان خروج العقيلة وسائر بنات رسول الله صلى الله عليه وآله ضرورة ملحّة لا غنى عنها ، فقد أخلدن نهضة أبي الأحرار ، يقول الإمام كاشف الغطاء : وهل تشكّ وترتاب في أنّ الحسين لو قتل هو وولده ، ولم يتعقبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لذهب قتله جباراً ، ولم يطلب به أحد ثأراً ، ولضاع دمه هدراً فكان الحسين يعلم أن هذا عمل لا بدّ منه ، وأنّه لا يقوم به إلاّ لتلك العقائل فوجب عليه حتماً أن يحملهن معه لا لأجل المظلومية بسبيهن فقط ، بل لنظر سياسي وفكر عميق ، وهو تكميل الغرض ، وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد ، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام ، ويعود الناس إلى جاهليتهم الاولى (2) .
ويقول الدكتور أحمد محمود صبحي : ثمّ رفض ـ يعني الحسين ـ إلاّ أن

(1) زينب الكبرى : 94 .
(2) السياسة الحسينية : 46 ـ 47 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام223

يصحب معه أهله ليشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه ممّا لا يبرّره دين ، ولا وازع من إنسانية ، فلا تضيع قضيّته مع دمه المراق في الصحراء ، فيفتري عليه أشد الافتراء حين يعدم الشاهد العادل على ما جرى بينه وبين أعدائه .
تقول الدكتورة بنت الشاطئ : أفسدت زينب اُخت الحسين على ابن زياد وبني اُمية لذّة النصر ، وسكبت قطرات من السمّ الزعاف في كؤوس الظافرين ، وأنّ كل الأحداث السياسية التي ترتّبت بعد ذلك من خروج المختار وثورة ابن الزبير وسقوط الدولة الاُموية وقيام الدولة العباسية ثمّ تأصّل مذهب الشيعة إنّما كانت زينب هي باعثة ذلك ومثيرته (1) .
اُريد أن أقول : ماذا يكون الحال لو قتل الحسين ومن معه جميعاً من الرجال إلاّ أن يسجّل التأريخ هذه الحادثة الخطيرة من وجهة نظر أعدائه فيضيع كل أثر لقضيته مع دمه المسفوك في الصحراء (2) .
إنّ من ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الإمام الحسين عليه السلام واستمرار فعالياتها في نشر الإصلاح الاجتماعي هو حمل عقيلة الوحي وبنات الرسول صلى الله عليه وآله مع الإمام الحسين ، فقد قمن ببلورة الرأي العام ، ونشرن مبادئ الإمام الحسين وأسباب نهضته الكبرى ، وقد قامت السيدة زينب عليها السلام بتدمير ما أحرزه يزيد من الانتصارات ، وألحقت به الهزيمة والعار ، وسنوضح ذلك بمزيد من البيان في البحوث الآتية :

خطاب الحسين في مكة :

وأمر الإمام الحسين عليه السلام بجمع الناس من أهالي مكة ومن المعتمرين والحجّاج فيها ،

(1) بطلة كربلاء : 176 ـ 180 .
(2) نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثنى عشرية : 343 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام224

فقام فيهم خطيباً فقال :
«الحمد لله ، وما شاء الله ولا قوة إلاّ بالله ، وصلى الله على رسوله وسلّم ، خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان (1) الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأنّ منّي أكراشاً جُوّفاً وأجربةً سغباً ، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ، رضي الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويُوفّينا أجر الصابرين ، لن تَشُذّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله لحمته ، وهي مجموعة له في حضيرة القدس ، تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده ، من كان باذلاً فينا مهجته ، ومُوَطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ، فإنّني راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى» (2) .
ونعى الإمام نفسه في هذا الخطاب التأريخي الخالد ، واعتبر الشهادة في سبيل الله زينة للإنسان كالقلادة التي تكون زينة للفتاة ، كما أعلن عن شوقه العارم لملاقاة الله تعالى ، وأنّ اشتياقه للذين استشهدوا في سبيل الله كاشتياق يعقوب إلى يوسف .
وأخبر عليه السلام عن البقعة الطاهرة التي يستشهد فيها وهي ما بين النواويس وكربلاء فيها تقطّع أوصاله ويراق دمه الزاكي .
وعلى أي حال ، فقد حلّلنا هذا الخطاب وذكرنا أبعاده في كتابنا (حياة الإمام الحسين) .

(1) العسلان : هي الذئاب .
(2) كشف الغمّة 2 : 241 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام225


السفر إلى العراق :

وقبل أن يغادر الإمام مكة مضى إلى البيت الحرام فأدّى له التحية بطوافه وصلاته ، وبقي فيه حتى أدى صلاة الظهر ثم خرج مودّعاً له (1) .
وخرج الإمام من مكة وهو يحمل معه مخدرات الرسالة وعقائل النبوة ، وكان خروجه في اليوم الثامن من ذي الحجّة سنة ستّين من الهجرة (2) ، وخيّم الحزن والأسى على أهل مكة وعلى حجاج بيت الله الحرام ، وكان الإمام لا ينزل منزلاً إلاّ حدّث أهل بيته عن مقتل يحيى بن زكريا (3) .
وسار موكب الإمام لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى موضع يسمّى بـ «الصفاح» فالتقى بالشاعر الكبير الفرزدق فسلّم على الإمام ، وقال له :
بأبي أنت واُمي يابن رسول الله صلى الله عليه وآله ما أعجلك عن الحج ؟
فأجابه الإمام عن سبب خروجه :
«لو لم أعجل لأخذت ..» .
إنّ السبب في خروج الإمام قبل أن يتمّ العمرة هو أنّ السلطة قد عهدت إلى عصابة منها باغتيال الإمام ، ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فلذا سارع الإمام بالخروج من مكة . وبادر الإمام فسأل الفرزدق فقال له :
«من أين أقبلت يا أبا فراس . ؟» .
من الكوفة .
«بيّن لي خبر الناس ؟» .
على الخبير سقطت ، قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني اُميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء ، وربّنا كل يوم هو في شأن (4) .

(1) و(3) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 53 ، 54 .
(2) خطط المقريزي 2 : 286 .
(4) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 60 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام226

واستصوب الإمام كلام الفرزدق فقال له :
«صدقت لله الأمر من قبل ومن بعد ، يفعل الله ما يشاء وكل يوم ربّنا في شأن ، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ من كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته ..» (1).
وواصل الإمام مسيرته الخالدة بعزم وثبات لم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه ، وتجاوبهم مع بني اُميّة .

مع أبي هرّة :

وسار الإمام مع موكبه حتى انتهى إلى ذات عرق فخفّ إليه أبو هرة فقال له : يابن رسول الله ، ما الذي أخرجك من حرم الله وحرم جدك رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
فأجابه الإمام بتأثّر قائلاً :
«ويحك يا أبا هرّة ، إنّ بني أميّة أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عِرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية ، وليلبسنّهم الله ذُلاّ شاملاً وسيفاً قاطعاً ، وليسلّطنّ الله عليهم من يذُلّهم ، حتى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم إمرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم ..» (2) .
وانصرف الإمام وهو حزين من هؤلاء الناس الذين لا يملكون وعياً لنصرة الحق والدفاع عن الإسلام .

فزع السيدة زينب :

وكانت السيدة زينب عليها السلام فزعة حزينة قد ذابت نفسها أسى وحسرات ، فقد علمت

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 60 .
(2) المصدر السابق 5 : 64 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام227

ما سيجري على أهلها من القتل فخفّت إلى أخيها حينما كانوا في الخزيمية ، وهي تقول له بنبرات مشفوعة بالبكاء :
«يا أخي إنّي سمعت هاتفاً يقول :
ألا يـا عيـن فاحتفلي بجهد فمن يبكي على الشهداء بعدي
على قـوم تسوقهـم المنـايا بمقـدار إلـى إنجـاز وعدي

فأجابها أبي الضيم غير حافل بما سيلقاه من النكبات والخطوب :
«يا اُختاه كل الذي قضى فهو كائن» (1) .
لقد أراد الإمام من شقيقته أن تتسلّح بالصبر وأن تقابل الرزايا والمصائب برباطة جأش وعزم حتى تقوى على أداء رسالته .

النبأ المروع بشهادة مسلم :

وانتهى النبأ المروّع بشهادة البطل مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين حينما كان في زرود ، فقد أقبل رجل من أهل الكوفة ، فلمّا رأى الحسين عدل عن الطريق فتبعه بعض أصحاب الإمام فالتقيا به وانتسبا له ، وسألاه عن خبر الكوفة ، فقال : إنّه لم يخرج منها حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ورآهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق ، وأسرعا إلى الإمام فقالا له :
رحمك الله ، إنّ عندنا خبراً إن شئت حدّثناك به علانية وإن شئت سرّاً .
ونظر الإمام إلى أصحابه فقال : «ما دون هؤلاء سرّاً» ، وأخبراه بما سمعاه من الرجل من شهادة مسلم وهانئ ، فكان هذا النبأ كالصاعقة على العلويّين فانفجروا بالبكاء على فقيدهم العظيم حتى ارتجّ الموضع من شدّة البكاء ، والتفت الإمام إلى بني عقيل فقال لهم :

(1) المناقب لابن شهرآشوب 5 : 127 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام228

«ما ترون فقد قتل مسلم ..» .
ووثبت الفتية كالأسود الضاربة ، وهم يعلنون استهانتهم بالموت وتصميمهم على الشهادة قائلين :
لا والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم .
وراح الإمام يقول :
«لا خير في العيش بعد هؤلاء .
وتمثّل عليه السلام بهذين البيتين :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا مـا نوى حقاً و جاهد مسلما
فإن مت لم أنـدم و إن عشت لم ألم كفى بـك عاراً أن تذل وترغما (1)

لقد مضى إلى ساحات الجهاد مرفوع الرأس ، وهو على يقين لا يخامره شكّ في أنّه يسير إلى الفتح الذي لا فتح ولا ظفر مثله.

رؤيا الإمام الحسين :

وخفق الإمام الحسين وقت الظهيرة فرأى رؤياً أفزعته ، فانتبه مذعوراً فأسرع إليه ولده مفخرة الإسلام علي الأكبر قائلاً :
«يا أبتِ ، ما لي أراك فزعاً ؟» .
«رأيت رؤيا أفزعتني ..» .
«خيراً رأيت ..» .
«رأيت فارساً وقف عليَّ ، وهو يقول : أنتم تسرعون ، والمنايا تسرع بكم إلى الجنة ، فعلمت أن أنفسنا نعيت إلينا ..» (2) .

(1) الدرّ النظيم : 167 .
(2) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 2 : 346 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام229

وبادر عليّ قائلاً :
«ألسنا على الحق ..» .
أجل يا فخر هاشم أنتم معدن الحقّ وأصله ومنتهاه ، وأجابه أبوه قائلاً :
«بلى والذي إليه مرجع أمر العباد ..» .
وطفق عليّ يلقي كلمته الذهبية الخالدة قائلاً :
«يا أبتِ ، لا نبالي الموت ..» .
ووجد الإمام الحسين في ولده البارّ خير عون له على أداء رسالته الكبرى ، فشكره على ذلك قائلاً :
«جزاك الله يا بني خير ما جزى به ولد عن والده ..» (1) .

الالتقاء بالحرّ :

وانتهى ركب الإمام إلى شراف وفيها عين للماء ، فأمر الإمام فتيانه أن يستقوا من الماء ويكثروا منه ، ففعلوا ذلك ، ثمّ سارت قافلة الإمام تطوي البيداء ، فبادر رجل من أصحاب الإمام فكبّر ، فاستغرب الإمام وقال له :
«لِمَ كبّرت ؟» .
رأيت النخل .
وأنكر عليه رجل ممّن خبر الطريق وعرفه فقال له :
ليس ها هنا نخل ، ولكنها أسنة الرماح وآذان الخيل .
وتأمّلها الإمام الحسين ، فقال : «وأنا أرى ذلك» ، وعرف الإمام أنّها طلائع الجيش الاُموي جاءت لإلقاء القبض عليه ، فقال لأصحابه :
«أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ، ونستقبل القوم من وجه واحد» .

(1) مقاتل الطالبيّين : 111 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي