السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام230

فقال له بعض أصحابه : هذا ذو حسم (1) إلى جنبك تميل إليه عن يسارك ، فإن سبقت إله فهو كما ترد .. ومال ركب الإمام إليه ، فلم يسيروا إلاّ قليلاً حتى أدركهم جيش مكثّف بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي ، وكان ابن مرجانة قد عهد إليه أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الإمام ، وكان عدد ذلك الجيش ألف فارس بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي ، ووقفوا قبال الإمام ، وكان الوقت شديد الحرّ ، وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة العطش فرقّ عليهم الإمام ، وغضّ نظره من أنّهم جاؤوا لقتاله وسفك دمه ، فأمر أصحابه وأهل بيته أن يسقوهم الماء ، ويرشفوا خيولهم وقام أصحاب الإمام فسقوا القوم عن آخرهم ، ثمّ انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملؤون القصاص والطساس فإذا عُب فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت ، وسقي الآخر حتى سقوها جميعاً» (2) .
لقد تكرّم الإمام بإنقاذ هذا الجيش الذي جاء لحربه ، ولم تهز هذه الأريحية ولا هذا النبل نفس هذا الجيش ، ولم يتأثروا بهذا الخلق الرفيع ، فقد أحاطوا بالفرات في كربلاء ، وحرموا ذرّية نبيّهم من الماء ولم يسقوهم قطرة حتى توفّوا عطاشى .

خطاب الإمام :

وخطب الإمام في قطعات ذلك الجيش فقال بعد حمد الله والثناء عليه :
«أيها الناس ، إنّها معذرة إلى الله عزّ وجل إليكم .. إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم ، وقدمت بها عليَّ رسلكم ، أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام ، ولعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فأعطوني ما اطمئن به

(1) ذو حسم : بضمّ الحاء وفتح السين جبل هناك .
(2) تاريخ الطبري 6 : 226 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام231

من عهودكم ومواثيقكم ، وإن كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم ..» .
وأحجموا عن الجواب فإنّ الأكثرية الساحقة منهم قد كاتبوا الإمام وبايعوه على يد سفيره مسلم بن عقيل .
وحلّ وقت الصلاة فأمر الإمام مؤذنه الحجاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم لصلاة الظهر ، وبعد فراغه قال الإمام للحرّ : «أتريد أن تصلّي بأصحابك ؟» ، فقال : بل نصلّي بصلاتك ، وأتمّوا بالإمام فصلّى بهم صلاة الظهر ، وبعد أدائه للصلاة قام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
«أيها الناس ، إنكم إن تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى الله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم» .
ولم يعلم الحرّ بشأن الكتب التي بعثها أهل الكوفة للإمام ، فقال له : ما هذه الكتب التي تذكرها ؟
فأمر الإمام عقبة بن سمعان بإحضارها ، وكانت قد ملئت خرجين فنثرها بين يدي الحرّ ، فبهر منها ، وقال : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك .
وأراد الإمام أن يتّجه إلى يثرب فقال له الحرّ : قد اُمرت أن لا اُفارقك إذا لقيتك حتى اُقدمك الكوفة على ابن زياد ، وتأثّر الإمام وصاح به : «الموت أدنى إليك من ذلك» .
وجرت مشادّة عنيفة بين الإمام والحرّ ، فقد حال الحرّ من توجّه الإمام إلى يثرب ، وكان الوضع أن ينفجر باندلاع نار الحرب إلاّ أنّ الحرّ ثاب إلى الهدوء ، وقال للإمام : إنّما لم اُؤمر بقتالك وإنّما اُمرت أن لا اُفارقك حتى اُقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ، ولا يردّك إلى المدينة ، واتّفقا على ذلك ، فتياسر

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام232

الإمام عن طريق العذيب والقادسية (1) . وأخذت قافلة الإمام تطوي البيداء ، وكان الحرّ يتابعه عن كثب ، ويراقبه كأشدّ ما تكون المراقبة .
وفزعت حفيدة الرسول كأشدّ ما يكون الفزع وأيقنت بنزول الرزء القاصم ، وأن أخاها مصمّم على الشهادة ، ومناجزة الحكم الاُموي .

خطبة الإمام :

ولمّا انتهى موكب الإمام إلى (البيضة) ألقى الإمام خطاباً على الحر وأصحابه ، وقال فيه :
«أيها الناس : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : «من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر ما هو عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ..» .
ألا أنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ ممن غيَّر ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم إنّكم لا تسلّموني ولا تخذلوني ، فإن أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، وأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، ولكم فيَّ اُسوة ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم ، فالمغرور من اغترّ بكم ، فحظكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيعتم ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم..» .
وحفل هذا الخطاب الرائع باُمور بالغة الأهمية ذكرناها في كتابنا (حياة الإمام الحسين) .

(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 280 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام233

ولمّا سمع الحرّ خطاب الإمام ووعاه أقبل عليه فقال له : إنّي اُذكّرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لقتلتن .. فأجابه الإمام :
«أبالموت تخوفّني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وما أدري ما أقول لك ، ولكنّي أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله أين تذهب فإنّك مقتول ، فقال له :
«سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا مـا نوى خيـراً وجـاهد مسلماً
وآسـى الرجـال الصـالحين بنفسـه وخـالف مثبـوراً و فـارق مجرماً
فإن عشـت لم أندم و إن مـت لم ألم كفـى بك ذلاً تعيـش وترغما» (1)

ولما سمع الحرّ مقالة الإمام عرف أنّه مصمّم على الشهادة في سبيل أهدافه النبيلة .
والتاعت السيّدة زينب عليها السلام حينما سمعت مقالة أخيها وأيقنت أنّه مصمّم على الموت والشهادة في سبيل الله .

مع الطرماح :

وصحب الطرماح الإمام عليه السلام في أثناء الطريق ، وأقبل الإمام على أصحابه ، فقال لهم : «هل فيكم أحد يخبر الطريق على غير الجادة ؟» ، فقال له الطرماح : أنا أخبر الطريق ، فقال عليه السلام له : «سر بنا» ، فسار بهم الطرماح وجعل يحدو بالإبل بصوت حزين قائلاً :
يا ناقتي لا تذعري من زجرى وامضي بنا قبل طلوع الفجر
بخيـر فتيـان وخيـر سفـر آل رسـول الله أهـل الفخر
السادة البيض الوجوه الزهـر الطـاعنين بالرمـاح السمر

(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 281 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام234

الضـاربيـن بـالسيوف البتر حتـى تحلـى بكريم النجـر
بمـا جـد الجد رحيب الصدر أتـى بـه الله لخـيـر أمـر
عـمـره الله بقـاء الـدهـر يا مـالك النفع معاً و الضـر
أمدد حسينـاً سيـدي بالنصر على الطغـاة من بقايا الكفـر
علـى اللعينين سليلي صخـر يزيـد لازال حليـف الخمـر
والعـود والصنج معاً والزمر وابن زياد العهر وابن العهـر (1)

وأسرعت الإبل في سيرها على نغمات هذا الشعر الحزين ، وقد فاضت عيون السيّدات من بنات رسول الله وفي طليعتهن السيدة زينب بالبكاء وهن يدعون للإمام بالنصر والتأييد على أعدائه .

رسالة ابن زياد للحرّ :

وسارت قافلة الإمام تطوي البيداء ، وهي تارة تتيامن واُخرى تتياسر ، وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية ، ويدفعونه تجاه الكوفة ، والركب يمتنع عليهم ، وإذا براكب قد أقبل وهو رسول من قِبل ابن زياد إلى الحرّ فسلّم الخبيث الدنس على الحرّ ولم يسلّم على الحسين ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها :
أمّا بعد : فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام .. (2) .
وقرأ الحرّ الكتاب على الإمام الحسين ، وقد أراد أن يستأنف سيره متّجهاً صوب قرية أو ماء فمنعه الحرّ ، وانبرى زهير بن القين ، وهو من أفذاذ أصحاب الإمام فقال له : يابن رسول الله ، إن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا

(1) مقاتل الطالبيّين : 111 .
(2) أنساب الأشراف : 240 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام235

من بعدهم ما لا قبل لنا به ، فقال له الحسين : «ما كنت لأبدأهم بقتال» ، وتابع زهير حديثه قائلاً : سر بنا إلى هذه القرية حتى ننزلها فإنّها حصينة ، وهي على شاطئ الفرات ، فإن منعونا قاتلناهم ، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء بعدهم ، ولكن الحرّ أصرّ على الإمام أن ينزل في ذلك المكان ولا يتجاوزه ، ولم يجد الإمام بدّاً من النزول فيه ، والتفت إلى أصحابه فقال لهم :
«ما اسم هذا المكان ؟» .
فقالوا له :
كربلاء .
وفاضت عيناه بالدموع وقال :
«اللهم إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء ..» (1) .
وطافت به الذكريات ، ومثل أمامه ما قاله جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وأبوه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من أنّ دمه الزاكي سيراق في هذه الأرض فيها تتقطع أوصاله ، وتسفك دماء أهل بيته وأصحابه ، وخلد الإمام إلى الصبر واستسلم لقضاء الله .
ونهض أصحاب الإمام وأهل بيته فنصبوا الخيام لمخدرات الرسالة وعقائل الوحي كما نصبوا الخيام لهم ، وأسرع فتيان بني هاشم وأمامهم سيّدهم أبو الفضل العباس فأنزلوا السيّدات من المحامل ، وجاؤوا بهن إلى خيامهن ، وقد أحسّت حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله السيدة زينب عليها السلام بالأخطار الهائلة والكوارث التي ستجري عليها وعلى أهلها في هذه الأرض .

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 91 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام236




السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام237

في كربلاء

وذاب قلب الصدّيقة الطاهرة زينب أسى وحسرات ، واستولى عليها الألم العاصف ، فقد أيقنت أنّها ستشاهد في هذه الأرض مصرع أخيها وأهل بيته ، وستجري عليها من النكبات والخطوب ما تذوب من هولها الجبال ، وقد خلدت إلى الصبر ، وسلّمت أمرها إلى الله تعالى .
وحينما استقرّ الإمام الحسين في كربلاء جمع أهل بيته وأصحابه فألقى عليهم نظرة حنان وعطف ، ورفع يديه بالدعاء يناجي ربه ، ويشكوا إليه ما ألمّ به من المحن والخطوب قائلاً :
«اللهم إنّا عترة نبيّك محمد صلى الله عليه وآله قد اُخرجنا وطردنا وأزعجنا عن حرم جدّنا ، وتعدّت بنو اُميّة علينا ، اللهم فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين» .
ثمّ أقبل على تلك الصفوة فقال لهم :
«الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم ، فإذا محّصوا بالبلاء ، قلّ الديّانون ..» .
وحكت هذه الكلمات الذهبية واقع الناس واتّجاهاتهم فهم في جميع مراحل التأريخ عبيد الدنيا ، أمّا الدين فإنّما يجري على ألسنتهم فإذا محّصوا بالبلاء مالوا عنه وتنكّروا له .
ثمّ خاطب أصحابه قائلاً :
«أما بعد : فقد نزل بنا ما قد ترون ، وأنّ الدنيا قد تغيّرت وتنّكرت ، وأدبر

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام238

معروفها ، ولـم يبق منها إلاّ صبـابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كـالمرعى الوبيل (1) .
ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً ..» (2) .
والتاعت سيدة النساء زينب حينما سمعت خطاب أخيها ، وهو مصمّم على الموت فقد اعتبره سعادة ، واعتبر الحياة والعيش مع الظالمين برماً .
وحينما أنهى الإمام خطابه هبّ أصحابه وأهل بيته ، وهم يعلنون الدعم الكامل له ، ويهزئون بالحياة ، ويسخرون من الموت من أجله ، فشكرهم الإمام وأثنى عليهم .

خطبة ابن مرجانة :

وحينما انتهى النبأ بنزول الإمام في كربلاء ، وإحاطة الحرّ به ، دعا ابن مرجانة الناس إلى الجامع الأعظم فامتلأ منهم ، فقام فيها خطيباً فقال :
أيها الناس ، إنّكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد قد عرفتموه ، حسن السيرة ، محمود الطريقة ، محسناً إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السبل على عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد يكرم العباد ، ويغنيهم بالأموال ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أوفّرها عليكم ، واُخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين ، فاسمعوا له وأطيعوا (3) .
لقد منّاهم بالأموال التي يعبدونها من دون الله فاستجابوا له ، وخرجوا

(1) المرعى الوبيل : هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله .
(2) تاريخ ابن عساكر 13 : 74 ، من مصوّرات مكتبة الإمام امير المؤمنين عليه السلام .
(3) الأخبار الطوال : 253 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام239

كالكلاب لحرب ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسيّد شباب أهل الجنة .

انتخاب ابن سعد للقيادة العامة :

وانتخب الوغد الأثيم عبيد الله بن زياد عمر بن سعد قائداً عامّاً لقوّاته المسلّحة ، وكان ابن سعد من أخسّ الناس ومن أرذلهم ، ولا يملك أيّ رصيد من الشرف والكرامة ، وكان ضعيف النفس خائر العزيمة ، لقد انتخبه ابن زياد لأفظع جريمة منذ خلق الله الأرض ، فقاد الجيوش لحرب ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وأحاط به من كل جانب ، وفرض عليه الحصار فاستولى على جميع الطرق مخافة أن يصل إليه أي إمداد من الخارج ، كما عهد إلى أربعة آلاف فارس بقيادة المجرم عمرو بن الحجاج فاحتلوا نهر الفرات وجميع الشرائع والأنهر المتفرّعة منه ، وقد حيل بين الإمام الحسين وبين الماء قبل قتله بثلاثة أيام (1) . وقد عانت العقيلة أعظم المحن ، فقد أحاطت بها الأطفال وحرائر الرسالة وهم يعجّون من ألم الظمأ ، وهي تصبّرهم وتمنّيهم بوصول الماء إليهم ، لقد ذاب قلبها رحمةّ وحناناً على أطفال أخيها الذين ذبلت شفاههم وذوى عودهم ، يقول أنور الجندي :
و ذئـاب الشـرور تنعـم بـالمـاء و أهـل النبـي مـن غيـر مـاء
يـا لظلـم الأقـدار يـظمـأ قلـب الليث و الليـث موثـق الأعضـاء
وصغار الحسين يبكون في الصحراء يـا رب أيـن غـوث الـقضـاء

إنّ جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن الأطفال والنساء ، فالناس جميعاً شركاء فيه ، ولكن شريعة آل أبي سفيان التي تحكي طباع الاُسر القرشية التي أبت أن تجتمع الخلافة والنبوة في بيت واحد هي التي حرّمت الماء على آل الرسول صلى الله عليه وآله .

(1) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان : 89 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام240


الإمام مع ابن سعد :

وطلب الإمام من ابن سعد الاجتماع به ، فأجابه الباغي اللئيم ـ على كره ـ وعقد الإمام معه اجتماعاً مغلقاً حضره ابو الفضل العباس وعلي الأكبر ، ومع ابن سعد ابنه حفص وغلام له ، فقال له الإمام :
«يا بن سعد ، أتقاتلني أما تتقي الله الذي إليه معادك ، فإنّي ابن من قد علمت ، ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى ..» .
وألقى ابن سعد معاذيره الواهية قائلاً :
أخاف أن تهدم داري .
«أنا أبنيها ..» .
أخاف أن تؤخذ ضيعتي .
«أنا أخلف عليك خيراً منها ..» .
إنّ لي بالكوفة عيالاً ، وأخاف عليهم من القتل مع ابن زياد» .
ولمّا رأى الإمام إصراره على الغيّ والعدوان ، ولا ينفع معه النصح والإرشاد راح يدعو عليه قائلاً :
«ما لك ذبحك الله على فراشك ، ولا غفر لك يوم حشرك ، فوالله إنّي لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلاّ يسيراً ..» .
وولّى ابن سعد ، وهو يقول للإمام بسخرية :
إنّ في الشعير كفاية .
واستجاب الله دعاء الإمام المظلوم في هذا الوضر الخبيث ، فقد ذبحته جنود البطل العظيم المختار بن يوسف نضّر الله مثواه وهو على فراشه ، وسيقت روحه الخبيثة إلى نار جهنم خالداً فيها مع أمثاله من المجرمين وأسياده الاُمويّين .
وكانت العقيلة على علم بجميع ما يجري من الأحداث ، وأيقنت أنّ أخاها سيلاقي حتفه على يد هذه العصابة المجرمة التي لم تؤمن بالله ، والتي ساقتها الأطماع إلى اقتراف أفظع جريمة في الأرض .

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام241

المأساة الخالدة

ولم تبق كارثة من كوارث الدنيا ولا رزية من رزايا الدنيا إلاّ جرت على حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله وعقيلة بني هاشم في كربلاء ، فقد أحاطت بها المصائب يتبع بعضها بعضاً ، فقد شاهدت أعداء الله وجيوش آل أبي سفيان قد اجتمعت على إبادة أهلها ، وقد احتلّوا ماء الفرات ومنعوا ذرّية رسول الله صلى الله عليه وآله من الانتهال منه ، وقد عجّت أطفال أهل البيت ونساؤهم بالصراخ والعويل من شدّة الظمأ وقد أحاطوا بالعقيلة يطلبون منها الماء ، وهي حائرة مذهولة تأمرهم بالصبر ، كيف الصبر والعطش قد مزّق قلوبهم .
وقد زحفت جيوش الاُمويّين نحو الإمام الحسين في ليلة التاسع من المحرم ، كان سيد الشهداء جالساً أمام بيته محتبياً بسيفه إذ خفق برأسه ، فسمعت اُخته العقيلة أصوات الجيش قد تدانت نحو أخيها فانبرت إليه وهي مذهولة مرعوبة فأيقظته ، وقالت له : «إنّ العدو قد دنا منّا» ، فقال لها :
«إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام فقال : إنّك تروح إلينا ..» .
وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس العقيلة فقد خرقت قلبها الرقيق المعذّب ، فلطمت وجهها وقالت :
«يا وليتاه ..» (1) .

(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 384 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام242

وكان أبو الفضل العباس إلى جانب أخيه لا يفارقه ، فقال له :
«يا أخي أتاك القوم ..» .
وطلب منه الإمام أن يتعرّف على خبرهم فقال له :
«اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم ، فتقول لهم : ما بدا لكم ، وما تريدون ..» .
وبادر قمر بني هاشم ومعه عشرون فارساً نحو القوم ، وفيهم حبيب بن مظاهر وزهير بن القين ، فسألهم العباس عن زحفهم ، فقالوا له :
جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه أو نناجزكم (1) .
وقفل أبو الفضل إلى أخيه فعرّفه ما عرضوه عليهم ، فقال عليه السلام له :
«ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أنّي اُحبّ الصلاة وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار» .
وكان ذكر الله والدعاء والصلاة من أهمّ ما يصبوا إليه الإمام في هذه الحياة (2).
وقفل قمر بني هاشم راجعاً إلى تلك الوحوش الكاسرة فعرض عليهم مقالة أخيه ، وتردّد القوم في إجابته ، فأنكر عليهم عمرو بن الحجّاج الزبيدي إحجامهم ، وقال :
سبحان الله ! والله لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه !
ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك ، ولم يقل إنّه ابن رسول الله خوفاً أن يُنقل كلامه إلى ابن مرجانة فينال العقاب والحرمان ، وأيّد ابن الأشعث مقالة ابن الحجّاج فقال له ابن سعد :

(1) أنساب الأشراف : 184 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 : 285 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام243

أجبهم إلى ما سألوا فلعمري ليصحبنك بالقتال غداً .
واستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب بعد أن رضيت به الأكثرية من قادة جيشه ، وأوعز ابن سعد إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك أمام معسكر الحسين فدنا منه وقال رافعاً صوته :
يا أصحاب الحسين بن عليّ ، قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد فإن استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجّهنا بكم إليه ، وإن أبيتم ناجزناكم .
وأرجئ القتال إلى اليوم الثاني المصادف يوم العاشر من المحرم .

الإمام يأذن لأصحابه بالتفرّق :

وجمع سيّد الشهداء أصحابه وأهل بيته في غلس الليل وطلب منهم أن يتفرّقوا في سواده ليلقى مصيره المحتوم وحده ، فقال لهم :
«اُثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء .. اللهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلّمتنا القرآن ، وفهّمتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأفئدة ، ولم تجعلنا من المشركين .
أمّا بعد : فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً ، ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، وإنّي قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرّج الله ، فإنّ القوم إنّما يطلبونني ، ولو أصابوني للهوا عن طلب غيري» (1) .
لقد جعل الإمام أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع وهي الشهادة التي لابدّ

(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 285 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام244

منها في مصاحبته ، وليس شيء آخر غيرها ، قد سمح لهم بالتفرّق عنه في سواد الليل فيتخذونه ستاراً لهم دون كل عين ، كما عرفهم أنه هو المطلوب للحكم الاُموي دون غيره فإذا قتلوه فلا إرب لهم في غيره .
وعلى أي حال ، فإنّ الإمام لم يكد ينتهي من خطابه حتى هبّت الصفوة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه وهي تعلن ولاءها الكامل له ، وأنّهم جميعاً يلاقون المصير الذي يلقاه ، وقد بدأهم بالكلام قمر بني هاشم وفخر عدنان أبو الفضل العباس قائلاً :
«لِمَ تفعل ذلك لنبقى بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبداً ..» (1) .
وتتابعت أصوات أصحابه والفتية من بني هاشم ، وهم يرحّبون بالموت والشهادة في سبيله ، حقّاً لقد كانوا من خيرة بني آدم صدقاً ووفاءً وشهامةً ونبلاً .

لوعة السيدة زينب :

وفزعت عقيلة بني هاشم كأشدّ ما يكون الفزع وأقساه حينما سمعت أخاها وبقية أهلها يعالج سيفه ويصلحه وهو ينشد هذه الأبيات التي ينعى فيها نفسه :
يا دهر أُفّ لك مـن خليل كم لك بالإشراق و الأصيل
مـن طالب وصاحب قتيل والدهـر لا يقنـع بالبديـل
وكـل حـيّ سالـك سبيل ما أقرب الوعد إلى الرحيل
وإنّما الأمر إلى الجليل

وكان مع الإمام في خيمته الإمام زين العابدين عليه السلام والعقيلة . أمّا الإمام زين العابدين فإنّه لمّا سمع هذه الأبيات خنقته العبرة ولزم السكوت ، وعلم أنّ البلاء قد نزل ، وأمّا العقيلة فقد أيقنت أنّ أخاها عازم على الموت ، فأمسكت قلبها الرقيق

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 167 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام245

المعذّب ووثبت وهي تجرّ ذيلها وقد غامت عيناها بالدموع فقالت لأخيها :
«واثكلاه ، واحزناه ، ليت الموت أعدمني الحياة ، يا حسيناه ، يا سيّداه ، يا بقيّة أهل بيتاه ، استسلمتَ للموت ويئستَ من الحياة ، اليوم مات جدّي رسول الله ، اليوم ماتت أُمّي فاطمة الزهراء ، وأبي عليّ المرتضى ، وأخي الحسن الزكيّ ، يا بقيّة الماضين وثمال الباقين» (1) .
وذاب قلب الإمام أسى وحزناً ، والتفت إلى شقيقته فقال لها الإمام بحنان : «يا اُخيّة ، لا يذهبنّ بحلمك الشيطان ..» .
وسرت الرعدة والفزع بقلب الصدّيقة وطافت بها آلام مبرحة فخاطبت أخاها بأسى والتياع قائلة :
«أتغتصب نفسك إغتصاباً ، فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي ..» .
ولم تملك صبرها بعدما أيقنت أن أخاها وبقيّة أهلها سيستشهدون لا محالة ، فعمدت إلى جيبها فشقّته ، ولطمت وجهها ، وخرّت إلى الأرض فاقدة لوعيها (2) ، وأثّر منظرها الرهيب في نفس الإمام فالتاع كأشدّ ما تكون اللوعة ، ورفع يديه بالدعاء أن يلهم شقيقته الصبر والسلوان ، وأن يعينها على تحمّل المحن الشاقّة التي أحاطت بها .

إحياء الليل بالعبادة :

وأقبل الإمام مع أهل بيته وأصحابه على العبادة ، فقد علموا أنّ تلك الليلة هي آخر ليالي حياتهم ، ولم يذق أي واحد منهم طعم الرقاد ، فقد اتّجهوا بقلوبهم وعواطفهم نحو الله وهم يمجّدونه ويتلون كتابه ويقيمون الصلاة ، ويسألونه العفو والغفران .

(1) مقاتل الطالبيّين : 113 .
(2) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 173 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي