السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام246

وكانوا يترقّبون بشوق لا حدّ له طلوع الفجر ليكونوا قرابيناً للإسلام وفداءً لابن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان حبيب بن مظاهر ، وهو من ألمع أصحاب الحسين ، وقد خرج إلى أصحابه وهو يضحك ، فأنكر عليه بعض أصحابه وقال له :
يا حبيب ، ما هذه ساعة ضحك .
فأجابه حبيب عن إيمانه العميق قائلاً :
أيّ موضع أحقّ من هذا بالسرور ، والله ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين (1) .
وداعب برير عبد الرحمن الأنصاري فاستغرب من مداعبته قائلاً :
ما هذه ساعة باطل .
انظروا إلى جواب برير فقد قال :
لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً ، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون ، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ، وددت أنّهم مالوا علينا الساعة (2) .
أيّ إيمان هذا الذي تسلّح به أصحاب الحسين ، فقد فاقوا جميع شهداء الحقّ والفضيلة في جميع الأعصار والآباد .

رؤيا الإمام الحسين :

وخفق الإمام الحسين خفقة ثم انتبه ، والتفت إلى أصحابه وأهل بيته فقال لهم :
«أتعلمون ما رأيت في منامي ؟» .
ما رأيت يابن رسول الله ...
«رأيت كأنّ كلاباً قد شدّت عليَّ تنهشني وفيها كلب أبقع أشدّها عليَّ ، وأظنّ

(1) رجال الكشي : 53 .
(2) تاريخ الطبري 6 : 241 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام247

الذي يتولّى قتلي رجل أبرص من هؤلاء القوم ، ثمّ إنّي رأيت جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي : أنت شهيد آل محمّد ، وقد استبشرت بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى ، فليكن إفطارك عندي الليلة ، عجّل ولا تؤخر ، هذا ما رأيـت ، وقـد أزف الأمـر واقتـرب الرحيل مـن هذه الدنيـا» (1) .
وخيّم على أهل البيت حزن عميق ، وأيقنوا بنزول الرزء القاصم والاقتراب من دار الآخرة .

فزع عقائل الوحي :

وفزعت عقائل الوحي ، وخيّم عليهن الذعر والخوف ، ولم يهدأن في تلك الليلة ، فقد طافت بهن موجات من الهواجس وتمثّل أمامهن المستقبل الملئ بالخطوب والكوارث ، وقد خلدن إلى الدعاء والبكاء ، وكان من أشدّهن عقيلة النبوة السيّدة زينب ، فقد كانت تراقب الأحداث ، وهي على علم لا يخامره شكّ أنّ المسؤولية الكبرى سوف تنتقل عن كاهل الحسين إليها لو قُتل ، كما علمت أنّه لا يبقى من أهلها أحد ، لقد فزعت وذهلت من الأحداث الجسام التي أحاطت بها .

العقيلة مع الهاشميّين والأصحاب :

ولم تهدأ عقيلة الرسالة ، فقد هامت في تيارات مذهلة من الأسى والشجون ، فكانت على علم أنّ ليلة العاشر من المحرم هي آخر ليلة لأهلها ، وهم على قيد الحياة ، وقد وجلت على أخيها فمضت تراقب خيم الهاشميّين والأصحاب ، لتسمع ما يدور عندهم من حديث ، فانبرت إلى خيمة أخيها قمر بني هاشم وقد اجتمع يها فتيان بني هاشم ، وقد أحاطوا بسيّدهم أبي الفضل ، فسمعته يخاطب

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 177 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام248

الهاشميّين قائلاً :
«إخوتي وبني اخوتي وأبناء عمومتي ، إذا كان الصباح فما تصنعون ؟» .
فهبّوا جميعاً قائلين :
الأمر إليك .
«إن أصحابنا وأنصارنا قوم غرباء ، والحمل ثقيل لا يقوم إلاّ بأهله ، فإذا كان الصباح كنتم أوّل من يبرز للقتال ، فنسبق أنصارنا إلى الموت لئلاّ يقول الناس قدّموا أصحابهم ..» .
ولم ينتهِ من مقالته حتى هبّوا قائلين :
نحن على ما أنت عليه .
ثمّ مضت العقيلة إلى خيمة حبيب بن مظاهر عميد أصحاب الإمام ، وقد أحاط به الأصحاب ، فسمعت يحدّثهم قائلاً :
يا أصحابي ، إذا كان الصباح ماذا تفعلون ؟
الأمر إليك .
إذا صار الصباح كنّا أول من يبرز إلى القتال ، نسبق بني هاشم إلى الموت ، فلا نرى هاشمياً مضرّجاً بدمه ، لئلاّ يقول الناس قد بدأوهم إلى القتال ، وبخلنا عليهم بأنفسنا .
واستجابت الصفوة الطاهرة لمقالة زعيمهم حبيب ، وراحوا يقولون :
نحن على ما أنت عليه .
وسرّت زينب بوفاء الأنصار وتصميمهم على نصرة أخيها ، والذبّ عنه حتى النفس الأخير من حياته ، وانطلقت العقيلة إلى أخيها فأخبرته بما سمعت من الهاشميّين والأنصار من الذود عنه ، وحمايته من كل سوء ومكروه ، وأخبرها الإمام أنّهم من أنبل الناس ، ومن أكثرهم شهامة وإيماناً ، وأنّ الله تعالى قد اختارهم من بين عباده لنصرته ، والوقوف معه لمناجزة القوى المنحرفة والمعادية للإسلام .

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام249

يوم عاشوراء :

ويوم عاشوراء من أفجع الأيام وأقساها وأشدّها محنة على العقيلة زينب وعلى أهل البيت ، فلم تبق رزية من رزايا الدهر إلاّ جرت عليهم ، ونتحدّث ـ بإيجاز ـ عن فصول هذه المأساة الخالدة في دنيا الأحزان .

خطاب الإمام الحسين :

ولمّا تهيّأت عساكر ابن سعد لحرب الإمام عليه السلام رأى من الواجب أن يعظهم ، ويرشدهم حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم ، فخطب فيهم خطاباً مؤثّراً ، وقد نشر كتاب الله العظيم ، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولبس لامته ، فقال لهم :
«تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً حين إستصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين (1) ، سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم ، وحششتم (2) علينا ناراً إقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ، فأصبحتم أُلبّاً (3) لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم .
مهلاً ـ لكم الويلات ـ تركتمونا والسيف مشيم (4) والجأش طامن والرأي لمّا يستحصف ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا (5) ، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش .


(1) موجفين : أي مسرعين في السير إليكم .
(2) حششتم : النار التي توقد .
(3) إلباً : أي مجتمعين .
(4) مشيم السيف : غمده .
(5) الدبا : الجراد قبل أن يطير .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام250

فسحقاً لكم يا عبيد الاُمّة ، وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومحرّفي الكلم ، وعصبة الأثام ، ونفثة الشيطان ، ومطفئ السنن .
أهؤلاء تعضدون ، وعنّا تتخاذلون ؟! أجل والله غدر فيكم قديم وشجت إليه أصولكم وتأزّرت (1) عليه فروعكم ، فكنتم أخبث شجر شجاً للنظار وأُكلة للغاصب .
ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين : بين السلّة (2) والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حميّة ونفوس أبيّة : من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام .
الا وإنّي زاحف بهذه الأسرة مع قلّة العدد وخذلة الناصر»
.
ثم أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي :
«فإن نهزم فهزّامـون قدماً وإن نُغلَـب فغيـر مغَلّبينا
ومـا إن طِبُّنا جبنٌ ولكـن منـايانـا ودولة آخرينـا
إذا ما الموت رفّع عن أُناس كلاكلـة أنـاخ بآخرينـا
فأفنـى ذلكم سروات قومي كما أفنى القرون الأوّلينـا
فلو خلد الملوك إذا خُلـدنا و لـو بقي الكرام إذاً بقينا
فقل للشامتين بنـا : أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا»

أما والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريث ما يُركب الفرس حتى يدور

(1) تأزرت : أي نبتت عليه فروعكم .
(2) السلّة : استلال السيوف .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام251

بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده إليّ أبي عن جدّي ، فأجمعوا أمركم وشركائكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غُمّة ، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون . إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم ، ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها ، إنّ ربّي على صراط مستقيم .
ورفع يديه بالدعاء على اولئك السفكة المجرمين قائلاً :
اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسِنَي يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسومهم كاساً مصبرةً ، فإنّهم كذّبونا وخذلونا ، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير» (1) .
لقد انفجر أبو الأحرار في خطابه كالبركان ، وأبدى من صلابة العزم وعزّة النفس ما لم يشاهد مثله ، فقد استهان بالموت ، ولا يخضع لأولئك الأقزام الذين سوّدوا وجه التأريخ ، وكانوا سؤة عار لمجتمعهم .

استجابة الحرّ :

واستيقظ ضمير الحرّ حينما سمع خطاب الإمام ، وجعل يتأمّل ويفكّر في مصيره ، وأنّه لا محالة يصير إلى النار خالداً فيها ، واختار الدار الآخرة والالتحاق بآل النبي ، وقبل أن يتوجّه إلى الإمام الحسين أسرع نحو ابن سعد فقال له :
أمقاتل أنت هذا الرجل ؟
فأجابه بلا تردد ليظهر أمام قادة الفرق إخلاصه لسيّده ابن مرجانة قائلاً :
إي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي .
فقال له الحرّ برنّة المستريب :

(1) تاريخ ابن عساكر 13 : 74 ـ 75 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام252

أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضاً ؟
فأجابه ابن سعد :
لو كان الأمر لي لفعلت ، ولكن أميرك أبى ذلك .
وأيقن الحرّ أنّ القوم مصمّمون على حرب ابن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فمضى يشقّ الصفوف ، وقد سرت الرعدة بأوصاله ، فأنكر عليه ذلك المهاجر بن أوس ، وهو من شرطة ابن زياد فقال له :
والله إنّ أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن ، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك .
وكشف له الحرّ عن عزمه فقال له :
إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنة والنار ، ولا أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعت واُحرقت .
ولوى بعنان فرسه صوب الإمام (1) ، وهو مطرق برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما فرّط في حقّ الإمام ، ولمّا دنا منه رفع صوته قائلاً :
اللهم إليك اُنيب ، فقد أرعبت قلوب اوليائك وأولاد نبيك .. يا أبا عبد الله ، إنّي تائب فهل لي من توبة ؟
ونزل عن فرسه ، ووقف قبال الإمام ، ودموعه تتبلور على سحنات وجهه قائلاً :
جعلني الله فداك يابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجعجعت بك في هذا المكان ، ووالله الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً ، فقلت في نفسي : لا اُبالي أن اُطيع القوم في بعض أمرهم ، ولا يرون أنّي خرجت من طاعتهم ، وأمّا

(1) تاريخ الطبري 6 : 244 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام253

هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك ، وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي ، مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك ، أفترى لي توبة ؟
واستبشر به الإمام ، ومنحه الرضا والعفو ، وقال له :
«نعم يتوب الله عليك ويغفر ..» (1) .
وانطلق الحرّ بعد أن منحه الإمام العفو وقبل توبته ، فخطب في أهل الكوفة ودعاهم إلى التوبة ، ونُغَب عليهم حصارهم للإمام ، ومنعه مع أهل بيته وأصحابه عن ماء الفرات الذي هو حق مشاع للجميع ، ولم يستجيبوا له ، ورموه بالنبال .

الحرب :

وارتبك ابن سعد من التحاق الحر بالإمام ، وخاف أن يحصل التمرّد في جيشه ، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الحسين ، وأخذ سهماً فأطلقه صوب الإمام ، وقد رفع صوته قائلاً :
اشهدوا لي عند الأمير أنّي أول من رمى الحسين .
وفتح ابن سعد من السهم الذي أطلقه باب الحرب ، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة بأنّه أوّل من رمى معسكر ابن رسول الله صلى الله عليه وآله .
وتتابعت السهام كأنّها المطر على معسكر الإمام الحسين ، فلم يبق أحد منهم إلاّ أصابه سهم ، فالتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً :
«قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم ..» .
وتقدّمت طلائع الحق من أصحاب أبي الأحرار إلى ساحة الشرف والمجد وهي تعلن ولاءها للإسلام ، وتفانيها في الذبّ عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل

(1) الكامل في التاريخ 3 : 289 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام254

الجنة ، وبذلك بدأت المعركة واحتدم القتال كأشدّه وأعنفه .
ومن المقطوع به أنّه لم تكن مثل المعركة في جميع الحروب التي جرت في الأرض ، فقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً مع عشرات الألوف ، وقد أبدى أصحاب الإمام من الشجاعة والبسالة ما يبهر العقول ويحيّر الألباب .

مصارع أصحاب الإمام :

وشنّت قوات ابن سعد هجوماً عاماً وعنيفاً على أصحاب الإمام وخاضوا معهم معركة رهيبة ، وقد ثبت لهم أصحاب الإمام ، فهزموا جموعهم بقلوب أقوى من الحديد ، وأنزلوا بهم أفدح الخسائر ، وقد استشهد في هذه الحملة نصف أصحاب الإمام ، ثمّ بدأت بعد ذلك المبارزة بين العسكرين ، فكان الرجل من أصحاب الإمام يبرز ويقاتل ثمّ يُقتل ، وهكذا حتى فنوا عن آخرهم ، وقد أبلوا في المعركة بلاءً يقصر عنه كل وصف وإطراء ، فقد خاضوا تلك المعركة الرهيبة ، ولم تضعف لأي رجل منهم عزيمة ولم تلن لهم قناة ، وقد سمت أرواحهم الطاهرة الى الرفيق الأعلى وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله تعالى وطاعته ، وأنّ أعطر ما نقدّمه لهم من تحية كلمات الإمام الصادق عملاق الفكر الإسلامي ، في حقّهم قال مخاطباً لهم:
«بأبي أنتم وأمّي ، طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ، وفزتم فوزاً عظيماً» .

مصارع أهل البيت :

وبعدما نالت الشهادة الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمام هبّ أبناء الاُسرة النبوية شباباً وأطفالاً إلى التضحية والفداء ، فكانوا كالليوث وكالصاعقة على جيوش الكفر والضلال ، وأخذ بعضهم يودّع البعض الآخر ، وهم يذرفون الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار حيث يرونه وحيداً قد أحاطت به من كل جانب جيوش الاُمويين

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام255

ليتقرّبوا بقتله إلى ابن مرجانة ، وفي طليعة الذين استشهدوا من آل البيت عليهم السلام :

عليّ الأكبر :

وكان عليّ الأكبر شبيه جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله في ملامحه وفي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيّين ، وكانت الاُسرة النبوية والصحابة إذا اشتاقوا إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله نظروا إلى وجه عليّ الأكبر ، وكان دنيا من الفضائل والمواهب والعبقريات ، فقد تسلّح بكل فضيلة وأدب ، وكان أعزّ أبناء الإمام الحسين لعمّته العقيلة وسائر بني عمومته وأعمامه ، وهو أوّل هاشمي اندفع بحماس بالغ إلى الحرب ، وكان عمره الشريف ثماني عشر سنة (1) ، وقد وقف أمام أبيه طالباً منه الرخصة لمناجزة أعداء الله ، فلمّا رآه الإمام ذابت نفسه أسى وحسرات ، وأشرف على الاحتضار فقد رأى فلذة كبده قد ساق نفسه إلى الموت ، فرفع الإمام شيبته الكريمة نحو السماء ، وهو يقول بنبرات قد لفظ فيها شظايا قلبه :
«اللهم اشهد على هؤلاء القوم ، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمد صلى الله عليه وآله خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً ، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه .. اللهم امنعهم بركات الأرض ، وفرّقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً ، فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا ..» .
والتفت الإمام إلى المجرم الأثيم عمر بن سعد عبد ابن مرجانة ، فصاح به : «مالك قطع الله رحمك ولا بارك لك في امرك ، و سلط عليك من يذبحك بعدي على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتلا قوله تعالى : «إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً و ال إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرّيّة بعضها من بعض والله سميع عليم» .

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 244 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام256

وشيّع الإمام ولده بدموع مشفوعة بالأسى والحزن ، وخلفه عمّته العقيلة وسائر عقائل الوحي ، وقد علا منهم الصراخ والعويل على شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله .
وانطلق فخر هاشم إلى ساحة الحرب ، وقد امتلئ قلبه حزماً وعزماً ، ووجهه الشريف يتالق نوراً ، فقد حكى بهيبته هيبة جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبشجاعته شجاعة جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وتوسط حراب الأعداء وسيوفهم وهو يرتجز قائلاً :
أنا علي بن الحسين بن علي نحن وربّ البيت أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي

أنت يا شرف هذه الاُمّة أولى بالنبي وأحق بمقامه من هؤلاء الأدعياء الذين سلّطتهم عليكم الطغمة الحاكمة من قريش التي أبت أن تجتمع الخلافة والنبوة فيكم .
والتحم عليّ الأكبر مع أعداء الله ، وقد ملأ قلوبهم خوفاً ورعباً ، وأبدى من البسالة والشجاعة ما يقصر عنه كل وصف ، فقد ذكّرهم ببطولات جدّه الإمام أمير المؤمنين ، ومحطّم أوثان القرشيّين ، وقد قتل مائة وعشرين فارساً (1) سوى المجروحين ، وألحّ عليه العطش وأضرّ به ، فقفل راجعاً إلى أبيه يشكو ظمأه القاتل قائلاً :
«يا أبتِ ، العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل إليّ شربة ماء من سبيل أتقوى بها على الأعداء ؟» .
والتاع الإمام ، فقال له بصوت خافت ، وعيناه تفيضان دموعاً :
«واغوثاه ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً» .
وأخذ لسانه فمصّه ليريه شدّة عطشه فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش ،

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 246 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام257

يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق في رائعته :
يشكو لخير أب ظمأه وما اشتكى ظمأ الحشا إلاّ إلى الظامي الصدي
كـل حشاشتـه كصالية الغضا ولسـانه ظمـأ كـشقـة مبـرد
فانصـاع يؤثـره عليـه بريقه لو كـان ثمـة ريقـه لـم يجمد

لقد كان هذا المنظر الرهيب لعليّ الأكبر من أفجع وأقسى ما رزئ به أبو الأحرار ، فقد رأى ولده الذي هو من أنبل واشرف ما خلق الله ، وهو في غضارة العمر وريعان الشباب قد أشرف على الهلاك من شدة العطش ، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ليروي عطشه .
وقفل فخر الإسلام عليّ الأكبر راجعاً إلى حومة الحرب ، قد فتكت الجراح بجسمه ، وفتّت العطش فؤاده ، وجعل يقاتل كأشدّ ما يكون القتال وأعنفه حتى ضجّ العسكر من كثرة من قتل منهم ، ولمّا رأى ذلك الوضر الخبيث مرّة بن منقذ العبدي قال : عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه ، وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله فطعنه بالرمح في ظهره وضربه ضربة منكرة على رأسه ، ففلق هامته ، واعتنق فرسه يظنّ أنّه يرجعه إلى أبيه إلاّ أنّ الفرس حمله إلى معسكر الأعداء فأحاطوا به من كل جانب ، ومزّقوا جسده الشريف بالسيوف ، ونادى فخر هاشم ومجد عدنان رافعاً صوته :
«عليك منّي السلام أبا عبد الله ، هذا جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها أبداً ، وهو يقول : إنّ لك كأساً مذخورة ..» .
وحمل الأثير هذه الكلمات إلى أبيه الثاكل الحزين فقطعت قلبه ومزّقت أحشاءه ، ففزع إليه وهو خائر القوى منهدّ الركن ، فانكب عليه فوضع خدّه على خدّه ، وهو جثة هامدة قد قطعت شلوه السيف إرباً إرباً ، وأخذ الإمام يذرف أحرّ الدموع على ولده الذي لا يشابهه أحد في كمال فضله ، وجعل يلفظ شظايا قلبه

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام258

بهذه الكلمات :
«قتل الله قوماً قتلوك يا بني ، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول ، على الدنيا بعدك العفا ..» (1) .
وما كاد الخبر يبلغ الخيام حتى هرعت حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله زينب من خدرها ، وكان ذلك أوّل ما خرجت إلى المعركة فأكبت بنفسها على ابن أخيها الذي كان أعزّ ما عندها من أبنائها وجعلت تضمّخه بدموعها ، وقد انهارت قواها ، وانبرى إليها الإمام وجعل يعزّيها بمصابها الأليم ، وهو يردّد هذه الكلمات :
«على الدنيا بعدك العفا» .
وأخذ الإمام بيد اُخته وردّها إلى الفسطاط ، وأمر فتيانه بحمل ولده إلى الفسطاط .
لقد كان علي بن الحسين الرائد والزعيم لكل حرّ شريف مات أبياً على الضيم في دنيا الإباء ، فسلام الله عليه غادية ورائحة ونودعه بالأسى والحزن ، وتردّد كلمات أبيه :
«على الدنيا بعدك العفا ..» .

مصارع آل البيت :

وبرزت الفتية من آل الرسول صلى الله عليه وآله وهي تذرف الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار ، وكان من بينهم القاسم بن الحسن ، وكان كالقمر في بهائه وجماله وقد ربّاه عمّه وغذاه بمواهبه وآدابه ، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتى صار صورة عنه ، وكان أحبّ إليه من أبناء إخوته وأعمامه وكان القاسم يتطلّع إلى محنة عمّه ، وينظر إلى جيوش الكفر قد أحاطت به وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات ، وجعل يردد :

(1) العفا : التراب .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام259

لا يقتل عمّي وأنا أنظر إليه (1) .
واندفع بلهفة نحو عمّه يطلب منه الإذن ليكون فداءً له ، فاعتنقه عمّه وعيناه تفيضان دموعاً ، وجعل القاسم يقبّل يديه طالباً منه الإذن ، فسمح له بعد إلحاحه وترجّيه ، وبرز القاسم إلى حومة الحرب وهو بشوق عارم إلى الشهادة ، ولم يضف على جسده لامة الحرب ، وإنّما صحب معه سيفه ، والتحم مع اولئك القرود ، فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه ، وبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله ، فأنف سليل النبوة أن تكون أحد رجليه بلا نعل فوقف يشدّه متحدّياً الوحوش الكاسرة التي لا تساوي نعله ، واغتنم هذه الفرصة الوغد الخبيث عمرو بن سعد الأزدي ، فقال : والله لأشدن عليه ، فأنكر عليه حميد بن مسلم ، وقال له :
سبحان الله ! وما تريد بذلك يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم . فلم يعنِ به ، وشدّ الخبيث عليه فعلاه بالسيف على رأسه الشريف ، فهوى الفتى إلى الأرض صريعاً كما تهوي النجوم ونادى رافعاً صوته :
يا عمّاه .
وذاب قلب الإمام ، واسرع إليه فعمد إلى القاتل الأثيم فضربه بالسيف فاتّقاها بساعده فقطعها من المرفق وطرحه أرضاً ، فحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلاّ أنّه هلك تحت حوافرها ، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يقبّله ، والفتى يفحص بيديه ورجليه ، وهو يعاني آلام الاحتضار فخاطبه الإمام :
«بُعداً لقوم قتلوك ، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك .. عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك صوته ، والله هذا يوم كثر واتره ، وقلّ ناصره ..» .

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 255 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام260

وحمله الإمام والفتى يفحص برجليه كالطير المذبوح (1) وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر وسائر الشهداء من أهل البيت ، وأخذ يطيل النظر إليهم ، وجعل يدعو على السفكة المجرمين قائلاً :
«اللهم أحصهم عدداً ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبداً ، صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبدا ..» .
وكل هذه المناظر المفجعة التي تميد بالصبر وتعصف كانت بمرأى من عقيلة بني هاشم ، فكانت تستقبل في كل لحظة فتى من الاُسرة النبوية ، وهو مضرّج بدمائه ، لها الله ولأخيها على هذه الرزايا التي تميد من هولها الجبال .

مصرع عون :

وبرز إلى حومة الحرب عون بن عبد الله بن جعفر ، واُمه الصدّيقة الطاهرة زينب بنت امير المؤمنين ، فجعل يقاتل على صغر سنه قتال الأبطال وهو يرتجز :
إن تنكـروني فأنا ابن جعفر شهيد صدق في الجنان أزهر
يطير فيها بجنـاح أخضـر كفى بهـذا شرفاً مـن معشر

أنت أيها الشهم حفيد الشهيد الخالد جعفر الطيار الذي قطعت يداه في سبيل الدعوة الإسلامية ، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الفردوس الأعلى .
وجعل الفتى يقاتل قتال الأبطال فحمل عليه الوغد الأثيم عبد الله بن قطبة الطائي فقتله .
وحمل إلى المخيم فاستقبلته اُمه الصدّيقة الطاهرة ، ونظرت إليه وهو جثة هامدة فاحتسبته عند الله .
وحلّ بعده أبناء الاُسرة الهاشمية فاستشهدوا جميعاً قرابين للإسلام ، وفداءً

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 256 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي