السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام261

لريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله .

مصرع أبي الفضل :

وكان أبو الفضل العباس من أحبّ الناس وأخلصهم للإمام الحسين عليه السلام فقد ربّاه وغذّاه بمكارم أخلاقه ومحاسن صفاته ، وعلّمه أحكام الدين حتى صار من أفاضل العلماء ، وكان ملازماً لأخيه في حلّه وترحاله ، وواساه في أقسى المحن والخطوب ، وكانت اخوته لأبي عبد الله مضرب المثل عند جميع الناس ، وكانت أسارير النور بادية على وجهه الكريم حتى لقّب بقمر بني هاشم ، وكان من الأبطال البارزين في الإسلام ، فكان إذا ركب الفرس المطهّم تخطّان رجلاه في الأرض ، وقد أسند إليه الإمام الحسين عليه السلام يوم الطفّ قيادة جيشه ودفع إليه رايته .
وكان أبو الفضل هو المتعهّد لرعاية الصدّيقة سيدة النساء زينب عليها السلام ، وقد احتلّ قلبها ، فكانت تكنّ له أعمق الودّ والولاء .
ولمّا رأى قمر بني هاشم وحدة أخيه وقتل أصحابه وأهل بيته الذين قدّموا أرواحهم قرابين للإسلام انبرى يطلب الرخصة من أخيه ليلاقي مصيرة المشرق ، فقال له الإمام بصوت خافت :
«أنت صاحب لوائي ..» .
لقد كان الإمام يشعر بالقوة والمنعة ما دام أبو الفضل حيّاً .
وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً :
«لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، واُريد أن آخذ ثأري منهم ..» .
وطلب منه الإمام أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش ، فانعطف فخر بني هاشم نحو اولئك الأنذال فجعل يعظهم ويطلب منهم أن يرفعوا الحصار عن الماء ، فقد أشرفت عائلة آل رسول الله صلى الله عليه وآله على الموت ، فأجابه الرجس الأثيم شمر بن ذي الجوشن قائلاً :

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام262

يابن أبي تراب ، لو كان وجه الأرض كلّه ماءً ، وهو تحت أيدينا ، لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد .
وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتو القوم وإجماعهم على حرمان أهل البيت من الماء ، وسمع الأبي الشهم صراخ الأطفال وهم ينادون : العطش ، العطش ، الماء ، الماء .
وذاب قلب أبي الفضل حينما رأى الأطفال قد ذبلت شفاههم وأشرفوا على الهلاك ، فسرى الألم العاصف في محياه واندفع ببسالة لإغاثتهم ، فركب جواده وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات غير حافل بالقوى المكثفة التي تقدّر بأربعة آلاف جندي مسلّح قد احتلّوا حوض الفرات ، فانهزموا من بين يديه ، فقد ذكّرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ومحطّم أوثان القرشيّين ، وانتهى إلى الماء ، وكان قلبه الشريف قد تفتّت من العطش ، فاغترف من الماء ليشرب منه إلاّ أنّه تذكّر عطش أخيه ومن معه من النساء والأطفال فرمى الماء من يده ، فامتنع أن يروي غليله من الماء . وقد سجّل بذلك شرفاً للعلويّين تردّده الأجيال مقروناً بالإكبار والتعظيم لهذه الاخوة النادرة التي لم يحدّث التأريخ بمثلها .
لقد رمى أبو الفضل الماء من يده وهو يقول :
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعـده لا كنـتِ أن تكـوني
هـذا الحسين وارد المنـون وتشـربيـن بـارد المعيـن
تالله ما هذا فعال ديني

إنّ الإنسانية بكل إجلال وإكبار لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الإسلام وهي تلقي على الأجيال أسمى أمثلة للكرامة الإنسانية .
أي إيثار أنبل من هذا الإيثار ؟
أي أخوة أسمى من هذه الأخوة ؟

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام263

واتّجه فخر هاشم بعد أن ملأ القربة نحو المخيم ، والتحم مع الأرجاس ، فقد أحاطوا به من كل جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى أهل البيت ، وقد أشاع فيهم بطل الإسلام القتل وهو يرتجز :
لا أرهـب الموت إذا المـوت زقا حتـى أوارى في المصاليت لقى
نفسي لسبط المصطفى الطهر وقى إنـي أنا العبـاس أغـدوا بالسقا
ولا أخاف الشرّ يوم الملتقى

لقد أعلن قمر الهاشميّين عن بطولاته النادرة فهو لا يرهب الموت ، ويسخر من الحياة دفاعاً عن الحقّ ودفاعاً عن إمام المسلمين وريحانة الرسول .
وانهزمت جيوش الاُمويين أمامه ، ولكن الوضر الجبان زيد بن الرقاد الجهني كمن له من وراء نخلة ، ولم يستقبله بوجهه فضربه على يده فقطعها ، فلم يحفل بها أبو الفضل وراح يرتجز :
و الله إن قطعتـم يميني إنّي أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين نجل النبيّ الطاهر الأمين

ودلل بهذا الرجز عن الأهداف العظيمة التي ناضل من أجلها وهي الدفاع عن الدين ، والدفاع عن إمام المسلمين وريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم يبعد قمر بني هاشم وفخر عدنان حتى كمن له وراء نخلة رجس من أرجاس المجرمين ، وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها ، وحمل الشهم النبيل القربة بأسنانه ، وجعل يركض بالماء إلى عطاشى آل النبي غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وآلام الجروح وشدة الظمأ .. وهذا منتهى ما وصلت إليه الإنسانية في جميع أدوارها من الرحمة والحنان والوفاء ، وبينما هو يركض إذ أصاب القربة سهم غادر فاُريق ماؤها ووقف البطل حزيناً ، فقد كان إراقة الماء أشدّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح .

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام264

وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على هامة رأسه ففلق هامته ، فهوى إلى الأرض ، وهو يؤدي تحيّته ووداعه الأخير إلى أخيه قائلاً :
«عليك منّي السلام أبا عبد الله ..» .
وحمل الأثير كلماته إلى أخيه فمزّقت أحشاءه ، وانطلق وهو خائر القوى منهدّ الركن حتى انتهى إلى أخيه وهو يعاني آلام الاحتضار ، فألقى بنفسه عليه وجعل يوسعه تقبيلاً قائلاً :
«الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي ..» .
وجعل أبو الأحرار يطيل النظر في أخيه وهو شاحب اللون وتمثّلت أمامه مثل أبي الفضل التي لا ندّ لها في جميع مراحل التأريخ .
فليس هناك اخوة تضارع اخوة أبي الفضل لأخيه أبي الأحرار ، فقد أبدى من الوفاء والولاء لأخيه ما يفوق حد الوصف .
وقام الثاكل الحزين عن أخيه بعدما فارقته الحياة ، وهو لا يتمكّن أن يقلّ قدميه من الأسى والحزن ، وقد بان عليه الانكسار ، واتّجه صوب المخيم وهو يكفكف دموعه ، فاستقبلته سكينة بلهفة قائلة :
أين عمي ؟
فأجابها بنبرات مشفوعة بالبكاء والعبرات بشهادته ، وذعرت حفيدة الرسول سيدة النساء زينب عليها السلام ، فوضعت يدها على قلبها الذي مزّقته كوارث كربلاء ، وصاحت :
«وا أخاه ، وا عباساه ، وا ضيعتنا بعدك ..» .
وشارك الإمام شقيقته في النياحة على أخيه ، ورفع صوته :
«وا ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل ..» .
لقد شعر الإمام وشقيقته بالضياع والغربة بعد أن فقد أبا الفضل ، وكانت هذه الكارثة من أفجع الكوارث التي رزئت بها حفيدة الرسول .

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام265

فسلام عليك يا أبا الفضل يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تبعث حياً .

مصرع الرضيع :

ومن الفجائع التي منيت بها سيدة النساء مصرع الرضيع ، فقد اُغمي عليه من شدّة الظمأ ، فجاءت به اُمّه إلى السيّدة زينب مستجيرة بها وعرضته على أخيها فأخذه وجعل يوسعه تقبيلاً ، وقد غارت عيناه ، وذبلت شفتاه من شدة العطش ، فحمله الإمام إلى الجيش الاُموي لعلّهم يسقونه جرعة من الماء ، فلم ترق قلوب اولئك الممسوخين ، وانبرى إليه الرجس الخبيث حرملة ابن كاهل ، فسدّد له سهماً ، وجعل يفتخر أمام أصحابه قائلاً : خذ هذا فاسقه .
واخترق السهم ـ يالله ـ رقبة الطفل ، فلمّا أحس بحرارة السهم أخرج يديه من القماط ، وجعل يرفرف على صدر أبيه كالطير المذبوح ، وانحنى رافعاً رأسه إلى السماء فمات على ذراع أبيه .. أي صبر كان صبر أبي عبد الله ، كيف استطاع أن يتحمّل هذه الرزايا والكوارث التي تميد من هولها الجبال .
والتفت الإمام إلى شقيقته فناولها ولده المذبوح (1) ورفع الإمام يديه وكانتا مملوءتين من دم طفله ، فرمى به إلى السماء وقال :
«هوّن ما نزل بي إنّه بعين الله ..» .
ولم تسقط من ذلك الدم الطاهر قطرة واحدة إلى الأرض ، كما روى ذلك الإمام الباقر عليه السلام .

الفاجعة الكبرى :

ووقف أبو الأحرار في الميدان ، وقد أحاطت به جيوش الاُمويين وهو ثابت الجنان

(1) اللهوف : 50 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام266

لم يوهن عزيمته مصارع أصحابه وأهل بيته وكان كالطود الشامخ ، وقد روى الإمام زين العابدين عليه السلام صمود أبيه قال : كان كلّما يشتدّ الأمر يشرق لونه ، وتطمئن جوارحه ، فقال بعضهم : انظروا كيف لا يبالي بالموت ، وقال عبد الله بن عمار : فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأصحابه أربط جأشاً منه ، ولا أمضى جناناً منه ، ووالله ما رأيت قبله ولا بعده مثله (1) .
وحمل أبي الضيم على أرجاس البشرية فجعل يقاتلهم أعنف قتال وأشده ، وحمل على الميمنة وهو يرتجز :
«القتل أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار»

وحمل على الميسرة وهو يرتجز :
«أنا الحسيـن بن علي آليـت أن لا أنثـنـي
أحمي عيـالات أبـي أمضي على دين النبي»

أجل أنت الحسين ، وأنت ملئت فم الدنيا شرفاً ومجداً ، فلم تشاهد اُمم العالم وشعوب الأرض مثلك يا مفخرة الإسلام ، فقد صمدت أمام الأهوال والكوارث التي لا يطيق حملها أي مصلح على وجه الأرض ... وقد مضيت على دين جدّك الرسول مجدداً له ولولاك لما أبقى الاُمويون والقرشيون أي ظلّ لدين الله .

وداعه لعقائل الوحي :

ومضى الحسين يودع عقائل النبوة ، وسيّدات نساء الدنيا ، ويأمرهن بالخلود إلى الصبر ، ونظر إلى شقيقته زينب وهي غارقة بالدموع ، فعزاها وأمرها بالصبر ، وأن

(1) تاريخ ابن كثير 8 : 188 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام267

تقوم برعاية أطفاله ، ولمّا أراد الخروج أحطن به السيدات ليتزوّدن منه ، وهنّ يذرفن أحرّ الدموع ، والتفت الإمام زين العابدين عليه السلام إلى عمّته زينب ، فقال لها :
«عليَّ بالعصا والسيف» .
«ما تصنع بهما ؟» .
«أمّا العصا فأتوكّأ عليها ، وأمّا السيف فأذبّ به عن ابن رسول الله» .
وكانت الأمراض قد ألّمت به فنهاه الإمام الحسين عليه السلام وأمسكته عمّته زينب .
وأمر الإمام حرم الرسالة بلبس الاُزر ، والاستعداد للبلاء ، والتسليم لقضاء الله ، وقال لهن :
«استعدوا للبلاء ، واعلموا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم وسينجيكم من شرّ الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذّب عدوّكم بأنواع العذاب ، ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة فلا تشكوا ، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم ..» .
إنّه هذا الإيمان ، وهذا الصبر أجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش عليه .
إن هذه الرزايا تتصدّع من هولها الجبال ، وتميد بحلم أي مصلح كان ، وقد تجرّعها أبي الضيم من أجل رفع كلمة التوحيد التي جهدت الاُسر القرشية على إطفاء نورها .

مناجاته مع الله :

واتّجه الإمام العظيم في تلك اللحظات الحاسمة من حياته إلى الله تعالى ، فأخذ يناجيه ويتضرع إليه ، ويشكو إليه ما ألم به من الخطوب قائلاً :
«صبراً على قضائك يا ربّ ، لا إله سواك ، يا غياث المستغيثين ما لي ربّ سواك ، ولا معبود غيرك ، صبراً على حكمك ، يا غياث من لا غياث له ، يا دائماً

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام268

لا نفاد له ، يا محيي الموتى ، يا قائماً على كل نفس ، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين» (1) .
أرأيتم هذا الإيمان الذي تفاعل مع شعور الإمام وعواطفه فقد صبر على قضائه ، وفوّض إليه جميع ما نزل به من الخطوب .
يقول الدكتور الشيح أحمد الوائلي :
يا أبا الطفّ و ازدهى بالضحـايا من أديم الطفوف روض خميـل
نخبـة مـن صحـابة و شقيـق و رضيـع مطـوق وشـبـول
والشبـاب الفتيان جـف ففاضت طلعـة حلـوة ووجـه جميـل
و تـوغلـت تستبيـن الضحـايا وزواكـي الدمـاء منهـا تسيل
و مشـت في شفاهك الغر نجوى نـم عنهـا التحميـد والتهليـل
لك عتبي يا ربّ إن كان يرضيك فـهـذا إلـى رضـاك قليـل

الهجوم عليه :

وهجمت على سبط رسول الله صلى الله عليه وآله العصابة المجرمة التي تحمل رجس الأرض وخبث اللئام ، فحملوا عليه من كل جانب ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ، ويقول بعض المؤرخين :
إنّه لم يضرب أحد في الإسلام كما ضرب الحسين ، فقد وجد به مائة وعشرون جراحة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم (2) .
ومكث أبو الأحرار مدّة من الزمن على وجه الأرض ، وقد فتكت الجراحات بجسمه ، وقد هابه الجميع ، ونكصوا من الإجهاز عليه يقول السيّد حيدر :

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 288 .
(2) الحدائق الوردية 1 : 126 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام269

فما أجلت الحرب عن مثله صريعاً يجبِـّن شجعـانها

خروج العقيلة :

وخرجت حفيدة الرسول من خبائها ، وهي تندب أخاها بأشجى ما تكون الندبة ، وتقول بذوب روحها :
«ليت السماء وقعت على الأرض ..» .
وصاحت بالخبيث الدنس عمر بن سعد قائلة :
«يا عمر ، أرضيت أن يقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ..» .
فأشاح الخبيث بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته المشؤومة (1) .
ولم تعد العقيلة الطاهرة تقوى على النظر إلى أخيها وهو بتلك الحالة فانصرفت إلى خبائها لترعى المذاعير من النساء والأطفال .

الإجهاز على الإمام :

أحاط أعداء الله بالإمام من كل جانب وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ورمياً بالحجارة ، فصاح بهم :
«أعلى قتلي تجتمعون ، أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله ، وأيم الله إنّي لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون ..» .
والتفت الخبيث عمر بن سعد إلى شبث بن ربعي ، فقال :
انزل فجئني برأسه ، فامتنع ، وقال :
أنا بايعته ، ثمّ غدرت به ، ثمّ أنزل فأحتز رأسه ! لا والله لا أفعل ذلك .
فأنكر ابن سعد كلامه وقال :

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 290 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام270

إذاً أكتب إلى ابن زياد .
ولم يعتن شبث بذلك ، وقال : اكتب له (1) .
وبادر المجرم الخبيث شمر بن ذي الجوشن ، وكان من أعدى المجرمين على الإمام ، فاحتز رأسه الشريف كما في بعض الروايات (2) .
لقد استشهد الإمام العظيم من أجل أن يرفع كلمة الله في الأرض ويطيح بدولة الظلم والبغي التي أقامتها الأحقاد القرشية على الإسلام .
لقد قدّم الإمام روحه ثمناً للقرآن ، وثمناً لكل ما تسمو به الإنسانية من شرف وعزّ وإباء .
لقد رفع الإمام راية الإسلام عالية خفّاقة ، وهي ملطّخة بدمه ودم الشهداء من أهل بيته وأصحابه الممجدين ، وهي تضيء في رحاب الكون ، وتفتح الآفاق الكريمة لشعوب العالم واُمم الأرض .

العقيلة أمام الجثمان المقدس :

وانبرت حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله إلى جثمان أخيها ، وقد رأت ـ ويا لهول ما رأت ـ رأت الجثمان المقدّس وقد مزّقته سيوف البغاة ورماحهم ، وقد مُثِّل به كأفظع وأقسى ما يكون التمثيل ، لقد كان منظراً تلجم منه الألسن ، وتجمد منه الدماء ، وتهلع منه القلوب ، لقد وقفت العقيلة أمامه بجلال وحشمة ، وقد أحاط بها الأعداء ، فرمقت السماء بطرفها ، وقالت هذه الكلمات التي ارتسمت مع الفلك ثم دارت فيه ، وهي تشعّ بروح الإيمان والإخلاص إلى الله تعالى قائلة :
«اللهم تقبّل منّا هذا القربان ..» .

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 291 .
(2) مقتل الخوارزمي 2 : 36 ، وغيره .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام271

لقد رضيت بما عانته حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله من أهوال هذه الكارثة التي تذوب من هولها الجبال ، لأنها في ذات الله تعالى ، الذي هامت في الإنابة إليه.
لقد تجلّت معاني الوراثة النبوية في سيدة النساء زينب وبرزت في شخصيتها معالم شخصية جدها الرسول صلى الله عليه وآله ووصيّة أبيها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .

حرق الخيام :

وأوعزت القيادة العامة إلى الجند بحرق خيام آل النبي صلى الله عليه وآله فحملوا أقبسة من النار وهم ينادون :
احرقوا بيوت الظالمين (1) .
لقد كان بيت الإمام ـ حسب ما يزعمون ـ بيت الظلم وبيت ابن مرجانة وسيده يزيد حفيد أبي سفيان بيت العدل ! فيالله أمام هذا الظلم الذي لم يقع نظيره في تأريخ الاُمم والشعوب .
وتنصّ بعض المصادر إلى أنّ عمر بن سعد أمر بحرق الخيام بما فيها من النساء والأطفال ، وقد حاول الشمر ذلك إلاّ أنّ شبث بن ربعي عذله ومنعه عن ذلك .
وعلى أي حال فحينما التهبت النار في خيم آل النبي فررن بنات الرسالة وعقائل الوحي من خباء إلى خباء ، أمّا اليتامى فقد علا صراخهم وتعلّق بعضهم بأذيال عمّته الحوراء لتحميه من النار ، وهام بعضهم على وجهه لا يلوي على شيء .
لقد كان ذلك المنظر من أفجع وأقسى ما مر على آل النبي ، ولم يغب عن

(1) التاريخ المظفري : 228 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام272

ذهن الإمام زين العابدين عليه السلام طيلة المدّة التي عاشها بعد أبيه ، وكان يذكره مشفوعاً بالأسى والحزن ، وهو يقول :
«والله ما نظرت إلى عماتي واخواتي إلاّ وخنقتني العبرة ، وتذكّرت فرارهن يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى خباء ، ومنادي القوم ينادي : احرقوا بيوت الظالمين ..» .

سلب حرائر الوحي :

وعمد أراذل أهل الكوفة ، وعبيد ابن مرجانة إلى سلب حرائر النبوة وعقائل الوحي ، فسلبوا ما عليهن من حلي وحلل ، وعمد بعض الأنذال إلى السيدة اُم كلثوم فسلب قرطيها ، وأسرع وغد خبيث نحو السيدة فاطمة بنت الحسين فانتزع خلخالها وهو يبكي ، فقالت له السيدة : ما لك تبكي ؟
كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله .
ولمّا رأت ذلك أنكرت عليه ، وطلبت منه أن لا يسلبها فأجابها :
أخاف أن يأخذه غيري (1) .
وعمد الأرجاس إلى نهب جميع ما في الخيام من ثقل ومتاع ، كما عمدوا إلى ضرب بنات رسول الله صلى الله عليه وآله بكعوب رماحهم وهن يلذن بعضهن ببعض من الرعب ، وقد سقطت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين مغشياً عليها من شدّة الضرب ، فلمّا أفاقت رأت عمّتها السيدة اُمّ كلثوم تبكي عند رأسها (2) .
إنّ مأساة بنات الوحي وعقائل الرسالة تذوب من هولها الجبال .

(1) مسير أعلام النبلاء 3 : 204 .
(2) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 302 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام273


إنقاذ العقيلة لزين العابدين :

وهجم الفجرة الجفاة على الإمام زين العابدين عليه السلام ، وكان مريضاً قد أنهكته العلة ، فأراد الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن قتله فنهره حميد بن مسلم وقال له :
سبحان الله أتقتل الصبيان ، إنّما هو مريض .
فلم يعن به الخبيث ، ورام قتل الإمام إلاّ أنّ العقيلة سارعت نحوه ، فتعلّقت به ، وقالت :
«لا يقتل حتى اُقتل دونه ..» (1) .
فكفّ اللئيم عنه ، ولولا السيدة زينب لمحيت ذرّية أخيها الحسين .


ليلة الحادي عشر :

وأقسى ليلة مرّت على حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله هي ليلة الحادي عشر من المحرم ، فقد أحاطت بها جميع رزايا الدنيا ومصائب الأيام ، فقد تسلّحت بالصبر ، وقامت برعاية أيتام أخيها ، فقد سارعت تلتقط الأطفال الذين هاموا على وجوههم من الخوف ، وتجمّع العيال في تلك البيداء الموحشة ، وهي تسلّيهم وتصبّرهم على تحمل تلك الرزايا ، وأمامها الأشلاء الطاهرة قد تناثرت في البيداء ، واُحرقت أخبيتها ، وقد أحاط بهـا أرجـاس البشـرية ووحـوش الأرض .

العقيلة تؤدي صلاة الشكر :

وقامت العقيلة في تلك الليلة القاسية فأدّت صلاة الشكر لله تعالى على ما حلّ بها وبأهلها من الكوارث والخطوب ، طالبة من الله أن يتقبّل ما منيت به من الرزايا ، وأن

(1) تاريخ القرماني : 108 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام274

يثيبها على ذلك ، ويتقبّل ما جرى عليها وعلى أخيها من المصائب (1) . كما أدّت وردها من صلاة الليل ، وقد استولى عليها الضعف فأدّت الصلاة من جلوس (2) .

العقيلة تندب أخاها :

ونظرت حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله إلى جثمان أخيها ، وهو مقطّع الأعضاء قد فصل عنه الرأس الشريف ، فلم تملك نفسها ، وصاحت بصوت يذيب القلوب :
«يا محمداه ، هذا حسين بالعراء ، مرمّل بالدماء ، مقطّع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، وذرّيتك مقتّلة ..» (3) .
ووجم القوم مبهوتين ، وفاضت دموعهم ، وبكى العدو والصديق (4) فقد استبان عظم الجريمة التي اقترفوها وودّوا أنّ الأرض قد خاست بهم .

العقيلة تخفّف لوعة زين العابدين :

وجزع الإمام زين العابدين كأشدّ ما يكون الجزع حينما رأى جثمان أبيه وجثت أهل بيته وأصحابه منبوذة بالعراء لم ينبر أحد إلى مواراتها ، وبصرت به العقيلة وهو يجود بنفسه ، فقالت له :
«ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي واخوتي ، فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك ، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السماوات ، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم

(1) زينب الكبرى : 62 .
(2) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 309 .
(3) خطط المقريزي 2 : 280 . البداية والنهاية 8 : 193 .
(4) جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب : 140 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام275

المضرّجة فيوارونها ، وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجهدن أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلى علواً ..» (1) .
وأزالت سيّدة النساء ما ألمّ بابن أخيها من الحزن العميق ، فقد أحاطته علماً بما سمعته من جدّها وأبيها من قيام جماعة من المؤمنين بمواراة الجثث الطاهرة وسينصب لها علم لا يمحى أثره حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
وقد جدّ الأقزام من ملوك الاُمويّين وإخوانهم العباسيّين على محو تلك المراقد العظيمة فلم تزدد إلاّ علواً ، وبقيت شامخة على الدهر كأعزّ مرقد على وجه الأرض .
لقد مضت ذكرى أبي الأحرار تملأ الدنيا إشراقاً وفخراً كأسمى ذكرى تعتزّ بها الإنسانية في جميع أدوارها .

(1) كامل الزيارات : 221 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام276




السابق السابق الفهرس التالي التالي