السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام277

سبايا آل البيت في الكوفة

وحُملت عقائل النبوة وحرائر الوحي سبايا إلى الكوفة ومعهن الايتام ، وقد ربطوا بالحبال ، وحملوا على جمال بغير وطاء ، وقد عزفت أبواق الجيش ، وخفقت راياتهم ، وكان منظر رهيباً تهلع منه القلوب ، وقد وصفه مسلم الجصّاص ، يقول:
دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة فبينما أجصص الأبواب ، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جميع الكوفة ، فقلت لأحد خدام القصر :
ما لي أرى الكوفة تضجّ ؟
الساعة يأتون برأس خارجي خرج على يزيد .
من هذا الخارجي ؟
الحسين بن عليّ .
وكان هذا النبأ كالصاعقة على رأسه ، فقد أخذ يلطم على وجهه حتى خشي على عينيه أن تذهبا ، وغسل يديه من الجص ، وخرج من القصر ، يقول : فبينما أنا واقف والناس يتوقّعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبل أربعون جملاً تحمل النساء والأطفال ، وإذا بعلي بن الحسين على بعير بغير غطاء ، وأوداجه تشخب دماً ، وهو يبكي ويقول :
يا أمة السوء لا سقيا لربعكم يا أمة لم تراع جدّنـا فينـا
لو أنّنا ورسول الله يجمعنـا يوم القيامة ما كنتـم تقولونا

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام278

تسيرونا على الأقتاب عارية كأنّنا لم نشيد فيكم دينا (1)

وتحدّث حذيم بن شريك الأسدي عن ذلك المنظر المؤلم يقول : قدمت إلى الكوفة سنة (61هـ) عند مجيء علي بن الحسين من كربلاء إلى الكوفة ، ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود ، وقد خرج الناس ينظرون إليهم ، وكانوا على جمال بغير غطاء ، فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن ، ورأيت عليّ بن الحسين قد أنهكته العلّة ، وفي عنقه الجامعة ، ويده مغلولة إلى عنقه ، وهو يقول بصوت ضعيف : «إن هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا فمن قتلنا» .
وانبرت إحدى السيدات فسألت إحدى العلويات وقالت لها :
من أي الأسارى أنتن ؟
فأجابتها العلوية :
نحن اُسارى أهل البيت .
وكان هذا النبأ كالصاعقة عليها فصرخت ، وصرخت اللاتي كنّ معها ، ودوي صراخهن في أرجاء الكوفة ، وبادرت المرأة إلى بيتها فجمعت ما فيه من اُزر ومقانع فجعلت تناولها إلى العلويات ليتسترن بها عن أعين الناس ، كما بادرت سيدة اُخرى فجاءت بطعام وتمر ، وأخذت تلقيه على الصبية التي أضناها الجوع ، ونادت السيدة اُمّ كلثوم من خلف الركب :
«إنّ الصدقة حرام علينا أهل البيت ..» (2) .
ولمّا سمعت الصبية التي تربّت بآداب أهل البيت مقالة عمّتهم رمى كل واحد ما في يده أو ما في فمه من الطعام ، وراح يقول لمن معه : إنّ عمّتي تقول :
«الصدقة حرام علينا أهل البيت ..» .

(1) مقتل الحسين عليه السلام ـ عبد الله نور الله ، مخطوط .
(2) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 335 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام279


خطاب العقيلة زينب :

وحينما رأت حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله زينب الجموع الزاخرة التي ملأت الشوارع والأزقة ، وقد احاطت بها اندفعت إلى الخطابة لبلورة الرأي العام ، وإظهار المصيبة الكبرى التي داهمت العالم الإسلامي بقتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وتحميل الكوفيّين مسؤولية هذه الجريمة النكراء ، فهم الذين نقضوا ما عاهدوا الله عليه من نصرة الإمام الحسين عليه السلام والذبّ عنه ، ولكنّهم خسروا ذلك وقتلوه ثم راحوا ينوحون ويبكون ، كأنهم لم يقترفوا هذا الإثم العظيم ، وهذا نصّ خطابها :
الحمد لله ، والصلاة على جدّي محمد وآل الطيّبين الأخيار .
أمّا بعد : يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل (1) والغدر ، أتبكون ؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّة ، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم .
ألا وهل فيكم إلاّ الصلف والنطف ، والصدر الشيف ، وملق الإماء ، وغمز الأعداء ؟! أو كمرعى على دمنة ، أو كفضّة على ملحودة ، ألا ساء ما قدّمتم لأنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون .
أتبكون وتنتحبون ؟! إي والله فابكوا كثيراً ، واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنّة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار


(1) في نسخة : «الغدر» .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام280

حجّتكم ، ومدرة سنّتكم .
ألا ساء ما تزرون ، وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبّت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة .
ويلكم يا أهل الكوفة ، أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم ؟! وأيّ كريمة له أبرزتم ؟! وأيّ دم له سفكتم ؟ وأيّ حرمة له انتهكتم ؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء .
وفي بعضها : خرقاء شوهاء ، كطلاع الأرض وملاء السماء .
أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون ، فلا يستخفنّكم المهل ، فإنّه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثار ، وإنّ ربكم لبالمرصاد» (1) .

لقد قرعتهم عقيلة الرسول بخطابها البليغ ، وعرّفتهم زيف إسلامهم ، وكذب دموعهم ، وأنّهم من أحطّ المجرمين ، فقد اقترفوا أفضع جريمة وقعت في الأرض ، فقد قتلوا المنقذ والمحرّر الذي أراد لهم الخير ، وفروا بقتله كبد رسول الله صلى الله عليه وآله وانتهكوا حرمته ، وسبوا عياله ، فأي جريمة أبشع من هذه الجريمة .

اضطراب الرأي العام :

واضطرب أهل الكوفة من خطاب سليلة النبوة ، ووصف حذيم الأسدي مدى الأثر البالغ الذي أحدثته العقيلة في خطابها يقول :

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 335 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام281

لم أر والله خفرة أنطق منها ، كأنّما تفرغ عن لسان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، ورأيت الناس بعد خطابها حيارى ، واضعي أيديهم على أفواههم ، ورأيت شيخاً قد دنا منها يبكي حتى اخضبت لحيته وهو يقول : بأبي أنتم واُمي ، كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونسلكم لا يبور ولا يخزى أبداً (1) .
ورأى الإمام زين العابدين عليه السلام الوضع الراهن لا يساعد على استمرارها في الخطاب ، فقطع عليها خطبتها قائلاً : «اسكتي يا عمّة فأنت بحمد الله عالمة غير معلّمة ، وفهمة غير مفهمة» (2) .

خطاب السيدة فاطمة :

وانبرت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام فخطبت أبلغ خطاب وأروعه ، وكانت طفلة وقد برزت فيها معالم الوراثة النبوية ، فقالت :
الحمد لله عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده وأؤمن به وأتوكّل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله ، وأنّ ذرّيّته ذُبحوا بشطّ الفرات بغير ذخل ولا ترات .
اللهم إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب ، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود لوصيّة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، المسلوب حقّه ، المقتول بغير ذنب ـ كما قُتل ولده بالأمس ـ في بيتٍ من بيوت الله ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم ،


(1) نور الأبصار : 276 .
(2) الاحتجاج ـ الطبرسي 2 : 304 ـ 305 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام282

ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته ، حتى قبضته إليك محمود النقيبة ، طيّب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم تأخذه اللهم فيك لومة لائم ولا عذل عاذل ، هديته يا ربّ للإسلام صغيراً ، وحمدت مناقبه كبيراً ، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلواتك عليه وآله حتى قبضته إليك ، زاهداً في الدنيا ، غير حريص عليها ، راغباً في الآخرة ، مجاهداً لك في سبيلك ، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم .
أمّا بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخُيَلاء ، فإنّا أهل بيت إبتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسناً ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته وحجّته على أهل الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته وفضّلنا بنبيّه محمد صلى الله عليه وآله على كثير ممّن خلق تفضيلاً بيّناً .
فكذّبتمونا ، وكفّرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً ، كأنّنا أولاد ترك أو كابل ، كما قتلتم جدّنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت ، لحقد متقدّم ، قرّت لذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم ، إفتراء على الله ومكراً مكرتم ، والله خير الماكرين .
فلا تدعُوَنّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا ، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها ، إنّ ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحبّ كلّ مختال فخور .


السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام283

تبّاً لكم ، فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأنّ قد حلّ بكم ، وتواترت من السماء نقمات ، فيسحتكم بعذاب ويذيق بعضكم بأس بعض ثمّ تخلّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين .
ويلكم ، أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم ؟! وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا ؟! أم بأيّة رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا ؟!
قست والله قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطُبع على أفئدتكم ، وخُتم على أسماعكم وأبصاركم [سوّل لكم الشيطان وأملى لكم وجعل على بصركم] غشاوةً فأنتم لا تهتدون .
فتبّاً لكم يا أهل الكوفة ، أيّ تراث لرسول الله صلى الله عليه وآله قِبَلكم وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام جدّي وبنيه وعترة النبيّ الأخيار صلوات الله وسلامه عليهم ، وافتخر بذلك مفتخركم فقال :
نحن قتلنا عليّاً وبني عليّ بسيوف هنديّة ورمـاح
وسبَينا نساءهم سبيَ ترك و طحنـاهم فأيّ نطاح

بفيك أيّها القاتل الكثكث والأثلب (1) ، إفتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، فاكظم واقع كما

(1) الكثكث : التراب . الأثلب : فتات الحجارة والتراب .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام284

أقعى أبوك ، فإنّما لكلّ امرء ما اكتسب وما قدّمت يداه .
أحسدتمونا ـ ويلاً لكم ـ على ما فضّلنا الله .
فما ذنبنا إن جاش دهراً بحورنا وبحرك ساجٍ لا يواري الدعامصا

«ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور» (1) .
تحدّثت سليلة النبوة في خطابها الرائع البليغ عن اُمور بالغة الأهمية ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسين) .

صدى خطابها :

وأثّر خطاب السيدة الزكية فاطمة في نفوس الجماهير ، فقد وجلت منه عيونهم ووجلت قلوبهم ، وعرفوا عظيم ما اقترفوه من الإثم فاندفعوا ببكاء قائلين :
حسبك يابنة الطاهرين ، فقد أحرقت قلوبنا ، وأنضجت نحورنا ، وأضمرت أجوافنا .
وأمسكت السيدة عن الكلام ، وتركت جماهير الكوفيّين في محنتهم وشقائهم .

خطاب السيّدة اُمّ كلثوم :

وانبرت حفيدة الرسول السيدة اُمّ كلثوم (2) إلى الخطابة فأومأت إلى الناس

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 339 .
(2) ذهب السيد المقرّم وغيره إلى أنّ السيّدة اُمّ كلثوم هي السيدة زينب عليها السلام .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام285

بالسكوت ، فلمّا سكنت الأنفاس بدأت بحمد الله والثناء عليه ، ثم قالت :
«مه يا أهل الكوفة ، سوءاً لكم ، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه وانتهبتم أمواله وورثتموه وسبيتم نساءه ونكبتموه ؟! فتبّاً لكم وسحقاً .
ويلكم ، أتدرون أيّ دواه دهتكم ؟ وأيّ وزر على ظهوركم حملتم ؟ وأيّ دماء سفكتموها ؟! قتلتم خير رجالات بعد النبي صلى الله عليه وآله ، ونُزِعت الرحمة من قلوبكم ، ألا إنّ حزب الله هم الغالبون وحزب الشيطان هم الخاسرون» .

واضطرب الكوفيون من خطابها فنشرت النساء شعورهن ولطمن الخدود ، ولم ير أكثر باكٍ ولا باكية مثل ذلك اليوم .

خطاب الإمام زين العابدين :

وانبرى إلى الخطاب الإمام زين العابدين عليه السلام فقال بعد حمد الله والثناء عليه :
«أيّها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أُعَرِّفه بنفسي : أنا علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات (1) ، أنا ابن من انتُهك حريمه وسُلب نعيمه وانتُهب ماله وسُبي عياله ، أنا ابن من قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً .
أيها الناس ، ناشدتكم الله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي


(1) الترات : هو من ظلم حقّه .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام286

وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه ؟! فتبّاً لِما قدّمتم لأنفسكم وسوءاً لرأيكم ، بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أُمّتي ؟!» .
وجردهم بهذه الكلمات من الإسلام ، ودلّهم على جرائمهم وآثامهم التي سوّدت وجه التأريخ ، وقد علت أصواتهم بالبكاء ، ونادى مناد منهم :
هلكتم وما تعلمون .
واستمر الإمام في خطابه قائلاً :
«فقال : رحم الله امرءاً قَبِل نصيحتي وحفظ وصيّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته ، فإنّ لنا في رسول الله أُسوة حسنة» .
فهتفوا قائلين :
نحن يابن رسول الله سامعون ، مطيعون ، حافظون لذمامك غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك يرحمك الله ، فإنّا حرب لحربك وسلم لسلمك ، نبرأ ممن ظلمك وظلمنا .
وردّ الإمام عليهم هذا الولاء الكاذب قائلاً :
«هيهات هيهات ، أيّتها الغدرة المكرة ، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم ، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى أبي من قبل ؟! كلا وربّ الراقصات (1) ، فإنّ الجرح لمّا يندمل ، قُتل أبي صلوات الله عليه بالأمس وأهل بيته معه ، ولم يُنس ثكل رسول الله صلى الله عليه وآله وثكل ابي وبني أبي ، ووجده بين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي ،

(1) الراقصات : هي النجوم .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام287

وغصصه تجري في فراش صدري (1) .
وأمسك الإمام عن الكلام ، وتركهم حيارى يندبون حظّهم التعيس .

في مجلس ابن زياد :

وأدخلت عقائل الوحي ومخدرات النبوة وهن في ذلّ الأسر ، قد شهرت على رؤوسهن سيوف الكافر ابن مرجانة سليل الأرجاس والخيانة ، وهو في قصر الإمارة وقد امتلأ القصر بالسفكة المجرمين من جنوده ، وهم يهنئونه بالظفر ، ويحدّثونه بجرائمهم التي اقترفوها يوم الطفّ وهو جذلان مسرور يهزّ أعطافه فرحاً وسروراً ، وبين يديه رأس زعيم الاُمّة وريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله فجعل الخبيث يعبث بالرأس الشريف ، وينكته بمخصرته ، وهو يقول متشمّتاً :
ما رأيت مثل هذا الوجه قطّ .
إنّه وجه النبوة والإمامة ، ووجه الإسلام بجميع مبادئه وقيمه .
ولم ينه ابن مرجانة كلامه حتى سدّد له الصحابي أنس بن مالك سهماً فقال له :
إنّه كان يشبه النبي (2) .
والتاع الخبيث من كلامه ، ولم يجد أي مجال للردّ عليه .

الطاغية مع عقيلة الوحي :

ولمّا روى المجرم الخبيث ابن مرجانة أحقاده من رأس ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله التفت إلى عائلة الإمام الحسين فرأى سيدة منحازة في ناحية من مجلسه ، وعليها أرذل

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 342 .
(2) أنساب الأشراف : 222 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام288

الثياب وقد حفت بها المهابة والجلال ، فانبرى ابن مرجانة سائلاً عنها ، فقال :
مَن هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها ؟
فأعرضت عنه احتقاراً واستهانة به ، وكرّر السؤال فلم تجبه فانبرت إحدى السيّدات فأجابته :
هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله .
فالتاع الخبيث الدنس من احتقارها له ، واندفع يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً :
الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم ، وأبطل اُحدوثتكم .
فثارت حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله وأجابته بشجاعة ابيها محتقرة له قائلة :
«الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا ، وهو غيرنا يابن مرجانة» (1) .
وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس هذا الوضر الخبيث ، لقد قالت هذا القول الصارم وهي مع بنات رسول الله صلى الله عليه وآله في قيد الأسر قد نصبت فوق رؤوسهن حراب الظالمين وشهرت عليهن سيوف الشامتين .
ولم يجد بان مرجانة كلاماً يجيب به سوى التشفّي قائلاً :
كيف رأيت صنع الله بأخيك ؟
فأجابته حفيدة الرسول ، ومفخرة الإسلام بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة :
«ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينكم وبينهم ، فتُحاجّ وتُخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ ، ثكلتك أمّك يابن مرجانة ..» .

(1) تاريخ الطبري 6 : 263 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام289

وفقد الحقير الدنس إهابه من هذا التبكيت ، والاحتقار اللاذع ، فهمّ أن يضرب العقيلة فنهاه عمرو بن حريث وقال له : إنّها امرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها .
يالله ، يا للمسلمين ، ابن مرجانة يروم أن يعتدي على عقيلة بن هاشم وحفيدة الرسول .
إنّ المسؤول عن هذا الاعتداء الصارخ على الأُسرة النبوية وعلى عقائل الوحي مؤتمر السقيفة والشورى ، فهم الذين سلّطوا على المسلمين الاُمويّين خصوم الإسلام وأعداء البيت العلوي ، وحجبوا آل البيت عن القيادة الروحية لهذه الاُمّة .
وعلى أي حال ، فإن ابن مرجانة التفت إلى العقيلة مظهراً لها التشفّي بقتل أخيها قائلاً :
لقد شفى الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك .
وغلب الأسى والحزن على العقيلة من هذا التشفّي الآثم ، وتذكّرت حماتها الصفوة من الاُسرة النبوية ، فأدركتها لوعة الاسى ، وقالت :
«لعمري لقد قتلت كهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت» .
وتهافت غيظ ابن مرجانة ، وراح يقول :
هذه سجّاعة ، لعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً .
فردّت عليه العقيلة :
«إنّ لي عن السجاعة لشغلاً ، ما للمرأة والسجاعة» (1) .
ما أخسّ هذه الحياة وما ألأمها التي جعلت حفيدة الرسول أسيرة عند

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 344 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام290

ابن مرجانة ، وهو يبالغ في احتقارها .

إنقاذ العقيلة للإمام زين العابدين :

وأدار ابن مرجانة بصره في بقية الأسرى من أهل البيت فوقع بصره على الإمام زين العابدين ، وقد أنهكته العلّة فسأله :
مَن أنت ؟
«عليّ بن الحسين ..» .
فصاح به الرجس الخبيث :
أوَ لم يقتل الله علي بن الحسين .
فأجابه الإمام بإناة :
«قد كان لي أخ يسمّى عليّ بن الحسين قتلتموه ، وإنّ له منكم مطالباً يوم القيامة ..» .
فثار ابن مرجانة ، ووضع صوته قائلاً :
الله قتله .
فأجابه الإمام بكلّ شجاعة وثبات :
«الله يتوفّى الأنفس حين موتها ، وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله ..» .
ودارت الأرض بابن مرجانة ولم يعرف ما يقول ، وغاظه أن يتكلّم هذا الغلام الأسير بقوّة الحجّة ، والاستشهاد بالقرآن الكريم ، فرفع عقيرته قائلاً :
وبك جرأة على ردّ جوابي !! وفيك بقية للردّ عليّ ..» .
والتفت إلى بعض جلاديه فقال له :
خذ هذا الغلام واضرب عنقه .
وطاشت أحلام العقيلة وانبرت بشجاعة لا يرهبها سلطان ، فاحتضنت ابن أخيها ، وقالت لابن مرجانة :

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام291

«حسبك يابن زياد ما سفكت من دمائنا ، إنّك لم تبق منّا أحداً ، فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه ..» .
وبهر الطاغية وانخذل ، وقال متعجّباً :
دعوه لها ، عجباً للرحم ودّت أن تقتل معه .
ولولا موقف العقيلة لذهبت البقية من نسل أخيها التي هي مصدر الخير والفضيلة في دنيا العرب والإسلام .
لقد أنجا الله زين العابدين من القتل المحتم ببركة العقيلة فهي التي أنقدته من هذا الطاغية الجبار (1) .

حبس عقائل الوحي :

وأمر ابن مرجانة بحبس مخدرات الرسالة وعقائل الوحي ، فاُدخلنّ في سجن يقع إلى جانب المسجد الأعظم ، وقد ضيّق عليهن أشد التضييق ، فكان يجري على كلّ واحدة في اليوم رغيفاً واحداً من الخبز ، وكانت العقيلة تؤثر أطفال أخيها برغيفها وتبقى ممسكة حتى بان عليها الضعف ، فلم تتمكّن من النهوض وكانت تصلّي من جلوس ، وفزع الإمام زين العابدين عليه السلام من حالتها فأخبرته بالأمر .
ورفضت عقيلة بني هاشم مقابلة أيّة امرأة من الكوفيات وقالت :
«لا يدخلنّ علينا إلاّ أُمّ ولد أو مملوكة ، فإنّهنّ سُبين كما سُبينا» .
واُلقي على بنات رسول الله صلى الله عليه وآله حجر قد ربط فيه كتاب جاء فيه : إنّ البريد قد سار بأمركم إلى يزيد فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالهلاك ، وإن لم تسمعوا بالتكبير فهو الأمان ، وحدّدوا لمجيء الكتاب وقتاً ، وفزعت العلويات وذعرن ، وقبل قدوم البريد بيومين اُلقي عليهم حجر آخر فيه كتاب جاء فيه : أوصوا واعهدوا فقد قارب

(1) حياة الإمام الحسين 3 : 345 ـ 347 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام292

وصول البريد ، وبعد انتهاء المدّة جاء أمر يزيد بحمل الأسرى إلى دمشق (1) . وصرح بعض المؤرخين أنّ يزيد كان عازماً على استئصال نسل الإمام أمير المؤمنين إلاّ أنّه بعد ذلك عدل عن نيّته .
وبقيت العائلة النبوية في السجن ، فلمّا جاءت أوامر يزيد بحملهم إلى دمشق لتعرض على أهل الشام ، كما عرضت على أهل الكوفة ، فقد حملت السبايا ، وأمّا رؤوس العترة الطاهرة الذين أرادوا أن يقيموا في هذا الشرق حكومة الإسلام والقرآن فقد حملت ليراها أهل الشام ويتلذّذ بمنظرها يزيد .


(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 37 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام293

سبايا آل النبي في دمشق

وعانت عقائل الوحي ومخدرات النبوة والإمامة جميع ضروب المحن والبلاء أيام مكثهن في الكوفة ، فقد عانين مرارة السجن وشماتة الأعداء ، وذلّ الأسر ، وبعدما صدرت الأوامر من دمشق بحملهن إلى يزيد أمر ابن مرجانة بتسيير رؤوس أبناء النبي صلى الله عليه وآله وأصحابهم إلى الشام لتعرض على الشاميّين ، كما عرضت على الكوفيّين حتى تمتلأ قلوب الناس فزعاً وخوفاً وتظهر مقدرة الاُمويين ، وغلبتهم على آل الرسول .
وقد سيّرت رؤوس العترة الطاهرة مع الأثيم زهير بن قيس الجعفي ، كما سيّرت العائلة النبوية مع محفر بن ثعلبة من عائدة قريش ، وشمر بن ذي الجوشن ، وقد أوثقت بالحبال ، وأركبت على أقتاب الجمال ، وهن بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان وترتعد لها فرائص كل إنسان (1) .
وسارت قافلة الأسرى لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى القرب من دمشق ، فاُقيمت هناك حتى تتزيّن البلد بمظهر الزهو والأفراح ، ومن الجدير بالذكر أنّ مخدّرات النبوة وباقي الأسرى قد التزموا جانب الصمت فلم يطلبوا أي شيء من اولئك الأنذال الموكّلين بهم ، وذلك لعلم العلويات بعدم الاستجابة لأي شيء من مطالبهن .

(1) تحفة الأنام في مختصر الإسلام : 84 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي