السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام313

إلى يثرب

ولم تمكث سبايا أهل البيت زمناً كثيراً في دمشق ، فقد خشي الطاغية من وقوع الفتنة ووقوع ما لا تحمد عقباه ، فقد أحدث خطاب العقيلة زينب وخطاب الإمام زين العابدين عليه السلام انقلاباً فكرياً في جميع الأوساط الشعبية والأندية العامة ، وأخذ الناس يتحدّثون عن زيف وكذب الدعاية الاُموية من أنّ السبايا من الخوارج ، وإنّما هم من صميم الاُسرة النبوية ، وقد جوبه يزيد بالنقد حتى في مجلسه ، ونقم عليه القريب والبعيد ، وقد رأى الطاغية أن يسرع في ترحيل مخدرات الرسالة إلى يثرب ليتخلّص ممّا هو فيه ، وقبل ترحيلهم أمر بانطاع من الأبريسم ففرشت في مجلسه ، وصبّ عليها أموالاً كثيرة ، وقدّمها لآل البيت لتكون دية لقتلاهم وعوضاً لأموالهم التي نهبت في كربلاء ، وقال لهم :
خذوا هذا المال عوض ما أصابكم .
والتاعت مخدرات الرسالة ، فانبرت إليه العقيلة اُمّ كلثوم ـ وأكبر الظن ـ أنّها زينب ، فصاحت به :
«ما أقل حياءك وأصلف وجهك ، تقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم» .
وقالت السيدة سكينة :
«والله ما رأيت أقسى قلباً من يزيد ، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه ،

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام314

ولا أجفا منه ..» (1) .
وباء الطاغية بالفشل ، فقد حسب أنّ أهل البيت تغريهم المادة ، ولم يعلم أنّهم من صنائع الله ، فقد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً .

السفر إلى يثرب :

وعهد الطاغية إلى النعمان بن بشير أن يصحب ودائع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى يثرب ويقوم برعايتهن (2) .
كما أمر بإخراجهنّ ليلاً من دمشـق خـوفاً من الفتنة ، واضطـراب الـرأي العـام (3) .

وصول النبأ إلى يثرب

وانتهى نبأ الكارثة الكبرى بمقتل سبط الرسول صلى الله عليه وآله إلى يثرب قبل وصول السبايا إليها ، وقد حمل النبأ عبد الملك السلمي إليها بأمر من ابن مرجانة ، وقد وافى به عمرو بن سعيد الأشدق حاكم المدينة ، فاهتزّ فرحاً وسروراً ، وقال :
واعية بواعية عثمان (4) .
وأمر بإذاعة ذلك بين الناس فهرعوا وقد علاهم البكاء نحو الجامع النبوي ،

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 414 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 : 300 .
(3) (4) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 416 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام315

وأسرع الأشدق إلى الجامع فاعتلى أعواد المنبر وأظهر أحقاده وسروره بمقتل سبط الرسول صلى الله عليه وآله فقال :
أيها الناس ، إنّها لدمة بلدمة ، وصدمة بصدمة ، كم خطبة بعد خطبة ، حكمة بالغة فما تغني النذر ، لقد كان يسبنا ونمدحه ، ويقطعنا ونصله ، كعادتنا وعادته ، ولكن كيف نصنع بمن سلّ سيفه علينا يريد قتلنا إلاّ أن ندفعه عن أنفسنا ..» .
وقطع عليه عبد الله بن السائب خطابه ، فقال له :
لو كانت فاطمة حيّة ، ورأت رأس الحسين لبكت عليه ، وكان هذا أوّل نقد يجابه به حاكم المدينة ، فصاح به :
نحن أحقّ بفاطمة منك ، أبوها عمّنا ، وزوجها أخونا ، واُمّها ابنتنا ، ولو كانت فاطمة حيّة لبكت عليه ، وما لامت من قتله (1) .
لقد زعم الأشدق أنّ سيدة النساء فاطمة عليها السلام لو رأس عزيزها لما لامت قاتله ولباركته ؛ لأن في ذلك دعماً لحكم الاُمويّين ، وتشييداً لعروشهم ، وبسطاً لسلطانهم الذي حمل جميع الاتجاهات الجاهلية .
انّ سيدة النساء لو كانت حيّة ورأت فلذة كبدها في عرصات كربلاء ، وهو يعاني من الخطوب والكوارث التي لم تجر على أي إنسان منذ خلق الله الأرض ، لذابت نفسها حسرات ، وقد روى عليّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال :
«تحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة ومعها ثياب مصبوغة بدم ولدها ، فتتعلّق بقائمة من قوائم العرش ، فتقول : يا عدل احكم بيني وبين قاتل ولدي ، فيحكم

(1) مقتل الحسين عليه السلام ـ المقرّم : 417 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام316

لابنتي وربّ الجنة» (1) .
ويقول الشاعر :
لابدّ أن ترد القيامة فاطم وقميصها بدم الحسين ملطّخ

فجيعة بني هاشم :

وفجع الهاشميون بقتل زعيمهم ، وعلا الصراخ والعويل من بيوتهم ، وخرجت السيدة زينب بنت عقيل ناشرة شعرها وهي تصيح :
«وا محمداه ، وا حسيناه ، وا اخوتاه ، وا أهيلاه» . وجعلت تخاطب المسلمين قائلة :
ماذا تقولـون إذ قـال النبـي لكم مـاذا فعلتـم وأنتم آخـر الأُمـم
بعتـرتي و بأهلـي بعـد مفتقدي منهم أُسارى ومنهم ضُرّجـوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

فأجابها أبو الأسود وهو غارق في البكاء يقول :
«ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين» ، وعلاه الجزع وراح يقول :
أقول وزادني حنقاً وغيظاً أزال الله ملك بني زيـاد
وأبعدهم كما بعدوا وخافوا كما بعدت ثمود وقوم عاد
ولا رجعت ركائبهم إليهم إذا وقفـت يوم التنـاد (2)

(1) الصراط السوي في مناقب آل النبي صلى الله عليه وآله : 93 .
(2) مجمع الزوائد 9 : 199 . المعجم الكبير ـ الطبراني 1 : 140 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام317

مأتم عبد الله بن جعفر :

واقام عبد الله بن جعفر زوج العقيلة زينب مأتماً على ابن عمّه سيّد شباب أهل الجنة ، وجعل الناس يفدون عليه زرافات ووحداناً ، وهم يعزّونه بمصابه الأليم ، وكان عنده بعض مواليه يسمّى أبا السلاسل ، فأراد أن يتقرّب إليه لأنّ عبد الله قد استشهد ولداه مع الإمام الحسين فقال :
ماذا لقينا من الحسين ؟
ولمّا سمع ابن جعفر مقالته حذفه بنعله ، وقال له :
«يابن اللخناء ، تقول ذلك في الحسين ، والله لو شهدته لأحببت أن لا اُفارقه حتى اُقتل معه ، والله إنّه لما يسخى بنفسي عن ولدي ، ويهونّ عليّ المصاب بهما إنّهما اُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسين له صابرين معه ..» .
وأقبل على حضار مجلسه فقال لهم :
الحمد لله ، لقد عزّ عليّ المصاب بمصرع الحسين أن لا أكون واسيته بنفسي ، فقد واساه ولداي (1) .

رأس الإمام في المدينة :

وأرسل الطاغية يزيد راس ريحانة رسول الله وسيّد شباب أهل الجنة إلى المدينة المنوّرة لإشاعة الرعب والخوف ، والقضاء على كل حركة ضدّه ، وجيء بالرأس الشريف إلى عمرو بن سعيد الأشدق حاكم المدينة ، فأنكر ذلك وقال :
وددت والله أن أمير المؤمنين لم يبعث إلينا برأسه .
وكان في مجلسه الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم فهزأ منه وقال :

(1) تاريخ الطبري 4 : 357 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام318

بئس ما قلت : هاته .
وأخذ مروان رأس الإمام وهو جذلان مسرور ، وجعل يهزّ أعطافه بشراً وسروراً ويقول بشماتة :
يا حبذا بردك في اليدين ولونك الأزهر في الخدين

وجيء برأس الإمام فنصب في جامع الرسول صلى الله عليه وآله ، وهرعنّ نساء آل أبي طالب إلى القبر الشريف بلوعة وبكاء ، فقال مروان :
عجت نساء بني زبيد عجةً كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

وجعل مروان يبدي سروره ، وهو يقول :
والله لكأنّي أنظر إلى أيام عثمان .. (1) .
ثم التفت إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله فخاطبه :
يا محمد ، يوم بيوم بدر .. (2) .
لقد ظهرت الأحقاد الاُموية بهذا الشكل الذي ينمّ عن جاهليّتهم وكفرهم ، وأنّهم لم يؤمنوا بالإسلام طرفة عين .

السبايا في كربلاء :

وطلب سبايا أهل البيت من الوفد الموكّل بحراستهم أن يعرّج بهم إلى كربلاء ليجدّدوا عهداً بقبر سيد الشهداء ، ولبّى الوفد طلبتهم فانعطفوا بهم إلى كربلاء ، وحينما انتهوا إليها استقبلن السيدات قبر الإمام أبي عبد الله بالصراخ والعويل ، وسالت الدموع منهن كل مسيل ، وقضين ثلاثة أيام في كربلاء ، ولم تهدأ لهن عبرة

(1) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان 5 : 101 .
(2) شرح النهج 4 : 72 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام319

حتى بحّت أصواتهن وتفّتت قلوبهن ، وخاف الإمام زين العابدين عليه السلام على عمّته زينب وباقي العلويات من الهلاك ، فأمرهن بالسفر إلى يثرب ، فغادرن كربلاء بين صراخ وعويل (1) .

إلى يثرب :

واتّجه موكب أسارى أهل البيت إلى يثرب ، وأخذ يجدّ في السير لا يلوي على شيء ، وقد غامت عيون بنات رسول الله صلى الله عليه وآله بالدموع وهن ينجبنّ ويندبنّ قتلاهنّ ويذكرن بمزيد من اللوعة ما جرى عليهن من الذلّ ، وكانت يثرب قبل قدوم السبايا إليها ترفل في ثياب الحزن على اُمّ المؤمنين السيدة اُمّ سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وآله ، فقد توفّيت بعد قتل الحسين عليه السلام بشهر كمداً وحزناً عليه (2) .

نعي بشر للإمام :

ولمّا وصل الإمام زين العابدين عليه السلام بالقرب من المدينة نزل وضرب فسطاطه ، وأنزل العلويات ، وكان معه بشر بن حذلم فقال له :
«يا بشر ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه ؟» .
بلى يابن رسول الله .
«فادخل المدينة وانع أبا عبد الله ..» .
وانطلق بشر إلى المدينة ، فلمّا انتهى إلى الجامع النبوي رفع صوته مشفوعاً بالبكاء قائلاً :

(1) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 422 .
(2) اللهوف : 116 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام320

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قُتل الحسين فأدمعـي مدرار
ألجسم منه بكربلاء مُضرّج و الرأس منه على القناة يُدار

وهرعت الجماهير نحو الجامع النبوي وهي ما بين نائح وصائح تنتظر من بشر المزيد من الأنباء ، وأحاطوا به قائلين :
ما النبأ ؟
هذا علي بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ، وأنا رسوله إليكم أعرّفكم مكانه .
وعجّت الجماهير بالبكاء ، ومضوا مسرعين لاستقبال آل رسول الله صلى الله عليه وآله الذي برّ بدينهم ودنياهم ، وساد البكاء وارتفعت أصوات النساء بالعويل وأحطنّ بالعلويات ، كما أحاط الرجال بالإمام زين العابدين وهم غارقون بالبكاء ، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله .

خطاب الإمام زين العابدين :

وخطب الإمام زين العابدين عليه السلام خطبة مؤثرة تحدّث فيها عمّا جرى على آل البيت من القتل والتنكيل والسبي والذلّ ، ولم يكن باستطاعة الإمام أن يقوم خطيباً ، فقد أحاطت به الأمراض والآلام ، فاستدعي له بكرسي فجلس عليه ، ثم قال :
«الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بَعُد فارتفع في السموات العلى ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفواجع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة .

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام321

أيها القوم ، إنّ الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة : قُتل أبو عبد الله عليه السلام وعترته ، وسُبي نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية .
أيها الناس ، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله ؟! أم أي فؤاد لا يحزن من أجله ، أم أيّة عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها ؟!
فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار ، والملائكة المقرّبون وأهل السموات أجمعون .
أيها الناس ، أي قلب لا ينصدع لقتله ؟! أم أي فؤاد لا يحنّ إليه ؟! أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم ؟!
أيها الناس ، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين شاسعين عن الأمصار ، كأنّنا أولاد ترك أو كابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين ، إن هذا إلاّ اختلاق .
والله ، لو أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها وأفظعها وأفدحها ،


السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام322

فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا ، إنّه عزيز ذو انتقام» .
وعرض الإمام في خطابه إلى المحن السود التي عانتها الاُسرة النبوية ، وما جرى عليها من القتل وسبي النساء ، وغير ذلك ممّا تتصدّع من هوله الجبال ، وانبرى إلى الإمام صعصعة فألقى إليه معاذيره في عدم نصرته للحسين فقبل الإمام عذره وترحّم على أبيه .
ثمّ زحف الإمام مع عمّاته واخواته وقد أحاطت به الجماهير وعلت أصواتهم بالبكاء والعويل ، فقصدوا الجامع النبوي ، ولمّا انتهوا إليه أخذت العقيلة بعضادتي باب الجامع ، وأخذت تخاطب جدّها الرسول وتعزيه بمصاب ريحانته قائلة :
«يا جدّاه ، إنّي ناعية إليك أخي الحسين» (1) .
واقامت العلويات المأتم على سيد الشهداء ، ولبسن السواد ، وأخذن يندبنه بأقسى وأشجى ما تكون الندبة .


مكافأة الحرس :

وقام الحرس بخدمات ورعاية إلى السيدات ، فالتفتت السيدة فاطمة بنت الإمام أمير المؤمنين فقالت للعقيلة زينب : «لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشيء ؟» .
فأجابتها العقيلة :
«والله ما معنا شيء نصله به إلاّ حلينا ..» .
«نعم ، هو ما تقولين» .

(1) مقتل الحسين عليه السلام ـ المقرّم : 472 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام323

وأخرجن سوارين ودملجين ، وبعثتا بهما إليه واعتذرتا له ، وتأثّر الرجل من هذا الكرم الغامر وهو يعلم ما هن فيه من الضيق والشدة ، فقال لهما باحترام :
لو كان الذي صنعت للدنيا لكان في هذا ما يرضيني ، ولكن والله ما فعلته إلاّ لله ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وآله (1) .

حزن العقيلة :

وخلدت عقيلة آل أبي طالب إلى البكاء على انقراض أهلها (2) ، وكانت لا تجفّ لها عبرة ، ولا تفتر عن البكاء ، وكانت كلّما نظرت إلى ابن اخيها الإمام زين العابدين يزداد وجيبها وحزنها ، وقد نخب الحزن قلبها الرقيق المعذّب ، حتى صارت كأنّها صورة جثمان فارقته الحياة .

(1) تاريخ الطبري 6 : 366 . تاريخ ابن الأثير 3 : 300 .
(2) حياة الإمام الحسين عليه السلام 3 : 428 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام324




السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام325

إلى جنة المأوى

وخلدت حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله ـ في يثرب ـ إلى البكاء والنحيب ، وأخذت تراودها صباحاً ومساءً تلك الذكريات المروعة التي جرت على أخيها في صعيد كربلاء ، وما عاناه من الكوارث القاصمة التي تذوب من هولها الجبال ، فكانت دموعها تجري في كل لحظة على أخيها واُسرتها الذين حصدت رؤوسهم سيوف البغي ، ومثّلت بأجسامهم العصابات المجرمة .
لقد أخذت تلوح أمامها تلك المناظر الحزينة التي تعصف بالصبر حتى ضاقت بها الأرض ، ولم تلبث أن ترفع صوتها عالياً مشفوعاً بالألم والبكاء قائلة :
«وا حسيناه» .
«وا أخاه» .
«وا عبّاساه» .
«وا أهل بيتاه» .
«وا مصيبتاه» .
ثم تهوي إلى الأرض مغمىً عليها ، وقد صارت شبحاً ، وذوت كما ذوت اُمها زهراء الرسول من قبل ، وكان أحبّ شيء لها مفارقة الدنيا والالتحاق بجدّها الرسول صلى الله عليه وآله لتشكو إليه ما عانته من الرزايا والأسر والسبي ، وما جرى على أخيها

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام326

من القتل والتمثيل ... ونتحدّث بإيجاز عن وفاتها ، وما قيل في زمانه ، والمكان الذي حضي بمرقدها .

إلى جنة المأوى :

ولم تمكث العقيلة بعد كارثة كربلاء إلاّ زمناً قليلاً حتى تناهبت الأمراض جسمها ، وصارت شبحاً لا تقوى حتى على الكلام ، ولازمت الفراش وهي تعاني آلام المرض ، وما هو أشقّ منه وهو ما جرى عليها من الرزايا ، وكانت مائلة أمامها حتى الساعات الأخيرة من حياتها ... وقد وافتها المنية ولسانها يلهج بذكر الله وتلاوة كتابه ، وقد صعدت روحها الطاهرة إلى السماء كأسمى روح صعدت إلى الله تحفّها ملائكة الرحمن ، وتستقبلها أنبياء الله وهي ترفع إلى الله شكواها ، وما لاقته من المحن والخطوب التي لم تجر على أيّ إنسان منذ خلق الله الأرض .

الزمان :

انتقلت العقيلة إلى جوار الله تعالى على أرجح الأقوال يوم الأحد لخمسة عشر مضين من شهر رجب سنة (62هـ) (1) ، وقد آن لقلبها الذي مزّقته الكوارث أن يسكن ولجسمها المعذّب أن يستريح .

الأقوال في مرقدها :

واختلف المؤرخون في البقعة التي حظيت بجثمانها المعظم وهذه بعض الأقوال :

(1) السيدة زينب وأخبار الزينبيات ـ العبيدلي : 9 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام327

1 ـ في البقيع :


وذهب بعض المؤرخين إلى أنّها توفّيت في يثرب ، ودفنت في بقيع الغرقد ، ويواجه هذا القول إنّها لو دفنت هناك لكان لها مرقد خاص ، كما هو الحال في غيرها من السادة المعظمين من أبناء الاُسرة النبوية ، ومن المحتمل أنّها أوصت أن تدفن في غلس الليل البهيم ، ويعفى موضع قبرها تأسّياً باُمّها زهراء الرسول صلى الله عليه وآله .
2 ـ في الشام :


وأفاد فريق من المؤرخين أنّها توفّيت في إحدى قرى الشام ، ويعزو بعضهم سبب سفرها إلى الشام أنّه حدثت في يثرب مجاعة عظيمة ، فهرب منها عبد الله بن جعفر مصاحباً معه زوجته العقيلة وسائر عائلته ، ولمّا انتهت العقيلة إلى ذلك المكان توفّيت فيه ، وحدوث المجاعة فيما نعتقد لا أساس له من الصحة ؛ لأنّ المؤرخين والرواة لم يذكروا أنّه حدثت مجاعة في يثرب في ذلك الوقت ، مضافاً إلى أن عبد الله بن جعفر كان من الأثرياء المعدودين في المدينة ، فهل ضاق نطاقه عن إعاشة عائلته حتى يذهب إلى الشام ؟ كما أنّه كان من أندى الناس كفّاً ، ومن أكثرهم إسعافاً وعطاءً إلى الفقراء والبؤساء ، فكيف يتركهم ينهشهم الجوع وينهزم إلى الشام التي هي مقرّ السلطة الاُموية التي نكبته بسيّد اسرته وابن عمّه الإمام الحسين عليه السلام وبولديه وغيرهما من أبناء الاُسرة النبوية .
وعلى أي حال ، فإنّ المشهور في الأوساط الإسلامية أنّ قبر العقيلة في الشام حيث هو قائم الآن ، وقد اُحيط بهالة من التقديس والتعظيم ، وتؤمّه الملايين من الزائرين متبرّكين ومتوسّلين به إلى الله تعالى ، شأنه شأن مرقد أخيها أبي الأحرار عليه السلام الذي صار أعزّ مرقد في الأرض ، والذي نذهب إليه هو أنّ قبرها الشريف في الشام وإليه ذهب الكثيرون من المحقّقين .

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام328

3 ـ في مصر :


وذهب جمهرة من المؤرخين إلى أنّ قبر الصدّيقة الطاهرة زينب عليها السلام في مصر ، وهذا هو المشهور عند كافّة المصريين ، ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للحديث عن سبب هجرتها لمصر ، وما يتعلّق بمرقدها المعظّم .
سبب هجرتها لمصر : وذكر المؤرخون أنّ العقيلة أخذت تلهب العواطف ، وتستنهض المسلمين للأخذ بثأر أخيها ، والانتفاض على السلطة الاُموية ، والتي كان من نتائجها أنّ المدينة أخذت تغلي كالمرجل ، وأعلنت العصيان المسلح على حكم الطاغية يزيد ، فأرسل إليها جيشاً مكثّفاً بقيادة الإرهابي المجرم مسلم بن عقبة ، فأنزل بالمدنيّين أقصى العقوبات ، وأكثرها صرامة وقسوة ، وأرغمهم على أنّهم خول وعبيد ليزيد ، ومن أبى منهم نفّذ فيه حكم الإعدام . وعلى أي حال فإنّ عمر بن سعيد الأشدق والي يثرب خشي من العقيلة ، وكتب إلى يزيد خطرها عليه ، فأمره بإخراجها من المدينة إلى أي بلد شاءت ، فامنتعت ، وقالت :
«قتل ـ أي يزيد ـ خيرنا ، وساقنا كما تساق الأنعام ، وحملنا على الأقتاب ، فوالله لا أخرج ، وإن اُهرقت دماؤنا» .
وانبرت إليها السيدة زينب بنت عقيل ، فكلّمتها بلطف قائلة :
يا بنت عمّاه ، قد صدقنا الله وعده ، وأورثنا الأرض نتبوّء منها حيث نشاء ، فطيبي نفساً ، وقرّي عيناً ، وسيجزي الله الظالمين ، أتريدين بعد هذا هواناً ، ارحلي إلى بلد آمن .
واجتمعن السيدات من نساء بني هاشم ، وتلطّفن معها في الكلام فأجابت ، واختارت الهجرة إلى مصر ، وصحبنها في السفر السيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام329

واُختها سكينة ، وانتهت إلى مصر لأيام بقيت من ذي الحجّة ، وقد استقبلها والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري ، فأنزلها في داره بالحمراء فأقامت فيه أحد عشر شهراً وخمسة عشر يوماً ، وانتقلت إلى جوار الله عشية يوم الأحد لخمسة عشر يوماً مضت من رجب سنة (62هـ) ودفنت في دار مسلمة حيث مرقدها الآن في مصر ، هكذا ذكر العبيدلي (1) وغيره (2) .

زيارة المرقد :

ويؤمّ المصريون وغيرهم من المسلمين المرقد المعظّم خصوصاً في يوم الأحد المصادف لليوم الذي توفّيت فيه العقيلة ، فإنهم يزدحمون على زيارته بما فيهم من العلماء والفقهاء ، وقد زارها في هذا اليوم كافور الأخشيدي ، وأحمد بن طولون ، والظافر بنصر الله الفاطمي ، وكان يأتي حاسر الرأس مترجّلاً ويتصدّق عند القبر الشريف على الفقراء ، واقتدى به ملوك مصر واُمراؤها .
وإذا حلّ شهر رجب ، وهو الشهر الذي توفّيت فيه العقيلة ، زحفت الجماهير إلى المرقد المعظّم ، ويقيم الكثيرون فيه إلى النصف من رجب ، وهم يتلون كتاب الله ، والأدعية الشريفة ، وقد ذكر ذلك العبيدلي (3) .


عمارة المرقد :

واُجريت على المرقد المعظّم في مصر عدة عمارات وإصلاحات من قبل بعض

(1) السيدة زينب وأخبار الزينبيات : 21 .
(2) إسعاف الراغبين : 196 . لواقح الأنوار ـ الشمراني : 23 . الاتحاف بحبّ الأشراف : 93 . مشارق الأنوار : 100 .
(3) السيدة زينب وأخبار الزينبيات : 60 ـ 61 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام330

المحسنين من ملوك ووزراء وغيرهم ، كان منهم ما يلي :
1 ـ أمير مصر ، ونقيب الأشراف الزينبيّين ، الشريف فخر الدين ثعلب الجعفري الزينبي ، فقد أشاد عمارة مهمّة على المرقد الشريف .
2 ـ الأمير علي باشا الوزير ، والي مصر من قبل السلطان سليمان خان ، فقد شيّد المرقد وأضاف إليه مسجداً يتّصل به وذلك في سنة (956هـ) .
3 ـ الأمير عبد الرحمن كتخدا ، فقد عمّر المرقد ، وأنشأ به ساقية وحوضاً وذلك في سنة (1174هـ) .
4 ـ وفي سنة (1212هـ) ظهر صدع في بعض حوائط المسجد فندبت حكومة عثمان المرادي لتجديده وإنشائه فابتدأ العمل إلاّ أنّه توقّف لدخول الفرنسيّين لمصر ، وأكمله بعد ذلك الوزير يوسف باشا ، وذلك في سنة (1326هـ) ، وأرخ ذلك بأبيات خطّت على لوح من الرخام وهي :
نور بنت النبـي زينب يعلـو مسجـداً فيـه قبرها والمزار
قد بنـاه الوزير صدر المعالي يوسـف و هـو للعلى مختار
زاد جلاله كما قلت : و مسجد مـشــرق بــه أنــوار

وحالت دون إتمام عمارته بعض الموانع فأكمله محمد علي باشا الكبير جدّ الاُسرة العلوية .
5 ـ سعيد باشا ، أمر بتجديد الوجهة الغربية والبحرية من الضريح ، وذلك في سنة (1276هـ) وبعد تمام العمارة كتب على لوح من الرخام التأريخ وهذا نصه :
فـي ظلّ أيـام السعيـد محمد ربّ الفخار مليـك مصر الأفخم
من فائض الأوقاف أتحف زينباً عون الورى بنـت النبيّ الأكرم
من يأت ينوي للوضوء مؤرخاً ويسعد فإنّ وضـوءه من زمزم

السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام331

وكتب على باب المقام هذا البيت :
يا زائريها قفوا بالباب وابتهلوا بنت الرسول لهذا القطر مصباح

وليست العقيلة مصباحاً وشرفاً لمصر ، وإنّما هي فخر ونور لجميع أقاليم العالم الإسلامي .
6 ـ الخديوي محمد توفيق باشا ، جدّد الباب المقابل لباب القبّة ، جدّده بالمرمر المصري والتركي وذلك في سنة (1294هـ) ، وفي سنة (1297هـ) أمر بتجديد القبّة والمسجد والمنارة ، وتمّ البناء في سنة (1302هـ) ، وكتب على أبواب القبّة الشريفة هذه الأبيات :
بـاب الشفاعة عند قبة زينب يلقاه غـاد للمقـام ورائـح
من يمن توفيق العزيز مؤرخ نور على باب الشفاعة لائح

كما كتبت هذه الأبيات :
قف توسّـل بباب بنت علـيّ بخضوع وسـل إله السمـاء
تحـظ بالعزّ والقبـول وارخ باب اُخت الحسين باب العلاء

كما رسمت هذه الأبيات :
رفعـوا لزينب بنـت طه قبّة عليـاء محكمـة البناء مشيّدة
نور القبول يقـول في تأريخها باب الرضا والعدل باب السيّدة

وفي هذا التأريخ نقشت القبّة والمشهد بنقوش رائعة وبديعة ، كان ذلك بأمر محمد توفيق ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن المرقد المعظم في مصر (1) .

(1) زينب الكبرى : 125 ـ 126 .
السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام332

ويتشرف ويسمو كل قطر اُقيم فيه لسيّدة النساء العقيلة زينب مرقد أو مقام ، فهي بحكم مواريثها وصفاتها أفضل سيّدة خلقها الله بعد اُمّها زهراء الرسول ، وبهذا تنطوي الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب .



السابق السابق الفهرس