ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 76



المطلب الحادي والعشرون


في واقعة الحرة (1)

قال ابن جرير الطبري في تاريخه (2) وابن الأثير في الكامل : انه لما قتل الحسين عليه السلام وثار نجدة بن عامر الحنفي باليمامة , وثار ابن الزبير بالحجاز , وفي سنة احدى وستين عزل يزيد بن معاوية عمر بن سعد عن أمرة الحجاز , وبعث الوليد بن عتبة، ثم في سنة اثنتين وستين عزل الوليد بن عتبة , وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان , وهو حدث غر , فبعث الى يزيد وفداً من أهل المدينة , فلما قدموا على يزيد أكرمهم ولما رجعوا الى المدينة قاموا فأظهروا عيب يزيد وشحّه , وقالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين , يشرب الخمر ويضرب بالطنابير ويعزف عنده القيان , ويلعب بالكلاب , ويسمر عنده الخراب وهم اللصوص . وكان أحد اولئك النفر الوفد عبدالله بن حنظة الأنصاري رحمه الله وكان شريفاً فاضلاً عابداً وكانوا يدعونه ابن غسيل الملائكة , وكانت عنده ثمانية بنين , فقال : قد جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلا بنى هؤلاء لجاهدته لهم , وقد اعطاني وما قبلت عطاءه إلا لأتقوى به .
(1) في القاموس ـ الحرة ـ موضع بظاهر المدينة , وبها كانت واقعة الحر أيام يزيد بن معاوية .
(2) انظر ج 4 ص 367 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 77


قال : فخلع الناس يزيد بن معاوية , وولوا عليهم عبدالله بن حنظلة الغسيل , ودخلت سنة ثلاث وستين , فأخرج أهل المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان , ومن المدينة من بني امية ومواليهم وهم أكثر من ألف رجل , فلما سمع يزيد بن معاوية خرج بعد العتمة ومعه شمعتان شمعة عن يمينه وشمعة عن يساره , فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد، يا أهل الشام فإنه كتب إلي عثمان بن محمد أن أهل المدينة أخرجوا قومنا من المدينة , ووالله لإن تقع الخضراء على الغبراء أحب إلي من هذا الخبر , ثم نزل , وكان معاوية قد أوصاه , وقال له : إن دهمك أمر عليك بأعور بني مرة فاستشره ـ يعني مسلم بن عقبة المري ـ فأرسل على مسلم بن عقبة المري , وقال له إني مرسلك الى أهل المدينة .
قال أرباب التاريخ : وجهز له ثلاثين ألفا , وقال له : سر إليهم (1) .
قال : وقبل أن يخرج من الشام مرض مسلم بن عقبة , فدخل عليه يزيد يعوده , وقال له : قد كنت وجهتك لهذا البعث , وكان أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ أوصاني بك وأراك مدفناً وليس فيك سفر . فقال : يا أمير المؤمنين أنشدك الله أن لا تحرمني أجراً ساقه الله إلي , انما أنا امرؤ وليس بي بأس , ثم أمر فحمل على سرير وصار بالجيش حتى وافوا المدينة , ومروا بمكان أرادوا النزول به , فقال مسلم : ما اسم هذا المكان ؟ فقيل له : البتراء . فقال : لا تنزلوا به , ثم ساروا به حتى نزلوا الحرة وأحدق الجيش بالمدينة , فوجدوا أهل المدينة قد خندقوا وأجلسوا الرجال على أفواه الخنادق .
(1) قال ابن كثير في البداية والنهاية : وقد أخطأ يزيد في أمر مسلم بن عقبة بأباحته المدينة ثلاثة أيام خطأ كبيراً , فإنه وقع في هذه الأيام الثلاثة من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف مما لا يعلمه إلا الله عزوجل , وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه ودوام أيام فعوقب بنقيض قصده , فقصمه الله قاصم الجبابرة وأخذه أخذ عزيز مقتدر .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 78


قال الراوي : وجاء مروان بن الحكم وكلم رجلا من بني حارثة , وقال له : افتح لنا طريقاً فإن فعلت ذلك أكتب الى يزيد بن معاوية وأضمن لك شطر ما كان يبذل لأهل المدينة بالعطاء , ففتح له طرقاً , واقتحمت خيل أهل الشام , فجاء الخبر الى عبدالله بن حنظلة , فأقبل ومعه أهل المدينة فاقتتلوا ساعة حتى لحق الجيش وانهزم أهل المدينة بعد جلاد عظيم , فلما رأى عبدالله بن حنظلة، ذلك أخذ يقدم بنيه واحداً بعد واحد , حتى قتلوا بين يديه , وكان عليه يومئذ درعان طرحهما , وجعل يقاتل وهو حاسر , حتى قتل , فلما قتل عبدالله بن حنظلة صار أهل المدينة كالأغنام بلا راع , وجعل مسلم يقول لأصحابه : من جاء برأس رجل فله كذا وكذا , وجعله يغري قوماً لا دين لهم , فقتلوا وظهروا على أكثر المدينة , وجالت خيولهم فيها , وجعلوا يقتلون وينهبون .
قال الراوي : فما تركوا شيئا ما نهبوه حتى الحمام والدجاج , وكانوا يدخلون في البيت ويقتلون الرجال ويهتكون النساء .
قال أبو معشر : ودخل رجل من أهل الشام على امرأة نفساء نساء الأنصار , ومعها صبي فقال لها : هل من مال ؟ قالت : لا والله ما تركوا لي شيئاً , فقال : والله لتخرجين إلي شيئا أو لأقتلنك وصبيك هذا , فقالت له : ويحك بايعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوم بيعة الشجرة على أن لا أزني ولا أسرق ولا أقتل ولدي ولا آتي ببهتان افتريه , فما أتيت شيئا فاتق الله وفي ولدي , ثم قال لابنها : يا بني والله لو كان عندي شيء لافتديتك به . قال : فأخذ الشامي برجلي الصبي والثدي في فمه فجذبه من حجرها وضرب به الحائط , فانتثر دماغه في الأرض . قال : ولم يخرج من البيت حتى اسود وجهه .
وقال ابن أبي الحديد , لما قدم جيش الحرة الى المدينة وعلى الجيش مسلم بن عقبة المري , أباح المدينة ثلاثاً واستعرض أهلها بالسيف جزراً كما
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 79

يجزر القصاب الغنم حتى ساخت الأقدام بالدم , وقتل أبناء المهاجرين والأنصار وذرية أهل بدر , وأخذ البيعة ليزيد بن معاوية على كل من استبقاه من الصحابة والتابعين على أنه عبد قن لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية .
قال ابن أبي الحديد : هكذا كانت صورة المبايعة يوم الحرة إلا علي بن الحسين بن علي عليه السلام , فإنه اعظمه وأجلسه معه على سريره وكان ذلك بوصية من يزيد بن معاوية .
وذكر أبو المؤيد أبو الفداء في تاريخه قال : وأباح مسلم مدينة النبي صلى الله عليه واله وسلم ثلاثة أيام يقتلون فيها الناس ويأخذون ما بها من الأموال ويفسقون بالنساء .
وعن الزهري : أن قتلى الحرة كانوا سبعمائة من وجوه الناس من قريش والمهاجرين والأنصار , وعشرة آلاف من وجوه الموالي (1) .
هذه أفعال يزيد وأتباعه بالامة , وكان قد حكم ثلاث سنين , ففي السنة الأولى قتل الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم , وفي السنة الثانية أباح المدينة وقتل فيها أولاد المهاجرين والأنصار , وأكثر فيها السفك والهتك , وفي السنة الثالثة رمى الكعبة بالمنجنيق حتى أحرق أستار الكعبة . (2)
(1) كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة .
(2) (فائدة): كان جابر بن عبدالله الأنصاري يومئذ قد ذهب بصره , فجعل ينادي في أزقة المدينة : بعس من أخاف الله ورسوله صلى الله عليه واله وسلم . فقال له رجل : ومن أخاف الله ورسوله ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول : من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي , فحمل رجل عليه بالسيف فترامى عليه مروان فأجاره أن يدخله منزله ويغلق عليه بابه .
(فائدة) : وهجموا على أبي سعيد الخدري داره , وكان الذي هجم عليه نفر من أهل الشام . فقالوا له : أيها الشيخ من أنت ؟ قال : أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم . فقالوا : ما زلنا نسمع عنك قبحظك أخذت في تركك قتالنا , وكفك عنا , ولزوم بيتك , ولكن أخرج =
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 80

لم أدر أين رجال المسلمين مضوا وكـيف صار يـزيد بينهم ملكا
العاصر الخمر من لؤم بعنصره ومن خساسة طبع يعصر الودكا (1)
* * *
أيمسي يزيد رافلا في حريره ويمسي حسيناً عارياً في حرورها
معرى بالهجـيرة لا يـواري مـخلا عـن قريـب أو حبيب
= إلينا ما عندك , قال : والله ما عندي شيء من المال . قال الراوي : فتنفوا لحيته وضربوه ضربات , ثم أخذوا كلما وجدوه في بيته حتى النوم حتى زوج حمام كان له .
(فائدة) : وقال شاعر المدينة مخاطبا بني أمية وهو محمد ابن أسلم :
فإن تقتلونا يوم حرة وأقم فنحن على الإسلام أول من قتل
ونحن تركناكم ببدر أذلة وإبـنا بأسيـاف لـنا منكم تفل
(1) لشاعر الماهر السيد جعفر الحلي رحمه الله المتوفى 1315 هـ والبيتان من قصيدبه المشهورة التي استهلها بقوله :
الله أي دم في كربلاء سفكا لم يجر في الأرض حتى أوقف الفلكا
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 81



المطلب الثاني والعشرون

في مكاتبة ابن عباس ويزيد لعنه الله

ذكر السبط بن الجوزي في كتابه التذكرة (1) , قال : لما وصل خبر قتل الحسين عليه السلام الى مكة , وبلغ عبدالله بن الزبير , خطب بمكة وقال : أما بعد , ألا إن أهل العراق قوم غدر وفجر , ألا وإن أهل الكوفة شرارهم , أنهم دعوا الحسين ليلوه عليهم وليقيم أمورهم , ويصرهم على عدوهم ويعيد معالم الإسلام , فلما قدم عليهم ثاروا عليه فقتلوه , وقالوا له : إن لم تضع يدك في يد الفاجر الملعون ابن زياد فيرى فيك رأيه فقتلناك ومن معك , فاختار الوفاة الكريمة على الحياة الذميمة , فرحم الله حسينا , وأخزى قاتليه ولعن من أمر بذلك ورضي به , أفبعد ما جرى على أبي عبدالله يطمئن أحد الى هؤلاء , أو يقبل عهود الفجر والغدر , أما والله لقد كان عليه السلام صوّاماً بالنهار , وقواماً بالليل , وأولى بنبيّهم من الفاجر بن الفاجر , والله ما كان يستبدل بالقرآن الغناء , ولاببكاء من خشية الله الحدآء , ولا بالصيام شرب الخمور , ولا بقيام الليل الزمور , ولا بمجالس الذكر الركض في طلب الصيد واللعب بالقرود , قتلوه فسوف يلقون غيّاً , ألا لعنة الله على الظالمين .
قال أرباب التاريخ : ودعا ابن الزبير بعد قتل الحسين عليه السلام عبيدالله بن عباس
(1) انظر ص 267 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 82

ليبايعه , فامتنع ابن عباس أشد الامتناع , فبلغ امتناعه يزيد بن معاوية , فكتب إليه كتاباً يشكره فيه على امتناعه من البيعة لابن الزبير , ويقول فيه : أما بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك الى بيعته والدخول في طاعته لتكون له على الباطل ظهيراً , وفي المآثم شريكا , وانك اعتصمت ببيعتنا وفاءا منك لنا , وطاعة لله لما عرفك من حقنا , فجزاك الله عن ذي رحم ما يجزي الواصلين لأرحامهم الموفين بعهودهم , وإن أنس شيئاً من الأشياء فلست بناس برك وتعجيل صلتك بالذي أنت له أهل من القرابة من الرسول , فانظر من طلع عليك من الآفاق ممن سحرهم ابن الزبير بلسانه , وزخارف قوله فأعلمهم برأيك فإنهم منك أسمع ولك أطوع , من المحل للحرم المارق .
ولما ورد على ابن عباس كتاب يزيد , كتب إليه : أما بعد , فقد جاءني كتابك , تذكر دعاء ابن الزبير إياي إلي بيعته , والدخول في طاعته , فإن يكن ذلك كذلك فإني والله لا أرجوا بذلك برك ولا حمدك , ولكن الله بالذي أنوي به عليم , وزعمت أنك غير ناس بري وتعجيل صلتي , فاحبس أيها الإنسان برك وتعجيل صلتك , فأنني حابس عنك ودي , فلعمري ما تؤتينا مالنا قبلك من حقنا إلا اليسير , وإنك لتحبس عنا منه العرض الطويل , وسألت أن أحث الناس إليك , وأن آخذ لهم من ابن الزبير , فلا ولاء ولا سرور , ولا حباء , إنك تسئلني نصرتك وتحثني على ودك وقد قتلت حسينا عليه السلام وفتيان عبدالمطلب مصابيح الهدى ونجوم الأعلام , وغادرتهم خيولك بأمرك في صعيد واحد , مرملين بالدماء مسلوبين بالعراء , لا مكفنين ولا موسدين , تسفي عليهم الرياح وتنتابهم عرج الضباع , حتى أتاح الله بقوم لم يشركوا في دمائهم , واروهم بالتراب , وجلست مجلسك الذي جلست , فإن أنس من الأشياء فلست بناس طردك حسينا عن حرم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الى حرم الله , وتسييرك إليه الرجال لتقتله في الحرم , فما زلت بذلك وعلى ذلك حتى
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 83

أشخصته من مكة الى العراق , فخرج خائفاً يترقب , فزلزلت به خيلك عداوة منك لله ولرسوله وأهل بيته , الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً , ونحن اولئك لا آباؤك الأجلاف الجفاة الطغاة الكفرة الفجرة أكباد الإبل والحمير , أعداء الله ورسوله الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في كل موطن , ثم إنه بعد ما نزل بالعراق طلب إليكم الموادعة وسئلكم الرجعة فاغتنمتم قلة أنصاره , واستيصار أهل بيته , وتعاونتم عليه كأنكم قتلتم أهل بيت من الترك والديلم , فلا شيء أعجب عندي من طلبتك ودي , وقد قتلت ولد أبي وسيفك يقطر من دمي , وأنت أحد ثاري فإنشاء الله لا يبطل لديك دمي , ولا تسبقني بثاري , وإن سبقتني في الدنيا فقبل ذلك قد قتل النبيون وآن النبيين , فيطلب الله بدمائهم فكفى بالله للمظلومين ناصراً ومن الظالمين منتقما , فلا يعجبك إن ظفرت بنا اليوم فلنظفرن بك يوما , وذكرت وفائي وما عرفتني من حقك فإن بك ذلك كذلك , فقد والله بايعتك ومن قبلك وإنك لتعلم أني وولد أبي أحق بهذا الأمر منك , ولكنكم معشر قريش كابرتمونا عن حقنا , ووليتم الأمر دوننا فبعدا لمن تحرى ظلمنا واستغوى السفهاء علينا , كما بعدت ثمود وقوم لوط وأصحاب مدين , ألا وإن من أعجب الأعاجيب وما عسى أن أعجب حملك بنات عبدالمطلب وأطفالا صغارا من ولده إليك بالشام , كالسبي المجلوبين , ترى الناس أنك قهرتنا وأنت تمنّ علينا , وفي ظنك أنك أخذت بثار أهلك الكفرة الفجرة يوم بدر , وأظهرت الأنتقام الذي كنت تخفيه والاضغان التي تكمنها في قلبك , كمون النار في الزناد , وجعلت أنت وأبوك دم عثمان وسيلة الى ظهارها , فالويل لك من ديان يوم الدين , ولعمري والله فلا كنت تصبح آمنا من جراحة يدي , إني لأرجو أن يعظم الله جرحك من لساني ونقضي وإبرامي وبغيك ولكثكث , وأنت المفند المثبور , ولك الأثلب , وأنت المذموم , والله ما أنا بآيس من بعد قتلك ولد رسول الله أن يأخذك الله أخذاً أليما ويخرجك من الدنيا مذموماً
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 84

مدحورا , فعش لا أباً لك ما استطعت , فقد والله ازددت عند الله أضعافاً واقترفت مأثما والسلام على من اتبع الهدى .
يقول ابن عباس في كتابه هذا : يا يزيد , وإن أنس من الأشياء فلست بناس طردك حسينا عن حرم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الى قوله : ومن أعجب الأعاجيب وما عسى أن أعجب حملك بنات عبدالمطلب وأطفالا صغاراً من ولده إليك , بلى والله لقد حملوهن على أعجاف الإبل اسارى بلا محام ولا كفيل .
حملت على الأكوار بعد خدورها الله مـاذا تـحمل الأكـوار (1)
(1) من قصيدة عامرة لأمير شعراء الرثاء السيد حيدر الحلي رحمه الله مطلعها :
لا تحذرن فما يقيك حذار ان كان حتفك ساقه المقدار
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 85



المطلب الثالث والعشرون

في ثورة العراقيين على ابن زياد لعنه الله

قال ابن قتيبة (1): كان ابن زياد أول من ضم إليه الكوفة والبصرة , وكان أبوه زياد كذلك قبله , ولما هلك يزيد بن معاوية وأظهر ابن الزبير أمره وخلع أهل البصرة طاعة بني أمية وبايعوا ابن الزبير , خرج عبيد الله بن زياد الى المسجد , وقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه , وقال : أيها الناس إن الذي كنا نقاتل على طاعته قد مات , واختلف أمر الناس وتشتت كلمتهم وانشقت عصاهم , فإن أمرتموني عليكم حببت فيكم وقاتلت عدوكم وحكمت بينكم وأنصفت مظلومكم , وأخذت على يد ظالمكم , حتى يجتمع الناس على خليفة .
فقام يزيد بن الحارث , بن رويم اليشكري , وقال : الحمد لله الذي أراحنا من بني أمية واخرى من ابن سمية , لا والله ولا كرامة . قال : فأمر عبيدالله فلبب ثم انطلق به الى السجن , فقام بكر بن وائل فحال بينه وبين ذلك , ثم خرج الثانية عبيدالله بن زياد الى المنبر فخطب الناس فحصبه الناس ورموه بالحجارة وسبوه وقام قوم فدنوا منه فنزل , واجتمع الناس في المسجد فقالوا : نؤمر رجلاً حتى تجتمع الناس على خليفة , وكان الذين قاموا بأمره هذا الحي الذي من كندة فبينما
(1) في ج 2 ص 19 من كتابه الأمامة السياسة .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 86

هم على ذلك إذ أقبل النساء يبكين وينعين الحسين عليه السلام وأقبلت همدان حتى ملؤا المسجد فأطافوا بالمنبر متقلدين بالسيوف , وأجمع رأي أهل الكوفة والبصرة على عامر بن مسعود بن أمية , فأمروه عليهم حتى يجتمع الناس , وكتبوا الى عبدالله بن الزبير يبايعونه بالخلافة , فوجه لهم عاملاً مكث عندهم سنة كاملة , فبلغ أهل البصرة ما صنع أهل الكوفة فاجتمعوا وأخرجوا الرايات , فلم يبق أحد إلا وخرج وذلك لسوء آثار عيبدالله ابن زياد فيهم , يطلبون قتله , فلما رأى عبيدالله بن زياد ذلك لم يدر كيف يصنع وخاف تميما وبكر بن وائل أن يستجير بهم , ولم يأمن غدرهم , فأرسل الى الحارث بن قيس الجهمي من الأزد , فدخل عليه الحارث , فقال له يا حارث قد أكرمتم زيادا وحفظتم منه ما كنتم أهله , وقد استجرت بكم فأنشكم الله في , فقال الحارث : أخاف أن لا تقدر على الخروج إلينا لما أرى من سوء رأي العامة فيك مع سوء آثارك من الأزد .
قال : فتهيأ عبيدالله ولبس لباس امرأة في خمرتها وعقيصتها أردفه الحارث خلفه فخرج به على الناس , فقالوا : يا حارث ما هذه ؟ قال : تنحوا رحمكم الله هذه امرأة من أهلي كانت زائرة لأهل ابن زياد أتيت أذهب بها , فقال عبيدالله للحارث : أين نحن ؟ قال : في بني سليم , فقال: سلمنا الله , قال : ثم سار قليلا ثم قال : أين نحن ؟ قال : في بني ناجية من الأزد , وجاء به الى دار مسعود بن عمرو الأزدي , فقال له : يا أبا قيس , قد جئتك بعبيدالله مستجيرا , قال : ولم جئتني بالعبد ؟ قال : اشهد الله لقد اختارك على غيرك , فلما رآهم عبيدالله يتراضون ويتناشدون , قال قد بلغني الجهد والجوع , فقال مسعود : يا غلام أنت البقال , فآتنا من خبزة وتمره .
قال الراوي : فجاء به الغلام فوضع وأكل , وإنما أراد ابن زياد أن يتحرم بطعامه , ثم قال : ادخل فدخل ومنارات الناس يومئذ من القصب وكان منزل مسعود يومئذ قاصية , قال : فكان عبيدالله خاف على نفسه , فقال : يا غلام اصعد
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 87

الى السطح بحزمة من قصب فاشعل أعلاه ناراً , ففعل ذلك في جوف الليل , فأقبلت الأزد على الخيل , وعلى أرجلها , حتى شحنوا السكك وملئوها , فقال : ما لسيدنا ؟ قال : شيء حدث في الدار , قال : فعرف عبيدالله عزته وما هو عليه , هذا والله العز والشرف , فأقام عنده أياما وعنده امرأتان من الأزد وامرأة من عند عبد قيس , فكانت العبدية تقول : أخرجوا العبد , وكانت الأزدية تقول : استجار بك على بغضه إياك وجفوته لك , وتحدث الناس أنه لجأ ابن زياد الى مسعود بن عمرو , فاجتمعت القبائل في المسجد وتكلموا في أمر مسعود , وأنه أجار ابن زياد , فلما سمع مسعود , قال : ما ظني إلا خارجاً الى البصرة معتذراً إليهم من أمر عبيدالله , ثم قال : وكيف آمن عليه وهو في منزله , ولكني أبلغه أمنه ثم أمضي وأعتذر اليهم , وكان قد أجار ابن زياد أربعين ليلة , وخرج ابن زياد من عنده متجهاً إلى الشام على طريق السماوة , متخفياً فكان لا يمر على ماء ولا على اناس قط .
قال الراوي : وأقبل مسعود على برذون له وحوله عدة من الأزد عليهم السيوف , وقد عصب رأسه بسير أحمر ـ وكانت العرب تصنعه إذا أراد الرجل الاعتذار من الذنب عصب رأسه بالسير ليعلموا أنه معتذر ـ . قال : فأقل مسعود حتى انتهى الى باب المسجد ومعه أصحابه , وكان لم يستطع النزول لكبره , ودخل المسجد بدابته , فبصرت به القبائل فظنوا أنه عبيدالله فأقبلوا نحوه وجال الناس عليه جولة فضربوه بأسيافهم حتى مات ووقعت الوقعة بين قبيلته الأزد وبين مضر , فهذا مسعود كان سبب قتله , أن أجار ابن زياد الفاسق , وإن كان قتلهم له خطأ ولا يلام هو على ذلك , إذ أن العرب هذا دينهم وهذه سجيتهم , يجيرون من استجار بهم الا اللعين ابن زياد خرم هذه القاعدة , استجار مسلم ابن عقيل بالكوفة فلم يحفظ جواره , لا هو ولا أهل الكوفة بل قاتلوه وقتلوه ورموه من أعلى القصر الى الأرض .
لو كان في الكوفة غير مسلم من مـسلم ما قـطعوه إربـا

السابق السابق الفهرس التالي التالي