المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 165

وليشرح لهم مبررات وأهداف موقفه المعارض للسطلة الأموية ، وليوضح لهم سوء الواقع المعاش في ظل الأمويين ، ومسؤولية الثورة والرفض لظلمهم وطغيانهم .
لكن خطابات الإمام لم تؤثر الا في عدد قليل محدود من أفراد الجيش كالحر بن يزيد الرياحي قائد الفرقة العسكرية التي واجهت الإمام في الطريق ، فقد تأثر بموقف الإمام وخطاباته وتمرد على معسكره والتحق بمعسكر الإمام الحسين .
وتشديداً للحصار على الإمام الحسين وأصحابه فقد احتل الجيش الأموي شاطيء الفرات ومنعوا الحسين وأصحابه وعياله من الوصول الى الماء ، منذ اليوم السابع من المحرم .
وفي صبيحة اليوم العاشر من المحرم بدأ الجيش الأموي هجومه على معسكر الإمام الحسين فتبادر أصحاب الإمام ورجالات أسرته الهاشمية للدفاع عن وجود الإمام وعياله وعن أنفسهم ، وسطروا من خلال معركة دفاعهم المقدس ملحمة خالدة من البطولة والفداء لم يعرف التاريخ لها نظيراً ، وبعد ظهر اليوم العاشر من المحرم كان جميع الأصحاب والأنصار قد عانقوا الشهادة ، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه ، بينما بقي الإمام الحسين يواجه القوم بمفرده وخلفه نساؤه وعياله قد أقضهم العطش والظمأ ، وآلمهم الحزن والمصاب ، وأصبحوا ينتظرون مستقبلاً مأساوياً بعد فقد رجالاتهم وحماتهم .
وتصدى الإمام لمواجهة القوم وقتالهم ، غير آبه بكثرة جموعهم ، ولا نالت المصائب والآلام من عزيمته وشجاعته ، حتى أذن الله له بلقائه ، فوقع صريعاً شهيداً على بوغاء كربلاء ، مضمخاً بدمائه الشريفة ، شاهداً على انحراف الأمة عن رسالة جده ، راسماً لأجيال البشرية طريق الثورة والنضال دفاعاً عن المبدأ والكرامة .
ولم يكتف الجيش الأموي الظالم بقتل الإمام وأصاحبه جميعاً بل قتلوا حتى الأطفال الرضع كعبدالله الرضيع ابن الإمام الحسين وهو دون العام من عمره حيث ذبحوه على صدر أبيه الحسين ، ولم يسلم من رجالات معسكر الحسين الا ولده علي بن الحسين زين العابدين لأنه كان عليلاً مريضاً .

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 166

وأجهزوا على الجثث الطاهرة للإمام الحسين واصحابه يحتزون رؤوسهم ثم وطأوا جسد الإمام بخيولهم ، وأغاروا على خيم نساء الحسين وأطفاله ، واحرقوها بالنار ، وسلبوا ما فيها من متاع ، وما على النساء والأطفال من حلي وحلل ! ! .
لقد ارتكب الجيش الأموي الباغي في كربلاء جرائم فظيعة ، لا يصح ارتكابها حتى مع الأعداء الكافرين ، فضلاً عن عترة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
لذلك اصبحت كربلاء تمثل أفظع مأساة في تاريخ البشر ، وفي ذات الوقت فهي أروع ملحمة في سجل البطولة والفداء والصمود .

قافلة السبايا :

وفي اليوم الحادي عشر من المحرم قام الجيش الأموي بمواراة جثث قتلاهم ، بينما تركوا الأجساد الطاهرة للإمام الحسين وأصحابه على صعيد كربلاء تسفي عليهم الرياح دون مواراة .
وساروا بنساء الحسين وأطفاله سبايا كأسارى الى الكوفة تتقدمهم رؤوس الحسين وأصحابه معلقة على رؤوس الرماح .
وكان عدد السبايا عشرين امرأة عدا الصبية ، وقد سيروهن على الجمال بغير وطاء (26) وساقوهن بكل عنف وشدة .
وأدخلوا السبايا الى الكوفة في اليوم الثاني عشر وسط مظاهر الفرح والبهجة بانتصار الظالمين على أهل البيت .
وبعد أن بقيت السبايا أياماً في الكوفة يعانين الإذلال والآلام سيروهن الى الشام مع رؤوس الشهداء ، فكانت رحلة مضنية مرهقة لتلك النساء المفجوعات ، والصبايا اليتيمات . . ولقين في الشام ضروب الشماتة والأهانة ، وخاصة في مجلس الطاغية يزيد بن معاوية .
ومع أن دمشق كانت عاصمة الأمويين ، وأجواؤها كانت معبأة ضد أهل

(26) المصدر السابق ص 321 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 167

البيت ( عليهم السلام ) ، الا أن مأساة السبايا ، وأخبار كربلاء ، وخطابات الإمام زين العابدين والسيدة زينب وأم كثلوم ، كل ذلك ترك أثراً في جمهور الشام ، وخلف تياراً من الإنكار والرفض لسياسات يزيد بن معاوية ، وخوفاً من تنامي ذلك التيار أمر يزيد بإعادة السبايا الى المدينة المنورة حسب طلبهم .
وهكذا عادت قافلة السبايا الى المدينة تشكو الى رسول الله ما اصابهم من ظلم وضيم واضطهاد لا شبيه له في التاريخ .
وبعد قراءة هذه السطور المتقضية السريعة من كتاب الثورة الحسينية الذي لم تستوف الأجيال قراءته ، يمكننا الآن التحدث عن دور السيدة زينب ( عليها السلام ) في تلك الثورة العظيمة .

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 168




المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 169

الدور المنتظر

قضية كربلاء بأحداثها المروعة لم تكن مفاجئة للسيدة زينب ، ودورها في تلك الواقعة لم يكن عفوياً ولا من وحي الصدفة . فقد كانت مهيأة نفسياً وذهنياً لتلك الواقعة ، وكانت تعلم منذ طفولتها الباكرة بأن تلك الحادثة ستقع وأنها ستلعب فيها دوراً رئيسياً بارزاً .
صحيح أن أحداث كربلاء قبل وقوعها كانت في رحم الغيب ولا يعلم الغيب الا الله ، ولكن من الصحيح أيضاً أن الله ( تعالى ) قد كشف لنبيه الأعظم أستار الغيب ، وأظهره عليه ، يقول تعالى : «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدَاًً •إِ لاَّ مَنِ اْرتَضَى مِن رَّسُولٍ »(27) .
وثابت عند المسلمين أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد أخبر أصحابه بالعديد من المغيبات ، وأنبأهم بأنها ستقع ، وأدركوا وقوعها بالفعل ، وذلك مما لا نقاش في ثبوته بين المسلمين .
ومن المغيبات التي تحدث عنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واقعة كربلاء كما أشارت الى ذلك العديد من المصادر الموثوقة عند المسلمين من كتب الحديث .

(27) سورة الجن ، الآيات ( 26 27 ) .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 170

وأهل البيت المعنيون بتلك الواقعة كانوا في طليعة من أحاطهم الرسول بها علماً كما تؤكد ذلك مختلف المصادر الحديثية والتاريخية .
فطبيعي إذاً أن تكون السيدة زينب في أجواء تلك النبوءة ، وعلى معرفة بالخطوط العامة للحادثة ، بل وببعض تفاصيلها وجزئياتها .
وقد صرحت العقيلة زينب بمعرفتها المسبقة بواقعة كربلاء في الحديث الذي نقله الشيخ الأقدم أبو القاسم جعفر بن محمد بن جعفر بن موسى بن قولوية القمي ( المتوفى سنة : 367 ه أو 368 ه ) في كتابه ( كامل الزيارة ) وهو كتاب اعتمد كبار العلماء على رواياته وأسانيده .
والحديث مروي بسند متصل الى الإمام زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال :
« إنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا ، وقتل أبي ( عليه السلام ) ، وقتل من كان معه من ولده واخوته وساير أهله ، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة ، فجعلت أنظر اليهم صرعى ، ولم يواروا ، فيعظم ذلك في صدري ، ويشتد لما ارى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبينت ذلك مني عمتي زينب بنت علي الكبرى ، فقالت : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي واخوتي ؟ .
فقلت : وكيف لا أجزع ولا أهلع ، وقد ارى سيدي وأخوتي وعمومتي ، وولد عمي وأهلي مصرعين بدمائهم مرملين بالعراء ، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون ، ولا يعرج عليهم أحد ، ولا يقربهم بشر ، وكأنهم أهل بيت من الديلم والخزر ؟ .
فقالت : لا يجزعنك ما ترى : فوالله ان ذلك لعهد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الى جدك وابيك وعمك . . ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معرفون في أهل السماوات ، إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرجة ، وينصبون لهذا الطف

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 171

علماً لقبر أبيك سيد الشهداء ، لا يدرس أثره ، ولا يصفو رسمه ، على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر ، أشياع الضلالة ، في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره الا ظهوراً ، وأمره الا علواً .
فقلت : وما هذا العهد وما هذا الخبر ؟ .
فقالت : حدثتني أم أيمن مولاة رسول الله أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) زار منزل فاطمة في يوم من الأيام . وتستمر السيدة زينب في حديثها الطويل لابن أخيها زين العابدين نقلاً عن أم أيمن وهي تعدد ما يجري على أهل البيت من حوادث بعد رسول الله ( ص ) حسب ما أخبر به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن بين تلك الحوادث واقعة كربلاء .
ثم تعقب السيدة زينب على ما نقلته عن أم أيمن بقولها :
« فلما ضرب ابن ملجم ( لعنه الله ) أبي ( عليه السلام ) ورأيت أثر الموت منه .
قلت : يا أبة حدثتني أم أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببت أن أسمعه منك .
فقال : يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن وكأني بك وببنات أهلك سبايا بهذا البلد أي الكوفة اذلاء خاشعين » (28) .

(28) ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 28 ، ص 55 60 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 172




المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 173

المبادرة والأختيار

قد يجد الأنسان نفسه في معمعة معركة لم يكن مختاراً للدخول فيها ، وقد يصبح متورطاً في مشكلة فرضت عليه دون قصد منه .
ويحصل هذا غالباً بالنسبة للمرأة فبحكم تبعيتها للرجل أباً كان أو زوجاً أو ولداً ، قد تجد نفسها محشورة في معركته دون سابق وعي أو اختيار من قبلها .
فهل كان حضور السيدة زينب ودورها في ثورة كربلاء شيئاً من هذا القبيل ؟ .
بقرائة واعية لدور السيدة زينب ولمواقفها وكلماتها خلال أحداث الواقعة يتجلى للباحث أن السيدة زينب قد اختارت دورها في هذه الثورة العظيمة بوعي سابق وادراك عميق ، وانها كانت المبادرة للمشاركة كما احتفظت بزمام المبادرة في مختلف المواقع والوقائع الثورية .
ويحدثنا التاريخ أن السيدة زينب هي التي قررت وأرادت الخروج مع أخيها الحسين في ثورته ، مع أنها من الناحية الدينية والاجتماعية في عهدة زوجها عبدالله بن جعفر والذي كان مكفوف البصر ، كما كانت ربة منزلها والقائمة بشؤون ابنائها ، وكل ذلك كان يمنع التحاقها بركب أخيها الحسين . . لكنها قررت تجاوز

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 174

كل تلك العوائق واستأذنت زوجها في الخروج مع أخيها ، فاذن لها بذلك بل وأمر ولديه عون ومحمد بالإلتحاق بقافلة الثورة .
ولأن سفر الإمام الحسين كان محفوفاً بالمخاطر فقد اقترح عليه شيوخ بني هاشم أن لا يصطحب معه أحداً من النساء والعيال ، ولكن السيدة زينب كانت بالمرصاد لمثل هذه المقترحات التي تحول بينها وبين المشاركة في المسيرة المقدسة .
فهذا عبدالله بن عباس وبعد أن عجز عن اقناع الإمام الحسين بالعودة عن قرار الخروج الى الثورة يناقشه في حمل النساء والعيال معه قائلاً :
إن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك ، فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون اليه (29) .
ومحمد بن الحنفية اخو الإمام الحسين طرح على الإمام نفس التساؤل بعدما أخبره الإمام الحسين بعزمه على الخروج قائلاً : « أتاني رسول الله وقال لي : يا حسين أخرج فإن الله شاء أن يراك قتيلاً .
فتساءل محمد بن الحنفية : فما معنى حمل هؤلاء النسوة والأطفال وأنت خارج على مثل هذا الحال ؟ .
وكان جواب الإمام على تساؤل هؤلاء المشفقين على مستقبل نسائه وعائلته أشد اثارة وغرابة حيث قال ( عليه السلام ) : « قد شاء الله أن يراهن سبايا » (30) .
ويروي الشيخ النقدي أن السيدة زينب اعترضت على نصحية ابن عباس للإمام بأن لا يحمل معه النساء : فسمع ابن عباس بكاءاً من ورائه وقائلة تقول : يابن عباس تشير على شيخنا وسيدنا أن يخلفنا هاهنا ويمضي وحده ؟ لا والله بل نحيا معه ونموت معه ، وهل أبقى الزمان لنا غيره ؟ فالتفت ابن عباس واذا المتكلمة هي زينب (31) .

(29) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ، ص 27 .
(30) المصدر السابق ص 32 .
(31) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 94 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 175

وكما أن أصل اشتراكها في الثورة كان بقرارها الواعي ، فإن أغلب مواقفها في ميادين الثورة كانت تنبثق من مبادراتها الوثابة الشجاعة ، فيه التي تهرع نحو أخيها الحسين حينما تدلهم المصائب والخطوب لتشاركه المواجهة .
وهي في يوم عاشوراء تتحدى الآلام والظروف العصيبة لتمارس دورها البطولي العظيم ، مع أن بعض ما أصابها يكفيها عذراً للانشغال بأحزانها والإبتعاد عن ساحة المعركة .
ثم وما الذي دفعها للخطابة أمام جمهور الكوفة ؟ .
ومن كان يتوقع من مثلها خطابها الناري في مجلس يزيد بن معاوية ؟ لقد كانت ظروف السبي والأسر ، وطبيعة الخفارة والخدر لدى السيدة زينب ، وأجواء الشماتة والعداء المحيطة بها في الكوفة والشام . . لقد كان كل ذلك أو بعض ذلك يكفي دافعاً نحو الانكفاء على الذات ومعالجة الهموم والحزن . . لكن العقيلة زينب تسامت على كل ذلك ، وامتلكت زمام المبادرة مسيطرة على كل ما حولها من ظروف وأوضاع .
ولأنها كانت مختارة ومبادرة عن سابق وعي وتصميم ، فانها كانت تنظر الى ما واجهته من آلام ومآس قاسية تتصدع لهولها الجبال الرواسي ، تنظر اليها بايجابية واطمئنان ، وتعتبرها ابتلاءاً وامتحاناً إليها لابد لها من النجاج فيه .
بل انها وفي أشد المواقف وافظعها تضرع الى الله شاكرة حامدة آلاء نعمه ، معلنة تقبلها لقضاء الله ، واستعدادها لتحمل الأكثر من ذلك في سبيله .
فحينما حدثت الفاجعة الكبرى بمقتل أخيها الحسين بعد قتل كل رجالات بيتها وأنصارهم خرجت السيدة زينب تعدو نحو ساحة المعركة تبحث عن جسد أخيها الحسين غير عابئة بصفوف الجيش الأموي المدجج بالسلاح ، فلما وقفت على جثمان أخيها العزيز الذي مزقته السيوف ، جعلت تطيل النظر اليه ثم رفعت بصرها نحو السماء وهي تدعو بحرارة ولهفة : « اللهم تقبل منا هذا القربان » (32) .

(32) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ، ص 304 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 176

إن ذروة الماساة وقمة المصبية هو مورد للتقرب الى الله ( تعالى ) عند السيدة زينب . . وذلك هو قمة الوعي وأعلى مستويات الأرادة الأختيار .
وحينما يسألها عبدالله بن زياد أمير الكوفة وواجهة السلطة الأموية في مجلسه سؤال الشامت المغرور بالنصر الزائف قائلاً : كيف رأيت فعل الله بأخيك ؟ .
فانها تجيبه فوراً ومن أعماق قلبها بجرأة وصمود قائلة : « ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة » (33) .
وتختم خطابها في مجلس يزيد بن معاوية بتأكيد رؤيتها الأيجابية لما حصل لها ولأهل بيتها من مصائب وآلام حيث تقول : « والحمد لله رب العالمين ، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل » (34) .
فزينب لم تكن مستدرجة ، ولم تجد نفسها متورطة في معركة فرضت عليها بل اقتحمت ساحة الثورة بملء ارادتها وكامل اختيارها ، وهنا تتجلى عظمة السيدة زينب .

(33) المصدر السابق ص 344 .
(34) المصدر السابق ص 380 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 177

سلاح المظلومية

في المعركة بين الحق والباطل يستخدم كل من طرفي الصراع جيمع ما يتاح له من أسلحة وما بحوزته من امكانيات ليقضي على خصمه أو ليوقع به أكبر قدر ممكن من الخسائر .
واذا كانت الأسلحة المادية المستخدمة في القتال على أرض المعركة متشابهة كالسيوف والرماح ، فإن الأسلحة المعنوية ووسائل الأستقطاب للمؤيّدين وأساليب التّأثير والتّعامل مع الناس ، تكون متفاوتة مختلفة بين الطرفين ، نتيجة لاختلافهما في الأهداف الدافعة والقيم الحاكمة .
حيث تسعى كل جبهة لتعبئة أفرادها ورفع معنوياتهم ، كما تجتهد في استقطاب الجمهور والتأثير في الرأي العام لصالح موقفها .
ولتحقيق ذلك تستخدم جبهة الباطل أساليب الأغراء والمكر والخداع ، لأثارة الأهواء والرغبات في نفوس أتباعها ، فتمنيهم بالأموال والمناصب والأمتيازات ، وتغريهم بانتصاراتها الزائفة وقوتها الزائلة بينما تشهر جبهة الحق سلاح الصدق والخلاص ، وتستثير في نفوس أتباعها قيم الحق والعدل وروح التضحية والفداء .

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 178

ومن أمضى أسلحة جبهة الحق التي تجلت في ثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) هو سلاح المظلومية ، بإبراز عدوانية الطرف الآخر وبشاعة جرائمه ، واظهار عمق المأساة وشدة الآلام والمصائب التي تحملها معسكر الإمام الحسين .
والمظلومية تستصرخ ضمائر الناس وتوقظ وجدانهم ، وتدفعهم الى الوقوف الى جانب أهل الحق المظلومين ، كما تستثير نقمتهم وغضبهم ضد المعتدين الظالمين .
والمظلومية تعبىء الأتباع المناصرين وتدفعهم للألتفاف أكثر حول معسكرهم وقضيتهم ، كما تؤثر في نفوس الجمهور ليتعاطف ويؤيد المظلومين ضد الظالمين ، بل وتمتد آثارها حتى الى معسكر العدو لتحرك فيه ضمائر بعض جنوده المخدوعين ، فيتمردون على معسكرهم الظالم ويلتحقون بصفوف الثوار المخلصين وأكثر من ذلك فإن تأثير المظلومية يتخطى الأزمنة والأعصار ليحشد أجيال البشرية على مر التاريخ الى جانب معسكر الحق .
وقد تحقق كل ذلك وبأروع صورة في واقعة كربلاء فبينما كانت السلطة الأموية تستعرض قوتها العسكرية أمام الناس لترهبهم حتى يقفوا الى جانبها وتمارس عليهم أشد ضغوط القمع .
وبينما كان الوالي الأموي على الكوفة عبيدالله بن زياد يغدق الأموال والرشوات على الزعماء والوجهاء ، ويزيد في عطاء الجنود ، ويعد القيادات كعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي بالمناصب والولايات .
في مقابل كل ذلك كان الإمام الحسين وأصحابه يبشرون بالقيم السامية ويخاطبون الضمائر الحرة ، ويبصرون الناس بواقعهم ومسؤلياتهم ، ويلفتون الأنظار الى جرائم السلطة الظالمة ، وعدوانيتها وجورها الذي تجاوز كل الحدود .
وكان سلاح المظلومية مؤثراً جداً ، فكلما شاهد اصحاب الحسين ما يصيب امامهم وعيالاته من الآلام والمصائب ، استماتوا أكثر في الدفاع والتضحية والفداء ، وازدادوا قناعة ويقيناً بعدالة قضيتهم .
ويحدثنا التاريخ كيف أن أفراداً بل قيادات من الجيش الأموي قد تأثرت

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 179

لمظلومية الإمام الحسين وغيرت موقفها وتحولت الى جانب المعسكر الحسيني . . كالحر بن يزيد الرياحي وكان من قادة الجيش الأموي ومن اشجع أبطالهم ، وهو الذي قاد أول فرقة عسكرية حاصرت الإمام في الطريق كما سبق .
هذا الرجل حركت مظلومية الإمام وجدانه ومشاعره وأيقظت ضميره ، فألوى بعنان فرسه صوب الإمام وهو مطرق برأسه الى الأرض حياءاً وندماً ، فلما دنا من الإمام رفع صوته قائلاً :
« اللهم اليك أنيب فقد ارعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك يا أبا عبدالله إني تائب فهل لي من توبة ؟ » .
ونزل عن فرسه ، فوقف قبال الإمام ودموعه تتبلور على وجهه ، وجعل يخاطب الإمام ويتوسل اليه بقوله :
« جعلني الله فداك يابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجعجعت بك في هذا المكان . والله الذي لا اله الا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة ابداً » .
لقد هزه وأثاره ما بلغه القوم من الإمام ، يعني ما أصاب الإمام منهم من المآسي والآلام .
ولم يكن الحر وحده قد تأثر بمظلومية الإمام بل ان حوالي ثلاثين فارساً آخر من الجيش الأموي قد اتخذوا ذات الموقف والتحقوا بمعسكر الإمام (35) .
أما انعكاس مظلومية الإمام الحسين وأصحابه وعيالاته على جماهير الأمة آنذاك فهذا ما تحدثناعنه الانتفاضات والثورات التي انطلقت في مختلف أرجاء الأمة كرد فعل على مقتل الإمام الحسين بتلك الصورة الفظيعة ، كثورة التوابين والتي كان شعارها : « يا لثارات الحسين » وثورة المختار الثقفي ، وثورة أهل المدينة .
ولا تزال مظلومية الإمام الحسين حية مؤثرة في القلوب والنفوس على مر

(35) المصدر السابق ص 196 198 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 180

العصور والأجيال الى يومنا هذا والى أن يرث الله الأرض ومن عليها . .
وأبرع وأكثر من شهر سلاح المظلومية واستخدمه في واقعة كربلاء هي السيدة زينب . . حيث كانت تسلط الأضواء وتلفت الأنظار الى مواقع الظلامة ، وقامت بدور تأجيج العواطف والهاب المشاعر أثناء الواقعة ، وبعد الواقعة في الكوفة والشام وحينما عادت الى المدينة ، بل كرست باقي أيام حياتها للقيام بهذا الدور العظيم . .
إن المواقف العاطفية الوجدانية التي قامت بها السيدة زينب حيث كانت تبكي وتتألم وتنعي وتندب وتستغيث وتستصرخ لم تكن مجرد ردود أفعال عاطفية على ما واجهته من مآسي وآلام ، بل كانت تلك المواقف فوق ذلك سلاحاً مشرعاً تصوبه نحو الظلم والعدوان ، وتدافع به عن معسكر الحق الرسالة . .
ولنقف الآن بعض العينات والنماذج من تلك المواقف الزينبية :

ترى الإمام ينعى نفسه :

الحسين في نظر السيدة زينب ليس مجرد أخ عزيز ، ومكانته في نفسها لا تتحدد في كونه الإمام القائد والمفترض الطاعة فقط ، بل فوق ذلك كله انه يجسد ويمثل شخصية جدها رسول الله ، وأبيها الإمام علي ، وأمها فاطمة الزهراء ، وأخيها الإمام الحسن ، انه البقية والامتداد للبيت النبوي العظيم . .
لذلك حينما رأته ينعى بنفسه وينتظر الشهادة أدركت مدى الخسارة التي تحل بها وبالوجود عند فقده . .
فقد رأت الحسين ليلة العاشر من المحرم ، وهو يعالج سيفه ويصلحه في خيمته ويقول :
يا دهر أفٍ لك من خليل كم لك بالاشراق والأصيل
من صاحب وطالب قتيل والدهر لا يقنع بالبديل
وانما الأمر الى الجليل وكل حي سالك سبيل

فلما سمعت السيدة زينب هذه الأبيات أحسّت أن شقيقها عازم على الموت ومصمم على الشهادة ، فأعولت قائلة :
« واثكلاه ! واحزناه ! ليت الموت أعدمني الحياة ، يا حسيناه ، يا سيداه ، يا بقية أهل بيتاه ، استسلمت ، ويئست من الحياة ، اليوم مات جدي رسول الله ، وأمي فاطمة الزهراء ، وأبي علي ، وأخي الحسن ، يا بقية الماضين ، وثمال الباقين » .
فقال لها الإمام : « يا أخيه لا يذهبن بحلمك الشيطان » . .
فأجابته بأسى وإلتياع : « أتغتصب نفسك اغتصاباً ، فذاك أطول لحزني ، وأشجى لقلبي » (36) .
وقد أرادت السيدة زينب في هذا الموقف أن تبين خطورة الجريمة التي عزم الجيش الأموي على ارتكابها ، انها تستهدف رسول الله وابنته الزهراء وأخاه علياً وسبطه الحسن عبر قتل من يمثلهم ويجسدهم جميعاً آنذاك وهو الإمام الحسين ( عليه السلام ) . .

عند مصرع العباس :

لم يكن العباس بن علي جندياً عادياً في معسكر الإمام الحسين ، بل كان قائد القوات العسكرية الحسينية ، وصاحب اللواء ، وكان ذا شخصية عظيمة ، وللسيدة زينب به علاقة حميمة ، وقد احتفظ به الإمام الحسين الى جانبه فلم يأذن له بالنزول الى ساحة المعركة الا بعد قتل كل رجاله وأنصاره ، فكان آخر بطل يقاتل بين يدي الحسين ، لذلك كان مقتله إيذاناً بانهيار المعسكر الحسيني كما صرح بذلك الإمام الحسين حيث وقف على مصرع أخيه العباس قائلاً : « الآن أنكسر ظهري ، وقلت حيلتي » .
وحينما علمت السيدة زينب بمقتل أخيها العباس ، أظلمت الدنيا في عينها ، فاندفعت صارخة : « وأخاه ، واعباساه ، واضيعتنا بعدك » (37) .

(36) المصدر السابق ص 172 .
(37) المصدر السابق ص 269 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 182


أمام الفاجعة الكبرى :

لا يمكن أن تمر على انسان لحظة أقسى وأصعب من تلك اللحظات الأليمة التي مرت على السيدة زينب حينما وقع أخوها الحسين شهيداً ، ووقفت على مصرعه . .
إنها تعرف قيمة الحسين ومكانته عند الله ( سبحانه ) وعند جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفي البيت العلوي . . وهي تدرك عظمة الحسين من خلال صفاته الفريدة ومميزاته الخاصة . . وهي تعي موقعية الحسين كامتداد للنبوة ومجسد للامامة وحجة لله على الخلق . .
وتعلم السيدة زينب أن قتل الحسين يمثل انتهاك أعظم حرمة ، وارتكاب أكبر جريمة ، وإن ذلك يعني الوصول الى قمة الارتداد عن الدين والتنكر للرسالة . .
ثم ان قتل الحسين يعني اغتيال أعز شيء على قلبها وأقرب شيء الى نفسها في هذه الحياة . . والحسين هو الولي لها المحامي لخدرها ، وبقتله تصبح تحت رحمة الأعداء الظلمة الجفاة . . فمن سيحمي خدرها ، ويصون عزها ويدافع عمّن معها من نساء وأطفال ؟.
والحسين لم يقتل بالشّكل المتداول في معارك القاتل ، بل أمعن القوم في تمزيق جسمه بمختلف أدوات الحرب . . جسمه بمختلف أدوات الحرب . .
فقد أصاب سهم فمه الطاهر فتفجر دمه الشريف . . وأصاب سهم جبهته الشريفة المشرقة بنور الإمامة . . ورماه رجس بسهم محدد له ثلاث شعب فاستقر في قلبه الشريف وأخرج الإمام السهم من قفاه فانبعث دمه كالميزاب فأخذ الإمام من دمه الطاهر ولطخ به وجهه ولحيته ، وهو يقول : « هكذا أكون حتى ألقى الله وجدي رسول الله وأنا مخضب بدمي » .
وهجمت على ريحانة رسول الله تلك العصابة المجرمة من كل جانب وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ، فضربه أحدهم بالسيف على كفه اليسرى ، وضربة آخر على عاتقه ، وكان من أحقد أعدائه عليه الخبيث سنان بن

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 183

أنس ، فقد أخذ يضربه تارة بالسيف وأخرى طعنة بالرمح ! ! .
يقول بعض المؤرخين : انه لم يضرب أحد في الإسلام كما ضرب الحسين فقد وجد فيه مائة وعشرون جراحة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح ، ورمية سهم (38) .
أما كيف ومتى علمت السيدة زينب بمقتل أخيها الحسين ؟ فإن المصادر التاريخية تشير الى أن فرس الحسين بعد أن وقع الحسين من على ظهره الى الأرض ، ومزقته سيوف القوم ورماحهم صبغ ناصيته بدم الإمام الشهيد وركض مسرعاً نحو خيمة الحسين ، كأنه يريد اعلام النساء بمقتل الإمام . . وبالفعل كان رجوع فرس الإمام من دون الإمام نذير سوء لمن في الخيام بأنهم قد فقدوا عزهم وزعيمهم . .
وهنا خرجت العقيلة زينب مهرولة نحو مصرع أخيها الحسين . . فمن يا ترى يستطيع وصف تلك اللحظات القاسية والموقف الصعب ؟ .
لقد وجدت العقيلة نفسها أمام لحظة تاريخية حساسة خطيرة ، وأمام موقف عظيم ، لابد وأن تسجل شهادتها عليه للتاريخ . .
فصاحت هاتفة من أعماق قلبها :
« وامحمداه ! وأبتاه ! واعلياه ! واجعفراه ! واحمزتاه ! .
هذا حسين بالعراء صريع بكربلاء ! .
ليت السماء أطبقت على الأرض ! وليت الجبال تدكدكت على السهل ! ! » .
وانتهت نحو الحسين وقد دنا منه عمر بن سعد قائد الجيش الأموي في جماعة من أصحابه ، والحسين يجود بنفسه ! .
فصاحت السيدة زينب : اي عمر أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر اليه ؟ .
فصرف وجهه عنها ، ودموعه تسيل على لحيته ! ! .

(38) المصدر السابقص 284 289 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي