المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 242

يا صحيحة تحمد من صوائح ما أهون النوح على النوائح

وكأنه يفسر خطاب السيدة زينب بأنه نوع من الأنفعال الطبيعي لما تعانيه من مصيبة ! !
مواجهة حادة

بعكس ما كان يقصده ويهدفه يزيد من دخول السبايا الى مجلسه بأن يستعرض قوته ، ويؤكد انتصاره ، ويوجه لأهل البيت ضربات جديدة من الأذلال والهوان .
فقد انعكس الأمر ، وتحول المجلس الى ساحة محاكمة لجرائمه ، وميدان معركة تكبد فيها هزيمة نكراء . . وفوجئ يزيد بحصول مالم يكن يتوقع ، وفقد السيطرة على نفسه ، ولم يعد يدري كيف يواجه الموقف ، بينما استمرت العقيلة زينب توجه له ضربات التحدي ، وسهام التبكيت والاحتقار .
ونظر رجل من أهل الشام ومن القريبين من يزيد الى السيدة فاطمة بنت الامام علي وحسب روايات أخرى بنت الامام الحسين فقال مخاطباً يزيد : يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي ! ! .
فاسودت الدنيا في عين السيدة فاطمة ، وانتابها الرعب والقلق ، فلاذت بزعيمة الركب العقيلة زينب ، فطمأنتها زينب وهدأت روعتها حيث رفعت صوتها لتسمع يزيد قائلة للرجل :
كذبت ولؤمت ما ذلك لك ولا لأميرك .
واستشاط يزيد غضباً لهذه الضربة القاصمة لصرح هيبته الزائفة ومقامه الباطل

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 244

فرد بانفعال : كذبت ولله ، إن ذلك لي ، ولو شئت أن أفعله لفعلت .
فعاجلته السيدة زينب بضربة أكثر وقعاً وصرامة حين قالت :
« كلا والله ما جعل الله لك ذلك الا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا » .
وطفح الكيل في نفس يزيد وما عاد يتحمل ما يسمع من كلمات التحدي والتحقير وفي مقر حكمه وبين أنصاره وجمهوره فصاح غاضباً :
إياي تستقبلين بهذا ؟ انما خرج من الدين أخوك وأبوك ! .
وإذا كان يزيد منفعلاً قد فقد السيطرة على نفسه فإن السيدة زينب كانت في قمة الأطمئنان والثبات ، لذلك أجابته واثقة :
بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك إن كنت مسلماً ! ! .
وما عسى أن يكون جواب يزيد أو موقفه تجاه هذا التحدي الصارخ ، فهو يتربع على عرش خلافة المسلمين لكن السيدة زينب تجعل اسلامه موضع شك ، وتعلن على رؤوس الأشهاد فضل أسرتها عليه وعلى أسرته بهديهم للاسلام . . لذك لم يحر يزيد جواباً ولم يجد رداً فلجأ الى الشتم ، بحنق وغيظ ، حيث خاطب زينب قائلاً : كذبت يا عدوة الله ! ! .
لكن غضب يزيد وانفعاله وشتمه لم يسكت العقيلة زينب ولم يضع حداً لهجومها عليه وتحديها له ، بل أوضحت أمام الجمع أن دافع يزيد الى الشتم هو سوء استخدامه لموقعه باعتباره حاكماً يمارس الظلم والقهر ، قالت ( عليها السلام ) :
أنت أمير مسلط ، تشتم ظالماً ، وتقهر بسلطانك .
فسكت يزيد وأفحم واعترف بخسارته المعركة ، حيث إن الرجل الشامي كررعليه الطلب وكأنه يريد أن يعرف النتيجة ، وينتزع من يزيد الاعتراف بالهزيمة أمام تحدي السيدة زينب له ، فقال الشامي :

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 245

يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية ! .
فصب يزيد عليه جام غضبه قائلاً له :
اعزب وهب الله لك حتفاً قاضياً (42) .

(42) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 381 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 246




المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 247

ردود الفعل

خلافاً لما كان يقصده يزيد من مجيء السبايا ورؤوس الشهداء إلى الشام ، بأن يصنع من خلال ذلك جواباً مضاداً لثورة الحسين ، ويدعم عرش حكمه وسلطته ، فقد حصل العكس من ذلك تماماً ، حيث سادت النقمة وانتشر الاستياء في مختلف أوساط العاصمة الأموية ، استنكاراً لما فعله يزيد .
ومما رصده لنا التاريخ من مظاهر الاستنكار ما يلي :

ممثل ملك الروم :

وكان في مجلس يزيد ممثل ملك الروم ، فلما رأى رأس الامام بين يدي يزيد تأثر من ذلك وسأل يزيد : رأس من هذا ؟ .
أجابه يزيد : رأس الحسين .
فسأل : من الحسين ؟ .
قال يزيد : ابن فاطمة .
وسأله : من فاطمة ؟ .
قال يزيد : ابنة رسول الله .

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 248

فانذهل ، وقال : نبيكم ؟ .
أجابه يزيد : نعم .
ففزع ممثل ملك الروم : وأبدى انزعاجه قائلاً : تباً لكم ولدينكم ، وحق المسيح إنكم على باطل ، إن عندنا في بعض الجزائر ديراً فيه حافر فرس ركبه المسيح فنحن نحج اليه في كل عام ، من مسيرة شهور وسنين ، ونحمل اليه النذور والأموال ، ونعظمه أكثر مما تعظمون كعبتكم ، افٍ لكم .
ثم قام وخرج غضباناً من مجلس يزيد (43).

حبر يهودي :

وحضر حبر يهودي مجلس يزيد أثناء دخول السبايا ، وسمع خطاب الامام زين العابدين فتأثر الحبر والتفت الى يزيد سائلاً : من هذا الغلام ؟ .
أجابه : علي بن الحسين .
فسأل : من الحسين ؟ .
قال : ابن علي بن أبي طالب .
وسأل الحبر : من أمه ؟ .
أجابه يزيد : بنت محمد .
فاندهش الحبر وأعلن استنكاره أمام يزيد قائلاً : يا سبحان الله ! ! ابن بنت نبيكم قتلتموه ، بئسما خلفتموه في ذريته ، فوالله لو ترك نبينا موسى بن عمران فينا سبطاً لظننت أنا كنا نعبده من دون ربنا ، وأنتم فارقكم نبيكم بالأمس فوثبتم على ابنه وقتلتموه سوأة لكم من أمة ! ! .
وغضب يزيد من قوله ، وأمر بتنكيله ، فقام الحبر وقد رفع عقيرته قائلاً : إن

(43) ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 256 .
( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 389 . ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4 ص 86 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 249

شئتم فاقتلوني ، إني وجدت في التوراة من قتل ذرية نبي فلا يزال ملعوناً أبداً ما بقي ، فاذا مات أصلاه الله نار جهنم (44) .

قيصر ملك الروم
:
فقد وصلته أخبار قتل الحسين وأخبار السبايا ، فكتب الى يزيد مستنكراً :
« قتلتم نبياً أو ابن نبي » (45) .

رأس الجالوت :

وممن أظهر استنكاره وادانته لما حدث الزعيم الديني لليهود رأس الجالوت فقد قال لمحمد بن عبد الرحمن : إن بيني وبين داود سبعين أباً ، وإن اليهود تعظمني وتحترمني وأنتم قتلتم ابن بنت نبيكم ؟ (46) .

شيخ من أهل الشام :

أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين ( رضي الله تعالى عنهما ) أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم وأستأصلكم ! .
فقال له علي ( رضي الله تعالى عنه ) : أقرأت القرآن ؟ .
قال : نعم .
قال : أقرأت ال «حم»(47) ؟ .
قال : نعم .
قال : أما قرأت : « قُلْ لاَ أَسْأَلَكَمْ عَلَيهِ أَجْرَاً إِلاَ اْلْمَوَدَةَ فِي اَلقُرْبَى »(48) .

(44) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 394 .
(45) المصدر السابق ص 395 .
(46) المصدر السابق ص 396 .
(47) سورة الشورى آية 1 .
(48) سورة الشورى آية 23 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 250

قال : فانكم لأنتم هم ؟ .
قال : نعم (49) .
وفي نص آخر : دنا شيخ من الامام زين العابدين ، وقال له :
الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم ! .
فقال ( عليه السلام ) له : يا شيخ أقرأت القرآن ؟ .
قال : بلى .
قال : أقرأت : « قُلْ لاَ أَسْأَلَكَمْ عَلَيهِ أَجْرَاً إِلاَ اْلْمَوَدَةَ فِي اَلقُرْبَى »(50) .< br> وقرأت قوله تعالى : «وَآتِ ذَا َالقُرْبَى حَقَهُ »(51) ، وقوله تعالى : «وَاعْلَمُوا أَنَّمَاغَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنََ ِللَّهِ خُمُسَهُ وَلِلْرَّسُوْلِ وَلِذِي القُرْبَى »(52) ؟ .
قال الشيخ : نعم قرأت ذلك .
فقال الامام : نحن والله القربى في هذه الآيات .
ثم قال له الامام : أقرأت قوله ( تعالى ) : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الْرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرَاً »(53) ؟ .
قال : بلى .
فقال الامام : نحن أهل البيت الذين خصهم الله بالتطهير .
قال الشيخ : بالله عليك أنتم هم ؟ .

(49) سورة الشورى آية 23 .
(50) ( تفسير روح المعاني ) الآلوسي ج 25 ص 31 .
(51) سورة الإسراء آية 26 .
(52) سورة الأنفال آية 41 .
(53) سورة الأحزاب آية 33 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 251

قال الامام : وحق جدنا رسول الله إنا لنحن هم من غير شك .
فوقع الشيخ على قدمي الامام يقبلهما ويقول : أبرأ الى الله ممن قتلكم . وتاب على يد الامام مما فرط في القول معه وبلغ يزيد فعل الشيخ وقوله : فأمر بقتله (54) .

الصحابي أبو برزة الأسملي :

وكان هذا الصحابي حاضراً في مجلس يزيد فلما رأى أحوال السبايا وعبث يزيد برأس الحسين أعلن استياءه واستنكاره .
قال الطبري : فقام رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقال له : أبو برزة الأسلمي ، وقال :
أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين ؟ أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرشفه ! أما أنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) شفيعه .
ثم قال فولى (55) .
وفي رواية أخرى : قال أبو برزة الأسلمي : أشهد لقد رأيت النبي يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ، ويقول : انتما سيدا شباب أهل الجنة قتل الله قاتلكما ، ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا .
فغضب يزيد منه وأمر به فأخرج سحباً (56) .

من داخل الأسرة الأموية

وهكذا كانت أمواج السخط والأستنكار تتلاطم بتأثير قافلة السبايا حتى

(54) ( مقتل الحسين ) المقرم ص 349 .
(55) ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 267 .
(56) ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4ص 85 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 252

ضربت أطناب البيت الأموي الحاكم ، وتعالت أصوات المعارضة لما حصل في أوساط عائلة يزيد ، فيحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم اعترض على يزيد في مجلسه وشتم ابن زياد أمامه متعاطفاً مع آل الرسول حيث أنشد البيتين التاليين :
لهام بجنب الطف أدنى قرابه من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى وليس لآل المصطفى اليوم من نسل

قال : فضرب يزيد بن معاوية في صدر يحيى بن الحكم ، وقال : اسكت (57) .
وابنة يزيد عاتكة بادرت الى رأس الإمام الحسين فطيبته ، وقالت نادبة : رأس عمي (58) .
أما معاوية بن يزيد فموقفه واضح اذ رفض حتى تولي الخلافة بعد أبيه يزيد وأعلن تنديده لسياسة أبيه وجده .
وزوجته هند لم تستطع كتمان ألمها واعتراضها ، يقول ابن الأثير : ثم دخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه ، فسمعت الحديث هند بنت عبدالله بن عامر بن كريز ، وكانت تحت يزيد ، فتقنعت بثوبها وخرجت ، فقالت :
يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ .
قال : نعم ، فاعولي عليه ، وحدّي على ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وصريخة قريش ، عجل عليه ابن زياد فقتله قتله الله (59) .
هذا الأستياء الشامل والأستنكار من مختلف الأوساط أظهر ليزيد فشل سياسته

(57) ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4 ص 85 .
(58) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 400 .
(59) ( الكامل في التاريخ ) ابن الاثير ج 4 ص 84 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 253

وتخطيطه ، وجعله يتمنى لو لم يقدم على قتل الحسين ، أو على الأقل لو تستر على جريمته ولم ينشرها على رؤوس الملأ عبر قافلة السبايا والرؤوس . وصدرت عن يزيد كلمات وتصريحات عديدة يلقي فيها المسؤلية عن قتل الحسين ومآسي عائلته على عبيدالله بن زياد . . ككلامه لزوجته وقوله مخاطباً رأس الحسين .
والله يا حسين لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك ! ! (60) .
وينقل ابن الأثير أنه ، لما وصل رأس الحسين الى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسره ما فعل ، ثم لم يلبث الا يسيراً ، حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبهم ، فندم على قتل الحسين فكان يقول :
وما عليّ لو احتملت الأذى ، وأنزلت الحسين في داري وحكمته فيما يريد ، وان كان عليّ في ذلك وهن في سلطاني حفظاً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ورعاية لحقه وقرابته ، لعن الله ابن مرجانة فإنه اضطره ، وقد سأله أن يضع يده في يدي أو يلحق بثغر حتى يتوفاه الله ، فلم يجبه الى ذلك فقتله ، فبغضنى بقتله الى المسلمين ، وزرع في قلوبهم العداوة ، فأبغضني البر والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين ، ما لي ولابن مرجانة ، لعنه الله وغضب عليه (61) .

(60) المصدر السباق ص 85 .
(61) المصدر السابق ص 87 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 254




المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 255

خلق عظيم


المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 256




المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 257

لقد تكاملت نواحي العظمة في شخصية السيدة زينب فتجسدت فيها معالي الصفات ومكارم الأخلاق ، وذلك هو سر تفردها وخلودها .
وإنما تتحدد قيمة الأنسان ومكانته حسب ما يتمتع به من مواهب وكفاءات ، ويترشح عنه من فضائل وأخلاق .
وشخصية السيدة زينب زاخرة بالمواهب العالية ، وسيرتها طافحة بالمكارم الرفعية .
لقد رافقنا حياة السيدة زينب عبر الفصول السابقة وهي وليدة ناشئة ، وفتاة يافعة ، وزوجة ناضجة ، وأم مربية ، ورأيناها تقف الى جانب أمها في آلامها وأحزانها ، وتواكب مسيرة أبيها في منعطفات الزمن وأحداثه ، وتواسي أخاها الحسن في محنته وابتلائه ، ثم تشارك أخاها الحسين في ثورته العظيمة الخالدة ، وتقود بعده ركب النهضة المقدسة .
ومن خلال تلك المواقف والأحداث تجلت لنا كفاءات السيدة زينب وعظمة شخصيتها ، وتبدي لنا من نورها المضيء ، وأفقها الرحيب بقدر ما كانت أبصارنا تستوعب الرؤية والنظر .
ونشير في هذا الفصل الى بعض مكارم أخلاقها وعظيم صفاتها .

المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 258




المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 259

رائدة المعرفة

بالعلم ميز الله الانسان على سائر المخلوقات حتى الملائكة : «وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَآئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَآؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(1) .
وبالعلم يتمايز بنو آدم فيما بينهم :«قُل هَل يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ»(2) .
«يَرْفَعِِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ»
(3) .
و « العلم رأس الخير كله » و « أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً » ، « وأقل الناس قيمة أقلهم علماً » ، كما يقول الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) (4) .

(1) سورة البقرة آية 31 .
(2) سورة الزمر آية 9 .
(3) سورة المجادلة آية 11 .
(4) ( ميزان الحكمة ) الري شهري ج 6 ص 451 455 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 260

أو كما يقول الإمام علي ( عليه السلام ) : « قيمة كل امرئ ما يحسنه » (5) .
فالعلم ساحة سباق وتنافس بين أبناء البشر يتقدم فيها من حاز منه بنصيب أوفر .
والمرأة كانسانة معنية بهذا السباق في ميدان العلم ، ولها حضورها في ساحة ، وقيمتها كالرجل تتحدد بما تحسنه من العلم والمعرفة .
لذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة » .
واذا ما رأينا الجهل معشعشاً أكثر في أوساط نسائنا فذلك دليل على تخلفنا وانحرافنا عن هدي الرسالة .
لقد اثبتت المرأة في الماضي والحاضر أنها لا تقل عن الرجل استعداداً للمعرفة وكفاءة في طلب العلم . . فحتى العلوم التخصصية الهامة أحرزت فيها المرأة تفوقاً وتقدماً . . وكذلك المجالات العلمية التي تحفها المخاطر والصعوبات فحادثة « تشالنجر » لازالت ماثلة أمام الأذهان حينما تحطمت المركبة الفضائية المتطورة بعد ( 73 ) ثانية من انطلاقها في الجو بسبب شرخ في خزان الوقود بتاريخ ( 28 1 1986 م ) وكان ضمن طاقمها المكون من ستة أفراد فتاتان تعملان في أبحاث الفضاء هما « كريستا مكوليف » و « جودث رثنك » .
وقبل سنتين نشرت وسائل الإعلام تحقيقاً عن امرأة عربية متخصصة في فيزياء « البلازما » وهي الحال الرابعة للمادة التي يقال أن كتلة الكون تتألف منها .
تلك المرأة هي « مها عاشور عبدالله » أستاذة الفزياء في جامعة « لوس أنجلس » في الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد تجاوزت هذه المرأة كل المستحيلات ، فاختارتها وكالة الفضاء الأمريكية « ناسا » مستشارة رئيسية في وضع خطة الأبحاث الأساسية في فيزياء الفضاء ، وقد منحت جائزة نساء العلم الأميركية .

(5) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ( قصار الحكم ) رقم : 81 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 261

وذكرت « مهى » المعروفة بأبحاثها المشتركة مع أبرز علماء فيزياء الفضاء من فرنسا واليابان والصين والأتحاد السوفيتي ( سابقاً ) والمانيا أنها غالباً ما تجد نفسها المرأة الوحيدة في المؤتمرات العلمية الدولية ، وتعتقد أن النساء العربيات أكثر أقداماً على العلوم من الغربيات ، وان نسبتهن في الكليات العلمية العربية لا تقل كثيراً عن الرجال ، وانهن لو أعطين الفرصة فسيحققن الكثير .
وتعد « مهى » العالمة المصرية التي أصدرت الى الآن ( 210 ) بحثاً من أبرز المتخصصين في ظاهرة « الشفق القطبي » الجوية المحاطة بالغموض والأساطير .
واضافة الى اللجنة الأستشارية في « ناسا » تشغل عضوية « هيئة علوم الكمبيوتر المتقدمة » وهي مسؤولة التنسيق عن الأفادة من علوم فيزياء الفضاء في « المؤسسة القومية للعلوم » التي تعتبر من أهم مراكز اعداد القرار العلمي في الولايات المتحدة .
و « مهى » حفيدة فلاح من قرية « مطوبس » غير البعيدة عن الأسكندرية في مصر (6) .
فساحة العلم مفتوحة أمام المرأة ، وميدان المعرفة متسع لمشاركتها ، واهتمامها بطلب العلم وتلقي المعرفة واجب شرعي عليها أكثر مما هو حق لها ، كما ينص الحديث الشريف : « طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة » .
لكن ظروف التخلف والأنحطاط هي التي جعلت المرأة عندنا أسيرة الجهل محرومة من نعمة المعرفة والعلم ( غالباً ) .
وقراءة شخصية السيدة زينب تعطي لأمتنا دفعة انطلاق لتجاوز هذا الواقع الخاطئ .
فقد اهتمت السيدة زينب بتلقي العلم والمعرفة منذ نعومة أظفارها وفي وقت مبكر من حياتها ، فانها روت عن أمها فاطمة الزهراء (7) .

(6) جريدة ( الحياة ) اليومية ، تصدر في لندن تاريخ : ( 22 12 1411 ه ) .
(7) ( معجم رجال الحديث ) الخوئي ج 23 ص 19 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 262

وقال الطبرسي : انها روت أخباراً كثيرة عن أمها الزهراء (8) .
بالطبع كان عمرها عند وفاة أمها السادسة .
وفي طليعة ما روت عن أمها الزهراء خطبتها العظيمة في الأحتجاج على الخليفة الأول أبي بكر حول منطقة فدك التي كانت تحت يد الزهراء فصادرها الخليفة وضمها الى بيت المال . . وخطبة الزهراء هذه طويلة مفصلة تتضمن زيادة على موضوعها الأساس حول فدك الكثير من المفاهيم والتعاليم الإسلامية ، وكل أسانيد هذه الخطبة تنتهي الى السيدة زينب فهي التي حفظت خطبة أمها وانتقلت عبرها الى الأجيال .
وقد أشار ابن أبي الحديد المعتزلي الى أسانيد الخطبة المنتهية كلها الى السيدة زينب نقلاً عن أبي بكر الجوهري ، والذي وصفه بقوله . عالم محدث ، كثر الأدب ، ثقة ورع ، أثنى عليه المحدثون ، ورووا عنه مصنفاته (9) .
ويذكر أبو الفرج الأصفهاني لخطبة الزهراء سنداً آخر عن ابن عباس بروايته عن السيدة زينب قال : والعقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة في فدك ، فقال : « حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي » (10) .
وكما روت عن أمها الزهراء ، فقد روت أيضاً عن أبيها علي ، وعن أخويها الحسنين (11) .
وروت عن مولى لجدها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذكر ابن عساكر ان اسمه طهمان أو ذكوان (12) .
لكن الشيخ النقدي نقل عن كتاب ( الورع ) لأحمد بن حنبل أن اسم ذلك

(8) ( أدب الطف ) جواد شبر ج 1 ص 243 .
(9) ( شرح نهج البلاغة ) ابن أبي الحديد ج 16 ص 210 211 .
(10) ( مقاتل الطالبيين ) الأصفاني ص 91 .
(11) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 35 .
(12) ( تاريخ مدينة دمشق ) « تراجم النساء » ابن عساكر ص 119 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 263

المولى ميمون أو مهران ، فقال : ومن ذلك ما في كتاب ( الورع ) لاحمد بن حنبل المطبوع بمصر حديثاً عن عطاء بن السائب قال : حدثتني أم كلثوم ابنة علي هي زينب قال : أتيتها بصدقة كان أمر بها .
قالت : احذر شبابنا فإن ميموناً أو مهران أخبرني أنه مر على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : يا ميمون أو يا مهران إنا أهل بيت نهينا عن الصدقة وإن موالينا من أنفسنا فلا تأكل الصدقة (13) .
وروت أيضاً عن فضليات نساء عصرها كأم أيمن مولاة النبي وحاضنته ، وأم سلمة زوج رسول الله ، وأم هاني بنت أبي طالب (14) ، وأسماء بنت عميس أم عبدالله بن جعفر (15) .
ولم تختزن السيدة زينب العلم لنفسها أو تحتكره لذاتها بل أفاضت من معارفها ومروياتها على أبناء الأمة ، فكانت تتحدث ليس فقط للنساء بل حدثت العديد من رجالات بيتها وسائر الأصحاب والتابعين . . فقد روى عنها جابر ، وعباد العامري (16) ، وابن اخيها علي بن الحسين زين العابدين (17) ، وروى عنها حبر الأمة عبدالله بن عباس (18) ، وزوجها عبدالله بن جعفر (19) ، وروى عنها محمد بن عمرو الهاشمي ، وعطاء بن السائب (20) ، وروى عنها أحمد بن محمد بن جابر ، وزيد بن علي بن الحسين (21) .

(13) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 38 .
(14) المصدر السابق ص 35 41 .
(15) ( تراجم النساء ) ابن عساكر ص 119 .
(16) ( معجم رجال الحديث ) الخوئي ج 23 ص 190 .
(17) ( أدب الطف ) جواد شبر ج 1 ص 238 .
(18) ( مقاتل الطالبيين ) الأصفهاني ص 91 .
(19) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 35 .
(20) ( تراجم النساء ) ابن عساكر ص 119 .
(21) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 37 .
المرأة العظيمة - قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي (ع) 264

وروت عنها بنت أخيها فاطمة بنت الحسين (22) ، وقد مر علينا سابقاً أنها كانت مهتمة بتعليم النساء وتثقيفهن ضمن مجالسها العلمية .
ويكفي لأدراك مقام زينب الريادي في ميدان المعرفة والعلم أن نتأمل ما رواه الصدوق محمد بن بابويه ( طاب ثراه ) من أنه كانت لزينب نيابة خاصة عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) بعد شهادته ، وكان الناس يرجعون اليها في الحلال والحرام حتى برئ زين العابدين (23) .
كما أن شهادة الإمام زين العابدين في حقها لم تكن جزافاً ولا مبالغة وهو الإمام المعصوم حيث قال لها : « أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة » (24) .

(22) ( تراجم النساء ) ابن عساكر ص 119 .
(23) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 35 .
(24) المصدر السابق ص 34 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي