زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 76

السلام) إلى دار زوجها عبد الله بن جعفر .. بكلّ إجلال واحترام . وأنجَبَت منه أولاداً كانوا ثمرات تلك الشجرة الطيّبة ، وفروع أغصانها ، فلقد وَرِثوا المجد والشرف من الجانبين .(1)

(1) هناك نظريّة تقول : «إنّ الزواج من الأقارب شيء مذموم ، وينبغي الإبتعاد عنه لكي يكون النسل الناتج من الزوجين نَسلاً سليما من ناحية الصحّة البدنية والنفسيّة» .
ولهذه النظرية مؤيّدون ومخالفون . ونحن نذكر تعليقنا عليها من خلال عدّة نقاط :
النقطة الأولى : إنّ مجرّد الزواج من الأقارب ليس شيئا مذموما ، بل المذموم هو الزواج منهم في بعض الحالات ، وهي :
الحالة الأولى : فيما لو كان الرجل أو المرأة مُصاباً بمرض ينتقل الى النسل عن طريق الوراثة ، وكان ذلك المرض منتشراً بين سائر أفراد العشيرة ، فحينئذ يُفضّل عدم الزواج من الأقارب .. في حالة العِلم أو الظن بوجود المرض في الطرف الآخر ـ الذي هو من الأقارب ـ .
الحالة الثانية : فيما لو عُلم عدم وجود الإنسجام بين فَصيلة دم هذا وفصيلة دم تلك ، وأنّ الزواج بين هذين سوف يُسبّب إشكالات مهمّة في النسل والذريّة .
وإليك هذا المثال للحالة الأولى من هاتين الحالتين :
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 77




= هناك مرض يُعبر عنه بـ (التكسّر في الدم) وهو منتشر في بعض العوائل والعشائر ـ ونسأل الله تعالى الشفاء العاجل لكلّ مؤمن ومؤمنة ـ ، فلو كان الرجل مُصاباً بهذا المرض وتزوّج امرأة سليمة ، تكون نسبة إحتمال إنتقال المرض إلى نسله 10% ـ مثلاً ـ ، لكنّه لو تزوّج بامرأة من أقربائه وهي مُصابة بنفس المرض ، ترتفع نسبة إحتمال إنتقال المرض إلى 80% أو أكثر ، حسب اختلاف الحالات .
وحينما نُلاحظ هذا المثال ـ بدقّة ـ يتّضح لنا أنّه ليس مجرّد الزواج من الأقارب أمراً مذموماً ، بل المذموم : هو اختيار زوج غير سليم أو زوجة غير سليمة ، حيث يعني ذلك : عدم إتّخاذ إجراءات وقائيّة كافية لضمان مستقبل صحّي جيّد للنسل والذريّة .
وهذا لا يختصّ بالأقارب ، بل هو عام .. يشمل الأباعد أيضاً . فلا ينبغي فتح باب جديد ـ في علم الطب ـ تحت عنوان : «كراهة أو مخاطر الزواج من الأقارب» ، فإنّ ذلك يعني : التفكير حول القضايا تفكيراً سطحياً ، والغفلة عن المضاعفات المؤسفة الناتجة عن التطبيق ـ بشكل عام ـ لهذه النظريّة غير الناضجة .
النقطة الثانية : لقد ذكرت في التعاليم الاسلاميّة ـ الواردة في موضوع الزواج والعلاقات الزوجية ـ أسباب كثيرة للتعوّق والتشوّه في
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 78




= الخِلقة ، والإصابة بالأمراض البدنيّة والنفسيّة ، وغير ذلك من انواع الإعوجاج في النسل والذريّة ، وهي عامّة للجميع .. ولا تختصّ بالأقارب . وهي جديرة بالدراسة والإهتمام ، فيَلزم معرفتها والتطبيق الحرفي لها ، والإعتماد عليها .. لا على النظريّات التي تَشكو من عدم النُضج .
النقطة الثالثة : إن نظرية «كراهة الزواج من الأقارب» وصلت إلينا مِن بلاد الغرب ، وهي تعتمد ـ أولاً وأخيراً ـ على التجارب التي أجريَت في المجتمعات الغربيّة فقط . فلعلّ هناك أسباباً أخرى تورث التعوّق إجتمعت ـ عندهم ـ مع عامل الزواج من الأقارب ، فسبّبت ـ معاً أو لوحدها ـ التشوّه والإعاقة .
والأسباب الأخرى هي مثل :
الممارسة الجنسية بعد شُرب الخمر وفي حالة السكر .
أو تكوّن النطفة من لحم الخنزير ، أو بعض الحيوانات أو الأسماك التي حرّم الله تعالى أكل لحومها .
أو إنعقاد النطفة بعد الإسراف في عدد الممارسات الجنسية .
أو الإهمال الكامل لجميع الإرشادات الدينيّة المرتبطة باللحظات الأولى لتكوّن الجنين . وما أشبه ذلك من الأسباب الأخرى .
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 79




= فهنا ينبغي عدم مُقايسة المجتمع الغربي مع المجتمعات الإسلاميّة النظيفة ـ بالكامل أو بنسبةٍ ما ـ عن الخمر والخنزير ، والأجواء المُثيرة لغريزة الجنس ، والغفلة عن تعاليم السماء .
وينبغي ـ أيضاً ـ البحث لإكتشاف السبب الرئيسي للتعوّق ، والقيام بتجارب علميّة .. مع الأخذ بعين الإعتبار لتعاليم السماء . وتجنّب الخلط بين المفاهيم والأمور ، والأسباب والمسبّبات .
قل للذي يَدّعي في العلم فلسفةً حفِظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ
النقطة الرابعة : يؤسفُنا أنّ بعض المثقّفين من المسلمين ـ الذين يتقبّلون نظريّات الغرب تقبّلاً غير واع ـ يُشجّعون على ترك الزواج من الأقارب بشكل عام ، وهم في جهل أو غفلة عن الأضرار الناتجة من ذلك ، ففي الزواج من غير الأقارب توجد ـ غالباً ـ الفروق والإختلاف في العادات والتقاليد والأجواء والأخلاق ، والجهل بنفسيّة الطرف الآخر وحقيقته ، وهذه الفروق تكون ـ غالباً ـ سبباً رئيسيّاً لِخَلق ارضيّة النزاعات ، وإيجاد جُذور الإختلافات ، وبُروز طبقة من البرود المؤسف الذي يخيّم على العلاقات الزوجيّة والعائليّة . وتكون ـ في النهاية ـ بمنزلة المِعوَل الهدّام لإضعاف أسس الأسرة السعيدة ، ومَنع تكوّن الإنسجام المطلوب بين الزوجين .
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 80




= النقطة الخامسة : هناك بعض العشائر والعوائل التي تعيش في حالة مؤسفة مٍن التنافر والتفكّك الأُسَري ، بسبب ابتعادها عن أخلاقيّات الدين ، وعدم رُضوخها لتعاليم الاسلام المُرتبطة بتركيبة حياة البشر . وفيها يَشِبّ الأطفال على الأحقاد ، وعلى بُغض الأعمام والعَمّات والأخوال والخالات ، وغيرهم مِن أفراد العشيرة ، وتعيش هذه الأُسَر ـ أحياناً ـ مُنغَلقة على نفسها ، فلا تَزاور ولا تعاون ولا صلة أرحام ، ولا وُدّ ولا صفاء .
فإن كانت بعض العوائل تُعاني من هذه الظاهرة المؤسفة ، فلا يعني ذلك أنّها تتصوّر وجود نفس التفكّك في العشائر الأخرى ، وتَقيس بنفسها جميع العوائل ، وبذلك تَضُمّ صوتها إلى مَن يرفع لوحة (كراهة الزواج من الأقارب .. بصورة عامّة) .
النقطة السادسة : حينما نُلقي نظرة فاحصة على المجتمعات الإسلامية المعاصرة نجد عشرات الملايين من الأفراد الذين تزوّجوا من أقاربهم ـ كابن العَم وبنت العَم ـ ولم يحصل في نَسلهم تَعوّق أو هُزال أو غَباء ، أو مرض يكون قد انتقل إليهم بسبب زواج والديهم من الأقارب .
النقطة السابعة : إنّنا حينما نُلاحظ تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) نَجد أنّ الزواج من الأقارب كانت ظاهرة منتشرة جدّاً في حياتهم
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 81




= 1 ـ فهذا نبيّ الإسلام سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) زوّج ابنته سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء من ابن عمّ والدها : الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام .
2 ـ وهذا مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) زوّج ابنته السيدة زينب الكبرى من ابن عمّها : عبد الله بن جعفر .
(3) ـ وذاك الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) تزوّج بنت عمّه : السيدة فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى عليه السلام .
مع الإنتباه الى أنّ هؤلاء الأطهار معصومون من الخطأ والخَطَل ، في القول والعمل ، بصريح قوله تعالى : «إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً» ، وهم مقتدى الأجيال والأمم ، فلو كان في مجرّد «الزواج من الأقارب» قُبح أو خطأ أو خطر .. لكان المُتوقّع منهم الابتعاد عنه ، أو ذِكر سبب وجيه لزواجهم من الأقارب ، كي لا يَقتدي بهم الناس في ذلك .
هذا .. وقد تزوّج مسلم بن عقيل بنت عمّه : السيدة رقيّة بنت الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) . وتزوّج محمد بن جعفر بنت عمّه : السيدة أمّ كلثوم بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) . وتزوّج عون بن جعفر بنت عمّه عقيل بن أبي طالب .
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 82




= والمُتَتبّع ـ في التاريخ ـ يَحصل على مصاديق وعَيّنات أخرى لما ذكرنا .
فإن قال قائل : إنّهم فعلوا ذلك لعَدَم ذلك لعدم وجود أمراض وراثية في أفراد عشيرة بني هاشم .. رجالاً ونساءً ، فلا يصحّ تعميم القانون على جميع الناس ؟
قلنا في الجواب : نعم ، لم تكن هناك أمراض وراثيّة . ولكن يجب أن نعلم بأنّ الأصل في الخَلق هو : الصحّة .. وليس المرض . والحالات المرضية أمور طارئة لا ينبغي ـ بسببها ـ تعميم قانون المنع .. على الجميع .
يُضاف الى ذلك .. أنّ التعاليم الدينيّة تَضمن الصحّة للجميع ، وتَتكفّل صيانة المجتمع من الأمراض الوراثية وغيرها ، وشعارها مع البشر : «الوقاية خير من العلاج» ولا تَمنع من اتّخاذ التدابير اللزمة والتحقيق المُسبَق من أجل سلامة النسل والذريّة .
النقطة الثامنة : ليس معنى تعليقنا هذا هو التأييد العام المُطلَق لكلّ زواج من الأقارب ، فهناك النزاعات والإختلافات العائليّة والطائفيّة والعقائديّة ، والبُرود في العلاقات .. وهي أمور تَجعل المجال مفتوحاً للزواج من غير الأقارب ، حَذَراً من العواقب المُحتملة .
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 83




= هذا .. والتفصيل يحتاج الى مجال واسع لدراسة الموضوع دراسةً علمية شاملة ، مع ذكر الإثباتات والوثائق العلميّة ، ومناقشة أدلّة الطرفين : المؤيّدين والمخالفين لهذه النظرية .
المحقّق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 84




زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 85

عبد الله بن جعفر


لا أراني بحاجة إلى التحدّث عن حياة جعفر الطيّار ـ رضوان الله عليه ـ والد عبد الله ، ولا أجدُ ضرورة إلى التحدّث عن حياة سيدنا أبي طالب (عليه السلام) أو عقيل أو بقيّة رجالات وسيّدات هذه الأسرة ، الذين يَنحدرون عن سيّدنا أبي طالب .
وإنّما المقصود ـ هنا ـ هو التحدّث عن حياة عبد الله بن جعفر ، وذلك لكونه زوج السيدة زينب الكبرى عليها السلام .
كان عبد الله شخصيّة لامعة في عصره ، يمتاز عن غيره نسباً وحسباً ، وجوداً وكرماً ، فقد ذكره أرباب التراجم ـ من الفريقين (السُنّة والشيعة) في كتب التاريخ والحديث والرجال ـ بكلّ ثناء وتقدير ، وعدوّه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين ، والإمام الحسن والإمام الحسين والإمام السجاد (عليهم السلام) .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 86

وقد كان رابِط الجأش(1) قويّ القلب ، شُجاعاً ، شملته ـ في طفولته ـ بركة دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وامتدّت إلى آخر حياته .
فقد ذكر سبطُ إبن الجوزي في كتابه (تَذكرة الخواص) في ذِكر أولاد جعفر بن أبي طالب :
«عبد الله ، وبه كان يُكنّى(2) ، ومحمد ، وعَون ، وأمّهم : أسماء بنت عميس ، ولدتهم بأرض الحبشة(3) وكان جعفر قد هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية .
وأشهرهم : عبد الله ، وكان من الأجواد ، وهو من الطبقة الخامسة(4) ممّن توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو

(1) الجأش : النَفس ، والقَلب . يُقال : هو رابط الجأش أي : ثابتٌ عند الشدائد ، وقويّ القلب في الحروب والمنازعات .
المحقق
(2) أي : وكان جعفر يُكنّى بـ «أبي عبد الله» .
(3) بلاد الحبشة : هي دولة «إثيوبيا» المعاصرة ، وعاصمتها «اديس آبابا» ، وهي تَقع في قارّة إفريقيا ، يَحُدّها من الشمال والغرب : جمهورية السودان ، ومِن الشرق : البحر الأحمر وجمهورية الصومال ، ومن الجنوب : الصومال وكينيا .
المحقق
(4) لقد قسّم مؤلّف كتاب «الطبقات الكبرى» صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تقسيمات خاصّة ، وبكيفيّة معيّنة تَبادرت إلى ذِهنه ، وعبّر عن كلّ قسم بـ «الطبقة» فجعل ـ مثلاً ـ الصحابة
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 87

حَدث ، ولمّا ولدته أمّه أسماء بالحبشة ، وُلد ـ بعد ذلك بأيّام ـ للنجاشي وَلَد(1) فسمّاه عبد الله ، تبرّكاً باسمه ، وأرضعت أسماءُ عبد الله بن النجاشي بلَبَن ابنها عبد الله .(2)
وقال ابن سعد في كتاب (الطبقات)(3) :
حدّثنا الواقدي ، عن محمد بن مسلم ، عن يحيى بن أبي يعلى ، قال :
سمعت عبد الله بن جعفر يقول : «أنا أحفظُ حينَ دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمّي فنعى إليها أبي ، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تَذرفان ـ أو تهرقان ـ بالدموع حتّى تقطر لحيته .
ثم قال : «اللهم إنّ جعفراً قد قَدم إلى أحسن الثواب ، فاخلفه في ذريّته بأحسن ما خلفت أحداً مِن عبادك في ذريّته» .

= الذين حضروا يوم بدر قِسماً خاصاً وطبقة اولى ، وهكذا ... وحسب تقسيمه جعل عبد الله بن جعفر من الطبقة الخامسة .
(1) النجاشي : لقب مَلِك الحبشة يومذاك ، واسمه : الاصحَم بن أبجر .
(2) المصدر : كتاب «تذكرة الخواص» لسبط ابن الجوزي ، ص 189 .
(3) على ما حكاه عنه سبط إبن الجوزي في كتابه «تذكرة الخواص» ص 189 ـ 190 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 88

ثمّ قال : «يا أسماء ! ألا أُبشّركِ ؟»
قالت أمّي : بلى ، بأبي انت وأمّي يا رسول الله !
قال : «فإن الله قد جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة» .
فقالت : يا رسول الله فأعلم الناس بذلك .
فقام رسول الله فأخذ بيدي ومسح برأسي ، ورقى المنبر ، فاجلسني أمامه على الدرجة السفلى ـ والحزن يُعرف عليه ـ(1) فتكلّم وقال :
«إنّ المرء كثير بأخيه وابن عمّه ، ألا : إنّ جعفراً قد استشهد ، وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنّة» .
ثم نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخل بيته وأدخلني معه ، وأمر بطعام فصُنع لأهلي .
ثمّ أرسل إلى أخي ، فتغدّينا عنده غذاءً طيّباً مباركاً ....
وأقمنا ثلاثة أيام ، ندور معه في بيوت أزواجه ثم رجعنا إلى بيتنا .
فأتانا رسول الله وأنا أُساوم بشاة أخاً لي(2) ، فقال : «اللهم

(1) أي : والحزن ظاهر على ملامح وجهه الكريم .
(2) أساوم : المساومة : طلب البائع المُغالاة في الثمن ، طلب
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 89

بارِك له في صفقته»(1) ، فما بِعت شيئاً ولا اشتريت إلا بورك فيه» .(2)
ولعبد الله بن جعفر حوار وكلام في مجلس معاوية بن أبي سفيان ، يدلّ على ما كان يتمتّع به عبد الله من قوّة القلب ، وثَبات الجَنان ، والإيمان الراسخ بالمبدأ والعقيدة ، وعدم الإكتراث بالسلطات الظالمة الغاشمة .
أضف إلى ذلك الفصاحة والبلاغة ، والمستوى الأدبي الأعلى الأرقى . فقد ذكر إبن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) عن المدائني :
قال : بينا معاوية ـ يوماً ـ جالس ، وعنده عمرو بن العاص إذ قال الآذِن(3) : قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب .
فقال عمرو : والله لأسوأنّه اليوم !

= المُشتري التَخفيض في ذلك . وقيل : هو الكلام الذي يَسبق المُعاملة التجارية . «المحقق»
(1) الصفقة : ضرب اليد على اليد في البيع . وكان العرب إذا أرادوا إنهاء معاملة البيع ضَرَب أحدهما يده على يد صاحبه . والمعنى : اللهم بارك له في صفقاته التجارية ومعاملاته . «المحقق»
(2) تذكرة الخواص ، لسبط ابن الجوزي ، ص 189 ـ 190 .
(3) الآذِن : الحاجِب ، ويُعبّر عنه ـ حاليّاً ـ بالسكرتير والبَوّاب .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 90

فقال معاوية : لا تفعل يا أبا عبد الله ، فإنّك لا تنتصف منه ، ولعلّك أن تُظهر لنا من مغبّته ما هو خفيّ عنّا ، (1) وما لا نحبّ ان نعلمه منه !!
وغشيهم عبد الله بن جعفر(2) فأدناه معاوية وقرّبه .
فمال عمرو إلى جُلساء معاوية فنال مِن علي (عليه السلام) جهاراً غير ساترٍ له ، وثلبه ثلباً قبيحاً !!(3)
فالتمع لون عبد الله ، واعتراه الأفكَل(4)

(1) مغبّته : عاقبة أمره . وفي نسخة : من منقبته ما هو خفيّ عنا .
(2) غشيَهم : دخل عليهم .
(3) ثلبه : تنقّصه وذكر معايبه . ومن الواضح أنّه لم يكن في الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عيب أو منقصة ، لكنّ الأكاذيب لها دورها ، والنفسيات اللئيمة القذرة تُعبّر عن هويّتها ونواياها ، وتظهر عن طريق تصرّفات الإنسان وسلوكه . وكلّ من يدير ظهره للحق لابدّ له أن يَسحق وجدانه ، ويُسكّت إرسالات تأنيب الضمير .. بالأكاذيب والتُهم التي يعلم ـ بنفسه ـ زيفَها . ثمّ إنّ محاولة التزلّف إلى معاوية تجعل القبيح حَسناً والحسن قبيحاً . المحقّق
(4) الأفكَل : رَجفة شديدة تعتري الإنسان عند شدّة الغضب أو شدّة الخوف أو البرد .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 91

حتى أرعدت خصائله(1) ثم نزل عن السرير كالفنيق(2) فقال عمرو : مَه يا أبا جعفر ؟
فقال له عبد الله : مَه ؟ لا أمّ لك ؟ ثم قال :
أظنّ الحِلمَ دلّ عليّ قومي وقد يتجهّل الرجل الحليم

ثمّ حسَر عن ذراعيه(3) ، وقال :
يا معاوية ! حتى متى نتجرّع غيظك ؟
وإلى كم الصبر على مكروه قولك ، وسيّئ أدبَك ، وذَميم أخلاقك ؟

(1) ذُكر في أكثر كتب اللغة : أنّ الخصائل ـ جمع خصيلة ـ : كلّ لحمة فيها عصَب . والظاهر أنّ شدة الغضب جَعلت الرجفة تظهر على ملامح عبد الله وعلى يديه وأعضاء جسمه . المحقق
(2) الفنيق ـ من الناقة ـ : الفحل المُقرم الذي لا يؤذي ولا يُركَب . كما عن كتاب «العين» للخليل بن أحمد ، وجاء فيه ـ أيضاً ـ ناقة فَنَق : جَسيمة وحَسَنة الخَلق .
ولعلّ تشبيه عبد الله بالفنيق .. لأنّه كان ضخم الجسم . المحقق
(3) أي : رَفَع أكامم ثوبه وكشف عن ذراعيه ، إستعداداً للمواجهة الشديدة والحرب الكلاميّة مع معاوية ، الذي سكت عن الموقف العدواني لعمرو ، حيث إنّ المتكلّم الذي يريد استعمال إشارات يديه أثناء الكلام الجادّ .. يَرفع أكمامه ، مع الإنتباه إلى الأكمام الواسعة الطويلة التي كانت مُتعارفة في ملابس ذلك الزمان . المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 92

هَبَلَتك الهبول !!(1)
أما يَزجُرك ذمامُ المجالسة من القَذع لجليسك(2) إذا لم يكن له حرمة من دينك تَنهاك عمّا لا يَجوز لك ؟!
أما : والله لو عطفتك أواصر الأرحام ، أو حاميتَ عن سهمك من الإسلام ما أرخَيتَ ـ لبني الإماء المُتك(3) والعَبيد المُسك(4) ـ أعراض قومك .
وما يَجهل موضع الصَفوة إلا أهل نَجوة(5).

(1) هبلتك الهَبول : هَبَلَت الأمّ ولدها : ثكلته ، فهي هَبول . كما في المعجم الوسيط .
(2) أي : أما يَمنعُك آداب المجالسة مَن منع مَن يريد إهانة جليسك وجَرح مشاعره ؟!
(3) الإماء ـ جَمع أمَة ـ : العَبدة . المُتك ـ بضمّ الميم ـ : جَمع متكاء : المرأة المُفضاة : وهي التي تَمزّق منها الغشاء الفاصل بين مخرج البول ومجرى دم الحيض ـ بسبب كثرة إستقبالها للرجال !! ـ وقيل : هي المرأة التي لا تستطيع ضَبط نفسها من البول . قال الخليل بن أحمد ـ في كتاب «العين» ـ : يُقال في السبّ : يابن المَتكاء . المحقق
(4) المُسَك ـ جَمع مَسيك ـ : البَخيل .
(5) لعلّ المعنى : وما يَجهل مكانة الشرفاء إلا أصحاب النفوس الدنيئة ، ونَجوة : المحل الذي يُتغوّط فيه . وفي نسخة : وما يجهل موضع الصفوة إلا أهل الجفوة . المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 93

وإنّك لتعرف وشائط قريش(1) ، وصقوة عوائدها ، فلا يَدعوّنك تصويبُ ما فَرط مِن خَطاك في سفك دماء المسلمين ، ومُحاربة أمير المؤمنين ، إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه ، فاقصد لمنهج الحقّ ، فقد طال عمهُك عن سبيل الرشد(2) ، وخَبطُك في دَيجور ظلمة الغيّ ، فإن أبَيت إلا أن تُتابعَنا في قُبح اختيارك لنفسك فاعفِنا عن سوء القالة فينا إذا ضمّنا وإيّاك الندي(3) ، وشأنُك وما تريد إذا خلَوت ، والله حسيبُك ، فوالله لولا ما جعل الله لنا في يديك لما أتيناك .
ثم قال : إنّك إن كلّفتني ما لم أُطِق ساءك ما سرّك منّي مِن خُلق .
فقال معاوية : يا أبا جعفر : اقسمتُ عليك لَتجلسنّ ، لعن الله من أخرجَ ضبّ صدرك مِن وجاره(4) ، محمولٌ لك ما قلتَ ، ولكَ

(1) وشائظ : السَفَلة ، أو الدُخَلاء في القوم ، لَيسوا مِن صَميمهم . كما في «لسان العرب» لابن منظور .
(2) عَمهُك : تَرَدّيك في الضلالة . كما يُستفاد من كتاب «العَين» للخليل بن أحمد .
(3) النَديّ والنادي : مجلس القوم ، والجمعُ : أندية . ويُعبّر عنه حاليّاً بـ «الديوان» و«الديوانيّة» . المحقق
(4) أي : أخرَج غَيظ صدرك من مكانه ، أو : مِن حلقِك . يقال : وَجَرَ فُلاناً : أي : أسمعه ما يَكره . كما في كتاب المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 94

عندنا ما أمّلت ، فلو لم يكن مَجدك ومَنصِبُك لكان خَلقُك وخُلُقك شافِعَين لك إلينا ، وأنت إبن ذي الجناحين وسيد بني هاشم .
فقال عبد الله : كلا ، بل سيّدا بَني هاشم حسنٌ وحسين ، لا يُنازعهما في ذلك أحَد .
فقال معاوية : يا أبا جعفر أقسمتُ عليك لما ذكرتَ حاجة لك قضيتها كائنةً ما كانت ، ولو ذهبت بجميع ما أملك .
فقال : أمّا في هذا المجلس فلا .
ثمّ انصَرف ، فأتبعه معاوية بصُرّة .(1) فقال : والله لَكأنّه رسول الله ، مشيُه وخَلقه وخُلقه وإنّه لمن شكله ، ولودَدتُ أنّه أخي بنفيس ما أملك .
ثمّ التفت إلى عمرو فقال : أبا عبد الله ما تَراه منَعَه مِن الكلام معك ؟
قال : ما لا خفاء به عنك .
قال : أظنّك تقول : إنّه هابَ جوابك ، لا والله ولكنّه ازدَراك(2) واستحقَرك ولم يَرك للكلام أهلاً ، أما رأيت إقباله عليَّ

(1) وفي نسخة : ببَصَره .
(2) إزدراك : إحتَقَرك واستخفّ بك .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 95

دونَكَ ، زاهداً بنفسه عنك .
فقال عمرو : هل لك أن تَسمع ما أعددته لجوابه ؟
قال معاوية : إذهب ، إليك أبا عبد الله ، فلاتَ حين جواب سائر اليوم(1) ، ونهض معاوية وتفرّق الناس .(2)

لماذا لم يخرج عبد الله مع الإمام الحسين (عليه السلام) ؟

هناك سؤال قد يتبادر إلى بعض الأذهان وهو : لماذا لم يَخرج عبدالله بن جعفر مع الإمام الحسين (عليه السلام) في رِحلته إلى العراق ؟
لإجابة هذا السؤال : هناك أكثر من إحتمال ، لأنّنا لا نَعلم ـ بالضبط ـ الجواب الصحيح ، لكنّ الذي يتبادر إلى ذهني ـ والله العالم ـ : أنّه كان من اللازم أن تَبقى بقيّة من أهل البيت في المدينة المنوّرة ، لكي لا يَنجح بنو أميّة في إكمال خطّتهم الرامية إلى استئصال شجرة آل الرسول الكريم ، وكان اللازم أن تكون تلك البقيّة في مستوى رفيع من قوّة

(1) أي : ليس الآن وقتُ ذكرك للجواب . أو : لا أريد أن أسمع جوابك الآن .. إلى آخر النهار .
(2) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، طبع مصر ، عام 1385 هـ ، ج 6 ص 295 ـ 297 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 96

الشخصية والمكانة الإجتماعية .. رجالاً ونساءً ، لكي يستطيعوا المحافظة على امتداد خط الإسلام الأصيل الذي يَنحصر في آل محمد وعلي (عليهما وآلهما الصلاة والسلام) ولكي يكونوا على درجة جيّدة بحيث يَحسب لهم الأعداء ألف حساب ، ولا يَسهُل عليهم إبادة تلك البقيّة .
من هنا .. فاننا نقرأ ـ اسماء ثلة من الذين بقوا في المدينة المنورة ، ولم يخرجوا مع الامام الحسين (ع) . ومن جملة هذه الثلة الطيبة نقرا في القائمة.
1 ـ عبد الله بن جعفر ، مع الانتباه الى علاقاته الديبلوماسية الظاهرية المُسبَقة مع الطاغية معاوية ، والاحترام الفائق الذي كان معاوية يُظهره له .
2 ـ محمد بن الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) المشهور بـ «ابن الحنفيّة» .
3 ـ السيدة أم سلمة ، زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
4 ـ أمّ هاني ، أخت الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
5 ـ السيدة أم البنين ، قرينة الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) ووالدة أشباله الأربعة .
6 ـ السيدة المكرّمة ليلى ، قرينة الامام الحسين (عليه

السابق السابق الفهرس التالي التالي