زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 493

آل رسول الله في خَرِبة الشام


ماذا حَدَثَ بعد مجلس الطاغية يزيد ؟
لقد جاء في التاريخ : أنّ يزيد أمر بهم إلى منزلٍ لا يُكنّهم من حرٍ ولا برد ، فأقاموا فيه حتّى تقشّرت وجوههم من حرارة الشمس وأشعّتها المباشرة ، وكانوا مدّة إقامتهم في ذلك المكان ينوحون على الإمام الحسين (عليه السلام) .(1)

(1) كتاب «الملهوف» لابن طاووس ، ص 219 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 494




زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 495

حوارٌ بين منهال والإمام زين العابدين عليه السلام


وفي كتاب (الأنوار النعمانيّة) للجزائري : عن منهال بن عمرو الدمشقي قال :
كنتُ أتمشّى في أسواق دمشق ، وإذا أنا بعليّ بن الحسين يمشي ويتوكّأ على عصا في يده ، ورِجلاه كأنّهما قصبتان ! والدم يجري من ساقَيه ! والصُفرة قد غَلَبت عليه !
قال منهال : فخَنقَتني العبرة ، فاعترضتُه(1) وقلت له : كيف أصبحت يابن رسول الله ؟!
قال : يا منهال ! وكيف يُصبِح من كان أسيراً ليزيد بن معاوية ؟!
يا منهال ! والله ، منذ قُتِلَ أبي ، نساؤنا ما شبعن بطونهن !

(1) اعترضته : أقبلت نحوه وواجهته .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 496

ولا كَسَونَ رؤوسهن ! صائمات النهار ، ونائحات الليل .
يا منهال ! أصبحنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون ! يُذبّحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، فالحاكم بيننا وبينهم الله ، يوم فصل القضاء .
أصبَحَت العرب تَفتخر على العجم بأنّ محمداً منهم ، وتفتخر قريش على العرب بأنّ محمداً منها ، وإنّا ـ عترة محمد ـ أصبحنا مقتولين مذبوحين ، مأسورين ، مشرّدين ، شاسعين عن الأمصار ، كأنّنا أولاد تُركٍ أو كابل ، هذا صباحنا أهل البيت .
ثمّ قال : يا منهال ! الحبس الذي نحن فيه ليس له سقف ، والشمس تصهَرنا ، فأفرّ منه سُوَيعةً لضعف بدني ، وأرجع إلى عمّاتي وأخواتي ، خشيةً على النساء .
قال منهال : فبينما أنا أُخاطبه وهو يخاطبني وإذا أنا بإمرأةٍ قد خرجت من الحبس وهي تُناديه ، فتركني ورجع إليها ، فسألتُ عنها وإذا هي عمّته زينب بنت علي تدعوه : إلى أينَ تمضي يا قرّة عيني ؟
فرجع معها ، وتركني ، ولم أزل أذكره وابكي .(1)

(1) كتاب «معالي السبطين» ج 2 ص 158 ، الفصل الرابع عشر ، المجلس الثاني عشر ، وذكر أيضاً في كتاب «الأنوار النُعمانيّة» ، للجزائري ج 3 ص 252 مع بعض الفروق بين النسختين .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 497

مجيء زوجة يزيد إلى خَرِبة الشام


لقد جاء في التاريخ أنّ إمرأةً كانت تُسمّى «هند بنت عبد الله بن عامر» لمّا قُتل أبوها جاءت إلى دار الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وبَقيَت هناك مدّة من الزمن تَخدم في دار الإمام ، وكانت على قدر من الجمال ، ولمّا قتل الإمام أمير المؤمنين إنتقلت إلى دار الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) وكانت تخدم هناك في دار الإمام أيضاً ، فسمع عنها معاوية فطلبها وزوّجها لإبنه يزيد ، فبَقيت في دار يزيد ، وهي تَستَخبِر ـ دائماً عن الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) وتُحاول أن تَسمَع أخبارهم من القادمين من المدينة المنوّرة .
ولمّا قتل الإمام الحسين (عليه السلام) لم تَعلَم هند

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 498

بالخبر !!
ولمّا جاؤا بعائلة الإمام الحسين إلى الشام ، دخلت امرأة على هند وقالت لها : لقد أقبَلوا بسبايا ولا أعلَم من أين هم ؟
فلعلّك تمضين إليهنّ وتتفرّجين عليهن ؟!
فقامت هند ولَبِست أفخر ثيابها وتخمّرت بخِمارها ، ولبِست إزارها ـ أي : عباءتها ـ ، وأمرت خادمةً لها أن تُرافقها وتحمل معها الكرسي حتى لا تجلس على التراب .
ويقول البعض : أنّ يزيد صادفها قبل الخروج من القصر فاستأذنت منه ، فأذِن لها لكنّه تغيّر لونه وبَقي مذهولاً حيث إنّه خشي من مضاعفات ورود فِعل هذه الزيارة ، فهو يعلم أنّ زوجته الحظيّة عنده .. كانت ـ مدّة سنين ـ خادمة في دار أهل البيت ، وهي تحبّهم حبّاً كثيراً ، لأنّها قضت سنوات من حياتها خادمة لهم ، ولم ترَ منهم إلا العطف والإحترام ، والإنسانية والأخلاق العالية ، فماذا يصنع يزيد ؟
هل يُوافق على الزيارة أم يَرفُض ذلك ؟
ولكن يبدو أنّ شخصية هند كانت قويّة ، فقد فَرضَت نفسها على يزيد ، فأذن لها إلا أنّه طلب منها أن تكون الزيارة بعد المغرب ، حينما يُخيّم الظلام على الأرض ،

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 499

فوافقت على ذلك .
وعند المساء أقبلت هند ومعها الخدم يحملون معهم القناديل لإضاءة الطريق . فلمّا رأتها السيدة زينب (عليها السلام) مُقبلة هَمَسَت في أذن أختها أم كلثوم وقالت : «أُخيّه أتعرفين هذه الجارية ؟
فقالت : لا والله .
فقالت زينب : هذه خادمتنا هند بنت عبد الله !!
فسكتت أمّ كلثوم ونكّست رأسها !
وكذلك السيدة زينب نكّست رأسها .
فأقبلت هند وجلست على الكرسي قريباً من السيدة زينب ـ باعتبارها زعيمة القافلة ـ ، وقالت : أخيّة أراكِ طأطأتِ رأسكِ ؟
فسكتت زينب ولم تردّ جواباً !
ثم قالت هند : أخيّه من أي البلاد أنتم !
فقالت السيدة زينب : من بلاد المدينة !
فلمّا سمعت هند بذكر المدينة نزلت عن الكرسي وقالت : على ساكنها أفضل السلام .
ثم التفتت إليها السيدة زينب وقالت : أراكِ نزلتِ عن الكرسي ؟

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 500

قالت هند : إجلالاً لمن سكن في أرض المدينة !
ثم قالت هند : أخيّه أريد أن أسألكِ عن بيت في المدينة ؟
فقالت السيدة زينب : إسألي عمّا بدا لكِ .
قالت : أسألكِ عن دار علي بن أبي طالب ؟
قالت لها السيدة زينب : ومِن أينَ لكِ المعرفة بدار علي ؟
فبَكت هند وقالت : إنّي كنت خادمة عندهم .
قالت لها السيدة زينب : وعن أيّما تسألين ؟
قالت : أسألك عن الحسين واخوته وأولاده ، وعن بقيّة أولاد علي ، وأسألك عن سيدتي زينب ! وعن أختها أم كلثوم وعن بقيّة مخدّرات فاطمة الزهراء ؟
فبَكت ـ عند ذلك ـ زينب بكاءً شديداً ، وقالت لها يا هند : أمّا إن سألتِ عن دار علي فقد خَلّفناها تنعى أهلها !
وأما إن سألت عن الحسين فهذا رأسه بين يدي يزيد !!
وأمّا إن سألت عن العباس وعن بقية أولاد علي (عليه السلام) فقد خلّفناهم على الأرض .. مجزّرين كالأضاحي بلا رؤوس !

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 501

وإن سالت عن زين العابدين فها هو عليل نحيل .. لا يطيق النهوض من كثرة المرض والأسقام ، وإن سألتِ عن زينب فأنا زينب بنت علي !! وهذه أمّ كلثوم ، وهؤلاء بقية مخدّرات فاطمة الزهراء !!!
فلمّا سمعت هند كلام السيدة زينب رقّت وبكت ونادت : واإماماه ! واسيداه ! واحسيناه ! ليتني كنتُ قبل هذا اليوم عمياء ولا أنظر بنات فاطمة الزهراء على هذه الحالة ، ثم تناولت حجراً وضرب به رأسها !! فسال الدم على وجهها ومقنعتها ، وغشي عليها .
فلمّا أفاقت من غشيتها أتت إليها السيدة زينب وقالت لها : يا هند قومي واذهبي إلى دارك ، لأنّي أخشى عليك من بعلكِ يزيد .
فقالت هند : والله لا أذهب حتى أنوح على سيّدي ومولاي أبي عبد الله ، وحتى أُدخِلكِ وسائر النساء الهاشميّات .. معي إلى داري !!
فقامت هند وحَسَرت رأسها وخرجت حافية إلى يزيد وهو في مجلس عام ، وقالت : يا يزيد ! أنت أمرتَ رأس الحسين يُشال على الرمح عند باب الدار ؟
أرأسُ ابن فاطمة بنت رسول الله مصلوب على فناء داري ؟!

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 502

وكان يزيد في ذلك الوقت جالساً وعلى رأسه تاج مكلّل بالدر والياقوت والجواهر النفيسة !
فلمّا رأى زوجته على تلك الحالة وَثَب إليها وغطّاها وقال : نعم فاعوِلي يا هند وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش ، فقد عجّل عليه ابن زياد (لعنه الله) فقتله .. قتله الله !!!
فلمّا رأت هند أنّ يزيد غطّاها قالت له : ويلك يا يزيد ! أخَذَتك الحميّة عليّ ، فلِم لا أخذتك الحميّة على بنات فاطمة الزهراء ؟! هتكتَ ستورهنّ وأبديتَ وجوههنّ وأنزلتهنّ في دارٍ خرِبة !! والله لا أدخل حرَمَك حتى أُدخلهنّ معي .
فأمر يزيد بهنّ إلى منزله وأنزلهم في داره الخاصّة ، فلمّا دخلت نساء أهل البيت (عليهم السلام) في دار يزيد ، إستقبلتهنّ نساء آل أبي سفيان ، وتهافتنَ يُقبّلن أيدي بنات رسول الله وأرجلهن ، ونُحنَ وبكين على الحسين ، ونزعن ما عليهنّ من الحُلي والزينة ، وأقمن المأتم والعزاء ثلاثة أيام ... .(1)

(1) المصدر : «معالي السبطين» ج 2 ، ص 164 ، الفصل الرابع عشر ، المجلس السادس عشر ، وتاريخ الطبري ج 5 ، ص 465 ، وكتاب «الإيقاد» ، ص 180 وبعض المصادر الأخرى . المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 503

آل رسول الله يقيمون المآتم على الإمام الحسين (عليه السلام) في الشام


لقد جاء في كتب التاريخ : أنّ جمعاً كثيراً من أهل الشام تغيّرت نظرتهم الإيجابيّة إلى حكومة بني أميّة بشكل عام ، وإلى الطاغية يزيد بشكل خاص ، إلى نظرة سلبيّة .
وصار هذا الجمع الكثير يُشكّلون الرأي العام الناقم على السلطة ، ممّا جعل يزيد يضطرّ إلى أن يتظاهر بتغيير موقفه تجاه أهل البيت (عليهم السلام) فنقلهم إلى بيته الخاص حتى يُخفّف التوتّر السائد على عائلته وحريمه ، بل وعلى كافّة نساء آل أبي سفيان .
وجاء في التاريخ ـ أيضاً ـ : أنّ يزيد إستدعى بِحُرَم

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 504

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لهن : «أيّهما أحبّ إليكن : المُقام عندي ، أو الرجوع إلى المدينة ؟
فقلنَ : نُحبّ أوّلاً أن ننوح على الحسين .
فقال : إفعلوا ما بدا لكم .
ثمّ أُخليَت الحجرات والبيوت في دمشق ، ولم تبق هاشميّة ولا قُرشيّة إلا ولَبِسَت السواد على الحسين ، وندبوه سبعة أيام ، فلمّا كان اليوم الثامن أرادوا الرجوع إلى المدينة ، فأمر يزيد أن يُحضروا لهنّ المحامل ، وأعطاهنّ أموالاً كثيرة وقال : هذا المال عِوَض ما أصابكم !
فقالت أمّ كلثوم : «يا يزيد ! ما أقلّ حياؤك وأصلبَ وجهك ؟! تقتل أخي وأهل بيتي وتُعطينا عِوَضهم ؟!
فردّوا جميع الأموال ، ولم يأخذوا منها شيئاً .(1)
وجاء في بعض كتب التاريخ : أنّ السيدة زينب (عليها السلام) أرسلت إلى يزيد تسأله الإذن أن يُقِمن المآتم على الإمام الحسين ، فأجاز ذلك ، وأنزلهنّ في دار الحجارة ، فأقمنَ المآتم هناك سبعة أيام ، وكانت تجتمع عندهنّ ـ في كل يوم ـ جماعة كثيرة لا تُحصى من النساء» .
فقصد الناس أن يَهجموا على يزيد في داره ويقتلوه ،

(1) كتاب «بحار الأنوار» ، ج 45 ، ص 196 ـ 197 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 505

فاطّلع على ذلك مروان ، وقال ليزيد :
«لا يصلح لك توقّف أهل البيت في الشام فأعدّ لهم الجهاز ، وابعث بهم إلى الحجاز» .
فهيّأ لهم المسير ، وبعث بهم إلى المدينة .(1)



(1) كتاب «كامل البهائي» .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 506




زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 507

بين الإمام زين العابدين (عليه السلام) ويزيد بن معاوية


وقد جاء في التاريخ أنّ يزيد قال للإمام زين العابدين (عليه السلام) : «أُذكر حاجاتك الثلاث التي وعدتك بقضائهن» ؟
فقال الإمام : «الأولى : أن تُريَني وجه سيدي ومولاي الحسين ، فأتزوّد منه وأنظر إليه وأُودّعه ؟
والثانية : أن تَرُد علينا ما أُخذَ منّا ؟
والثالثة : إن كنتَ عَزَمتَ على قتلي ان تُوجّه مع هؤلاء النسوة من يَردّهن إلى حرم جدّهن صلى الله عليه وآله وسلم» ؟
فقال يزيد : «أمّا وجه أبيك ، فلَن تراه أبداً !!

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 508

وأمّا قتلك ، فقد عفوت عنك ، وأما النساء فلا يرُدّهن إلى المدينة غيرك .
وأمّا ما أُخِذ منكم ، فإنّي أُعوّضكم عنه أضعاف قيمته» .
فقال الإمام : «أمّا مالُك فلا نريده ، وهو موفّر عليك ، وإنّما طلِبتُ ما أُخِذَ منّا .. لأنّ فيه مِغزل فاطمة بنت محمد ، ومقنعتها وقِلادتها وقَميصها» .(1)



(1) كتاب (الملهوف) ص 224 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 509

ترحيل عائلة آل الرسول من دمشق إلى المدينة المنوّرة


المُستفاد من مجموع القضايا التاريخية أنّ خطبة السيدة زينب الكبرى في مجلس يزيد ، والوقائع التي حدثت في ذلك المجلس ، ثمّ خطبة الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الجامع الاموي في دمشق ، أوجَدَت في الناس وعياً وهياجاً ، واستياءً عاماً ضدّ الحكم الأموي في الشام .
وخاصّة : أنّ بلاط يزيد لم يَسلَم من التوتّر والإضطراب .
والعجيب : أنّ يزيد ـ الذي كان يحكم على بلاد الشام وغيرها ـ شَعر بأنّ كرسيّه قد تضعضع ، بل وأنّ حياته صارت مهدّدة ، حتى زوجته إنقلب حبّها إلى عداء ، كلّ ذلك من نتائج خطبة امرأة أسيرة ، وشابٍ

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 510

أسير عليل !!
فاستشار يزيد جلساءه حول إتّخاذ التدابير اللازمة لدفع الخطر المُتوقّع ، فأشار عليه أصحابه بترحيل العائلة من دمشق ، وإرجاعهم إلى المدينة المنوّرة .
وتبدّل منطق يزيد ، فبَعد أن كان يقول : «لعِبت هاشم بالمُلك» صار يلعن عبيد الله بن زياد الذي قام بهذه الجناية من تلقاء نفسه ، فكأنّ يزيد يُبرّأ نفسه ممّا جرى ، ويُلقي المسؤولية على عبيد الله بن زياد .
وتبدّلت تلك الخشونة والقساوة ، والشماتة والإهانة ، إلى الرفق واللين والإحترام المزيّف ، فالظروف تصنع كلّ شيء ، والسياسة التابعة للظروف والخاضعة للمصالح ذو قابليّة للتلوّن بكلّ لون .
فأمر يزيد نعمان بن البشير أن يُهيّئ وسائل السفر لترحيل أهل البيت من الشام ، مع رعاية الإحترام اللائق بهم .
وجاء في كتاب (الفصول المهمّة) لابن الصبّاغ المالكي : ثم إنّ يزيد ـ بعد ذلك ـ أمر النعمان بن بشير أن يجهّزهم ـ بما يصلح لهم ـ إلى المدينة الشريفة ، وسَيّر معهم رجلا أميناً من أهل الشام ، في خيل سيّرها في

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 511

صحبتهم ، ... وكان يُسايرهم هو وخيله التي معه ، فيكون الحريم قُدّامه ، بحيث أنّهم لا يفوتونه .
وإذا نزلن تنحّى عنهم ناحيةً .. هو وأصحابه الذين كانوا حولهم كهيئة الحرس ، وكان يسألهم عن حالهم ، ويتلطّف بهم في جميع أمورهم ، ولا يشقّ عليهم في مسيرهم ... إلى آخره .



زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 512




زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 513


الفصل الثامن عشر

  • يوم الأربعين
  • الرجوع إلى مدينة الرسول


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 514




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 515

    يوم الأربعين


    يوم الأربعين : هو اليوم العشرون من شهر صفر ، وفيه وصلت عائلة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء ، قادمين من الشام ، وهم في طريقهم إلى المدينة المنورة .
    وسُمّيَ بـ «يوم الأربعين» لأنّه يصادف إنقضاء أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام .
    ويُعتبر تحديد ـ أو تعيين ـ السنة التي وصلت فيها قافلة آل الرسول إلى أرض كربلاء بعد رجوعهم من الشام .. من غوامض المسائل التاريخية .
    فهل كان الوصول في نفس السنة التي حدثت فيها فاجعة كربلاء الدامية ، أي سنة 61 للهجرة ، أم كان ذلك في السنة التي بعدها ؟
    فهنا تساؤل يقول : كيف يُمكن ذهاب العائلة من كربلاء إلى

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 516

    الكوفة ، ثم إلى دمشق ، ثم الرجوع والوصول إلى كربلاء ، كل ذلك في أربعين يوماً ، مع الانتباه الى نوعية الوسائل النقليّة المتوفّرة يومذاك ؟!
    وهذه معركة علميّة تاريخية لا تزال قائمة على قدم وساق بين حملة الأقلام من المحدّثين والمؤرخين .
    ونحن إذا أردنا دراسة هذا الموضوع فإنّ البحث يحتاج إلى شرح واف ، وكلام مفصّل مطوّل ، ونرجوا الله تعالى أن يوفّقنا للبحث والتحقيق عن هذا الموضوع في مؤلّفاتنا القادمة ، إن شاء الله تعالى .
    ولعلّ رجوعهم كان من طريق الأردن إلى المدينة المنورة ، فحينما وصلوا إلى مفترق الطرق طلبوا من الحَرَس ـ الذين رافقوهم من دمشق ـ أن يجعلوا طريقهم نحو العراق وليس إلى المدينة . ولم يستطع الحرس إلا الخضوع لهذا الطلب والتوجه نحو كربلاء .
    وحينما وصلوا أرض كربلاء صادف وصولهم يوم العشرين من شهر صفر .
    وكان الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري قد جاء إلى كربلاء يرافقه عطاء ـ أو عطيّة ـ العوفي(1).. وجماعة مِن

    (1) وهو من مشاهير التابعين .. الذين لم يَرَوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّهم رأوا صحابة الرسول .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 517

    بني هاشم ، جاؤا جميعاً لزيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام .
    واجتمع جماعة من أهل السواد(1) وهم أهل القرى والأرياف التي كانت في ضواحي كربلاء يومذاك ، فصار هناك اجتماع كبير ـ نِسبيّاً ـ من شتّى الطبقات ، فالجميع حضروا عند قبر ريحانة رسول الله وسيد شباب أهل الجنة ، يزورون قبره ويسلّمون عليه ، والكآبة تخيّم على وجوههم ، والأسى والأحزان تَعصِر قلوبهم .
    كانت القلوب تشتعل حزناً ، والدموع مستعدّة لتجري على الخدود ، ولكنّهم ينتظرون شرارة واحدة ، حتى تضطرم النفوس بالبكاء ، وترتفع أصوات النحيب والعويل .
    في تلك اللحظات وصلت قافلة العائلة المكرمة إلى كربلاء ، فكان وصولها في تلك الساعات هي الشرارة المترقّبة المتوقّعة ، «فتلاقَوا ـ في وقت واحد ـ بالبكاء والعويل» .(2)

    (1) أهل السواد . كان يُعبّر عن أراضي العراق بـ «أرض السواد» لكثرة وكثافة الأشجار فيها .. مع الانتباه الى تُربتها الصالحة للزراعة لدرجة كبيرة ، فالأراضي التي تُغطّيها الأشجار تتراءى من بعيد وكأنّها سوداء ، ومِن هنا سمَّوا المزارع والبساتين بـ «أرض السواد» وسمَّوا الذين يسكنون هذه المناطق بـ «أهل السواد» . المحقق
    (2) ذكر السيد ابن طاووس ـ في كتاب (الملهوف) ص 225 ـ : ولمّا رجعت نساء الحسين (عليه السلام) وعياله من الشام وبلغوا العراق ، قالوا للدليل : مُرّ بنا على طريق كربلاء . فوصلوا إلى موضع المصرع ،
    =
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 518

    كانت السيدة زينب (عليها السلام) ـ في هذا المقطع من الزمان ، وفي هذه المنطقة بالذات ، وهي أرض كربلاء ، ـ لها الموقف العظيم ، وكانت هي القلب النابض للنشاطات والأحاسيس المبذولة عند قبور آل رسول الله (عليهم السلام) في كربلاء .
    نشاطات مشفوعة بكلّ حزن وندبة ، مِن قلوب ملتهبة بالأسى !
    وما تظنّ بسيدة فارقت هذه الأرض قبل أربعين يوماً ، وتركت جُثَث ذويها معفّرة على التراب بلا دفن ، واليوم رجعت إلى محلّ الفاجعة .. فما تراها تصنع وماذا تراها تقول ؟؟!
    أقبلت نحو قبر أخيها الحسين (عليه السلام) فلمّا قربت من القبر صرخت ونادت أكثر من مرّة ومرتين :
    وا أخاه !! وا أخاه !! وا أخاه !!
    كانت هذه الكلمات البسيطة ، المنبعثة من ذلك القلب الملتهب ، سبباً لتهييج الأحزان وإسالة الدموع ، وارتفاع اصوات البكاء والنحيب !

    = فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ، ورجالاً من آل الرسول ، قد وردوا لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) ، فوافَوا في وقت واحد ، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللَطم ، وأقاموا المآتم المُقرحة للأكباد ، واجتمعت إليهم نساء ذلك السواد ، وأقاموا على ذلك أيّاماً» .
    المحقق

    السابق السابق الفهرس التالي التالي