المراقبات 31

شرعاً فيها الاقتصاد لا الجهد الشديد ، وأمّا تلطيف القلب بالمعرفة وما يتبعها من كرائم صفاتها فالمرغوب فيه الإدمان بقدر الوسع والطاقة ، حتى يصير حاله كما قال الصادق عليه السلام في حق العارف : «لو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقاً إليه» ، وإذا انكشفت عن قلبه أغشية الأوهام ، وارتفعت عنه الحجب الظلمانية ، وتجلّى فيه أنوار جمال الصفات ، وسبحات جلال الذات ، وبرق له لامع كثير البرق ، لا يمكنه الغفلة والسهو ، وينقلب أحوال قلبه بتجلّيات خصوص الصفات الجماليّة والجلاليّة ، والله جل جلاله يتولى رياضة قلبه بالخوف والرجاء من هذا الطريق حتى يورده مقعد الصدق في جواره ، ويسكنه في الفردوس الأعلى جنّة النور مع النبيين والشهداء والصدّيقين ، وحسن أولئك رفيقاً .

* * *

المراقبات 32

في أهم أعمال الشهر

ومن أهمّ أعماله كما أشرنا إليه الدعاء في أوله بما روي في ذلك ، وبما يراه مناسباً وبما يقتضيه حاله للدخول في هذا المنزل من منازل سفره إلى ربّه ، ويتبعه بالتوسل إلى خفير يومه من الأئمة والحماة في استصلاح الحال في الشهر كلّه وفي أيّامه الخاصّة بالشفاعة وطلب التوفيق .
ثم اليوم الثامن : روي أنّه وقع فيه وفاة الإمام أبي محمد الحسن الزكيّ العسكريّ عليه السلام ، فللمراقب أن يحزن فيه لا سيّما بلحاظ أنّ صاحب المصيبة فيه حجّة عصره وإمام زمانه أرواح العالمين فداه ، عليه وعلى آبائه صلوات الله ، يزوره بما يبدو له ويعزّي الإمام عليه السلام بما يناسبه .
ثمّ يشكر الله لخلافة إمامه عليه السلام ويتأثر من غيبته وفقده ، ويتذكّر زمن ظهوره وفوائد أنواره ، وخيره وبركته .
ثمّ اليوم التاسع : ورد فيه رواية واحدة فاخرة في كونه يوم هلاك عدوّ الله وفي فضله وفضل الفرح فيه ، وأنّه يوم السرور لشيعة آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين واشتهر بين الشيعة بذلك ، وإن كان لا يساعده سائر الروايات ، ولكن يمكن أن تكون التقيّة اقتضت تغيير الوقت ، ومع ذلك لا يبعد أن يكون لهذا جهة انطباق بوجه من الوجوه .
وكيف كان ينبغي لموالي آل محمد ولوتعبّداً لهذه الرواية إظهار

المراقبات 33

السرور لهلاكه في ذلك اليوم ، ولكن مع الالتفات بأنّ السرور بهلاك الأعداء ، إنّما يحسن للأولياء والأحبّاء ، فمن كان أعماله لا يصدّق الولاية والمحبّة ينبغي أن يكون مع إظهار السرور خجلاً عمّا يقصّر من مراسم الولاية والمحبّة ولا أقلّ من أن لا يكون في إظهار سروره لهلاك عدوّ الله وعدوّ أوليائه سالكاً مسلك الأعداء بارتكاب المحرّمات لأنّ المخالفة تضادّ المحبّة ، وهي تناقض إظهار السرور لهلاك عدوّ المحبوب والمولى .
وفي اليوم العاشر : تزويج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من) خديجة سلام الله عليها . فعلى الشيعة تعظيم هذا الأمر لما وقع من تأثير هذا التزويج المبارك الميمون في الخيرات والبركات ، وانتشرت منه الأنوار الباهرات الطاهرات ، من جهات شتّى .
وأما اليوم السابع عشر: وقد أشرنا ببعض شرافتها آنفاً ولكن لا بأس بالاشارة الاجماليّة ببعض ما طوينا ذكره .
أقول : لا يبلغ فطنة أحد من الرعية بل أغلب الأنبياء والأولياء صلوات الله وسلامه عليه و(على) آله وعليهم أجمعين من اكتناه فضائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد يشير إلى ذلك الأخبار المستفيضة الواردة في عدم احتمال كلّ نبيّ إلا المرسل منهم بعض مقامات آله المعظّمين ، فضلاً عن فضائل نفسه الشريفة ، كيف وهو أشرف الخلائق كلّهم وأقربهم إلى الله ، وهو علّة إيجاء الأنبياء والمرسلين ، والملائكة المقرّبين وجميع العالمين ، وهو صلوات الله عليه وآله سيد الخلائق وأعلمهم ، وهو العقل الأول والنور الأول ، والخلق الأول ، والاسم الأعظم . وهو الحجاب الأقرب ، وهو طرف الممكن ، وهو واسطة فيض الإله جل جلاله لجميع عالم الامكان .
وإذ فرض كونه علة إيجاد العالم ، وواسطة فيض الأقدس ، فلا يعقل أن

المراقبات 34

يكتنه أحد العالمين معرفة صفاته وفضائله كما هي ، وجميع الهدايات منسوبة إليه ، وهو معلّم الملائكة ، والمبعوث على أرواح الأنبياء وهو صاحب الخُلق العظيم في كتاب الله ، وآله وخلفاؤه الاثنا عشر بعده أشرف الخلائق أجمعين ، أولهم أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان مع الأنبياء باطناً ينصرهم ومعه ظاهراً ، وآخرهم المهدي الذي به وعد الله النصرة لأهل الحق من الأوّلين والآخرين ، وبه يكمّل التوحيد في الأرض ، ويتمّ دينه حتى لا يبقى عليها دين إلا دين الله .
وهو الفاتح ، وهو الخاتم ، وهو الذي بشّر بنبوّته الأنبياء وبشّرت به الكتب السماويّة ، كتابه مهيمن على الكتب كلها ، ووصيّه سيد الأوصياء ، وأمّته أفضل الأمم ، وشريعته أكمل الشرائع ، وسيرته أفضل السير .
وهو صاحب الحوض ولواء الحمد ، وهو صاحب الوسيلة والشفاعة الكبرى وهو الذي أُنزل فيه : «وَلَسَوف يُعطيك ربّك فترضى» (الضحى : 5) وهو المأخوذ على الأنبياء ميثاقهم ، في تفضيله وتفضيل خلفائه على من سواهم ، وهو الذي كان نجاة أهل البلاء من سائر الأمم بالتوسّل به وبذريّته صلوات الله عليهم ، وهو رحمة للعالمين ، حبيب إله العالمين ، ولا فضيلة تبلغها وهي أمّ الفضائل .
وأسماؤه عند الله وفي كتب أنبيائه ولسان أوليائه : محمد ، وأحمد ، والماحي ، العاقب ، والحاشر ، ورسول الرحمة ، ورسول التوبة ، رسول الأمم ، والمقتفي ، والقثم(1)، والشاهد على الأنبياء والأمم ، والبشير ، والنذير ، السراج المنير ، والضحوك ، والقتّال ، والمتوكّل ، والفاتح ، والأمين ، والخاتم ، والمصطفى ، الرسول والنبيّ الأمّي ، والحاد ، والمزمّل ،

(1) القثم : الجامع ، الكامل .
المراقبات 35

والمدّثر ، والكريم ، والنور ، والعبد ، والرؤوف ، الرحيم ، طه ، يس ، منذر ، ومذكّر .
وعن كتب الأخبار أنّ اسمه عند أهل الجنة عبد الكريم ، وعند أهل النار ، عبد الجبار ، وعند أهل العرش عبد المجيد ، وعند سائر الملائكة عبد الحميد ، وعند الأنبياء ، عبد الوهاب ، وعند الشياطين عبد القهّار ، وعند الجنّ عبد الرحيم ، وفي الجبال عبد الخالق ، وفي البر عبد القادر ، وفي وفي البحر عبد المهيمن ، وعند الحيتان عبد القدّوس ، وعند الهوامّ عبد الغائب ، وعند الوحوش عبد الرزّاق ، وعند السباع عبد السلام ، وعند البهائم عبد المؤمن ، وعند الطيور عبد الغفار ، وفي التوراة مودمود وفي الإنجيل طاب طاب ، وفي الصحف عاقب ، وفي الزبور فاروق ، وعند الله طه ويس ، وعند المؤمن محمد ، وكنيته أبو القاسم ، وسلّم عليه جبرئيل بأبي إبراهيم .
وفي بعض الروايات المعتبرة أنّه المراد من كلّ ما أقسم الله جل جلاله به في كتابه ، ولا بأس أن نذكر رواية واحدة في فضله ، وفضل أخيه وخليفته أمير المؤنين من طرق العامّة ، لكونها من جهة اشتمالها لفضيلة علي عليه السلام شاهد صدق في زماننا .
روى أحمد بن حنبل في «مسنده» ، وابن أبي ليلى في كتاب «الفردوس» وفي منهج التحقيق عن ابن خالويه يرفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «ان الله خلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين من نور واحد فعصر ذالك النور عصرة فخرج شيعتنا فسبحنا فسبحو ، وقدسنا فقدسو وهللنا فهللوا ، ومجدنا فمجدوا ، ووحدنا فوحدوا، ثم خلق الله السموات وخلق الملائكة مائة عام لاتعرف تسبيحاً ولا تقديساً، فسبحنا فسبح شيعتنا فسبت الملائكة » ، وكذلك في البواقي

المراقبات 36

ـ الحديث ـ فلينظر الإنسان إلى هذه الرواية التي يرويها المخالف وهي ناصّة في أنّه صلوات الله عليه وآله الطيّبين علّموا التسبيح والتهليل والتكبير لشيعتهم ، وشيعتهم علّموا الملائكة فصار بذلك شيعتهم أفضل من الملائكة .
هذا من جهة المنقول وأمّا من جهة الحس والشهادة ، فتأمل في ما انتشر منه صلى الله عليه وآله وسلم في مدة سنين قليلة ـ مع تشتّت باله ، واشتغاله بالجهاد ـ من العلوم ما لم ينتر عشر عشيرها من سائر الأنبياء بأجمعهم في سياسة عوالم الأرواح والقلوب والأجسام ، وسائر فنون العلم والحكمة ، وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم نشر من أسمائه تعالى وصفاته وآلائه وفضائل الأنبياء ما لم ينتشر إلى زمانه من جميع الأنبياء في مدّة سبعة آلاف سنة ولعمري إنّ أمثال هذه الخوارق للعادات ، أمتن المعاجز ، وأحكم في إثبات النبوّات من شقّ القمر ، لأنّ شقّ القمر قد يشتبه بالسحر ، والفرق بينه وبين السحر لا يعرفه إلا القليل الأقلّ ، ولكن أمثال ما ذكر منها لا تشتبه بشيء من السحر والكهانة والشعبذة وغيرها ، وإذا تقرّر هذه الإجماليات فللمسلم أن يتفطّن من ذلك إلى بعض تفصيلاتها ، ويعرف من ذلك بعض شرف نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيعظم عنده فضيلة هذا اليوم فيستقبله بما ينبغي أن يستقبل مثله ، ويعرف قدر منّة الله جل جلاله عليه بهذا الميلاد الميمون المبارك ويتأثّر قلبه وعقله بما يليق به ، ويظهر آثار ذلك على أعماله من حركاته وسكناته ، ولا يكذّب عمله قلبه ، فإن العمل إنّما ينشأ من صفات القلب ، ولا خلف .
ومن مهمّات الأعمال في ذلك اليوم أولاً التوسل بحماة اليوم من المعصومين وإيداع عقله وقلبه بل تسليم كلّه بهم إلى الله تعالى مع توقّع أن يصلحوا حاله في جميع تقلّباته مع الله جل جلاله في جلب أنوار هذا اليوم وبركاته في جميع آناته ، وفي جميع حركاته وسكناته وتقلّباته ، فإن صدق في

المراقبات 37

التوسّل والتسليم ، فإنّه لا يخونه في أمانته .
وزيارته صلى الله عليه وآله وسلم وتفصيلها مرويّة في إقبال سيّدنا الأجل ـ قدس سرّه العزيز ـ وزيارة أخيه ووصيّه عليهما الصلاة والسلام كما رواها أيضاً (قدس) في «الاقبال» .
ومن المهمّات صيام ذلك اليوم شكراً وصلاة ركعتين يقرأ في كل ركعة منهما الفاتحة مرّة والقدر والإخلاص عشر مرّات ، ثم يجلس في مصلاه ويدعو بالدعاء المرويّ .
ثمّ إنّ من المهمّات أن يظهر في هذا اليوم المراسم المعروفة الشرعيّة للأعياد العظيمة حتى يعرفه العوامّ والنساء والأطفال بالعيد ، ولكن يعوّدهم بعمله في أعيادهم بما يوافق حقيقة العيد ، كما ورد به الشرع لا ما يخالفها كما عرف من سنن الجهّال من اللعب واللهو ، بل وبعض المحرّمات ، فإنّ العيد عبارة عن وقت جعله ملك الملوك تعالى موسماً للإذن العام يشمل البرّ والفاجر ، للحضور بين يديه ، وعرض الاستكانة لديه ، وإظهار مراسم العبوديّة ، وإطلاق الجائزة والموهبة ولبس خلع الأمان ، أخذ صكك الملك والسلطان . فحقٌّ لمن عرف ذلك أن يتدارك لحضور هذا المحضر الجليل الشريف ، ويتهيّأ لكلّ ما يمكن التهيّؤ به لمثل هذا المجلس المنيف ، ويتزيّن بما هو مرسوم عند أهل هذا المحفل النظيف ، فإنّ لكلّ مجلس لباساً مخصوصاً وزينة يناسبه ، ولباس هؤلاء لباس التقوى ، وتاجهم تاج الكرامة والوقار ، ولباس (أهل) هذا المجلس ـ في وجه ـ الأخلاق الحسنة وتاجهم المعارف الربّانية وتطهيرهم تطهير القلب عن الشغل بغير الله ، وعطرهم ذكر الله والصلوات على رسول الله وآله الطاهرين .
وإيّاك وإيّاك أن تحضر مجلس الأطهار ، وقلبك متدنّس بذكر الدنيا ،

المراقبات 38

وبدنك عار من لباس التقوى ، ورأسك مكشوف من عمائم المراقبة ، وتفوح منك نتن قاذورات محبة الدنيا ، وخلقك مشوّه بقبائح الأعمال السيئة ، ورأسك خال عن عقل المعرفة ، قلبك خال من الإيمان ، وعينك أرمد بالنظر إلى محارم الله ، ولسانك أبكم عن التكلم في رضاء الله ، وسمعك أصمّ عن استماع ذكر الله ، ويدك مغلولة بالبخل عن مساعي الجود والسخاء ، والانفاق في سبيل الله ، ومفلوجة عن القدرة على الجهاد في نصرة دين الله ، وبطنك مبطونة من أكل السحت وما حرّم الله ، وفرجك (...) عن الانتشار في محارم الله ، ورجلك زمن عن السعي في قضاء حوائج أولياء الله ، ومقعد عن المشي إلى بيوت الله ، فإنّك إن حضرت في مجالس هؤلاء الملوك الأحرار الأطهار افتضحت من دنس لباس الأرذال وشوهة هذه العاهات وسوء الحال ، فتدبّر لنفسك العزيزة الشريفة يا مسكين ، كيف تضيّعها وتذلّها بيد الغفلات ، والتهوين بالشعار والحرمات ، وترضى عن مسابقة الأقران في ميدان تحصيل الكمال ، بالكسل والتضييع والإهمال ؟
وروي عن الحسن عليه السلام أنّه نظر إلى الناس يوم الفطر يضحكون ويلعبون فقال لأصحابه : إنّ الله عز وجل خلق شهر رمضان مضماراً لخلقه ، يستبقون فيه بطاعته ورضوانه ، فسبق قوم ففازوا ، وتخلّف آخرون فخابوا ، فالعجب كل العجب من الضاحك واللاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ، ويخسر فيه المقصّرون ، وايم الله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومسيءٌ بإساءته . وفي رواية أخرى : «والله لو كُشف الغطاء لشغل محسنٌ بإحسانه ومسيء بإساءته عن ترجيل شعر ، وتصقيل ثوب» . هذا ويأتي بقيّة لذلك في العيدين إن شاء الله تعالى .
ثمّ إنّه من أهمّ المهمات أن يختم يومه بالسلام على الحماة والخفراء ،

المراقبات 39

التضرّع إليهم في أن يشفعوا له بإصلاح (الأعمال ، واستصلاح) الحال ، ذي الجلال والجمال ويضمّ إلى ذلك بمناسبة الوقت تسليم الأعمال بحضرت سيد المرسلين ، إن لم يكن يومه في خفارته فإنّ له حقّاً ثابتاً أيضاً في خفارة آله الطاهرين ، وخلفائه المعصومين ولكن مع خجل وحياء من التقصير في أداء حقّ شكر النعمة بقدر المنّة ، ومع لطف في المقال وألفاظ التضرّع والابتهال ، فإنّ لذلك أثراً عظيماً في بلوغ الأعمال ، واستنزال الخير من معدن الإفضال .
فتوجّه بخفير اليوم إلى الشفاعة في حضرته العزيزة ، وبه صلوات الله عليه وآله على عرض أعمالك إلى مقدّس ! حضرة الألوهيّة من باب كرم عفوه ، وتبديله السيئات بأضعافها من الحسنات ، ثم قبوله ورضاه بالمكارم والعنايات ، فإنّه يفعل ما يشاء ، ولا يفعل ما يشاء أحد غيره ، واسأله أن يزيد في توفيقك في ما بعد للجدّ والاجتهاد ، في خدمة مالك العباد ، والموافاة مع الرسول العماد ، وآله الأمجاد ، فإنّ للوفاء في أيّام الغيبة حقوقاً عظيمة في حكم العقل عند ذوي الألباب ، مع السادات والأحباب .

* * *

المراقبات 40




المراقبات 41


الفصل الرابع


في مراقبات شهر ربيع الثاني


ومن مهمّات الأعمال في هذا الشهر كما ذكرنا لجميع الشهور ، الدعاء في أوله لا سيما بالمرويّ فإنّه دعاء جليل فاخر .
ثمّ إنّ اليوم العاشر منه روي أنّه يوم ولادة مولانا وإمامنا أبي محمد الحسن الزكي العسكري عليه الصلاة والسلام ومراقبة أيام ولادة الموالي عليهم السلام قد مضى فيها ما ينفعك في يوم ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فأيّام ولادة خلفائه المعصومين شريكة مع يوم ولادته في مراسم الشكر والفرح والتعظيم بالأعمال القلبيّة والقالبيّة وإن كان ليوم ولادته حقٌ خاصٌ به ، ولهذا اليوم خصوصيّة من جهة أنّه عليه الصلاة والسلام والد إمامنا أرواحنا وأرواح العالمين فداه بلا واسطة ، فينبغي لرعيّته عليه السلام تهنيته بما يليق بجنابه الأقدس ، وحضرته القدسية أيضاً وأن يزيد في حوائجه التي يعرضها لصاحب الولادة بالتضرّع والسؤال في أن يوصيه لصاحب العصر عليه السلام في أن يدخله في همّه ، ونظر لطفه ، ويخصّه من بين رعيّته بمكارمه ، فإنّ لوصيّة الوالد خصوصيّة في تأثير القبول .
ثمّ ليعلم السالك أنّ لصاحب الولادة عليه السلام وإن كان كل واحد (منهم)

المراقبات 42

وسيلة للعباد في جميع حوائجهم إلا أنّ لكلّ واحد منهم خصوصيّة لبعض الحوائج أيضاً كما يشهد عليه دعاء التوسل ، فإنّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولبضعته صلوات الله عليها وسبطيه عليهما السلام خصوصيّة في الحوائج المتعلّقة بتحصيل طاعة الله ـ جل جلاله ـ ورضوانه ولأمير المؤمنين عليه السلام في الانتقام من الأعداء وكفاية مؤونة الظالمين وللإمام السجاد عليه السلام في جور السلاطين ، ونفث الشياطين ، وللإمام الباقر والصادق عليهما السلام في الإغاثة على أمر الآخرة ، وللإمام الكاظم عليه السلام في العافية من المحذورات من العلل ، والأسقام والأوجاع ، وللإمام الرضا عليه السلام في النجاة من مخاوف الأسفار في البحار ، والبراري والقفار ، وللإمام الجواد عليه السلام في الوسعة والاستغناء عما في أيدي الناس وللإمام الهادي عليه السلام في قضاء النوافل وبرّ الإخوان وكمال الطاعات ، وللامام الزكيّ العسكري عليه السلام في الإعانة على أمر الآخرة ، ولإمام عصرنا ، وملاذنا ومعاذنا ، رجائنا وعصمتنا ، ونورنا وحياتنا ، الإمام المهدي عليه السلام في جملة هذه الحوائج وغيرها ممّا تسمّى حاجة هذا .
ويختم اليوم بما يختم به الأيّام الشريفة ، والشهر أيضاً بما يختم به الشهور على ما أسلفناه من غيره .

المراقبات 43


الفصل الخامس


في مراقبات شهر جمادى الاولى


ومن مهمّاته أيضاً الدعاء لا سيّما بالمرويّ .
ويوم النصف منه أيضاً روي أنّه يوم ولادة الإمام السجاد عليه الصلاة والسلام ، فللشيعة تعظيم اليوم بالعمل كما مضى في مثله ؛ فإنّ لأيام الولادات عند الملوك آداباً وتكاليف على رعيّتهم ، فأيّ ملك أحقّ بالتعظيم من هؤلاء الملوك ، ملوك الدنيا والآخرة ، وملوك الدنيا عن غير حقّ وهؤلاء ملكوا الدنيا والآخرة من الله ملك الملوك تعالى بالاستحقاق .
وأيضاً أيّ ملك تحمّل في سياسة رعيّته مثل ما تحمّلوا ، وواساهم بما واسونا أئمّتنا ، بل آثرونا على أنفسهم واستشهدوا في طريق نجاتنا وهدايتنا ، وأي ملك انتفع رعيّته منه مثل انتفاع الشيعة من أئمّتهم في أمور دينهم ، ودنياهم وآخرتهم ، بقدر فضلهم وتحمّلهم ونفعهم يقدّر تكليف تعظيم أيّام ولادتهم في حكم العقل .
ويختم يومه بما يختم به الأيام الشريفة كما أشرنا إليه غير مرّة ، وهكذا يختم الشهر بما يختم به الشهور كما مضت إليه الإشارة .

* * *

المراقبات 44




المراقبات 45


الفصل السادس


في مراقبات شهر جمادى الآخرة


ومن المهمّات فيه أيضاً الدعاء في أوله لا سيما بالمأثور .
وفي اليوم الثالث منه اتّفق وفاة سيدة النساء صلوات الله عليها ، بل الصحيح أنّه يوم شهادتها فإنّها ـ صلوات الله عليها ـ مضت مقتولة مظلومة مغصوبة (حقّها) ، فعلى شيعتها من أهل الوفاء أن يقدّروا هذا اليوم من أيام الأحزان والمصائب . فإنّ يومها كان ثاني اثنين ليوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أهلها ، لم ير لأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أشدّ مصيبة وأجلّ رزءاً وأعظم نائبة منه ، واشتدّ عليه شأن هذا اليوم حيث أظهر فيه أمراً عظيماً من المواجد والأحزان وجعل يرثيها ، ويندب عليها ، ويشتكي فراقها ، ويقول :
نفسي على زفراتها محبوسة يا ليتها خرجت مع الزفرات
لا خير بعدك في الحياة وإنّما أبكي مخافة أن تطول حياتي

وروي عنه عليه السلام أيضاً أنّه قال أشعاراً مفجعةً من جملتها :
وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمد دليلٌ على أن لا يدوم خليل

المراقبات 46

وكيف هنأك العيش من بعد فقدهم لعمرك شيء ما إليه سبيل
يريد الفتى أن لا يموت خليله وليس إلى ما يبتغيه سبيل

ولعمري إنّ هذه الأشعار وما طوينا (عن) ذكره ، من شعره ونثره في ذلك أمرٌ عظيم من أمير المؤمنين عليه السلام يبهر العقول ويكشف عن عظم مقامها وفضلها عند الله ، فإنّ وجده في هذا الأمر مع كونه في الصبر كالجبل الشامخ لا تحرّكه العواصف ، ولا تزيله القواصف ، ينحدر عنه السيل ، ولا يرقى إليه الطير ، من أعجب العجائب كيف ولو لم تكن فضيلتها في الدرجة العليا التي يحسن فيها الجزع لم يكن يظهر منه عليه السلام هذا الجزع العظيم .
فكيف كان فلشيعته ـ صلوات الله عليه ـ التأسّي به في إظهار الحزن والكآبة ، وإقامة المأتم في يوم وفاتها ، وقراءة مصائبها ، فإنّها واحدة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وحبيبته التي (كان) يعامل معها معاملة لا يعامل مع أحد من الناس .
وروى المخالف والمؤالف قوله فيها : «فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني» وبذلك احتجّت حين وفاتها على الأول والثاني بعد أخذ الإقرار منهما على أنّهما سمعا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قالت وهي رافعة يديها : «اللهمّ اشهد أنّهما آذياني» وأوصت لعلي عليه السلام أن يخفي دفنها وقبرها عنهما .
ولعمري إنّ هذه الوصية منها ـ صلوات الله عليها ـ مجاهدة ونصرة لدين الله الحق ، أنفع في إثبات مذهب الشيعة ، وإبطال مذهب العامّة ، من كل آية وبرهان كيف واختفاء دفنها وقبرها شيء لا يخفى مدى الدهر ، ومتى سئل عن سببه ، وظهر أنّ ذلك إنّما صار من جهة وصيّتها ، يظهر منه كالشمس في رابعة النهار أنّها مضت ساخطة على الشيخين ، ولقيت أباها ومولاها شاكية منهما ، ذلك إنّما يلزم لهما شناعة ليس فوقها شناعة ، لا سيّما بملاحظة ما أنزل الله في كتابه العزيز : «قُل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في

السابق السابق الفهرس التالي التالي